(p-٨١)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٢٥ ] ﴿وبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أنَّ لَهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنها مِن ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هَذا الَّذِي رُزِقْنا مِن قَبْلُ وأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا ولَهم فِيها أزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وهم فِيها خالِدُونَ﴾
"وبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ" (البِشارَةُ): الإخْبارُ بِما يُظْهِرُ سُرُورَ المُخْبَرِ بِهِ، ومِنهُ البَشَرَةُ: لِظاهِرِ الجِلْدِ. وتَباشِيرُ الصُّبْحِ ما ظَهَرَ مِن أوائِلِ ضَوْئِهِ. وأمّا "فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ" فَمِنَ العَكْسِ في الكَلامِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِهْزاءُ - الزّائِدُ في غَيْظِ المُسْتَهْزَأِ بِهِ، وتَألُّمِهِ، واغْتِمامِهِ- فَفِيهِ اسْتِعارَةُ أحَدِ الضِّدَّيْنِ لِلْآخَرِ تَهَكُّمًا وسُخْرِيَةً. و"الصّالِحاتِ" ما اسْتَقامَ مِنَ الأعْمالِ أيْ صَلُحَ لِتَرَتُّبِ الثَّوابِ عَلَيْهِ، وقَدْ أجْمَعَ السَّلَفُ عَلى أنَّ الإيمانَ: قَوْلٌ وعَمَلٌ، يَزِيدُ ويَنْقُصُ. ثُمَّ إنَّهُ إذا أطْلَقَ دَخَلَتْ فِيهِ الأعْمالُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ««الإيمانُ بِضْعٌ وسِتُّونَ شُعْبَةً -أوْ بِضْعٌ وسَبْعُونَ شُعْبَةً- أعْلاها قَوْلُ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأدْناها إماطَةُ الأذى عَنِ الطَّرِيقِ، والحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ»» .
وإذا عُطِفَ عَلَيْهِ -كَما في هَذِهِ الآيَةِ - فَهُنا، قَدْ يُقالُ: الأعْمالُ دَخَلَتْ فِيهِ، وعُطِفَتْ عَطْفَ الخاصِّ عَلى العامِّ، وقَدْ يُقالُ: لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ، ولَكِنْ مَعَ العَطْفِ -كَما في اسْمِ الفَقِيرِ (p-٨٢)والمِسْكِينِ. إذا أفْرَدَ أحَدَهُما تَناوَلَ الآخَرَ، وإذا عَطَفَ أحَدَهُما عَلى الآخَرِ فَهُما صِنْفانِ - وهَذا التَّفْصِيلُ في الإيمانِ هو كَذَلِكَ في لَفْظِ البِرِّ، والتَّقْوى، والمَعْرُوفِ. وفي الإثْمِ، والعُدْوانِ، والمُنْكَرِ، تَخْتَلِفُ دَلالَتُها في الإفْرادِ والِاقْتِرانِ لِمَن تَدَبَّرَ القُرْآنَ.
وقَدْ بَيَّنَ حَدِيثُ جِبْرِيلَ أنَّ الإيمانَ أصْلُهُ في القَلْبِ، وهو الإيمانُ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ - كَما في المُسْنَدِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ - أنَّهُ قالَ: ««الإسْلامُ عَلانِيَةٌ والإيمانُ في القَلْبِ»» .
وقَدْ قالَ ﷺ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ««ألا إنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلُحَتْ صَلَحَ لَها سائِرُ الجَسَدِ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ لَها سائِرُ الجَسَدِ، ألا وهي القَلْبُ»» .
فَإذا كانَ الإيمانُ في القَلْبِ، فَقَدْ صَلَحَ القَلْبُ، فَيَجِبُ أنْ يَصْلُحَ سائِرُ الجَسَدِ، فَلِذَلِكَ هو ثَمَرَةُ ما في القَلْبِ. فَلِهَذا قالَ بَعْضُهُمُ: الأعْمالُ ثَمَرَةُ الإيمانِ، وصِحَّتُهُ؛ لِما كانَتْ لازِمَةً لِصَلاحِ (p-٨٣)القَلْبِ، دَخَلَتْ في الِاسْمِ، كَما نَطَقَ بِذَلِكَ الكِتابُ والسُّنَّةُ في غَيْرِ مَوْضِعٍ، هَذا ما أفادَهُ الإمامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى "أنَّ لَهم جَنّاتٍ" جَمْعُ (جَنَّةٍ): وهي البُسْتانُ مِنَ النَّخْلِ والشَّجَرِ المُتَكاثِفِ المُظَلِّلِ بِالتِفافِ أغْصانِهِ، وإنَّما سُمِّيَتْ: دارُ الثَّوابِ، بِها مَعَ أنَّ فِيها ما لا يُوصَفُ مِنَ الغُرُفاتِ والقُصُورِ، لِما أنَّها مَناطُ نَعِيمِها، ومُعْظَمُ مَلاذِّها. وجَمْعُها مَعَ التَّنْكِيرِ: لِاشْتِمالِها عَلى جِنانٍ كَثِيرَةٍ في كُلٍّ مِنها مَراتِبُ ودَرَجاتٌ مُتَفاوِتَةٌ بِحَسَبِ تَفاوُتِ الأعْمالِ وأصْحابِها.
وقَوْلُهُ: "تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ" صِفَةُ جَنّاتٍ، ثُمَّ إنْ أُرِيدَ بِها الأشْجارُ، فَجَرَيانُ الأنْهارِ مِن تَحْتِها ظاهِرٌ، وإنْ أُرِيدَ بِها الأرْضُ المُشْتَمِلَةُ عَلَيْها، فَلا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ مُضافٍ -أيْ مِن تَحْتِ أشْجارِها-، وإنْ أُرِيدَ بِها مَجْمُوعُ الأرْضِ والأشْجارِ، فاعْتِبارُ التَّحْتِيَّةِ بِالنَّظَرِ إلى الجُزْءِ الظّاهِرِ المُصَحِّحِ لِإطْلاقِ اسْمِ الجَنَّةِ عَلى الكُلِّ، وإنَّما جِيءَ ذِكْرُ الجَنّاتِ -مَشْفُوعًا بِذِكْرِ الأنْهارِ الجارِيَةِ- لِما أنَّ أنْزَهَ البَساتِينِ، وأكْرَمَها مَنظَرًا، ما كانَتْ أشْجارُهُ مُظَلِّلَةً، والأنْهارُ في خِلالِها مُطَّرِدَةٌ، وفي ذَلِكَ النِّعْمَةُ العُظْمى، واللَّذَّةُ الكُبْرى. واللّامُ في الأنْهارِ: لِلْجِنْسِ- كَما في قَوْلِكَ: لِفُلانٍ بُسْتانٌ فِيهِ الماءُ الجارِي- أوْ لِلْعَهْدِ. والإشارَةُ إلى ما ذُكِرَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِيها أنْهارٌ مِن ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ [محمد: ١٥] الآيَةَ.
"كُلَّما رُزِقُوا مِنها" أيْ: أُطْعِمُوا مِن تِلْكَ الجَنّاتِ "مِن ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هَذا الَّذِي رُزِقْنا مِن قَبْلُ" أيْ: مِثْلُ الَّذِي رَزَقْناهُ مِن قَبْلِ هَذا الَّذِي أحْضَرَ إلَيْنا، فالإشارَةُ إلى المَرْزُوقِ في الجَنَّةِ لِتَشابُهِ ثِمارِها. بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ "وأُتُوا بِهِ" - أيْ: أتَتْهُمُ المَلائِكَةُ، والوِلْدانُ (p-٨٤)بِرِزْقِ الجَنَّةِ – "مُتَشابِهًا" يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَوْنًا، ويَخْتَلِفُ طَعْمًا، وذَلِكَ أجْلَبُ لِلسُّرُورِ، وأزْيَدُ في التَّعَجُّبِ، وأظْهَرُ لِلْمَزِيَّةِ، وأبْيَنُ لِلْفَضْلِ.
وتَرْدِيدُهم هَذا القَوْلَ، ونُطْقُهم بِهِ - عِنْدَ كُلِّ ثَمَرَةٍ يُرْزَقُونَها- دَلِيلٌ عَلى تَناهِي الأمْرِ في اسْتِحْكامِ الشَّبَهِ، وأنَّهُ الَّذِي يَسْتَمْلِي تَعَجُّبَهم، ويَسْتَدْعِي اسْتِغْرابَهم، ويُفَرِّطُ ابْتِهاجَهم. فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ "وأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا" مِن نَظْمِ الكَلامِ ؟ قُلْتُ: هو كَقَوْلِكَ: فُلانٌ أحْسَنُ بِفُلانٍ، ونِعْمَ ما فَعَلَ. ورَأى مِنَ الرَّأْيِ كَذا، وكانَ صَوابًا. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلُوا أعِزَّةَ أهْلِها أذِلَّةً وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: ٣٤] وما أشْبَهُ ذَلِكَ مِنَ الجُمَلِ الَّتِي تُساقُ في الكَلامِ مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّقْرِيرِ "ولَهم فِيها أزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ" مِنَ الحَيْضِ والِاسْتِحاضَةِ وما يَخْتَصُّ بِهِنَّ مِنَ الأقْذارِ والأدْناسِ - ويَجُوزُ لِمَجِيئِهِ مُطْلَقًا، أنْ يَدْخُلَ تَحْتَهُ الطُّهْرُ مِن دَنَسِ الطِّباعِ، وسُوءِ الأخْلاقِ وسائِرِ مَثالِبِهِنَّ وكَيْدِهِنَّ.
وقَوْلُهُ تَعالى "وهم فِيها خالِدُونَ" هَذا هو تَمامُ السَّعادَةِ؛ فَإنَّهم -مَعَ هَذا النَّعِيمِ- في مَقامٍ أمِينٍ مِنَ المَوْتِ والِانْقِطاعِ، فَلا آخِرَ لَهُ ولا انْقِضاءَ. بَلْ في نَعِيمٍ سَرْمَدِيٍّ أبَدِيٍّ عَلى الدَّوامِ. واللَّهُ المَسْؤُولُ أنْ يَحْشُرَنا في زُمْرَتِهِمْ، إنَّهُ البَرُّ الرَّحِيمُ.
ولَمّا ضَرَبَ تَعالى -فِيما تَقَدَّمَ- لِلْمُنافِقِينَ مَثَلَيْنِ: في قَوْلِهِ: ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ﴾ [البقرة: ١٧] إلَخْ. وقَوْلِهِ: ﴿أوْ كَصَيِّبٍ﴾ [البقرة: ١٩] إلَخْ. إلى أمْثالٍ أُخْرى تَقَدَّمَتْ عَلى نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، مِنَ السُّوَرِ المَكِّيَّةِ، ضُرِبَتْ لِلْمُشْرِكِينَ - نَبَّهَ تَعالى إلى مَوْضِعِ العِبْرَةِ بِها، والحِكْمَةِ مِنها، وتَضْلِيلِ مَن لا يُقَدِّرُها قَدْرَها - مِمَّنْ يَتَجاهَلُ عَنْ سِرِّها، ويَتَعامى عَنْ نُورِها، ويَحُولُ دُونَ الِاهْتِداءِ بِها، والأخْذِ بِسَبَبِها -فَقالَ سُبْحانَهُ:
{"ayah":"وَبَشِّرِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُوا۟ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةࣲ رِّزۡقࣰا قَالُوا۟ هَـٰذَا ٱلَّذِی رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُوا۟ بِهِۦ مُتَشَـٰبِهࣰاۖ وَلَهُمۡ فِیهَاۤ أَزۡوَ ٰجࣱ مُّطَهَّرَةࣱۖ وَهُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ"}