فتأمل جلالة المبشّر ومنزلته وصدقه، وعظمته وعظمة من أرسله إليك بهذه البشارة، وقد بشرك به، وضمنه لك، وجعله أسهل شيء عليك وأيسره، وجمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات، وما فيها من الأنهار والثمار، ونعيم النفس بالأزواج المطهرة، نعيم القلب، وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد، وعدم انقطاعه.
(فوائد وفرائد)
وقولهم ﴿هذا الذي رزقنا من قبل﴾ أي شبيهه ونظيره لا عينه وهل المراد هذا الذي رزقنا في الدنيا نظيره من الفواكه والثمار أو هذا نظير الذي رزقناه قبل في الجنة؟
قيل فيه قولان ففي تفسير السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ ﴿قالُوا هَذا الَّذِي رُزِقْنا مِن قَبْلُ﴾ أنهم أتوا بالثمرة في الجنة فلما نظروا إليها قالوا هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا قال مجاهد: ما أشبهه به وقال ابن زيد: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا﴾ يعرفونه وقال آخرون هذا الذي رزقنا من قبل من ثمار الجنة من قبل هذا لشدة مشابهة بعضه بعضا في اللون والطعم واحتج أصحاب هذا القول بحجج:
إحداها: أن المشابهة التي بين الثمار الجنة بعضها لبعض أعظم من المشابهه التي بينها وبين ثمار الدنيا ولشدة المشابهة قالوا: هذا هو الحجة الثانية: ما حكاه بن جرير عنهم قال ومن علة قائلي هذا القول أن ثمار الجنة كلما نزع منها شيء عاد مكانه آخر مثله كما كان
حدثنا ابن بشار حدثنا ابن مهدي حدثنا سفيان سمعت ابن مرة يحدث عن أبي عبيدة وذكر ثمر الجنة وقال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى الحجة الثالثة قوله وأتوا به متشابها وهذا كالتعليل والسبب الموجب لقولهم هذا الذي رزقنا من قبل
الحجة الرابعة أن من المعلوم أنه ليس كل ما في الجنة من الثمار قد رزقوه في الدنيا وكثير من أهلها لا يعرفون ثمار الدنيا ولا رأوها ورجحت طائفة منهم ابن جرير وغيره القول الآخر واحتجت بوجوه
قال ابن جرير والذي يحقق صحة قول القائلين أن معنى ذلك ﴿هَذا الَّذِي رُزِقْنا مِن قَبْلُ﴾ في الدنيا أن الله جل ثناؤه قال ﴿كُلَّما رُزِقُوا مِنها مِن ثَمَرَةٍ رِزْقًا﴾ يقولون هذا الذي رزقنا من قبل ولم يخصص أن ذلك من قيلهم في بعض دون بعض فإذا كان قد أخبر جل ذكره عنهم أن ذلك من قبلهم كلما رزقوا ثمرة فلا شك أن ذلك من قبلهم في أول رزق رزقوه من ثمارها أتوا به بعد دخولهم الجنة واستقرارهم فيها الذي لم يتقدمه عندهم من ثمارها ثمرة فإذا كان لا شك أن ذلك من قيلهم في أوله كما هو من قبلهم في وسطه وما يتلوه فمعلوم أنه محال يقولوا لأول رزق رزقوه من ثمار الجنة هذا الذي من رزقنا من قبل هذا من ثمار الجنة وكيف يجوز أن يقولا لأول رزق من ثمارها ولما يتقدمه عندهم غيرها هذا هو الذي رزقنا من قبل أن يلبسهم ذو غية وضلال إلى قيل الكذب الذي قد طهرهم الله منه أو يدفع دافع أن يكون ذلك من قيلهم الأول رزق يرزقونه من ثمارها فيدفع صحة ما أوجب الله صحته من غير نصب دلالة على أن ذلك في حال من أحوالهم دون حال فقد تبين أن معنى الآية كلما رزقوا من ثمرة من ثمار الجنة في الجنة قالوا هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا
قلت: أصحاب القول الأول يخصون هذا العام بما عدا الرزق الأول لدلالة العقل والسياق عليه وليس هذا ببدع من طريقة القرآن وأنت مضطر إلى تخصيصة ولا بد بأنواع من التخصيصات:
أحدها: أن كثيرا من ثمار الجنة وهي التي لا نظير لها في الدنيا لا يقال فيها ذلك الثاني: أن كثيرا من أهلها لم يرزقوا جميع ثمرات الدنيا التي لها نظير في الجنة
الثالث: أنه من المعلوم أنهم لا يستمرون على هذا القول أبد الآباد كلما أكلوا ثمرة واحدة قالوا: هذا الذي رزقنا في الدنيا ويستمرون على هذا الكلام دائما إلى غير نهاية والقرآن العظيم لم يقصد إلى هذا المعنى ولا هو مما يعتني بهم من نعيمهم ولدتهم وإنما هو كلام مبين خارج على المعتاد المفهوم من المخاطب.
ومعناه: أنه يشبه بعضه بعضا ليس أوله خيرا من آخره ولا هو مما يعرض له ما يعرض لثمار الدنيا عند تقادم الشجر وكبرها من نقصان حملها وصغر ثمرها وغير ذلك بل أوله مثل أخره وآخره مثل أوله هو خيار كله يشبه بعضه بعضا فهذا وجه قولهم ولا يلزم مخالفة ما نصه الله سبحانه وتعالى ولا نسبة أهل الجنة إلى الكذب بوجه والذي يلزمهم من التخصيص يلزمك نظيره وأكثر منه والله أعلم
وأما قوله عز وجل ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا﴾ قال الحسن: خيار كله لا رذل ألم تروا إلى ثمر الدنيا كيف تسترذلون بعضه وأن ذلك ليس فيه ذل وقال قتادة خيار لأرذل فيه فإن ثمار الدنيا ينقى منها ويرذل منها وكذلك قال ابن جريح وجماعة وعلى هذا فالمراد بالتشابه التوافق والتماثل.
وقالت طائفة أخرى منهم ابن مسعود وابن عباس وناس من أصحاب رسول الله ﷺ متشابها في اللون والمرأى وليس يشبه الطعم قال مجاهد: متشابها لونه مختلفا طعمه وكذا قال الربيع بن أنس وقال يحيى بن أبي كثير عشب الجنة الزعفران وكثبانها المسك ويطوف عليهم الولدان بالفاكهة فيأكلونها ثم يأتونهم بمثلها فيقولون هذا الذي جئتمونا به آنفا فيقول لهم الخدم كلوا فإن اللون واحد والطعم مختلف فهو قوله عز وجل: ﴿كُلَّما رُزِقُوا مِنها مِن ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هَذا الَّذِي رُزِقْنا مِن قَبْلُ وأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا﴾ وقالت طائفة: معنى الآية أن يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أفضل وأطيب قال ابن وهب: قال عبد الرحمن ابن زيد: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا التفاح بالتفاح والرمان بالرمان قالوا في الجنة هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها يعرفونه وليس هو مثله في الطعم واختار ابن جرير هذا القول قال: ودليلنا على فساد قول من قال أن معنى الآية هذا الذي رزقنا من قبل أي في الجنة وتلك الدلالة على فساد ذلك القول هي الدلالة على فساد قول من خالف قولنا في تأويل قوله ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا﴾ أن الله سبحانه وتعالى أخبر عن المعنى الذي من أجله قال القوم هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها
قلت: هذا لا يدل على فساد قولهم لما تقدم وقال: ﴿جَنّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوابُ مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وشَرابٍ﴾ قال تعالى: ﴿يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ﴾ هذا يدل على أمنهم من انقطاعها ومضرتها وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكم فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ﴾ وقال تعالى: ﴿وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ﴾ أي لا تكون في وقت دون وقت ولا تمنع ممن أرادها وقال فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية والقطوف جمع قطف وهو ما يقطف والقطف بالفتح الفعل أي ثمارها دانية قريبة ممن يتناولها فيأخذها كيف يشاء قال البراء بن عازب يتناول الثمرة وهو نائم وقال تعالى: ﴿وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا﴾ قال ابن عباس إذا هم أن يتناول من ثمارها تدلت له حتى يتناول ما يريده وقال غيره قريب إليهم مذللة كيف شاؤا فهم يتناولونها قياما وقعودا ومضطجعين فيكون كقوله: ﴿قُطُوفُها دانِيَةٌ﴾ ومعنى تذليل القطف تسهيل تناوله وأهل المدينة يقولون ذلل النخل أي سو عروقها وأخرجها من السعف حتى يسهل تناولها وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني عقبة بن مكرم العمي حدثنا ربعي بن إبراهيم بن عليه حدثنا عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى قال قال رسول الله ﷺ: "أهبط الله آدم من الجنة عليه السلام وعلمه صنعة كل شيء وزوده من ثمار الجنة فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أنها تغير وتلك لا تغير" وقد تقدم: أن سدرة المنتهى نبقها مثل القلال
وفي صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي ﷺ قال: "عرضت علي الجنة حتى لو تناولت منها قطفا أخذته وفي لفظ فتناولت منها قطفا فقصرت عنه يدي"
وقال أبو خيثمة حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا عبيد الله حدثنا ابن عقيل عن جابر قال بينما نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله فتقدمنا ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب يا رسول الله ﷺ صنعت اليوم في صلاتك شيئا ما كنت تصنعه قال: "إنه عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به فحيل بيني وبينه ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه".
وقال ابن المبارك أنبأنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "ثمر الجنة أمثال القلال والدلاء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد ليس فيه عجم".
وقال سعيد بن منصور حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: "إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياما وقعودا ومضطجعين على أي حال شاؤا"
وقال البزار في مسنده حدثنا أحمد بن الفرج الحمصي حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي حدثنا محمد بن المهاجر عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى قال حدثني كريب أنه سمع أسامة بن زيد يقول قال رسول الله ﷺ: "ألا مشمر للجنة فإن الجنة لا حظر لها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة في مقام أبدا في دار سليمة وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية" قالوا: نعم يا رسول الله ﷺ نحن المشمرون لها قال: "قولوا إن شاء الله" قال القوم: إن شاء الله
قال البزار وهذا الحديث لا نعلم من رواه عن النبي ﷺ إلا أسامة ولا نعلم له طريقا عن أسامة إلا هذا الطريق ولا نعلم رواه عن الضحاك المعافري إلا هذا الرجل محمد بن مهاجر.
وفي حديث لقيط بن صبرة الذي رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه وغيره قلت يا رسول الله ﷺ: على ما يطلع أهل الجنة قال: "على أنهار من عسل مصفى وأنهار من كأس ما بها صداع ولا ندامة وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وماء غير آسن وبفاكهة لعمر إلهك مما يعلمون وخير من مثله معه وأما الريحان فهو كل نبت طيب الرائحة قال الحسن وأبو العالية هو ريحاننا هذا يؤتي بنص من ريحان الجنة فنشمه.
* (فائدة)
الثَّناءُ: مِنَ البُشْرى، والرُّؤْيا الصّالِحَةُ مِنَ البُشْرى، وتَبْشِيرُ المَلائِكَةِ لَهُ عِنْدَ المَوْتِ مِنَ البُشْرى. والجَنَّةُ مِن أعْظَمِ البُشْرى. قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أنَّ لَهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾
وَقالَ تَعالى: ﴿وَأبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: ٣٠].
قِيلَ: وسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّها تُؤَثِّرُ في بَشَرَةِ الوَجْهِ.
وَلِذَلِكَ كانَتْ نَوْعَيْنِ: بُشْرى سارَّةٌ تُؤَثِّرُ فِيهِ نَضارَةً وبَهْجَةً، وبُشْرى مُحْزِنَةٌ تُؤَثِّرُ فِيهِ بُسُورًا وُعُبُوسًا. ولَكِنْ إذا أُطْلِقَتْ كانَتْ لِلسُّرُورِ. وإذا قُيِّدَتْ كانَتْ بِحَسَبِ ما تُقَيَّدُ بِهِ.
قَوْلُهُ " وهو أصْفى مِنَ الفَرَحِ " واحْتَجَّ عَلى ذَلِكَ بِأنَّ الأفْراحَ رُبَّما شابَها أحْزانٌ، أيْ رُبَّما مازَجَها ضِدُّها. بِخِلافِ السُّرُورِ.
فَيُقالُ: والمَسَرّاتُ رُبَّما شابَها أنْكادٌ وأحْزانٌ فَلا فَرْقَ.
قَوْلُهُ: ولِذَلِكَ نَزَلَ القُرْآنُ بِاسْمِهِ في أفْراحِ الدُّنْيا في مَواضِعَ
يُرِيدُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى نَسَبَ الفَرَحَ إلى أحْوالِ الدُّنْيا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى إذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أخَذْناهم بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٤٤] وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ﴾ [القصص: ٧٦] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ [هود: ١٠]. فَإنَّ الدُّنْيا لا تَتَخَلَّصُ أفْراحُها مِن أحْزانِها وأتْراحِها ألْبَتَّةَ.
بَلْ ما مِن فَرْحَةٍ إلّا ومَعَها تَرْحَةٌ سابِقَةٌ، أوْ مُقارِنَةٌ، أوْ لاحِقَةٌ. ولا تَتَجَرَّدُ الفَرْحَةُ. بَلْ لا بُدَّ مِن تَرْحَةٍ تُقارِنُها. ولَكِنْ قَدْ تَقْوى الفَرْحَةُ عَلى الحُزْنِ فَيَنْغَمِرُ حُكْمُهُ وألَمُهُ مَعَ وُجُودِها. وبِالعَكْسِ.
فَيُقالُ: ولَقَدْ نَزَلَ القُرْآنُ أيْضًا بِالفَرَحِ في أُمُورِ الآخِرَةِ في مَواضِعَ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [آل عمران: ١٧٠]. وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: ٥٨] فَلا فَرْقَ بَيْنَهُما مِن هَذا الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: ووَرَدَ اسْمُ السُّرُورِ في القُرْآنِ في مَوْضِعَيْنِ في حالِ الآخِرَةِ.
يُرِيدُ بِهِما: قَوْلَهُ تَعالى ﴿فَأمّا مَن أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابًا يَسِيرًا ويَنْقَلِبُ إلى أهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق: ٧] والمَوْضِعُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿وَلَقّاهم نَضْرَةً وسُرُورًا﴾ [الإنسان: ١١].
فَيُقالُ: ووَرَدَ السُّرُورُ في أحْوالِ الدُّنْيا في مَوْضِعٍ عَلى وجْهِ الذَّمِّ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأمّا مَن أُوتِيَ كِتابَهُ وراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ويَصْلى سَعِيرًا إنَّهُ كانَ في أهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق: ١٠].
فَقَدْ رَأيْتَ وُرُودَ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الفَرَحِ والسُّرُورِ في القُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ إلى أحْوالِ الدُّنْيا وأحْوالِ الآخِرَةِ. فَلا يَظْهَرُ ما ذَكَرَهُ مِنَ التَّرْجِيحِ.
بَلْ قَدْ يُقالُ: التَّرْجِيحُ لِلْفَرَحِ: لِأنَّ الرَّبَّ تَبارَكَ وتَعالى يُوصَفُ بِهِ. ويُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُهُ دُونَ السُّرُورِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ مَعْناهُ أكْمَلُ مِن مَعْنى السُّرُورِ، وأمَرَ اللَّهُ بِهِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: ٥٨]
وَأثْنى عَلى السُّعَداءِ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [آل عمران: ١٧٠].
وَأمّا قَوْلُهُ تَعالى ﴿وَلَقّاهم نَضْرَةً وسُرُورًا﴾ [الإنسان: ١١] وقَوْلُهُ ﴿وَيَنْقَلِبُ إلى أهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق: ٩] فَعَدَلَ إلى لَفْظِ السُّرُورِ لِاتِّفاقِ رُءُوسِ الآيِ. ولَوْ أنَّهُ تَرْجَمَ البابَ بِبابِ الفَرَحِ، لَكانَ أشَدَّ مُطابَقَةً لِلْآيَةِ الَّتِي اسْتَشْهَدَ بِها. والأمْرُ في ذَلِكَ قَرِيبٌ. فالمَقْصُودُ أمْرٌ وراءَ ذَلِكَ.
* (فصل)
و «الأزواج» جمع زوج. والمرأة زوج للرجل، وهو زوجها. هذا هو الأفصح، وهو لغة قريش. وبها نزل القرآن كقوله: ٢: ٣٥ اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ ومن العرب من يقول: زوجة، وهو نادر، لا يكادون يقولونه.
وأما «المطهرة» فإن جرى صفة على الواحد، فيجري صفة على جمع التكثير إجراء له مجرى جماعة، كقوله تعالى: ﴿وَمَساكِنَ طَيِّبَةً﴾ وقولهم: قوى ظاهرة، ونظائره.
و «المطهرة» من طهرت من الحيض والبول والنفائس والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر، وكل أذى يكون من نساء الدنيا، فطهر مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة، والصفات المذمومة، وطهر لسانها من الفحش والبذاء، وطهر طرفها من أن تطمح إلى غير زوجها، وطهرت أثوابها من أن يعرض لها دنس أو وسخ.
قال عبد الله بن المبارك: حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي ﷺ: ولَهم فِيها أزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من القذرة وقال: «من الحيض والغائط والنخامة والبصاق»
وقال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس «مطهرة: لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنجسن» وقال ابن عباس أيضا «مطهرة من القذر والأذى، لا يبلن، ولا يتغوطن، ولا يمذين، ولا يمنين، ولا يحضن، ولا يبصقن، ولا يتنخمن، ولا يلدن»
وقال قتادة: «مطهرة من الإثم والأذى، طهرهن الله سبحانه من كل بول وغائط وقذر ومأثم»
وقال عبد الرحمن بن زيد: «المطهرة: التي لا يحيض، وأزواج الدنيا لسن بمطهرات، ألا تراهن يدمين، ويتركن الصلاة والصيام؟
قال: وكذلك خلقت حواء، حتى عصت، فلما عصت قال الله لها: إني خَلَقْتُكَ، وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة.
(فائدة بديعة)
قوله تعالى: ﴿كُلَّما رُزِقُوا مِنها مِن ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هَذا الَّذِي رُزِقْنا مِن قَبْلُ وأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا ولَهم فِيها أزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وهم فِيها خالِدُونَ (٢٥)﴾
الاسم من (هذا) الذال وحدها دون الألف على أصح القولين بدليل سقوط الألف في التثنية والمؤنث وخصت الذال بهذا الاسم لأنها من طرف اللسان والمبهم مشار إليه فالمتكلم يشير نحوه بلفظه أو بيده ويشير مع ذلك بلسانه فإن الجوارح خدم القلب فإذا ذهب القلب إلى شيء ذهابا معقولا ذهبت الجوارح نحوه ذهابا محسوسا والعمدة في الإشارة في مواطن التخاطب على اللسان ولا يمكن إشارته إلا بحرف يكون مخرجه من عذبة اللسان التي هي آلة الإشارة دون سائر أجزائه فأما الذال أو التاء فالتاء مهموسة رخوة فالمجهور أو الشديد من الحروف أولى منها للبيان والذال مجهورة فخصت بالإشارة إلى المذكر وخصت التاء بالإشارة إلى المؤنث لأجل الفرق وكانت التاء به أولى لهمسها وضعف المؤنث ولأنها قد ثبتت علامة التأنيث في غير هذا الباب ثم بينوا حركة الذال بالألف كما فعلوا في النون من أنا وربما شركوا المؤنث مع المذكر في الذال فاكتفوا بالكسرة فرقا بينهما وربما اكتفوا بمجرد لفظ التاء في الفرق بينهما وربما جمعوا بين لفظ التاء والكسرة حرصا على البيان وأما في المؤنث الغائب فلا بد من لفظ التاء مع الكسرة لأنه أحوج إلى البيان لدلالة المشاهدة على الخاطر فتقول: تيك وربما زادوا اللام توكيدا كما زادوها في المذكر الغائب إلا أنهم سكنوها في المؤنث لئلا تتوالى الكسرات مع التاء وذلك ثقيل عليهم وكانت اللام أولى بهذا الموطن حين أرادوا الإشارة إلى البعيد فكثرت الحروف حين كثرت مسافة هذه الإشارة وقللوها حين قلت لأن اللام قد وجدت في كلامهم توكيدا وهذا الموطن موطن توكيد وقد وجدت بمعنى الإضافة للشيء وهذا الموطن شبيه بها لأنك إذا أومأت إلى الغائب بالاسم المبهم فأنت مشير إلى من يخاطب ويقبل عليه لينظر إلى من تشير إما بالعين وإما بالقلب وكذلك جئت بكاف الخطاب فكأنك تقول له لك أقول ولك أرمز بهذا الاسم ففي اللام طرف من هذا المعنى كما كان ذلك في الكاف وكما لم يكن الكاف هاهنا اسما مضمرا لم يكن اللام حرف جر وإنما كل منهما طرف من المعنى دون جميعه فلذلك خلعوا من المكان معنى الاسمية وأبقوا فيها معنى الخطاب واللام كذلك إنما اجتلبت لطرف من معناها الذي وضعت له في باب الإضافة وأما دخول هاء التنبيه فلأن المخاطب يحتاج إلى تنبيه على الاسم الذي يشير به إليه لأن للإشارة قرائن حال يحتاج إلى أن ينظر إليها فالمتكلم كأنه آمر له بالالتفات إلى المشار إليه أو منبه له فلذلك اختص هذا الموطن بالتنبيه وقلما يتكلمون به في المبهم الغائب لأن كاف الخطاب يغني عنها مع أن المخاطب مأمور بالالتفات بلحظه إلى المبهم الحاضر فكان التنبيه في أول الكلام أولى بهذا الموطن لأنه بمنزلة الأمر الذي له صدر الكلام وعندي أن حرف التنبيه بمنزلة حرف النداء وسائر حروف المعاني لا يجوز أن تعمل معانيها في الأحوال ولا في الظروف كما لا يعمل معنى الاستفهام والنفي في هل وما في ذلك ولا نعلم حرفا يعمل معناه في الحال والظرف إلا كان وحدها على أنها فعل فدع عنك ما شعبوا به في مسائل الحال في هذا الباب من قولهم هذا قائما زيد وقائما هذا زيد فإنه لا يصلح من ذلك إلا تأخير الحال عن الاسم الذي هو ذا لأن العامل فيه معنى الإشارة دون معنى التنبيه وكلاهما معنوي.
فإن قيل: لم جاز أن يعمل فيه معنى الإشارة دون معنى التنبيه وكلاهما معنوي؟
قيل: معنى الإشارة تدل عليه قرائن الأحوال من الإيماء باللحظ واللفظ الخارج من طرف اللسان وهيئة المتكلم فقامت تلك الدلالة مقام التصريح بلفظ الإشارة لأن الدال على المعنى إما لفظ وإما إشارة
وإما لحظ فقد جرت الإشارة مجرى اللفظ فلتعمل فيما عمل فيه اللفظ وإن لم تقو قوته في جميع أحكام العمل وأصح من هذا أن يقال معنى الإشارة ليس هو العامل إذ الاسم الذي هو هذا ليس بمشتق من أشار يشير ولو جاز أن تعمل أسماء الإشارة لجاز أن تعمل علامات الإضمار لأنها أيضا إيماء وإشارة إلى مذكور وإنما العامل فعل مضمر تقديره انظر وأبصر لدلالة الحال عليه من التوجه واللفظ وقد قالوا: من الدار مفتوحا بابها فأعملوا في الحال معنى انظر وأبصر ودل عليه التوجه من المتكلم بوجهه نحوها وكذلك: ﴿وَهَذا بَعْلِي شَيْخًا﴾ وهو قوي في الدلالة لاجتماع اللفظ مع التوجه وإذا ثبت هذا فلا سبيل إلى تقديم الحال لأن العامل المعنوي خفي يدل عليه الدليل اللفظي أو التوجه أو ما شاكله.
{"ayah":"وَبَشِّرِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُوا۟ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةࣲ رِّزۡقࣰا قَالُوا۟ هَـٰذَا ٱلَّذِی رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُوا۟ بِهِۦ مُتَشَـٰبِهࣰاۖ وَلَهُمۡ فِیهَاۤ أَزۡوَ ٰجࣱ مُّطَهَّرَةࣱۖ وَهُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ"}