الباحث القرآني

﴿وبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ لَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى فِيما تَقَدَّمَ الكُفّارَ وما يَؤُولُ إلَيْهِ حالُهم في الآخِرَةِ، وكانَ في ذَلِكَ أبْلَغُ التَّخْوِيفِ والإنْذارِ عَقَّبَ بِالمُؤْمِنِينَ، وما لَهم جَرْيًا عَلى السُّنَّةِ الإلَهِيَّةِ مِن شَفْعِ التَّرْغِيبِ بِالتَّرْهِيبِ والوَعْدِ بِالوَعِيدِ، لِأنَّ مِنَ النّاسِ مَن لا يُجْدِيهِ التَّخْوِيفُ ولا يُجْدِيهِ ويَنْفَعُهُ اللُّطْفُ، ومِنهم عَكْسُ ذَلِكَ، فَكَأنَّ هَذا وما بَعْدَهُ مَعْطُوفٌ عَلى سابِقِهِ عَطْفَ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ، والتَّناسُبُ بَيْنَهُما بِاعْتِبارِ أنَّهُ بَيانٌ لِحالِ الفَرِيقَيْنِ المُتَبايِنَيْنِ، وكَشْفٌ عَنِ الوَصْفَيْنِ المُتَقابِلَيْنِ، وهَلْ هو مَعْطُوفٌ عَلى (وإنْ كُنْتُمْ) إلى (أُعِدَّتْ) أوْ عَلى ﴿فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ الآيَةَ؟ قَوْلانِ، اخْتارَ السَّيِّدُ أوَّلَهُما، وادَّعى بَعْضُهم أنَّهُ أقَضى لِحَقِّ البَلاغَةِ، وأدْعى لِتَلائُمِ النَّظْمِ، لِأنَّ ﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا﴾ خِطابٌ عامٌّ يَشْمَلُ الفَرِيقَيْنِ، (وإنْ كُنْتُمْ) إلَخْ، مُخْتَصٌّ بِالمُخالِفِ، ومَضْمُونُهُ الإنْذارُ، (وبَشِّرْ) إلَخْ، مُخْتَصٌّ بِالمُوافِقِ، ومَضْمُونُهُ البِشارَةُ، كَأنَّهُ تَعالى أوْحى إلى نَبِيِّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ يَدْعُوَ النّاسَ إلى عِبادَتِهِ، ثُمَّ أُمِرَ أنْ يُنْذِرَ مَن عانَدَ، ويُبَشِّرَ مَن صَدَّقَ، والسَّعْدُ اخْتارَ ثانِيَهُما، لِأنَّ السَّوْقَ لِبَيانِ حالِ الكُفّارِ، ووَصْفِ عِقابِهِمْ، وقِيلَ: عَطْفٌ عَلى (فاتَّقُوا)، وتَغايُرُ المُخاطَبِينَ لا يَضُرُّ كَـ ﴿يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْ هَذا واسْتَغْفِرِي﴾، وتَرَتُّبُهُ عَلى الشَّرْطِ بِحُكْمِ العَطْفِ بِاعْتِبارِ أنَّ (اتَّقُوا) إنْذارٌ وتَخْوِيفٌ لِلْكُفّارِ، (وبَشِّرْ) تَبْشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وكُلٌّ مِنهُما مُتَرَتِّبٌ عَلى عَدَمِ المُعارَضَةِ بِعَدَمِ التَّحَدِّي، لِأنَّ عَدَمَ المُعارَضَةِ يَسْتَلْزِمُ ظُهُورَ إعْجازِهِ، وهو يَسْتَلْزِمُ اسْتِيجابَ مُنْكِرِهِ العِقابَ، ومُصَدِّقِهِ الثَّوابَ، لِأنَّ الحُجَّةَ تَمَّتْ، والدَّعْوَةَ كَمُلَتْ، واسْتِيجابُهُما إيّاهُما يَقْتَضِي الإنْذارَ، والتَّبْشِيرَ، فَتَرَتُّبُ الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ عَلى الشَّرْطِ تَرَتُّبُ الأُولى عَلَيْهِ، فَلا فَرْقَ، وقَدْ يُقالُ: إنَّ الجَزاءَ (فَآمِنُوا) مَحْذُوفًا، والمَذْكُورُ قائِمٌ مَقامَهُ، فالمَعْنى: إنْ لَمْ تَأْتُوا بِكَذا فَآمِنُوا وبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا، أيْ فَلْيُوجَدْ إيمانٌ مِنهُمْ، وبِشارَةٌ مِنكَ، ووُضِعَ الظّاهِرُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، وفِيهِ حَثٌّ لَهم عَلى الإيمانِ، ولَعَلَّهُ أقَلُّ مُؤْنَةً، واخْتارَ صاحِبُ الإيضاحِ عَطْفَهُ عَلى (أنْذِرْ) مُقَدَّرًا بَعْدَ جُمْلَةِ (أُعِدَّتْ)، وقِيلَ: عَطْفٌ عَلى (قُلْ) قَبْلَ ”وإنْ لَمْ تَفْعَلُوا“ وتَقْدِيرُهُ: قَبْلَ (ياأيُّها النّاسُ) يُحْوِجُ إلى إجْراءِ ﴿مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا﴾ عَلى طَرِيقَةِ كَلامِ العُظَماءِ، أوْ تَقْدِيرِ: قالَ اللَّهُ بَعْدَ قُلْ، والبِشارَةُ بِالكَسْرِ والضَّمِّ اسْمٌ مِن بَشَرَ بِشْرًا وبُشُورًا، وتُفْتَحُ الباءُ فَتَكُونُ بِمَعْنى الجَمالِ، وفي الفِعْلِ لُغَتانِ التَّشْدِيدُ، وهي العُلْيا، والتَّخْفِيفُ وهي لُغَةُ أهْلِ تِهامَةَ، وقُرِئَ بِهِما في المُضارِعِ في مَواضِعَ، والتَّكْثِيرُ في المُشَدَّدِ بِالنِّسْبَةِ إلى المَفْعُولِ، فَإنَّ واحِدًا كانَ فِعْلٌ فِيهِ مُغْنِيًا عَنْ فِعْلٍ، وفَسَّرُوها في المَشْهُورِ، وصُحِّحَ بِالخَبَرِ السّارِّ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَ المُخْبَرِ عِلْمٌ بِهِ، واشْتَرَطَ بَعْضُهم أنْ يَكُونَ صِدْقًا، وعَنْ سِيبَوَيْهِ إنَّها خَبَرٌ يُؤَثِّرُ في البَشَرَةِ حُزْنًا أوْ سُرُورًا، وكَثُرَ اسْتِعْمالُهُ في الخَيْرِ، وصَحَّحَهُ في البَحْرِ، ”وبَشَّرَهم بِعَذابٍ ألِيمٍ“ ظاهِرٌ عَلَيْهِ، ومِن بابِ التَّهَكُّمِ (p-201)عَلى الأوَّلِ، والمَأْمُورُ بِالتَّبْشِيرِ البَشِيرُ النَّذِيرُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وقِيلَ: كُلُّ مَن يَتَأتّى مِنهُ ذَلِكَ، كَما في قَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(بَشِّرِ المَشّائِينَ إلى المَساجِدِ)،» الحَدِيثَ، فَفِيهِ رَمْزٌ إلى أنَّ الأمْرَ لِعَظَمَتِهِ حَقِيقٌ بِأنْ يَتَوَلّى التَّبْشِيرَ بِهِ كُلُّ مَن يَقْدِرُ عَلَيْهِ، ويَكُونُ هُناكَ مَجازٌ إنْ كانَ الضَّمِيرُ مَوْضُوعًا لِجُزْئِيٍّ بِوَضْعٍ كُلِّيٍّ، وإلّا فَفي الحَقِيقَةِ والمَجازِ كَلامٌ في مَحَلِّهِ، ولَمْ يُخاطَبِ المُؤْمِنُونَ كَما خُوطِبَ الكَفَرَةُ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِمْ، وإيذانًا تامًّا بِأنَّهم أحِقّاءُ بِأنْ يُبَشَّرُوا، ويُهَنَّئُوا بِما أُعِدَّ لَهُمْ، وقِيلَ: تَغْيِيرٌ لِلْأُسْلُوبِ لِتَخْيِيلِ كَمالِ التَّبايُنِ بَيْنَ حالِ الفَرِيقَيْنِ، وعِنْدِي أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا كَسى رَسُولَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ حُلَّةَ عُبُودِيَّتِهِ في قَوْلِهِ: ﴿مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا﴾ ناسَبَ أنْ يُطَرِّزَها بِطِرازِ التَّكْلِيفِ بِما يَزِيدُ حُبَّ أحْبابِهِ لَهُ، فَيَزْدادُوا إيمانًا إلى إيمانِهِمْ، وفي ذَلِكَ مِنَ اللُّطْفِ بِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وبِهِمْ ما لا يَخْفى. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ (وبُشِّرَ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وهو مَعْطُوفٌ عَلى (أُعِدَّتْ) كَما اشْتُهِرَ، وقِيلَ: إنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنى الأمْرِ، فَتَوافَقَ القِراءَتانِ مَعْنًى وعَطْفًا، وتَعْلِيقُ التَّبْشِيرِ بِالمَوْصُولِ لِلْإشْعارِ بِأنَّهُ مُعَلَّلٌ بِما في حَيِّزِ الصِّلَةِ مِنَ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ، لَكِنْ لا لِذاتِهِما، بَلْ بِجَعْلِ الشّارِعِ، ومُقْتَضى وعْدِهِ، وجَعَلَ صِلَتَهُ فِعْلًا مُفِيدًا لِلْحُدُوثِ بَعْدَ إيرادِ الكُفّارِ بِصِيغَةِ الفاعِلِ لِحَثِّ المُخاطَبِينَ بِالِاتِّقاءِ عَلى إحْداثِ الإيمانِ، وتَحْذِيرِهِمْ مِنَ الِاسْتِمْرارِ عَلى الكُفْرِ، ثُمَّ لا يَخْفى أنَّ كَوْنَ مَناطِ البِشارَةِ مَجْمُوعُ الأمْرَيْنِ، لا يَقْتَضِي انْتِفاءَ البِشارَةِ عِنْدَ انْتِفائِهِ، فَلا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ أنْ لا يَدْخُلَ بِالإيمانِ المُجَرَّدِ الجَنَّةَ كَما هو رَأْيُ المُعْتَزِلَةِ، عَلى أنَّ مَفْهُومَ المُخالَفَةِ ظَنِّيٌّ لا يُعارِضُ النُّصُوصَ الدّالَّةَ عَلى أنَّ الجَنَّةَ جَزاءُ مُجَرَّدِ الإيمانِ، ومُتَعَلِّقُ (آمَنُوا) مِمّا لا يَخْفى، وقَدَّرَهُ بَعْضُهم هُنا بِأنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، والصّالِحاتُ جَمْعُ صالِحَةٍ، وهي في الأصْلِ مُؤَنَّثُ الصّالِحِ اسْمِ فاعِلٍ مِن صَلَحَ صُلُوحًا، وصَلاحًا خِلافُ فَسَدَتْ ثُمَّ غَلَبَتْ عَلى ما سَوَّغَهُ الشَّرْعُ وحَسَّنَهُ، وأُجْرِيَتْ مَجْرى الأسْماءِ الجامِدَةِ في عَدَمِ جَرْيِها عَلى المَوْصُوفِ، وغَيْرِهِ، وتَأْنِيثُها عَلى تَقْدِيرِ الخَلَّةِ، ولِلْغَلَبَةِ تُرِكَ، ولَمْ تُجْعَلِ التّاءُ لِلنَّقْلِ لِعَدَمِ صَيْرُورَتِها اسْمًا، وألْ فِيها لِلْجِنْسِ، لَكِنْ لا مِن حَيْثُ تَحَقُّقُهُ في الأفْرادِ، إذْ لَيْسَ ذَلِكَ في وُسْعِ المُكَلَّفِ، ولَوْ أُرِيدَ التَّوْزِيعُ يَلْزَمُ كِفايَةُ عَمَلٍ واحِدٍ، بَلْ في البَعْضِ الَّذِي يَبْقى مَعَ إرادَتِهِ مَعْناهُ الأصْلِيَّ الجِنْسِيَّةُ مَعَ الجَمْعِيَّةِ، وهو الثَّلاثَةُ أوِ الِاثْنانِ، والمُخَصَّصُ حالُ المُؤْمِنِ فَما يَسْتَطِيعُ مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ بَعْدَ حُصُولِ شَرائِطِهِ هو المُرادُ، فالمُؤْمِنُ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ أصْلًا، أوْ عَمِلَ عَمَلًا واحِدًا غَيْرُ داخِلٍ في الآيَةِ، ومَعْرِفَةُ كَوْنِهِ مُبَشِّرًا مِن مَواقِعَ أُخَرَ، وبَعْضُهم جَعَلَ فِيها شائِبَةَ التَّوْزِيعِ بِأنْ يَعْمَلَ كُلَّ ما يَجِبُ مِنَ الصّالِحاتِ، إنْ وجَبَ قَلِيلًا كانَ أوْ كَثِيرًا، وأُدْخِلَ مَن أسْلَمَ وماتَ قَبْلَ أنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، أوْ وجَبَ شَيْءٌ واحِدٌ، ولَيْسَ هَذا تَوْزِيعًا في المَشْهُورِ، كَرَكِبَ القَوْمُ دَوابَّهُمْ، إذْ قَدْ يُطْلَقُ أيْضًا عَلى مُقابَلَةِ أشْياءَ بِأشْياءَ أخَذَ كُلٌّ مِنها ما يَخُصُّهُ سَواءٌ الواحِدُ الواحِدُ كالمِثالِ أوِ الجَمْعُ الواحِدُ كَدَخَلَ الرِّجالُ مَساجِدِ مَحَلّاتِهِمْ، أوِ العَكْسُ كَلَبِسَ القَوْمُ ثِيابَهُمْ، ومِنهُ ”واغسلوا وُجُوهكم وأيْدِيكم“ والسَّيِّدُ يُسَمِّي هَذا شائِبَةَ التَّوْزِيعِ، ﴿أنَّ لَهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ أرادَ سُبْحانَهُ بِأنَّ لَهم إلَخْ لِتَعَدِّي البِشارَةِ بِالباءِ، فَحُذِفَ لِاطِّرادِ حَذْفِ الجارِّ مَعَ أنَّ، وأنَّ بِغَيْرِ عِوَضٍ لِطُولِهِما بِالصِّلَةِ، ومَعَ غَيْرِهِما فِيهِ خِلافٌ مَشْهُورٌ، وفي المَحَلِّ بَعْدَ الحَذْفِ قَوْلانِ، النَّصْبُ بِنَزْعِ الخافِضِ كَما هو المَعْرُوفُ في أمْثالِهِ، والجَرُّ لِأنَّ الجارَّ بَعْدَ الحَذْفِ قَدْ يَبْقى أثَرُهُ، ولامُ الجَرِّ لِلِاسْتِحْقاقِ، وكَيْفِيَّتُهُ مُسْتَفَداةٌ مِن خارِجٍ، ولا اسْتِحْقاقَ بِالذّاتِ، فَهو بِمُقْتَضى وعْدِ الشّارِعِ الَّذِي لا يُخْلِفُهُ، فَضْلًا وكَرَمًا، لَكِنْ بِشَرْطِ المَوْتِ عَلى الإيمانِ، والجَنَّةُ في الأصْلِ المَرَّةُ مِنَ الجَنِّ بِالفَتْحِ مَصْدَرُ جَنَّهُ إذا سَتَرَهُ، ومَدارُ التَّرْكِيبِ عَلى السَّتْرِ، ثُمَّ سُمِّيَ بِها البُسْتانُ الَّذِي سَتَرَتْ أشْجارُهُ أرْضَهُ، أوْ كُلُّ أرْضٍ فِيها شَجَرٌ ونَخْلٌ (p-202)فَإنْ كَرْمٌ فَفِرْدَوْسٌ، وأُطْلِقَتْ عَلى الأشْجارِ نَفْسِها، ووَرَدَتْ في شِعْرِ الأعْشى بِمَعْنى النَّخْلِ خاصَّةً، ثُمَّ نُقِلَتْ، وصارَتْ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً في دارِ الثَّوابِ، إذْ فِيها مِنَ النَّعِيمِ (ما لا، ولا) مِمّا هو مُغَيَّبٌ الآنَ عَنّا، وجُمِعَتْ جَمْعَ قِلَّةٍ في المَشْهُورِ لِقِلَّتِها عَدَدًا كَقِلَّةِ أنْواعِ العِباداتِ، ولَكِنْ في كُلِّ واحِدَةٍ مِنها مَراتِبُ شَتّى، ودَرَجاتٌ مُتَفاوِتَةٌ عَلى حَسَبِ تَفاوُتِ الأعْمالِ، والعُمّالِ، وما نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّها سَبْعٌ لَمْ يَقِفْ عَلى ثُبُوتِهِ الحُفّاظِ، وتَنْوِينُها إمّا لِلتَّنْوِيعِ، أوْ لِلتَّعْظِيمِ، وتَقْدِيمُ الخَبَرِ لِقُرْبِ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ، وهو أسْرٌ لِلسّامِعِ، والشّائِعُ التَّقْدِيمُ إذا كانَ الِاسْمُ نَكِرَةً كَـ ﴿إنَّ لَنا لأجْرًا﴾ وتَحْتَ، ظَرْفُ مَكانٍ لا يُتَصَرَّفُ فِيهِ بِغَيْرِ مِن، كَما نَصَّ عَلَيْهِ أبُو الحَسَنِ، والضَّمِيرُ لِلْجَنّاتِ، فَإنْ أُرِيدَ الأشْجارُ فَذاكَ مَعَ ما فِيهِ قَرِيبٌ في الجُمْلَةِ، وإنْ أُرِيدَ الأرْضُ قِيلَ: مِن تَحْتِ أشْجارِها، أوْ عادَ عَلَيْها بِاعْتِبارِ الأشْجارِ اسْتِخْدامًا، ونَحْوِهِ، وقِيلَ: إنَّ تَحْتَ بِمَعْنى جانِبٍ كَدارِي تَحْتَ دارِ فُلانٍ، وضُعِّفَ كالقَوْلِ: مِن تَحْتِ أوامِرِ أهْلِها، وقِيلَ: مَنازِلُها، وإنْ أُرِيدَ مَجْمُوعُ الأرْضِ والأشْجارِ فاعْتِبارُ التَّحْتِيَّةِ، كَما قِيلَ بِالنَّظَرِ إلى الجُزْءِ الظّاهِرِ المُصَحِّحِ لِإطْلاقِ الجَنَّةِ عَلى الكُلِّ، والوارِدُ في الأثَرِ الصَّحِيحِ عَنْ مَسْرُوقٍ: إنَّ أنْهارَ الجَنَّةِ تَجْرِي في غَيْرِ أُخْدُودٍ، وهَذا في أرْضٍ حَصْباؤُها الدُّرُّ والياقُوتُ أبْلَغُ في النُّزْهَةِ، وأحْلى في المَنظَرِ، وأبْهَجُ لِلنَّفْسِ ؎وتَحَدَّثَ الماءُ الزُّلالُ مَعَ الحَصى فَجَرى النَّسِيمُ عَلَيْهِ يَسْمَعُ ما جَرى والأنْهارُ جَمْعُ نَهَرٍ بِفَتْحِ الهاءِ، وسُكُونِها، والفَتْحُ أفْصَحُ، وأصْلُهُ الشَّقُّ، والتَّرْكِيبُ لِلسَّعَةِ، ولَوْ مَعْنَوِيَّةً كَنَهْرِ السّائِلِ، بِناءً عَلى أنَّهُ الزَّجْرُ البَلِيغُ، فَأُطْلِقَ عَلى ما دُونَ البَحْرِ وفَوْقَ الجَدْوَلِ، وهَلْ هو نَفْسُ مَجْرى الماءِ، أوِ الماءُ في المَجْرى المُتَّسِعِ؟ قَوْلانِ: أشْهَرُهُما الأوَّلُ، وعَلَيْهِ فالمُرادُ مِياهُها، أوْ ماؤُها، وتَأْنِيثُ تَجْرِي رِعايَةً لِلْمُضافِ إلَيْهِ، أوْ لِلَفْظِ الجَمْعِ، وفي الكَلامِ مَجازٌ في النَّقْصِ، أوْ في الظَّرْفِ، (أوْ لا، ولا)، والإسْنادُ مَجازِيٌّ، وألْ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ قِيلَ: أوِ الخارِجِيِّ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ الأنْهارِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِيها أنْهارٌ مِن ماءٍ﴾ الآيَةَ، فَإنَّها مَكِّيَّةٌ عَلى الأصَحِّ، وذِي مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ بَعْدَها، واسْتَبْعَدَهُ السَّيِّدُ والسَّعْدُ، وقِيلَ: عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ، أيْ أنْهارُها، وهو مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ، وحَمْلُها عَلى الِاسْتِغْراقِ عَلى مَعْنى: يَجْرِي تَحْتَ الأشْجارِ جَمِيعُ أنْهارِ الجَنَّةِ، فَهو وصْفٌ لِدارِ الثَّوابِ بِأنَّ أشْجارَها عَلى شَواطِئِ الأنْهارِ، وأنْهارَها تَحْتَ ظِلالِ الأشْجارِ أبْرَدَ مِنَ الثَّلْجِ، ولا يَخْفى الكَلامُ عَلى جَمْعِ القِلَّةِ. ﴿كُلَّما رُزِقُوا مِنها مِن ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هَذا الَّذِي رُزِقْنا مِن قَبْلُ﴾ صِفَةٌ ثانِيَةٌ لِجَنّاتٍ، أُخِّرَتْ عَنِ الأُولى لِأنَّ جَرَيانَ الأنْهارِ مِن تَحْتِها وصْفٌ لَها بِاعْتِبارِ ذاتِها، وهَذا بِاعْتِبارِ سُكّانِها، أوْ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ، أيْ هُمْ، والقَرِينَةُ ذِكْرُهُ في السّابِقَةِ واللّاحِقَةِ، وكَوْنُ الكَلامِ مَسُوقًا لِبَيانِ أحْوالِ المُؤْمِنِينَ، وفائِدَةُ حَذْفِ هَذا المُبْتَدَإ تَحَقُّقُ التَّناسُبِ بَيْنَ الجُمَلِ الثَّلاثَةِ، صُورَةً لِاسْمِيَّتِها، ومَعْنًى لِكَوْنِها جَوابَ سُؤالٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: ما حالُهم في تِلْكَ الجَنّاتِ؟ فَأُجِيبَ بِأنَّ لَهم فِيها ثِمارًا لَذِيذَةً عَجِيبَةً، وأزْواجًا نَظِيفَةً، وهم فِيها خالِدُونَ، وتَقْدِيرُ المُبْتَدَإ هو أوْ هي لِلشَّأْنِ، أوِ القِصَّةِ، لَيْسَ بِشَيْءٍ بِناءً عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ حَذْفُ هَذا الضَّمِيرِ، وإذا لَمْ تَدْخُلْهُ النَّواسِخُ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ مُفَسِّرُهُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، نَعَمْ جازَ تَقْدِيرُ هي لِلْجَنّاتِ، والجُمْلَةُ خَبَرٌ، إلّا أنَّ التَّناسُبَ أنْسَبُ، أوْ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً، كَأنَّهُ لَمّا وصَفَ الجَنّاتِ بِما ذَكَرَ، وقَعَ في الذِّهْنِ أنَّ ثِمارَها كَثِمارِ جَنّاتِ الدُّنْيا أوَّلًا، فَبَيَّنَ حالَها، ﴿ولَهم فِيها أزْواجٌ﴾ زِيادَةٌ في الجَوابِ، ولَوْ قُدِّرَ السُّؤالُ نَحْوُ ألَهم في الجَنّاتِ لَذّاتٌ كَما في هَذِهِ الدّارِ؟ أمْ أتَمُّ وأزْيَدُ؟ كانَ أصَحَّ وأوْضَحَ (p-203)وأجازَ أبُو البَقاءِ كَوْنَها حالًا مِنَ الَّذِينَ، أوْ مِن جَنّاتٍ، لِوَصْفِها، وهي حِينَئِذٍ حالٌ مُقَدَّرَةٌ، والأصْلُ فِيها المُصاحَبَةُ، والقَوْلُ: بِأنَّها صِفَةٌ مَقْطُوعَةٌ دَعْوى مَوْصُولَةٌ بِالجَهْلِ بِشَرْطِ القَطْعِ، وهو عِلْمُ السّامِعِ بِاتِّصافِ المَنعُوتِ بِذَلِكَ النَّعْتِ، وإلّا لاحْتاجَ إلَيْهِ، ولا قَطْعَ مَعَ الحاجَةِ، (وكُلَّما) نُصِبَ عَلى الظَّرْفِيَّةِ بِـ(قالُوا)، (ورِزْقًا) مَفْعُولٌ ثانٍ، لِـ(رُزِقُوا)، كَرَزَقَهُ مالًا، أيْ أعْطاهُ، ولَيْسَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا مُؤَكِّدًا لِعامِلِهِ، لِأنَّهُ بِمَعْنى المَرْزُوقِ أعْرَفُ، والتَّأْسِيسُ خَيْرٌ مِنَ التَّأْكِيدِ مَعَ اقْتِضاءِ ظاهِرِ ما بَعْدَهُ لَهُ، وتَنْكِيرُهُ لِلتَّنْوِيعِ، أوْ لِلتَّعْظِيمِ، أيْ نَوْعًا لَذِيذًا غَيْرَ ما تَعْرِفُونَهُ، (ومِنَ) الأُولى والثّانِيَةُ لِلِابْتِداءِ، قُصِدَ بِهِما مُجَرَّدُ كَوْنِ المَجْرُورِ بِهِما مَوْضِعًا انْفَصَلَ عَنْهُ الشَّيْءُ، ولِذا لا يَحْسُنُ في مُقابَلَتِها نَحْوَ إلى، وهُما ظَرْفانِ مُسْتَقِرّانِ واقِعانِ حالًا عَلى التَّداخُلِ، وصاحِبُ الأُولى (رِزْقًا)، والثّانِيَةِ ضَمِيرُهُ المُسْتَكِنُّ في الحالِ، والمَعْنى: كُلَّ حِينٍ رُزِقُوا مَرْزُوقًا مُبْتَدَأً مِنَ الجَنّاتِ مُبْتَدَأً مِن ثَمَرِهِ، والشّائِعُ كَوْنُهُما لَغْوًا، والرِّزْقُ قَدِ ابْتَدَأ مِنَ الجَنّاتِ، والرِّزْقُ مِنَ الجَنّاتِ قَدِ ابْتَدَأ مِن ثَمَرَةٍ، وجُعِلَ بِمَنزِلَةِ أنْ تَقُولَ: أعْطانِي فُلانٌ، فَيُقالُ: مِن أيْنَ؟ فَتَقُولُ: مِن بُسْتانِهِ، فَيَقُولُ: مِن أيِّ ثَمَرَةٍ؟ فَتَقُولُ: مِنَ الرُّمّانِ، وتَحْرِيرُهُ أنَّ (رُزِقُوا) جُعِلَ مُطْلَقًا مُبْتَدَأً مِنَ الجَنّاتِ ثُمَّ جُعِلَ مُقَيَّدًا بِالِابْتِداءِ مِن ذَلِكَ مُبْتَدَأً مِن ثَمَرَةٍ، وعَلى القَوْلَيْنِ، لا يَرِدُ أنَّهم مَنَعُوا تَعَلُّقَ حَرْفَيْ جَرٍّ مُتَّحِدَيِ اللَّفْظِ والمَعْنى بِعامِلٍ واحِدٍ، والآيَةُ تُخالِفُهُ، أمّا عَلى الأوَّلِ فَظاهِرٌ، وأمّا عَلى الثّانِي فَلِأنَّ ذاكَ إذًا تَعَلَّقا بِهِ مِن جِهَةٍ واحِدَةٍ ابْتِداءً مِن غَيْرِ تَبَعِيَّةٍ، وما نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِلْإطْلاقِ والتَّقْيِيدِ، والمُرادُ مِنَ الثَّمَرَةِ - عَلى هَذا - النَّوْعُ كالتُّفّاحِ والرُّمّانِ، لا الفَرْدُ، لِأنَّ ابْتِداءَ الرِّزْقِ مِنَ البُسْتانِ مِن فَرْدٍ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ المَرْزُوقُ قِطْعَةً مِنهُ، لا جَمِيعَهُ، وهو رَكِيكٌ جِدًّا، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الثّانِيَةُ مُبَيِّنَةً لِلْمَرْزُوقِ، والظَّرْفُ الأوَّلُ لَغْوٌ، والثّانِي مُسْتَقِرٌّ خِلافًا لِمَن وهِمَ فِيهِ، وقَعَ حالًا مِنَ النَّكِرَةِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْها، ولِتَقَدُّمِها تَقْدِيرًا جازَ تَقْدِيمُ المُبَيَّنِ عَلى المُبْهَمِ، والثَّمَرَةُ يَجُوزُ حَمْلُها عَلى النَّوْعِ، وعَلى الجَنْأةِ الواحِدَةِ، ولَمْ يَلْتَفِتِ المُحَقِّقُونَ إلى جَعْلِ الثّانِيَةِ تَبْعِيضِيَّةً في مَوْقِعِ المَفْعُولِ، ورِزْقًا مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ أوْ في مَوْقِعِ الحالِ، مِن (رِزْقًا) لِبُعْدِهِ مَعَ أنَّ الأصْلَ التَّبْيِينُ، والِابْتِداءُ، فَلا يُعْدَلُ عَنْهُما إلّا لِداعٍ، عَلى أنَّ مَدْلُولَ التَّبْعِيضِيَّةِ أنْ يَكُونَ ما قَبْلَها، أوْ ما بَعْدَها جُزْأً لِمَجْرُورِها، لا جُزْئِيًّا، فَتَأْتِيَ الرَّكاكَةُ ها هُنا، وجَمَعَ سُبْحانَهُ بَيْنَ (مِنها) و(مِن ثَمَرَةٍ)، ولَمْ يَقُلْ: مِن ثَمَرِها، بَدَلَ ذَلِكَ، لِأنَّ تَعَلُّقَ (مِنها) يُفِيدُ أنَّ سُكّانَها لا تَحْتاجُ لِغَيْرِها، لِأنَّ فِيها كُلَّ ما تَشْتَهِي الأنْفُسُ، وتَعَلُّقُ (مِن ثَمَرَةٍ) يُفِيدُ أنَّ المُرادَ بَيانُ المَأْكُولِ عَلى وجْهٍ يَشْمَلُ جَمِيعَ الثَّمَراتِ دُونَ بَقِيَّةِ اللَّذّاتِ المَعْلُومَةِ مِنَ السّابِقِ واللّاحِقِ، وهَذا إشارَةٌ إلى نَوْعِ ما رُزِقُوا، ويَكْفِي إحْساسُ أفْرادِهِ، وهَذا كَقَوْلِكَ مُشِيرًا إلى نَهَرٍ جارٍ: هَذا الماءُ لا يَنْقَطِعُ، أوْ إلى شَخْصِهِ، والإخْبارِ عَنْهُ (بِـالَّذِي) إلَخْ، عَلى جَعْلِهِ عَيْنَهُ مُبالَغَةً، أوْ تَقْدِيرِ: مِثْلُ الَّذِي رُزِقْناهُ مِن قَبْلُ، أيْ في الدُّنْيا، والحِكْمَةُ في التَّشابُهِ أنَّ النَّفْسَ تَمِيلُ إلى ما يُسْتَطابُ، وتَطْلُبُ زِيادَتَهُ. ؎أعِدْ ذِكْرَ نُعْمانَ لَنا إنَّ ذِكْرَهُ ∗∗∗ هو المِسْكُ ما كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ وهَذا مُخْتَلِفٌ بِحَسَبِ الأحْوالِ والمَقاماتِ، أوْ لِتَبْيِينِ المِرْيَةِ، وكُنْهُ النِّعْمَةِ فِيما رُزِقُوهُ هُناكَ، إذْ لَوْ كانَ جِنْسًا لَمْ يُعْهَدْ ظُنَّ أنَّهُ لا يَكُونُ إلّا كَذَلِكَ، أوْ في الجَنَّةِ، والتَّشابُهُ في الصُّورَةِ إمّا مَعَ الِاخْتِلافِ في الطَّعْمِ كَما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ: (إنَّ أحَدَهم يُؤْتى بِالصَّحْفَةِ فَيَأْكُلُ مِنها ثُمَّ يُؤْتى بِأُخْرى فَيَراها مِثْلَ الأُولى فَيَقُولُ: ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ المَلَكُ: كُلْ، فاللَّوْنُ واحِدٌ والطَّعْمُ مُخْتَلِفٌ)، أوْ مَعَ التَّشابُهِ في الطَّعْمِ أيْضًا، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إنَّ الرَّجُلَ مِن أهْلِ الجَنَّةِ لِيَتَناوَلُ الثَّمَرَةَ لِيَأْكُلَها، فَما هي واصِلَةٌ إلى فِيهِ حَتّى يُبَدِّلَ اللَّهُ تَعالى مَكانَها مِثْلَها)،» فَلَعَلَّهم إذا رَأوْها عَلى الهَيْئَةِ الأُولى، قالُوا ذَلِكَ، والدّاعِي لَهم لِهَذا القَوْلِ فَرْطُ اسْتِغْرابِهِمْ، وتَبَجُّحُهم بِما وجَدُوا مِنَ التَّفاوُتِ العَظِيمِ (p-204)والمَشْهُورُ أنَّ كَوْنَ المُرادِ بِالقَبْلِيَّةِ في الدُّنْيا أوْلى مِمّا يُقَدَّمُ في الآخِرَةِ، لِأنَّ (كُلَّما) تُفِيدُ العُمُومَ، ولا يُتَصَوَّرُ قَوْلُهم ذَلِكَ في أوَّلِ ما قُدِّمَ إلَيْهِمْ، وقِيلَ: كَوْنُ المُرادِ بِها في الآخِرَةِ أوْلى لِئَلّا يَلْزَمَ انْحِصارُ ثِمارِ الجَنَّةِ في الأنْواعِ المَوْجُودَةِ في الدُّنْيا مَعَ أنَّ فِيها ما عَلِمْتَ، وما لَمْ تَعْلَمْ، عَلى أنَّ فِيهِ تَوْفِيَةً بِمَعْنى حَدِيثِ تَشابُهِ ثِمارِ الجَنَّةِ، ومُوافَقَتَهُ لِمُتَشابِهِها، بَعْدُ فَإنَّهُ في رِزْقِ الجَنَّةِ أظْهَرُ، وإعادَةُ الضَّمِيرِ إلى المَرْزُوقِ في الدّارَيْنِ تَكَلُّفٌ، وسَتَسْمَعُهُ بِمَنِّهِ تَعالى، وفي الآيَةِ مَحْمَلٌ آخَرُ يَمِيلُ إلَيْهِ القَلْبُ، بِأنْ يَكُونَ ما رُزِقُوهُ قَبْلُ هو الطّاعاتُ والمَعارِفُ الَّتِي يَسْتَلِذُّها أصْحابُ الفِطْرَةِ والعُقُولِ السَّلِيمَةِ، وهَذا جَزاءٌ مُشابِهٌ لَها فِيما ذُكِرَ مِنَ اللَّذَّةِ، كالجَزاءِ الَّذِي في ضِدِّهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أيْ جَزاءَهُ، فالَّذِي رُزِقْناهُ مَجازٌ مُرْسَلٌ عَنْ جَزائِهِ بِإطْلاقِ اسْمِ المُسَبَّبِ عَلى السَّبَبِ، ولا يَضُرُّ في ذَلِكَ أنَّ الجَنَّةَ وما فِيها مِن فُنُونِ الكَراماتِ مِنَ الجَزاءِ كَما لا يَخْفى، أوْ هو اسْتِعارَةٌ بِتَشْبِيهِ الثِّمارِ والفَواكِهِ بِالطّاعاتِ والمَعارِفِ، فِيما ذُكِرَ، وقِيلَ: أرْضُ الجَنَّةِ قِيعانٌ يَظْهَرُ فِيها أعْمالُ الدُّنْيا كَما يُشِيرُ إلَيْهِ بَعْضُ الآثارِ، فَثَمَرَةُ النَّعِيمِ ما غَرَسُوهُ في الدُّنْيا، فَتَدَبَّرْ، ﴿وأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا﴾ تَذْيِيلٌ لِلْكَلامِ السّابِقِ، وتَأْكِيدٌ لَهُ بِما يَشْتَمِلُ عَلى مَعْناهُ، لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعْرابِ، ويَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنافَ والحالِيَّةَ بِتَقْدِيرِ: قَدْ، وهو شائِعٌ، وحُذِفَ الفاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وهو ظاهِرًا الخَدَمُ والوِلْدانُ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قِراءَةُ هارُونَ، والعَتَكِيِّ: (وأتَوْا) عَلى الفاعِلِ، وفِيها إضْمارٌ لِدِلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ، وقَدْ أُظْهِرَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وفاكِهَةٍ مِمّا يَتَخَيَّرُونَ﴾ والضَّمِيرُ المَجْرُورُ إمّا عَلى تَقْدِيرِ: أنْ يُرادَ مِن قَبْلُ في الدُّنْيا، فَراجِعٌ إلى المَفْهُومِ الواحِدِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ اللَّفْظانِ، هَذا والَّذِي رُزِقْنا مِن قَبْلُ، وهو المَرْزُوقُ في الدّارَيْنِ أيْ أُتُوا بِمَرْزُوقِ الدّارَيْنِ مُتَشابِهًا بَعْضُهُ بِالبَعْضِ، ويُسَمّى هَذا الطَّرِيقُ بِالكِنايَةِ الإيمائِيَّةِ، ولَوْ رَجَعَ إلى المَلْفُوظِ لَقِيلَ: بِهِما، وعَبَّرَ عَمّا بَعْضُهُ ماضٍ وبَعْضُهُ مُسْتَقْبَلٌ بِالماضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وفي الكَشْفِ: أنَّ المُرادَ مِنَ المَرْزُوقِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ الجِنْسُ الصّالِحُ التَّناوُلِ لِكُلٍّ مِنهُما، لا المُقَيَّدُ بِهِما، وإمّا عَلى تَقْدِيرِ: أنْ يُرادَ في الجَنَّةِ، فَراجِعٌ إلى الرِّزْقِ، أيْ أُتُوا بِالمَرْزُوقِ في الجَنَّةِ مُتَشابِهَ الأفْرادِ، قالَ أبُو حَيّانَ: والظّاهِرُ هَذا، لِأنَّ مَرْزُوقَهم في الآخِرَةِ هو المُحَدَّثُ عَنْهُ، والمُشَبَّهُ بِالَّذِي رُزِقُوهُ مِن قَبْلُ، ولِأنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ إنَّما جاءَتْ مُحَدَّثًا بِها عَنِ الجَنَّةِ، وأحْوالها، وكَوْنُهُ يُخْبِرُ عَنِ المَرْزُوقِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ أنَّهُ مُتَشابِهٌ لَيْسَ مِن حَدِيثِ الجَنَّةِ، إلّا بِتَكَلُّفٍ، ولا يُعَكِّرُ عَلى دَعْوى مُتَشابِهٍ، ما في الدّارَيْنِ، ما أخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ وغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ: لَيْسَ في الجَنَّةِ مِن أطْعِمَةِ الدُّنْيا إلّا الأسْماءُ، لِأنَّهُ لا يُشْتَرَطُ فِيهِ أنْ يَكُونَ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ، وهو حاصِلٌ في الصُّورَةِ الَّتِي هي مَناطُ الِاسْمِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ في المِقْدارِ والطَّعْمِ، وتَحْرِيرُهُ أنَّ إطْلاقَ الأسْماءِ عَلَيْها لِكَوْنِها عَلى الِاسْتِعارَةِ يَقْتَضِي الِاشْتِراكَ فِيما هو مَناطُها، وهو الصُّورَةُ، وبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ التَّشابُهُ بَيْنَهُما، فالمُسْتَثْنى في الأثَرِ الأسْماءُ، وما هو مَناطُها، بِدِلالَةِ العَقْلِ، ﴿ولَهم فِيها أزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وهم فِيها خالِدُونَ﴾ صِفَةٌ ثالِثَةٌ، ورابِعَةٌ لِلْجَنّاتِ، وأُورِدَتِ الأوَّلِيَّتانِ بِالجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ لِإفادَةِ التَّجَدُّدِ، وهاتانِ بِالِاسْمِيَّةِ، لِإفادَةِ الدَّوامِ، وتُرِكَ العاطِفُ في البَعْضِ مَعَ إيرادِهِ في البَعْضِ قِيلَ: لِلتَّنْبِيهِ عَلى جَوازِ الأمْرَيْنِ في الصِّفاتِ، واخْتَصَّ كُلٌّ بِما اخْتَصَّ بِهِ لِمُناسَبَةٍ لا تَخْفى، وذَهَبَ أبُو البَقاءِ إلى أنَّ هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ مُسْتَأْنَفَتانِ، وجَوَّزَ أنْ تَكُونَ الثّانِيَةُ حالًا مِن ضَمِيرِ الجَمْعِ في (لَهُمْ)، والعامِلُ فِيها مَعْنًى الِاسْتِقْرارُ، والأزْواجُ جَمْعُ قِلَّةٍ، وجَمْعُ الكَثْرَةِ زِوَجَةٌ، كَعَوْدٍ وعِوَدَةٍ، ولَمْ يَكْثُرِ اسْتِعْمالُهُ في الكَلامِ، قِيلَ: ولِهَذا اسْتُغْنَيَ عَنْهُ بِجَمْعِ القِلَّةِ تَوَسُّعًا، وقَدْ ورَدَ في الآثارِ ما يَدُلُّ عَلى كَثْرَةِ الأزْواجِ في الجَنَّةِ مِنَ الحُورِ وغَيْرِهِنَّ، ويُقالُ: الزَّوْجُ لِلذَّكَرِ والأُنْثى، ويَكُونُ لِأحَدِ المُزْدَوِجَيْنِ، ولَهُما مَعًا، ويُقالُ لِلْأُنْثى: زَوْجَةٌ في لُغَةِ تَمِيمٍ، وكَثِيرٍ مِن قَيْسٍ، والمُرادُ هُنا بِالأزْواجِ النِّساءُ اللّاتِي تَخْتَصُّ بِالرَّجُلِ، لا يَشْرِكُهُ فِيها غَيْرُهُ، ولَيْسَ في المَفْهُومِ اعْتِبارُ التَّوالُدِ الَّذِي هو مَدارُ بَقاءِ (p-205)النَّوْعِ حَتّى لا يَصِحَّ إطْلاقُهُ عَلى أزْواجِ الجَنَّةِ لِخُلُودِهِمْ فِيها، واسْتِغْنائِهِمْ عَنِ الأوْلادِ، عَلى أنَّ بَعْضَهم صَحَّحَ التَّوالُدَ فِيها، ورَوى آثارًا في ذَلِكَ، لَكِنْ عَلى وجْهٍ يَلِيقُ بِذَلِكَ المَقامِ، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ الأوْلادَ رُوحانِيُّونَ، واللَّهُ قادِرٌ عَلى ما يَشاءُ، ومَعْنى كَوْنِها مُطَهَّرَةً أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ نَزَّهَهُنَّ عَنْ كُلِّ ما يَشِينُهُنَّ، فَإنْ كُنَّ مِنَ الحُورِ كَما رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فَمَعْنى التَّطَهُّرِ خَلَقَهُنَّ عَلى الطَّهارَةِ لَمْ يَعْلَقْ بِهِنَّ دَنَسٌ ذاتِيٌّ ولا خارِجِيٌّ، وإنْ كُنَّ مِن بَنِي آدَمَ كَما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ: مِن عَجائِزِكُمُ الرُّمْصِ الغُمْصِ يَصِرْنَ شَوابَّ، فالمُرادُ إذْهابُ كُلِّ شَيْنٍ عَنْهُنَّ، مِنَ العُيُوبِ الذّاتِيَّةِ وغَيْرِها، والتَّطْهِيرُ كَما قالَ الرّاغِبُ يُقالُ فِي: الأجْسامِ والأخْلاقِ والأفْعالِ جَمِيعًا، فَيَكُونُ عامًّا هُنا بِقَرِينَةِ مَقامِ المَدْحِ لا مُطْلَقًا مُنْصَرِفًا إلى الكامِلِ، وكَمالُ التَّطْهِيرِ إنَّما يَحْصُلُ بِالقِسْمَيْنِ، كَما قِيلَ، فَإنَّ المَعْهُودَ مِن إرادَةِ الكَمالِ إرادَةُ أعْلى أفْرادِهِ، لا الجَمِيعُ، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (مُطَهَّراتٌ) بِناءً عَلى طُهِّرْنَ، لا طَهُرَتْ، كَما في الأُولى، ولَعَلَّها أوْلى اسْتِعْمالًا، وإنْ كانَ الكُلُّ فَصِيحًا، لِأنَّهم قالُوا: جَمْعُ ما لا يَعْقِلُ إمّا أنْ يَكُونَ جَمْعَ قِلَّةٍ، أوْ كَثْرَةٍ، فَإنْ كانَ جَمْعَ كَثْرَةٍ فَمَجِيءُ الضَّمِيرِ عَلى حَدِّ ضَمِيرِ الواحِدَةِ أوْلى مِن مَجِيئِهِ عَلى حَدِّ ضَمِيرِ الغائِباتِ، وإنْ كانَ جَمْعَ قِلَّةٍ فالعَكْسُ، وكَذَلِكَ إذا كانَ ضَمِيرًا عائِدًا عَلى جَمْعِ العاقِلاتِ الأوْلى فِيهِ النُّونُ دُونَ التّاءِ، ”كَبَلَغْنَ أجْلَهُنَّ“، ”ويُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ“ ولَمْ يُفَرِّقُوا في هَذا بَيْنَ جَمْعِ القِلَّةِ، والكَثْرَةِ، ومَجِيءُ هَذِهِ الصِّفَةِ مَبْنِيَّةً لِلْمَفْعُولِ، ولَمْ تَأْتِ طاهِرَةً وصْفٌ مِن طَهَرَ بِالفَتْحِ عَلى الأفْصَحِ، أوْ طَهُرَ بِالضَّمِّ، وعَلى الأوَّلِ قِياسٌ وعَلى الثّانِي شاذٌّ لِلتَّفْخِيمِ، لِأنَّهُ أفْهَمَ أنَّ لَها مُطَهِّرًا، ولَيْسَ سِوى اللَّهِ تَعالى، وكَيْفَ يَصِفُ الواصِفُونَ مَن طَهَّرَهُ الرَّبُّ سُبْحانَهُ! وقَرَأ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ (مُطَّهِّرَةٌ) وأصْلُهُ مُتَطَهِّرَةٌ، فَأُدْغِمَ، ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى مَسْكَنَ المُؤْمِنِينَ، ومَطْعَمَهُمْ، ومَنكَحَهُمْ، وكانَتْ هَذِهِ المَلاذُّ لا تَبْلُغُ دَرَجَةَ الكَمالِ مَعَ خَوْفِ الزَّوالِ، ولِذَلِكَ قِيلَ: ؎أشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي في سُرُورٍ ∗∗∗ تَيَقَّنَ عَنْهُ صاحِبُهُ انْتِقالا أعْقَبَ ذَلِكَ بِما يُزِيلُ ما يُنَغِّصُ إنْعامَهُ مِن ذِكْرِ الخُلُودِ في دارِ الكَرامَةِ، والخُلُودُ عِنْدَ المُعْتَزِلَةِ البَقاءُ الدّائِمُ الَّذِي لا يَنْقَطِعُ، وعِنْدَنا البَقاءُ الطَّوِيلُ انْقَطَعَ أوْ لَمْ يَنْقَطِعْ، واسْتِعْمالُهُ في المُكْثِ الدّائِمِ مِن حَيْثُ إنَّهُ مُكْثٌ طَوِيلٌ لا مِن حَيْثُ خُصُوصُهُ حَقِيقَةً، وهو المُرادُ هُنا، وقَدْ شَهِدَتْ لَهُ الآياتُ والسُّنَنُ، والجَهْمِيَّةُ يَزْعُمُونَ أنَّ الجَنَّةَ وأهْلَها يَفْنَيانِ، وكَذا النّارُ وأصْحابُها، والَّذِي دَعاهم إلى هَذا أنَّهُ تَعالى وصَفَ نَفْسَهُ بِأنَّهُ الأوَّلُ والآخِرُ، والأوَّلِيَّةُ تَقَدُّمُهُ عَلى جَمِيعِ المَخْلُوقاتِ، والآخِرِيَّةُ تَأخُّرُهُ، ولا يَكُونُ إلّا بِفِناءِ السِّوى، ولَوْ بَقِيَتِ الجَنَّةُ وأهْلُها كانَ فِيهِ تَشْبِيهٌ لِمَن لا شَبِيهَ لَهُ سُبْحانَهُ، وهو مُحالٌ، ولِأنَّهُ إنْ لَمْ يَعْلَمْ أنْفاسَ أهْلِ الجَنَّةِ كانَ جاهِلًا تَعالى عَنْ ذَلِكَ، وإنْ عَلِمَ لَزِمَ الِانْتِهاءُ، وهو بَعْدُ الفَناءُ، ولَنا النُّصُوصُ الدّالَّةُ عَلى التَّأْيِيدِ، والعَقْلُ مَعَها، لِأنَّها دارُ سَلامٍ وقُدْسٍ لا خَوْفٍ ولا حُزْنٍ، والمَرْءُ لا يَهْنَأُ بِعَيْشٍ يَخافُ زَوالَهُ، بَلْ قِيلَ: البُؤْسُ خَيْرٌ مِن نَعِيمٍ زائِلٍ، والكُفْرُ جَرِيمَةٌ خالِصَةٌ فَجَزاؤُها عُقُوبَةٌ خالِصَةٌ لا يَشُوبُها نَقْصٌ، ومَعْنى الأوَّلِ والآخِرِ لَيْسَ كَما في الشّاهِدِ، بَلْ بِمَعْنى لا ابْتِداءَ ولا انْتِهاءَ لَهُ في ذاتِهِ مِن غَيْرِ اسْتِنادٍ لِغَيْرِهِ، فَهو الواجِبُ القِدَمِ المُسْتَحِيلُ العَدَمِ، والخَلْقُ لَيْسُوا كَذَلِكَ، فَأيْنَ الشَّبَهُ، والعِلْمُ لا يَتَناهى، فَيَتَعَلَّقُ بِما لا يَتَناهى، وما أنْفاسُ أهْلِ الجَنَّةِ إلّا كَمَراتِبِ الأعْدادِ ! أفَيُقالُ: إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لا يَعْلَمُها، أوْ يُقالُ إنَّها مُتَناهِيَةٌ، تَبًّا لِلْجَهْمِيَّةِ ما أجْهَلَهُمْ، وأجْهَلُ مِنهم مَن قالَ: إنَّ الأبْدانَ مُؤَلَّفَةٌ مِنَ الأجْزاءِ المُتَضادَّةِ في الكَيْفِيَّةِ، مُعَرَّضَةٌ لِلِاسْتِحالاتِ المُؤَدِّيَةِ إلى الِانْحِلالِ والِانْفِكاكِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ التَّأْبِيدُ؟ وذَلِكَ لِأنَّ مَدارَ هَذا عَلى قِياسِ هاتِيكَ النَّشْأةِ عَلى هَذِهِ النَّشْأةِ، وهَيْهاتَ هَيْهاتَ، كَيْفَ يُقاسُ ذَلِكَ العالَمُ الكامِلُ عَلى عالَمِ الكَوْنِ والفَسادِ! عَلى أنَّهُ إذا ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعالى قادِرًا مُخْتارًا، ولا فاعِلَ في الوُجُودِ إلّا هُوَ، فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُعِيدَ الأبْدانَ بِحَيْثُ لا تَتَحَلَّلُ، أوْ إنْ تَحَلَّلَتْ فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَخْلُقَ بَدَلَ (p-206)ما تَحَلَّلَ دائِمًا أبَدًا، وسُبْحانَ القادِرِ الحَكِيمِ الَّذِي لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب