الباحث القرآني

طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ﴿﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ ﴾ [البقرة: ٢١ - ٢٤]. * الشيخ: أحسنت، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ الخطاب هنا ورد بـ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ مع أن السورة مدنية، وأكثر من يخاطَب في السور المدنية هم المؤمنون، ولهذا جعل المتكلمون في أصول التفسير جعل من علامة السور المدنية أن الخطاب يكون فيها موجها للمؤمنين بخلاف الآيات المكية؛ لأن أكثر من يخاطب بها من ليس بمؤمن، لكن هذه الآية هي أول آية فيها نداء، أول آية فيها نداء هي هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾، ولهذا وُجِّه الخطاب بها أو النداء بها إلى جميع الناس، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾. ولو قال قائل: لعل هذه آية مكية جُعلت في السورة المدينة؟ نقول: الأصل عدم ذلك، ولهذا نرى في بعض عناوين السور: مكية إلا آية كذا وكذا، مدنية إلا آية كذا وكذا، هذا غير مسلَّم حتى يثبت ذلك بدليل صحيح، وإلا فالأصل أن السور المدنية جميع آياتها مدنية، وأن السور المكية جميع آياتها مكية، إلا بدليل ثابت. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾، في هذه ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ إثبات الألوهية، يعني إثبات توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية؛ ﴿اعْبُدُوا﴾ هذا توحيد الألوهية؛ لأن توحيد الألوهية يسمى توحيد ألوهية باعتبار إضافته إلى الله، وتوحيد عبادة باعتبار إضافته إلى العبد. يقول الله تعالى: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾، فما هي العبادة التي أُمرنا بها؟ العبادة التي أُمرنا بها هي التذلل لله عز وجل ذلا تاما مستلزما للمحبة والتعظيم، لا بد، وإلّا لم يكن الإنسان عبدا، أن يتذلل لله تعالى ذلا كاملا، أيش؟ مستلزما للمحبة والتعظيم، فبالمحبة يكون فعل الأوامر حتى يصل العابد إلى محبوبه، وبالتعظيم يكون الفرار من النواهي لئلا يعذبه ربه العظيم عز وجل، هذا هو معنى العبادة: التذلل لله، أيش؟ ذلا كاملا مستلزما للمحبة والتعظيم، طيب، هذا تفسير العبادة بالنسبة لفعل العبد، قد تفسَّر العبادة بالنسبة لمفعول العبد، بالنسبة لمفعوله، فيقال مثلا: الصلاة عبادة، الزكاة عبادة، الصوم عبادة، وعلى هذا فسرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث قال رحمه الله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. ثم ضرب أمثلة بالصلاة والزكاة وغيرها، وحينئذ نقول: العبادة تطلق على معنيين؛ المعنى الأول: التعبد، والمعنى الثاني: المتعبَّد به وهو مفعول العبد؛ يعني ما فعله العبد، واضح يا جماعة؟ طيب، ما المراد بالآية؟ المعنيان أو المعنى الأول؟ الظاهر كلاهما، وهما متلازمان. وقوله: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ الرب هو الخالق، المالك، أيش؟ المدبر، الخالق المالك المدبر، وعلى هذا فيكون قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ صفةً كاشفة مبينة للواقع، وليست صفة احترازية؛ لأنه ليس لنا ربان أحدهما خالق والثاني غير خالق، بل ربنا هو الخالق، فالصفة هنا إذن صفة كاشفة وليست صفة احترازية، ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾، والخلق هو الإيجاد من عدم، ولم يخلق الناس إلا الله عز وجل، لا يخلقهم أب ولا أم ولا ملَك ولا أحد، لا يخلقهم إلا الله، وإذا كان الله تعالى يقول: ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَه﴾ [الحج٧٣]، فعدم خلق بني آدم من باب أولى، نعم. ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، يعني: وخلق الذين من قبلكم، ولهذا نجد سبحان الله بنو آدم يتسلسلون، تنظر إلى المسجد أو تنظر إلى مجتمع تجد هذا له سبعون سنة، وهذا له خمسون، وهذا له أربعون، وهذا له ثلاثون، وهذا له عشرون، وهذا له عشر، وهذا له خمس، من أجل أن يعمر الكون، يتعاقبون، فإذا تأملت هذا عرفت كمال سلطان الله عز وجل وكمال حكمته، هؤلاء الذين قبلنا مخلوقون، ونحن من ذريتهم، ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ [الصافات ٧٧]، ذرية نوح، نحن من ذريتهم، إذن مَن تفرع على مخلوق فهو مخلوق، ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، وعلى هذا فقوله: ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ معطوف على؟ * طالب: الضمير. * الشيخ: على الكاف في ﴿خَلَقَكُمْ﴾، نعم. ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، (لعل) هنا للتعليل؛ أي لتصلوا إلى التقوى، ومعلوم أن التقوى مرتبة عالية، حتى قال الله عز وجل في الجنة: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران ١٣٣]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل١٢٨] وقال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين﴾ [البقرة ١٩٤]. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾، هذا من باب التعدد أنواعا، أو تعديد أنواع من أفعاله عز وجل، جعل الله لنا الأرض فراشا موطأة، يستقر الإنسان عليها استقرارا كاملا، ليست نشزا وليست مؤلمة عند النوم عليها أو السكون عليها أو ما أشبه ذلك، والله تعالى قد وصف الأرض بأوصاف متعددة، وصفها بأنها فراش، وبأنها ذلول، وبغير ذلك مما جرى في القرآن، والفراش كما نعلم يكون موطأ للإنسان مهيأ له يستريح فيه. ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ كما قال تعالى: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ [النبأ ١٢] السماء جعلها الله بناء، أي بمنزلة البناء وبمنزلة السقف، ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾ [الأنبياء ٣٢]. ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾، ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ﴾ ليست هي السماء الأولى، بل المراد بالسماء في الثانية العلو؛ لأن الماء الذي هو المطر ينزل من السحاب، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِه﴾ [النور ٤٣]، فالماء الذي هو المطر لا ينزل من السماء التي هي البناء، وإنما ينزل من السحاب التي في العلو، وبهذا نعرف أن السماء يطلق على معنيين؛ المعنى الأول: البناء الذي فوقنا، والمعنى الثاني: العلو. ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾، ﴿أَخْرَجَ بِهِ﴾ أي: بسببه، وانظر إلى الحكمة والنكتة البديعة، حيث أضاف الأمر إلى نفسه جل وعلا لكن بسبب، فالسبب موصل فقط، وإلا فهل المطر يُخرج النبات؟ لا، المخرج هو الله، لكن السبب المطر، ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ﴾، أي: بسببه، ﴿مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾، وجمع الثمرات لأنها متنوعة، لو أراد الإنسان أن يحصي أنواعها لعجز فضلا عن أفرادها. ﴿مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ في العبادة، ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه لا ند له في الخلق والرزق وإنزال المطر، وما أشبه ذلك من أفعال الربوبية؛ لأن المشركين يقرون بأن الخالق هو الله، والرازق هو الله، والمدبر للأمر هو الله، يقرون بهذا إقرارا تاما، ويعلمون أنه لا إله مع الله في هذا، لكن في العبادة ينكرون هذا، يشركون، يجعلون مع الله إلها آخر، وينكرون على من وحّد الله، حتى قالوا في الرسول عليه الصلاة والسلام: ﴿أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب﴾ [ص ٥]، ونقول: ما شاء الله، من الذي جاء بالشيء العجاب؟ هم، أما الرسول عليه الصلاة والسلام جاء بالصواب، لكن هم جاءوا بالشيء العجاب، نسأل الله العافية، إذن ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ في أيش؟ * الطلبة: في العبادة. * الشيخ: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه لا ند له في الربوبية من الخلق والرزق، وغير ذلك، وإقراركم بالخلق والرزق أن الله منفرد به يلزم أن تجعلوا العبادة لله وحده، فإن لم تفعلوا فأنتم متناقضون، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: توحيد الألوهية متضمِّن لتوحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية مستلزِم لتوحيد الألوهية، يعني من أقر بالربوبية لزمه أن يقر بالألوهية، ومن أقر بالألوهية فإنه لم يقر بها حتى كان قد أقر بالربوبية، فتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية. * في هذه الآية من الفوائد، أولا: العناية بالعبادة، يستفاد هذا من وجهين؛ الوجه الأول: تصدير الأمر بها بالنداء، والوجه الثاني: تعميم النداء لجميع الناس، مما يدل على أن العبادة من أهم شيء، وهو كذلك، بل إن الناس ما خُلقوا إلا لأجل العبادة، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون﴾ [الذاريات ٥٦]. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن وجوب العبادة علينا مما يقتضيه العقل بالإضافة إلى الشرع؛ لقوله: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾، فإن الرب يستحق عز وجل أن يُعبد ولا يُعبد غيره، والعجب أن هؤلاء المشركين الذين لم يمتثلوا هذا الأمر إذا أصابتهم الضراء وتقطعت بهم الأسباب يتوجهون إلى من؟ إلى الله؛ ﴿إِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين﴾ [لقمان٣٢]؛ لأن فِطَرهم تحملهم على ذلك ولا بد. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات أن الله عز وجل هو الخالق وحده، وأنه خالق الأولين والآخرين؛ لقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، نعم. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن من طريق القرآن أنه إذا ذكر الحكم غالبا ذكر العلة، الحكم: ﴿اعْبُدُوا﴾، والعلة: كونه ربًّا خالقا لنا ولمن قبلنا. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن التقوى مرتبة عالية لا ينالها كل أحد إلا من أخلص العبادة لله عز وجل؛ لقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. هل يمكن أن نأخذ من هذه الآية التحذير من البدع؟ ربما نأخذ منها التحذير من البدع، وذلك لأن عبادة الله لا تتحقق إلا بسلوك الطريق الذي شرعه للعبادة؛ لأنه لا يمكن أن نعرف كيف نعبد الله، كيف نتوضأ، إلا عن طريق الوحي والشرع؛ كيف نصلي، يعني ما الذي أدرانا أن الإنسان إذا قام يقرأ ثم ركع ثم سجد، فهذه هي العبادة المطلوبة منا إلا بعد أيش؟ بعد الوحي، وعلى هذا فيمكن أن يقال: إن الأمر بالعبادة يستلزم الأمر بالاتباع. وهل يستفاد من الآية الحث على طلب العلم؟ * الطلبة: نعم. * الشيخ: نعم، كيف ذلك؟ إذ لا تُمكن العبادة إلا بالعلم، ولهذا ترجم البخاري رحمه الله على هذه المسألة بقوله: باب العلم قبل القول والعمل[[صحيح البخاري (1 / 24).]]. ثم قال تعالى مذكرا عباده: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾، يستفاد من هذه الآية الكريمة: بيان رحمة الله تعالى وحكمته في جعل الأرض فراشا؛ إذ لو جعلها خشنة صلبة لا يمكن أن يستقر الإنسان عليها ما هدأ لأحد بال، لكن من رحمته ولطفه وإحسانه جعلها فراشا. * ومن فوائد الآية الكريمة: جعل السماء بناء، لكن ما فائدتنا من جعل السماء بناء؟ فائدتنا من جعل السماء بناء أن نعلم بذلك قدرة الله عز وجل؛ لأن هذه السماء المحيطة بكل الأرض من جميع الجوانب نعلم أنها كبيرة جدا واسعة، كما قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُون﴾ [الذاريات ٤٧]. * ومن فوائد الآية الكريمة: بيان قدرة الله عز وجل بإنزال المطر من السماء؛ لقوله: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾، لو اجتمعت الخلائق على أن يخلقوا نقطة من الماء ما استطاعوا، والله تعالى ينزل هذا المطر العظيم بلحظة، أليس كذلك؟ نعم، وقصة الرجل الذي دخل والنبي ﷺ يخطب يوم الجمعة قال:« ادعُ اللهَ أن يغيثَنَا، فرفَعَ يديْهِ، وقال: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا»، وما نزَلَ من الخطبةِ إلا والمطرُ يَتحادَرُ من لحيتِهِ»[[متفق عليه، أخرجه البخاري (1014)، ومسلم (897 / 8).]]. * ومن فوائد الآية الكريمة: حكمة الله سبحانه وتعالى ورحمته بإنزال المطر من السماء، وجه ذلك لو كان الماء الذي تحيا به الأرض، لو كان يجري على الأرض لأضر الناس، ولو كان يجري على الأرض لحُرِم منه أراض كثيرة، ما هي الأراضي التي تُحرم؟ المرتفعة، لا يأتيها شيء، ولكن من نعمة الله أنه ينزل من السماء، ثم هناك شيء آخر أيضا أنه ينزل رذاذا، يعني قطرة قطرة، ولو نزل كأفواه القِرَب لأضر بالناس، ولكن من رحمة الله عز وجل أنه ينزل على ما تعهدون. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الأسباب؛ لقوله: ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾. * ومن فوائدها: أن الأسباب لا تكون سببا إلا بإرادة الله؛ لقوله: ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ﴾. * ومن فوائدها فائدة مَسلكية: أن الإنسان ينبغي له أن يضيف الشيء إلى الله مقرونا بالسبب، فمثلا لو أن أحدا من الناس غرق، وجاء رجل فأخرجه، أنقذه من الغرق، فليقل: أنقذني الله بفلان، وله أن يقول: أنقذني فلان، له أن يقول ذلك؛ لأنه فعلا أنقذه، وله أن يقول: أنقذني الله ثم فلان، كم هذه من صيغة؟ * الطلبة: ثلاثة. * الشيخ: وليس له أن يقول: أنقذني الله وفلان؛ لأن هذا تشريك مع الله، ويدل لهذا أي الاختيار أن يضيف الشيء إلى الله عز وجل مقرونا بالسبب «أن النبي ﷺ لما دعا الغلام اليهودي للإسلام، وكان هذا الغلام في سياق الموت، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسلم فأسلم، لكنه أسلم بعد أن استشار أباه، التفت إليه ينظر إليه يستشيره، قال: أطع أبا القاسم.» الجهل، أذن لولده، بل أمر ولده أن يُسلم وهو لم يسلم في تلك الحال، بعدُ ما ندري، الله أعلم، لكن على كل حال خرج النبي صلي الله عليه وسلم وهو يقول:« «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ»[[أخرجه البخاري (1356).]]. شوف التعبير!! «أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ»، وهكذا ينبغي لنا نحن، إذا حصل شيء بسبب أن نضيفه إلى الله تعالى، أيش؟ مقرونا ببيان السبب، طيب. * ومن فوائد الآية الكريمة: قدرة الله عز وجل وفضله بإخراج هذه الثمرات من الماء؛ أما القدرة فظاهر، تجد الأرض شهباء جدباء ليس فيها ورقة خضراء، فينزل المطر، وفي مدة وجيزة يخرج هذا النبات من كل زوج بهيج بإذن الله عز وجل، ففيه القدرة وفيه الفضل، ولذلك قال: ﴿رِزْقًا لَكُمْ﴾. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة، نعم، أن الله عز وجل منعم على الإنسان كافرا كان أو مسلما، من أين؟ * طالب: من قوله (...) * الشيخ: ﴿لَكُمْ﴾ وهو يخاطب بالأول الناس عموما، إذن فلله تعالى فضل على الناس كافرهم ومؤمنهم، كل له فضل، لكن فضل الله على المؤمن - جعلني الله وإياكم منهم - دائم متصل بفضل الآخرة، وفضل الله على الكافر منقطع بانقطاعه من الدنيا. * ومن فوائد الآية الكريمة: تحريم جعل الأنداد لله؛ لقوله: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾، وهل الأنداد شرك أكبر أو شرك أصغر؟ وهل هي شرك جلي أو شرك خفي؟ هذا له تفصيل في علم التوحيد، إن جعل لله ندا في العبادة بأن عبد غير الله كعبادة الله فهذا، أيش؟ شرك أكبر، وإن جعل له ندا في الربوبية وقال: إن هذا الخلق خلقه اثنان مثلا، فهذا شرك أكبر، وإن كان دون ذلك فهو شرك أصغر، ومن ذلك أن يضيف الشيء إلى سببه وإلى الله مقرونا بالواو فهذا شرك أصغر، ما لم يعتقد أن هذا السبب له فعل كفعل الله فيكون شركا أكبر. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي لمن خاطب أحدا أن يبين له ما تقوم به عليه الحجة، من قوله: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، ومن قوله في صدر الآية: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، فإن قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ فيه إقامة الحجة على وجوب العبادة له؛ لأنه الخالق وحده. الإعراب في قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾: الجملة حالية في محل نصب. * طالب: فضيلة الشيخ ما الحكمة من كثرة الآيات الدالة على توحيد الربوبية مع أن المخاطبين في هذا القرآن يقرون بتوحيد الربوبية؟ * الشيخ: نعم، إقامة الحجة. * طالب: هم يقولون به. * الشيخ: إي، لكن إذا قالوا به يلزمهم أن يوحّدوا بالألوهية. * طالب: ولكن بعض الدعاة الذين يدعون يكثرون من (...) ودعوة توحيد الربوبية، مع أن الناس عندهم خلل في توحيد الألوهية ويستشهدون بكثرة الآيات في هذا في القرآن. * الشيخ: إي، هذا مثل ما قلت، لو كان يخاطب ناسًا ينكرون الألوهية، يعني ينكرون توحيد الألوهية، فليكثر من ذكر الآيات في الربوبية، لكن إذا كان يتكلم على أناس مقرين بتوحيد الألوهية فينبغي أن يأتي لهم بآيات أخرى آيات في الصفات آيات في أفعال الله. * طالب: هم مسلمون. * الشيخ: ما يخالف، إذا كانوا مسلمين، فالربوبية يمكن يذكرونها من أجل أن يزداد إيمانهم. * طالب: (...) العبادة هي تذلل يستلزم المحبة والتعظيم وهذا يكون لله عز وجل، هل مَن صرف المحبة لوحده أو التعظيم لوحده لغير الله مشرك الشرك الأكبر؟ * الشيخ: إي نعم، إذا أحب أحدا مثل محبة الله أو أعظم فهو مشرك شركا أكبر. * طالب: أو عظّم أحدا؟ * الشيخ: أو عظّم أحدا مثل تعظيم الله أو أشد، حتى لو عظم الكعبة مثل تعظيم الله، أو عظم الرسول عليه الصلاة والسلام مثل تعظيم الله كان مشركا شركا أكبر. * طالب: شيخ ما نقول لهؤلاء الذين عند القبور (...) الأولياء فهم يحبونهم ويعظمونهم لكن ما نعلم هل أحبوهم كحب الله أم لا؟ * الشيخ: نقول هكذا، نقول بالتفصيل، ثم نقول لهذا: هل أنت تحب هذا أشد من حب الله؟ * الطالب: إن حبه وعظمه ولكن يعني..؟ * الشيخ: في أناس الآن يحبون الرسول أكثر من محبة الله، وأنا أذكر أن أناسا من الحُجاج ونحن في جدة في المسجد جاء وقت المنع من السفر إلى المدينة؛ لأنه أظن بعد الرابع من ذي الحجة يمنعونهم من السفر إلى المدينة خوفا عليهم من التأخر، فجعل يبكي بكاء شديدا؛ ليش؟ قال: نور عيني. من نور عينه؟ يعني الرسول عليه الصلاة والسلام، أنا ما جئت إلا لهذا، شايف الحين جاي بيحج، يقول: أنا نور عيني ما جئت إلا له، في ظني أن هذا يمكن محبة الرسول في قلبه أكثر من محبة الله، فمثل هؤلاء يجب أن يبين لهم، يقال: لولا محبة الله ما أحببنا الرسول، ولولا أن محمدا رسول الله ما أحببناه هذا المحبة، ولا قدمنا محبته على أنفسنا وأهلينا وأولادنا، من أين وجب لنا أن نعظم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؟ من أجل أنه رسول ربنا، ما هو من أجل أنه محمد بن عبد الله، معلوم هذا؟ فهؤلاء العامة يبين لهم، يقال: لا تجعل أحدا مع الله إطلاقا، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ [البقرة١٦٥]. * طالب: شيخ لو حصل في شخص حب وتعظيم (...). * الشيخ: لا لا؛ الإنسان يحب والديه ويعظم والديه، يحب معلمه ويعظم معلمه، يحب إللّي أكبر منه ويعظمه، المهم أن لا يكون هناك غلو. * * * * طالب: ﴿﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ ﴾ [البقرة: ٢٣- ٢٥] * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ إلى آخره؛ الخطاب لمن جعل لله أندادا؛ لأنه قال: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾، وفي ذكر هذه الآية المتعلقة برسالة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إشارة إلى كلمتي التوحيد، وهما شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. لكن شهادة أن لا إله الله توحيد القصد، والثاني: توحيد المتابعة، فكلاهما توحيد، لكن الأول توحيد القصد بأن يكون العمل خالصا لله، والثاني توحيد المتابعة بأن يكون العمل متَّبَعا فيه رسول الله، وأنتم إذا تأملتم القرآن وجدتم هكذا، يأتي بما يدل على التوحيد، ثم بما يدل على الرسالة. مثال آخر: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِين﴾ [المؤمنون٦٨] ثم قال: ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ [المؤمنون٦٩] وهذا مطرد في القرآن الكريم، يقول ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾، الريب يفسره كثير من الناس بالشك، ولا شك أنه قريب من معنى الشك، لكنه يختلف عنه بأن الريب يُشعر بقلق، وأن الإنسان في قلق عظيم مما وقع فيه الشك، وذلك لأن ما جاء به الرسول حق، والشاك فيه لا بد أن يعتريه قلق من أجل أنه شك في أمر لا بد من التصديق به، بخلاف الشك في الأمور الهينة فلا يقال: ريب، وإنما يقال في الأمور العظيمة التي إذا شك فيها الإنسان وجد في داخل نفسه قلقًا واضطرابًا. وقوله: ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ يراد به القرآن؛ لأن الله أنزله على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقوله ﴿عَلَى عَبْدِنَا﴾ هو محمد رسول الله، والله تبارك وتعالى وصف رسوله بالعبودية في المقامات العالية؛ في الدفاع عنه، وفي بيان تكريمه بالمعراج والإسراء، وفي بيان تكريمه بإنزال القرآن؛ ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان ١]، ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [الإسراء ١]، ﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ [البقرة ٢٣]، هذا في مقام التحدي والمدافعة، وأفضل أوصاف الرسول عليه الصلاة والسلام هي العبودية والرسالة، ولهذا قال: «إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»[[أخرجه البخاري (3445)، بلفظ: «فَإِنَّمَا أَنا عَبْدُهُ فَقُولُوا: عَبْد اللَّهِ وَرَسُولهُ».]]. والعبودية: وهي التذلل للمحبوب والمعظم يتلذذ بها العابد، ولهذا قال الشاعر في وصف محبوبته: ؎لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا ∗∗∗ فَــــــــــإِنَّهُ أَشـْــــــــرَفُأَسْمَـــــــائِي أي لا تقل: فلان وفلان، قل: يا عبد فلانة؛ لأن هذا هو عنده أشرف أسمائه حيث انتمى إليها - نعوذ بالله من الخذلان- إذن أشرف أوصاف الرسول عليه الصلاة والسلام وصفان: العبودية والرسالة، ﴿عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾، (ائتوا): أمر يُقصد به التحدي، يعني إذا كنتم في شك من هذا القرآن فإنا نتحداكم أن تأتوا بسورة واحدة من مثله، يحتمل من مثل محمد عليه الصلاة والسلام، أي من بشر، ويحتمل من مثله أي مثل الذي أنزلنا على عبدنا، أي من جنسه، وكلاهما صحيح؛ إذ لا يمكن لأي بشر أن يأتي بشيء من مثل ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام أبدا، بل قد قال الله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء ٨٨]. ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، ﴿ادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ الذين تشهدون لهم بالألوهية وتعبدونهم كما تعبدون الله، ادعوهم ليساعدوكم، وهذا غاية ما يكون من التحدي أن يتحدى العابد، ويش؟ والمعبود، تحدى العابدين والمعبودين أن يأتوا بسورة من مثله. ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي: مما سوى الله ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين﴾، والجواب على هذا أنه لا يمكن، مهما أتوا من المعاونين والمساعدين فلن يأتوا بسورة من مثله. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ يعني: فإن لم تأتوا بسورة من مثله، ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ﴾؛ لما قال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ وهي شرطية قطع أطماعهم بقوله: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ يعني: لا تحاولوا أن تفعلوا؛ لأن هذا شيء مستحيل، ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ﴾ الفاء هنا واقعة في جواب الشرط وهو ﴿إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾؛ يعني: إن لم تفعلوا فتعارضوا القرآن بمثله فالنار مثواكم، اتقوا النار، ولن يجدوا ما يتقون به النار إلا أن يؤمنوا بما أنزل على محمد ﷺ. ﴿الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ (التي) اسم موصول صفة للنار، (وقود): مبتدأ؛ و(الناس) خبر المبتدأ، ﴿وَقُودُهَا﴾ الوقود: ما يوقد به الشيء، كالحطب مثلا في نار الدنيا، في الآخرة وقود النار هم الناس والحجارة، فالنار تحرقهم وتلتهب بهم، نسأل الله العافية. ﴿الْحِجَارَةُ﴾ قال بعض العلماء: إن المراد بها الحجارة المعبودة، يعني: أصنام؛ لأنهم يعبدون أصنام، فأصنامهم هذه تكون معهم في النار كما قال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ [الأنبياء ٩٨]، وقيل: إن الحجارة حجارة نارية - والعياذ بالله - يزداد بها حر النار ولا تبرد - نسأل الله العافية - ولكن لا مانع من أن يكون المراد هذا وهذا، الحجارة المعبودة والحجارة الموقودة التي خلقها الله عز وجل لتوقد بها النار. ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ (أعدت) الضمير المستتر يعود على النار، والمعِد لها هو الله عز وجل، ومعنى الإعداد التهيئة للشيء، وقوله: ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾، أي: لكل كافر، سواء كفر بالرسالة أو كفر بالألوهية أو بغير ذلك. * في هذه الآيات فوائد: أولا بيان دفاع الله سبحانه وتعالى عن رسوله ﷺ؛ لقوله؟ * طالب: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ﴾. * الشيخ: اقرأ الآيات كلها وقول: يؤخذ من هذه الآيات، حدد. * طالب: ﴿عَبْدِنَا﴾. * الشيخ: لا. * طالب: ﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾، يعني أن عبدنا ليس ممن يُشك فيه. * الشيخ: نعم. * طالب: مما أنزلنا على عبدنا. * الشيخ: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾، هذا وجه الدفاع؛ لأن الأمر هنا للتحدي، فالله عز وجل يتحدى هؤلاء أن يأتوا بمعارض لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام. ومنها: فضيلة النبي ﷺ؛ لوصفه بالعبودية، والعبودية لله عز وجل هي غاية الحرية؛ لأن من لم يعبد الله فلا بد أن يعبد غيره، فإذا لم يعبد الله عز وجل الذي هو المستحق للعبادة عبد الشيطان والهوى، كما قال ابن القيم رحمه الله في النونية: ؎هَرَبُوا مِنَ الرِّقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ ∗∗∗ وَبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ * ومن فوائد هذه الآية: أن القرآن كلام الله؛ لقوله: ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا﴾، ووجه كونه كلام الله أن القرآن كلام، والكلام ليس أجساما تُخلق وتكون بائنة عن الله عز وجل، فهو وصف المتكلم، وبهذا نعرف أن من ادعى أن القرآن مخلوق وقال: إن الله قال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف ٣]، وقال: ﴿أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ﴾ [النحل ٤٤] وما أشبه ذلك، فقوله مردود عليه، ولا حجة له في مثل قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ [الحديد ٢٥]، وقوله: ﴿أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر ٦] وقوله: ﴿جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام ١]، كل هذا لا حجة فيه؛ لوجود الفرق بين الأعيان القائمة بنفسها التي يضيفها الله لنفسه وبين الأوصاف التي ليست قائمة بنفسها. * ومن فوائد الآية: علو الله عز وجل؛ لأنه إذا تقرر أن القرآن كلامه وأنه منزَّل من عنده لزم من ذلك علو المتكلم به، وعلو الله عز وجل أمر فطري عقلي، وسبق أن ذكرنا له خمسة أنواع من الأدلة، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة. فإن قال قائل: ذكرتم أن الرسول عليه الصلاة والسلام تشرف بإضافة عبوديته إلى الله عز وجل مع أن كفار الخلق وفجار الخلق عبيد لله تعالى، كما قال تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم ٩٣]؟ فالجواب عن هذا أن يقال: إن العبودية لها معان متعددة: عبودية عامة وهي العبودية الكونية القدرية، هذه شاملة لكل أحد، ولا يمكن لأحد إلا أن يخضع بهذه العبودية، فالكافر والفاجر عبد لله، بمعنى أن الله يفعل فيه ما يشاء، وعبودية خاصة وهي عبودية الطاعة، وهي خاصة بمن آمن بالله واتبع شريعته، ثم هذه الخاصة يمكن أن نقول: إنها تنقسم أيضا إلى خاصة عامة وخاصة أخص، فعبودية الرسل غير عبودية الصديقين والشهداء والصالحين، الأولى أكمل وأخص. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن القرآن معجز حتى بسورة ولو كانت قصيرة؛ لقوله: ﴿بِسُورَةٍ﴾، وقد تحدى الله عز وجل أن يأتوا بسورة مثله، وأن يأتوا بعشر سور مثله، وأخبر أنه لن يأتي أحد بمثل هذا القرآن ولو اجتمع الإنس والجن، وأقل ما نعلم أن يأتوا بحديث مثله، يعني ولو بجملة واحدة، لا يأتون، قال الله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ [الطور ٣٣، ٣٤]، والحديث يطلق على الجملة وإن قلّت، فعلى هذا يكون التحدي على أربعة أوجه: بالقرآن كله، بعشر سور منه، بسورة، بحديث. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تحدي هؤلاء العابدين للآلهة مع معبوديهم، وهذا أشد ذلا مما لو تُحُدُّوا فقط، كأنه يقول: أنتم وآلهتكم ائتوا بسورة من مثله، وهذا أشد ما يكون ذلا وإذلالا وخزيا وعارا. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه لا يمكن أن يعارض أحد كلام الله؛ لقوله: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾، وفي هذه الجملة حجتان: حجة لقول من قال بالصِّرفة، بمعنى أن البشر بمقتضى طبيعته قادر على أن يأتي بمثل القرآن لكن صُرف عنه، وعلى هذا فأداة التحدي ممكنة، لكن وُجد مانع، وهو أن الله صرفهم عن معارضته بحيث لا يريدونه. والحجة الثانية: أنهم لن يفعلوا بمقتضى طبيعتهم، لا أنهم صُرفوا وباستطاعتهم أن يعارضوا القرآن، وهذا القول هو المتعين؛ لأن القول الأول أو الاحتمال الأول لا يدل على أن القرآن بذاته معجز؛ إذ أنه يمكنهم أن يأتوا بمثله لكن الله صرفهم ولم يلتفتوا إلى هذا ولم يفكروا فيه، ولكن نقول: هذا خطأ، بل الصواب أن الإنسان بنفسه لا يستطيع أن يأتي بمثل القرآن؛ لأن القرآن كلام الله، والكلام صفة المتكلم، فكما أن البشر لا يمكن أن يماثل الله تعالى بصفاته فلا يمكن أن يماثل الله بأيش؟ بكلامه أبدا مستحيل، ولهذا كان الذين يدّعون النبوة ويأتون بما يسمونه قرآنا، كانوا مسخرة للعباد وهزوا كما يُذكر عن مسيلمة الكذاب وغيره، إذن فالصواب أن قوله: ﴿لَنْ تَفْعَلُوا﴾ ليس معناه: ستُصرفون عن ذلك ولا تفعلون، بل المعنى أنكم عاجزون بمقتضى طبيعة البشر، ووجه ما قلنا أن الكلام صفة المتكلم، والقرآن كلام الله عز وجل، فكما أن البشر لا يماثلون صفات الله في العلم والقدرة والسمع والبصر وغير ذلك، فكذلك لا يمكن أن يماثل الله تعالى بالكلام. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن من أراد أن يعارض القرآن فإن مأواه النار؛ لقوله: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة أيضا: أن الناس وقود للنار كما توقد النار بالحطب، فهي في نفس الوقت تحرقهم، وهي أيضا توقد بهم، فيجتمع العذاب عليهم من وجهين؛ الوجه الأول: أنهم هم مادة توقدها، والثاني: أنهم يُحرقون بها. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إهانة هؤلاء الكفار بإذلال آلهتهم وطرحها في النار على أحد احتمالين في قوله: ﴿الْحِجَارَة﴾، من المعلوم أن الإنسان يغار على من كان يعبده ولا يريد أن يصيبه أذى، فإذا أحرق هؤلاء المعبودين أمام العابدين فإن ذلك من تمام إذلالهم وخزيهم. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن النار موجودة الآن؛ لقوله: ﴿أُعِدَّتْ﴾، ومعلوم أن هذا التركيب فعل ماض، الجملة فعل ماض، والماضي يدل على وجود الشيء، وهذا أمر دلت عليه السنة،« فإن النبي ﷺ عُرضت عليه الجنة والنار، ورأى أهلها يعذَّبون بها، رأى عمرو بن لحي الخزاعي يجر قُصْبَهُ –أي: أمعاءَه- في النار[[متفق عليه، أخرجه البخاري (3521، 4623)، ومسلم (2856 / 50، 51).]]، ورأى المرأة التي حبست الهرة حتى ماتت جوعا، فلم تكن أطعمتها ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض، ورأى فيها صاحب الْمِحْجَن يعذَّب، وهو رجل معه مِحْجَن –أي: عصا مثنية الرأس- كان يسرق الحجاج بهذا الطريق، إذا مر به الحجاج جذبهم بالمحجن، فإن تفطن صاحب الرحل لذلك ادعى أن الذي جذبه المحجن؛ واللهِ هذا المحجن هو الذي جذب، وإن لم يتفطن أخذه ومشى، فكان يعذَّب » -والعياذ بالله-« بِمحْجَنِهِ في نار جهنم»[[أخرجه مسلم (904 / 10).]]. ثم هل النار باقية أو تفنى؟ ذكر بعض العلماء إجماع السلف على أنها تبقى ولا تفنى، وذكر بعضهم خلافا عن بعض السلف أنها تفنى، والصواب أنها تبقى أبد الآبدين، والدليل على هذا من كتاب الله عز وجل في ثلاث آيات من القرآن؛ في سورة النساء، وسورة الأحزاب، وسورة الجن؛ أما الآية التي في سورة النساء فهي قوله: * طالب: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [النساء ١٦٨، ١٦٩]. * الشيخ: أحسنت بارك الله فيك. والتي في سورة الأحزاب، المؤخر شاركونا بارك الله فيكم. * طالب: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٦٤) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [الأحزاب ٦٤، ٦٥] * الشيخ: أحسنت، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٦٤) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾. والتي في سورة الجن؟ * طالب: ﴿نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾. * الشيخ: ما يكفي، هات الآية من أولها. * الطالب: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾. [الجن: ٢٣]. * الشيخ: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾، وليس بعد كلام الله كلام، حتى إني أذكر تعليقا لشيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله على كتاب شفاء العليل لابن القيم، ذكر أن هذا من باب (لكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة)، كيف أن المؤلف رحمه الله يستدل بهذه الأدلة على القول بفناء النار مع أن الأمر فيها واضح؟ وهو صحيح غريب على ابن القيم رحمه الله أنه يسوق الأدلة بهذه القوة للقول بأن النار تفنى، وعلى كل حال كما قال شيخنا في هذه المسألة: لكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة. وهذه من كبوات ابن القيم رحمه الله، والصواب الذي لا شك فيه وهو عندي مقطوع به أن النار باقية أبد الآبدين؛ لأنه إذا كان المخلَّد فيها يخلَّد تخليدا أبديا لزم أن تكون هي مؤبدة؛ لأن ساكن الدار إذا كان سكونه أبديا فلا بد أن تكون النار أيضا أبدية، وأما قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّك﴾ [هود ١٠٧] فهي كقوله في أصحاب الجنة ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّك﴾ [هود ١٠٨]، لكن لما كان أهل الجنة نعيمهم وثوابهم فضلا ومنة بيّن أن هذا الفضل غير منقطع فقال: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود ١٠٨]، ولما كان عذاب أهل النار من باب العدل والسلطة المطلقة للرب عز وجل قال في آخر الآية: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [هود١٠٧]، وليس المعنى أن ربك فعال لما يريد أنه سوف يخرجهم من النار، أو سوف يُفني النار، لا، المعنى أنهم إنما بقوا فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء الله بمقتضى فعل الله عز وجل الذي له السلطة الكاملة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن النار دار للكافرين؛ لقوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾، وأما من دخلها من العصاة فإنهم لا يبقون فيها، فهم فيها كالزوار وكالضيوف، لا بد أن يخرجوا منها، فلا تسمى النار دارا لهم، بل هي دار للكافر فقط، أما المؤمن العاصي إذا لم يعف الله عنه فإنه يعذَّب فيها ما شاء الله ثم يخرج منها، إما بشفاعة أو بمنة من الله وفضل، وأما أهل النار الذين هم أهلها فقد أعدت لهم فلا يخرجون منها، أجارنا الله وإياكم منها. * الطلبة: آمين. * الشيخ: ولما ذكر سبحانه وتعالى هذا الوعيد لأهل النار قال: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، لكن قبل أن نتجاوز الآية التي نحن بصدد تفسيرها، إذا قال قائل: ما وجه الإعجاز في القرآن؟ وكيف أعجز البشر؟ هذه واحدة، ثانيا: حكى الله عزوجل عن الأنبياء والرسل ومن عاندهم حكى عنهم أقوالا، وهذه الحكاية تحكي قول من حُكِيت عنه، فيكون قول هؤلاء معجزا، مثلا فرعون قال لموسى: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء ٢٩]، هذا يحكيه الله عن فرعون، فيكون القول قول من؟ قول فرعون، فكيف كان قول فرعون معجزًا، والإعجاز إنما هو قول الله عز وجل؟ فالجواب عن الأول: بماذا كان معجزًا؟ أنه كان معجز بجميع وجوه الإعجاز، من حيث الأسلوب والبلاغة والفصاحة وعدم الملل في قراءته، الإنسان يقرأ القرآن صباحا ومساء، وربما يختمه في اليومين والثلاثة ولا يمله إطلاقا، لكن لو كرر متنًا من المتون كما يكرر القرآن ملّ. ثانيا: أنه معجز بحيث إن الإنسان كلما قرأه بتدبر ظهر له بالقراءة الثانية ما لم يظهر له بالقراءة الأولى، وهذا لمن تدبر حقيقة. * * * * طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ ﴾ [البقرة: ٢٥]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، مناسبة الآية لما قبلها أن الله لما ذكر وعيد الكافرين المكذِّبين للرسول ﷺ ذكر وعد المؤمنين به، فقال: ﴿وَبَشِّر﴾، والبشارة هي الإخبار بما يَسُرّ، وسميت بذلك لتغير بشرة المخاطَب بالسرور؛ لأن الإنسان إذا أُخبر بما يسره استنار وجهه وطابت نفسه وانشرح صدره، وقد تستعمل البشارة في الإخبار بما يسوء؛ كقوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران ٢١] إما تهكُّمًا بهم، وإما لأنه يحصل لهم من البشارة بهذا ما يحصل للمبشَّرين بالخير، لكن الأول أقرب وذلك لأنهم لا يؤمنون بما يبشَّرون به من العذاب، فيكون هذا من باب التهكم بهم؛ كقوله تعالى في عذابهم يوم القيامة: ﴿ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان ٤٨، ٤٩]. ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ والخطاب في قوله: ﴿بَشِّرِ﴾ إما للرسول عليه الصلاة والسلام، أو لكل من يتوجه إليه الخطاب، يعني بشِّر أيها المخاطب من اتصفوا بهذه الصفات بأن لهم جنات. وقوله: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ الذين آمنوا بما يجب الإيمان به مما أخبر الله به ورسوله، وقد بين الرسول عليه الصلاة والسلام أصول الإيمان بأنها: «الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»[[أخرجه مسلم (8 / 1).]]. لكن ليس الإيمان بهذه الأشياء مجرد التصديق بها، بل لا بد من قبول وإذعان، وإلا لما صح الإيمان. وأما قوله: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فهو ثمرة الإيمان أن الإنسان يعمل الأعمال الصالحات، والأعمال الصالحات هي التي بُنيت على أساسين هما: الإخلاص لله والاتباع لرسول الله ﷺ، فما لا إخلاص فيه فهو فاسد؛ لقول الله تعالى في الحديث القدسي: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»[[أخرجه مسلم (2985 / 46).]]. وما لم يكن على الاتباع فهو مردود أيضا لا يُقبل؛ لقول النبي ﷺ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ»[[متفق عليه، أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718 / 17، 18) واللفظ لمسلم. ]]، إذن فالصالح أيش؟ ما كان خالصًا لله متَّبَعا فيه شريعة الله، ويُذكر عن الفضيل بن عياض رحمه الله أنه قال: ما كان خالصًا صوابًا[[تفسير البغوي (8 / 176)]]. قال: ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ هذا المبشَّر به؛ ﴿أَنَّ لَهُمْ﴾ عند من؟ عند الله عز وجل ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، جنات توافق ما في الدنيا في الاسم، لكنها تخالفه في الحقيقة والكُنه؛ لقول الله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة ١٧]، ولهذا لا يجوز أبدا بأي حال من الأحوال أن نتصور بأن هذه الجنات تشبه جنات الدنيا، مهما كان الأمر، يعني مهما كان في الدنيا من الغابات والأشجار والثمار وغيرها فإنه لا يمكن أن يكون ما وعد الله به المتقين مماثلا لذلك؛ لقوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ولقوله تعالى في الحديث القدسي: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»[[متفق عليه، أخرجه البخاري (3244)، ومسلم (2824 / 2).]]. ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ ﴿الْأَنْهَارُ﴾ فاعل (تجري)، و ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ قال العلماء: من تحت أشجارها وقصورها، وليس من أسفل من سطحها، لا؛ لأنها من أسفل من سطحها لا فائدة منها، لكنها تجري من تحت هذه الأشجار والقصور، وما أحسن جري هذه الأنهار إذا كانت من تحت الأشجار والقصور، يجد الإنسان فيها لذة قبل أن يتناولها، وهذه الأنهار بيّنها الله تعالى أنها أربعة أنواع كما قال تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد ١٥]، يخلقها الله عز وجل بدون نحل وبدون بقر وبدون إبل، وكذلك الخمر، والماء ليس من الأمطار والعيون، بل هو خلقه الله عز وجل ابتداء، أسأل الله أن لا يحرمني وإياكم منها إنه على كل شيء قدير. ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا﴾، ﴿رُزِقُوا﴾ أي: أُعطوا، ﴿مِنْهَا﴾ أي: من هذه الثمار، ﴿مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا﴾ أي: عطاء، ﴿قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ لأنه يشبه ما سبقه، يشبهه في الحجم، يشبهه في اللون، يشبهه في الملمس، كل هذه أشياء حسية يظنها الإنسان مشابهة لما سبق في لونها، ويش؟ وحجمها وملمسها، لكن في المذاق لا، تختلف اختلافا عظيما، ولهذا قال: ﴿أُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾، تختلف، وما أجمل وألذ للإنسان إذا رأى هذه الفاكهة يراها وكأنها شيء واحد، فإذا ذاقها وإذا الطعم يختلف اختلافا عظيما تجده يجد في نفسه حركة لهذه الفاكهة ولذة وتعجبًا، كيف يكون هذا المتباين العظيم والشكل واحد؟ ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾، ولهذا الآن لو قُدِّم لك فاكهة ألوانها سواء وأحجامها سواء وملمسها سواء، ثم إذا ذقتها وإذا هذه حلو خالص، وهذه مُز، يعني حلو مقرون بالحموضة، وهذه حامضة، تجد شيء لذة أكثر مما لو كانت على حد سواء، أو كان مختلفا. ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾، ﴿أُتُوا﴾ من (آتى) ولَّا من (أتى)؟ الثاني ولَّا الأول؟ * الطلبة: الأول الأول. * الشيخ: من آتى ولَّا من أتى؟ * الطلبة: من آتى، الأول. * الشيخ: لا، الثاني، ﴿أُتُوا بِهِ﴾؛ لأنه لو كان من الأول لقال: أوتوا به، لكن: ﴿أُتُوا بِهِ﴾ يعني جيء به إليهم به متشابها، متشابها في أيش؟ قلنا: في ثلاثة أشياء، هذا الذي يحضرنا الآن، والله أعلم بما يكون، في اللون والحجم والملمس، لكن في المذاق لا؛ لأنه لو اتفق في المذاق لصار هذا هو هذا لا فرق، ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾. ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ سبحان الله إذا ذكر الله الفاكهة ذكر الأزواج، تأملها في جميع الآيات، ليش؟ لأنهم يكونون هم وأزواجهم يتفكهون في هذا العطاء وهذا الرزق، ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ﴾ [يس ٥٥، ٥٦] فتجد أن الله تعالى يقرن هذا بهذا؛ لأن كله تفكُّه، لكن هذا تفكُّه من نوع، وهذا تفكه من نوع آخر، هذا تفكه في المذاق والمطعم، وهذا تفكه آخر من نوعٍ ثانٍ؛ لأن بذلك تتم النعمة. ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ﴾، ﴿أَزْوَاجٌ﴾ جمع، هل المعنى لكل واحد أزواج؟ ولَّا لكل فرد زوجة لكن لما كانوا جمعا قوبل الجمع بالجمع؟ * الطلبة: الأول. * الشيخ: الأول؛ لأن الإنسان في الآخرة له أزواج متعددة، والأزواج جمع زوج، ويطلق الزوج على الذكر والأنثى، ولهذا يقال: (زوج) للمرأة وللرجل، قال الله تعالى: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾ [النساء ١٢]، لكن في اصطلاح الفرضيين صاروا يُلحقون التاء للأنثى، فَرْقًا بينها وبين الرجل عند قسمة الميراث. ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾، طيب، إذا كانت المرأة ماتت وهي صغيرة لم تتزوج يكون لها زوج في الآخرة؟ * الطلبة: نعم. * الشيخ: نعم يكون لها زوج في الآخرة، إما من أهل الدنيا، وإما ممن ينشئهم الله عز وجل؛ لأنه يبقي في الجنة فضلٌ عن من دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها أقواما فيُدخلهم الجنة بفضله ورحمته. وقوله: ﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ يشمل طهارة الظاهر والباطن، فهي مطهرة من الأذى، القذر، لا بول ولا غائط، ولا حيض ولا نفاس ولا استحاضة، ولا عرق ولا بخر، مطهرة من كل شيء ظاهر، حسي، مطهرة أيضا من الأقذار الباطنة كالغل والحقد والكراهية والبغضاء وغير ذلك، مطهرة من كل شيء، من كل قذر وأذى ظاهري أو باطني، بخلاف أزواج الدنيا، لكن أزواج الدنيا مناسبة تماما لأزواجهم الذكور؛ لأنها إذا لم تطهر من هذا فزوجها؟ زوجها مثلها، لكن في الآخرة الكل مطهَّر. ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ وهذا تمام النعمة أنهم خالدون في هذه الجنات لا يبغون عنها حِولا ولا يُحوَّلون منها، وكما جاء في الحديث: «إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَمْرَضُوا أَبَدًا، وَأَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَأَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا»[[أخرجه مسلم (2837 / 22) بلفظ: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا.]]. فيتم بذلك نعيمهم، لكن أعلى نعيم يكون لأهل الجنة هو النظر إلى وجه الله سبحان الله وتعالى، هذا أعلى نعيم، كما قال الله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس ٢٦]، فسرها النبي ﷺ بأنها النظر إلى وجه الله[[أخرجه أحمد في المسند (18935، 18941)، والنسائي في السنن الكبرى (11170).]]. * في هذه الآية فوائد، منها: مشروعية تبشير الإنسان بما يسر؛ لقوله: ﴿بَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، ولقول الله تعالى: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات ١١٢]، ﴿بَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات ١٠١]، فالبشارة بما يسر الإنسان من سنن المرسلين عليهم الصلاة والسلام. (طيب) لكن إذا كان يسر الإنسان معصية الله، فهل تبشّره؟ يعني إنسان حصل له سرقة، سَرَق، تيجي تبشره تقول: ما شاء الله، هنّأك الله بما سرقت؟ أبدًا، طيب، إنما البشارة بما يسر وليس له عاقبة سيئة، وهل من ذلك أن تبشره بمواسم العبادة كما لو أدرك رمضان فقلت: هنّأك الله بهذا الشهر؟ الجواب نعم، وكذلك أيضا لو أتم الصوم فقلت: هنّأك الله بهذا العيد وتقبّل منك عبادتك، وما أشبه ذلك، فإنه لا بأس به، وقد كان هذا من عادة السلف. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الجنات لا تكون إلا لمن جمع هذين الوصفين: الإيمان والعمل الصالح. فإن قال قائل: في القرآن الكريم ما يدل على أن الأوصاف أربعة: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. قلنا: إن التواصي بالحق والتواصي بالصبر من العمل الصالح، لكن أحيانا يُذكر بعض أفراد العام لعلة من العلل وسبب من الأسباب. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن من عمل عملا سيئا فإنه لا يبشَّر بهذا بالجنات؛ لقوله: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، لكن من عمل عملا سيئا فإن كان مجتهدا فأخطأ فله أجر ويسلم من الإثم، وإن كان غير مجتهد ولا باذلًا جهده فإنه يكون آثما؛ لقول النبي ﷺ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»[[متفق عليه، أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716 / 15) بلفظ: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر.]]. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن جزاء المؤمنين الذين عملوا الصالحات أكبر بكثير مما عملوا وأعظم؛ لأنه مهما آمنوا وعملوا فالعمر محدود وينتهي، لكن الجزاء أيش؟ الجزاء لا ينتهي أبدا، هم مخلَّدون فيه أبد الآباد، كذلك أيضا الأعمال التي يقدمونها هي قد يشوبها كسل، قد يشوبها تعب، قد يشوبها أشياء تنقِّصُها، لكن إذا منّ الله عليهم فدخلوا الجنة فالنعيم كامل. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الجنات أنواع؛ لقوله: ﴿جَنَّاتٍ﴾، وقد يقال: إن هذا لا دلالة فيه؛ لأن (جنات) جمع مقابلة لجمع، وهو قوله: ﴿لَهُمْ﴾، ﴿جَنَّاتٍ﴾، لكن السنة بل القرآن جاء بأن الجنات أنواع؛ قال الله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن ٤٦]، ثم قال: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن ٦٢] فهي أنواع، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا»[[متفق عليه، أخرجه البخاري (4878)، ومسلم (296 / 180) بلفظ: جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما. ]]. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تمام قدرة الله عز وجل بخلق هذه الأنهار من غير سبب معلوم في الدنيا؛ لأن الماء عندنا في الدنيا معروف أسبابه، الأنهار المائية معروف أسبابها، كذلك اللبن معروف من أين ينتج، العسل معروف، والرابع؟ الخمر معروف، لكن في الجنة لا، ينشئه الله عز وجل، أنهار تجري، وقد جاء في الأثر «أنها تجري من غير أخدود»[[أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (34954) عن مسروق، قال: أنهار الجنة تجري في غير أخدود.]]؛ يعني لم يُحفر لها حُفَر، ولا يقام لها أعضاد تمنعها، بل النهر يجري ويتصرف به الإنسان بما شاء، يوجهه حيث شاء - سبحان الله - قال ابن القيم رحمه الله: ؎أَنْهَارُهَا فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ جَرَتْ ∗∗∗ سُبْـــــــحَانَ مُمْسِكِهَـــــا عَــــــنِالْفَيَضَــــــانِ * ومن فوائد الآية الكريمة: أن من نعيم أهل الجنة أنهم يؤتَون بالرزق متشابها و ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾، وهذا من تمام النعيم والتلذذ بما يأكلون. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الزواج في الآخرة، وأنه من كمال النعيم، وعلى هذا فيثبت الجماع أو لا؟ يثبت، ولكن إذا ثبت الجماع هل يحصل الأذى الذي يحصل بجماع نساء الدنيا؟ الجواب: لا، ولهذا ليس في الجنة منيّ ولا منية، والمني الذي خلقه الله عز وجل إنما خلقه لبقاء النسل؛ لأن هذا المني مشتمل على المادة التي يتكون منها الجنين فيخرج بإذن الله تعالى ولدًا، لكن في الآخرة في الجنة لا، لا يحتاجون إلى ذلك؛ لأنه لا حاجة لبقاء النسل؛ إذ إن الموجودين سوف يبقون أبد الآبدين لا يفنى منهم أحد، ثم هم ليسوا بحاجة إلى أحد يعينهم ويخدمهم، الولدان تطوف عليهم بأكواب وأباريق وكأس من معين، ثم هم لا يحتاجون أيضا إلى أحد يصعد الشجرة ليجني ثمارها، بل كما قال الله تعالى فيها: ﴿وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ﴾ [الرحمن ٥٤]، حتى ذكر العلماء أن الرجل ينظر إلى الثمرة في الشجرة فيحس أنه يحبها مثلا، فيدنو منه الغصن حتى يأخذها، الله أكبر، ولا تستغرب هذا، يعني نحن في الدنيا نشاهد مثل هذا الشيء، بمعنى نشاهد أن الشيء يدنو من الشيء بغير سبب أو بغير صلات محسوسة، لكن في الآخرة أبلغ وأبلغ. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن أهل الجنة خالدون فيها أبد الآباد لا يمكن أن تفنى، ولا يمكن أن يفنى مَن فيها، وقد أجمع على ذلك أهل السنة والجماعة، وأنكر ذلك من أنكره من أهل الفلسفة الذين قالوا: إن الله يمتنع عليه دوام الفعل في الأزل وفي الأبد - والعياذ بالله - فجعلوا الله معطَّلا في الابتداء ومعطلا في الانتهاء، حتى قال بعضهم والعياذ بالله: إن الجنة تفنى بمن فيها والإنسان رافع لقمته إلى فمه، فيحل الفناء ويبقى رافعًا اللقمة، بياكل تبقى اللقمة ويده فانية، كما قال ابن القيم في النونية: إن العلاف أتى بضحكة مجانية[[النونية (1 / 9): وتلطف العلاف من أتباعه... فأتى بضحكة جاهل مجان]] كذلك الإنسان مع أهله مع زوجته يجامعها فيأتي وقت الفناء، ويبقى معها أبد الآبدين، فانية، نسأل الله العافية. على كل حال الجنة أهلها خالدون فيها بإجماع أهل السنة أبد الآبدين، والنار كذلك، على القول المتعين، ما هو الراجح؟ أنها لا تفنى، النار على القول المتعين أنها لا تفنى، وأنها باقية أبد الآبدين بنص كلام رب العالمين عز وجل؛ وقد بيّنّا أن الله نص على ذلك في ثلاث آيات من كتاب الله، وكررنا هذا كثيرا، وما كنا نظن أن أحدا من الناس يقول بأنها تفنى من أهل السنة والجماعة، وقد استغرب شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله كون ابن القيم عفا الله عنه حاول أن يرجِّح القول بفنائها في كتابه شفاء العليل، وقال شيخنا: إن هذه تعتبر كبوة من هذا الجواد وغلطا عظيما. كتبه على هامش الكتاب، ولا شك أن ما قاله شيخنا حق، وأن الإنسان يستغرب أن مثل هذا الفحل من العلماء يذهب إلى تقوية هذا المذهب، وإن كان لم يصرِّح بأنه اختاره، لكن يذهب إلى تقويته مع أنه باطل بنص القرآن. الجنة أهلها خالدون فيها بإجماع أهل السنة أبد الآبدين، والنار كذلك على القول المتعين، ما هو الراجح أنها تفنى، النار على القول المتعين أنها لا تفنى، وأنها باقية أبد الآبدين بنص كلام رب العالمين عز وجل، وقد بيّنّا أن الله نص على ذلك في ثلاث آيات من كتاب الله، وكررنا هذا كثيرًا وما كنا نظن أن أحدًا من الناس يقول بأنها تفنى من أهل السنة والجماعة، وقد استغرب شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله كون ابن القيم -عفا الله عنه- حاول أن يرجح القول بفنائها في كتابه شفاء العليل، وقال شيخنا: إن هذه تعتبر كبوة من هذه الجواد وغلطًا عظيمًا. كتبه على هامش الكتاب، ولا شك أن ما قاله شيخنا حق، وأن الإنسان يستغرب أن مثل هذا الفحل من العلماء يذهب هذا إلى تقوية هذا المذهب وإن كان لم يصرح بأنه اختاره، لكن يذهب إلى تقويته مع أنه باطل بنص القرآن: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [النساء ١٦٨، ١٦٩]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٦٤) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [الأحزاب ٦٤، ٦٥]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الجن ٢٣]، كيف يصح لنا أو يستقيم لنا أن نقول: إن النار تفنى، والله تعالى يقول: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾، ما الفائدة من قوله: ﴿أَبَدًا﴾؟ على كل حال مذهب أهل السنة والجماعة الذي يكاد يكون إجماعًا هو أن النار لا تفنى، كما أن الجنة لا تفنى بالاتفاق الواضح. ويستفاد من الآية الكريمة: أن الإنسان لو أمضى عمره بطاعة الله عز وجل راكعًا ساجدًا قائمًا لكان ذلك قليلًا بالنسبة لهذا الثواب العظيم الذي يحصل له في يوم يشقى فيه من يشقى من عباد الله، ويكون في نار الجحيم والعياذ بالله، فنسأل الله تعالى أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته. جزاكم الله خيرًا. * طالب: أحسن الله إليك يا شيخ، لو قال المخالف: إن المقصود بقوله عز وجل: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ أن ذلك في الشرائع، وإلا فالحجة قائمة في التوحيد وفي أصول الدين بالميثاق والفطرة كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [الأعراف ١٧٢، ١٧٣] فهنا أثبت أنه الميثاق..؟ * الشيخ: الميثاق الذي أُخِذ عليهم أن يؤمنوا بما جاءت به الرسل، فلا بد من الرسل، والآية عامة ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء ١٦٥] عامة، ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء ١٥]، ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ [القصص ٥٩]، ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ [القصص ٥٩]، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة ١١٥]، والآيات في هذا كثيرة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب