الباحث القرآني

﴿وبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أنَّ لَهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ فِي الكَشّافِ: مِن عادَتِهِ عَزَّ وجَلَّ في كِتابِهِ أنْ يَذْكُرَ التَّرْغِيبَ مَعَ التَّرْهِيبِ ويَشْفَعَ البِشارَةَ بِالإنْذارِ إرادَةَ التَّنْشِيطِ لِاكْتِسابِ ما يُزْلِفُ والتَّثْبِيطِ عَنِ اقْتِرافِ ما يُتْلِفُ، فَلَمّا ذَكَرَ الكُفّارَ وأعْمالَهم وأوْعَدَهم بِالعِقابِ قَفّاهُ بِبِشارَةِ عِبادِهِ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ التَّصْدِيقِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ اهـ. وجَعَلَ جُمْلَةَ (وبَشِّرِ) مَعْطُوفَةً عَلى مَجْمُوعِ الجُمَلِ المَسُوقَةِ لِبَيانِ وصْفِ عِقابِ الكافِرِينَ يَعْنِي جَمِيعَ الَّذِي فُصِّلَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ﴾ [البقرة: ٢٣] إلى قَوْلِهِ ﴿أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٤] فَعَطَفَ مَجْمُوعَ أخْبارٍ عَنْ ثَوابِ المُؤْمِنِينَ عَلى مَجْمُوعِ أخْبارٍ عَنْ عِقابِ الكافِرِينَ والمُناسِبَةُ واضِحَةٌ مُسَوِّغَةٌ لِعَطْفِ المَجْمُوعِ عَلى المَجْمُوعِ، ولَيْسَ هو عَطْفًا لِجُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ عَلى جُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ الَّذِي يُطْلَبُ مَعَهُ التَّناسُبُ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ في الخَبَرِيَّةِ والإنْشائِيَّةِ، ونَظِّرْهُ بِقَوْلِكَ: زَيْدٌ يُعاقَبُ بِالقَيْدِ والإرْهاقِ وبَشِّرْ عَمْرًا بِالعَفْوِ والإطْلاقِ. وجَعَلَ السَّيِّدُ الجُرْجانِيُّ لِهَذا النَّوْعِ مِنَ العَطْفِ لَقَبَ عَطْفِ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ لِأنَّ المَعْطُوفَ لَيْسَ جُمْلَةً عَلى جُمْلَةٍ بَلْ طائِفَةٌ مِنَ الجُمَلِ عَلى طائِفَةٍ أُخْرى، ونَظِيرُهُ في المُفْرَداتِ ما قِيلَ: إنَّ الواوَ الأُولى والواوَ الثّالِثَةَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظّاهِرُ والباطِنُ﴾ [الحديد: ٣] لَيْسَتا مِثْلَ الواوِ الثّانِيَةِ لِأنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُما لِإفادَةِ الجَمْعِ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ المُتَقابِلَتَيْنِ، وأمّا الثّانِيَةُ فَلِعِطْفِ مَجْمُوعِ الصِّفَتَيْنِ المُتَقابِلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَها عَلى مَجْمُوعِ الصِّفَتَيْنِ المُتَقابِلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَها، ولَوِ اعْتُبِرَ عَطْفُ الظّاهِرِ وحْدَهُ عَلى إحْدى السّابِقَتَيْنِ (p-٣٥١)لَمْ يَكُنْ هُناكَ تُناسِبٌ. هَذا حاصِلُهُ، وهو يُرِيدُ أنَّ الواوَ عاطِفَةٌ جُمْلَةً ذاتَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وخَبَرَيْنِ عَلى جُمْلَةٍ ذاتِ مُبْتَدَأٍ مَلْفُوظٍ بِهِ وخَبَرَيْنِ، فالتَّقْدِيرُ: وهو الظّاهِرُ والباطِنُ، ولَيْسَ المُرادُ أنَّ المُبْتَدَأ فِيها مُقَدَّرٌ لِإغْناءِ حَرْفِ العَطْفِ عَنْهُ بَلْ هو مَحْذُوفٌ لِلْقَرِينَةِ أوِ المُناسَبَةِ في عَطْفِ جُمْلَةِ الظّاهِرِ والباطِنِ عَلى جُمْلَةِ الأوَّلِ والآخِرِ. إنَّهُما صِفَتانِ مُتَقابِلَتانِ ثَبَتَتا لِمَوْصُوفٍ واحِدٍ هو الَّذِي ثَبَتَتْ لَهُ صِفَتانِ مُتَقابِلَتانِ أُخْرَيانِ. قالَ السَّيِّدُ: ولَمْ يَذْكُرْ صاحِبُ المِفْتاحِ عَطْفَ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ فَتَحَيَّرَ الجامِدُونَ عَلى كَلامِهِ في هَذا المَقامِ وتَوَهَّمُوا أنَّ مُرادَ صاحِبِ الكَشّافِ هُنا عَطْفُ الجُمْلَةِ عَلى الجُمْلَةِ وأنَّ الخَبَرَ المُتَقَدِّمَ مُضَمَّنٌ مَعْنى الطَّلَبِ أوْ بِالعَكْسِ لِتَتَناسَبَ الجُمْلَتانِ، مَعَ أنَّ عِبارَةَ الكَشّافِ صَرِيحَةٌ في غَيْرِ ذَلِكَ، وقَصَدَ السَّيِّدُ مِن ذَلِكَ إبْطالَ فَهْمٍ فَهِمَهُ سَعْدُ الدِّينِ مِن كَلامِ الكَشّافِ وأوْدَعَهُ في شَرْحِهِ المُطَوَّلِ عَلى التَّلْخِيصِ. وجَوَّزَ صاحِبُ الكَشّافِ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (وبَشِّرِ) مَعْطُوفًا عَلى قَوْلِهِ: (فاتَّقُوا) الَّذِي هو جَوابُ الشَّرْطِ، فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الجَوابِ أيْضًا، وذَلِكَ لِأنَّ الشَّرْطَ وهو (﴿فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ [البقرة: ٢٤]) سَبَبٌ لَهُما لِأنَّهم إذا عَجَزُوا عَنِ المُعارَضَةِ فَقَدْ ظَهَرَ صِدْقُ النَّبِيءِ فَحَقَّ اتِّقاءُ النّارِ وهو الإنْذارُ لِمَن دامَ عَلى كُفْرِهِ وحَقَّتِ البِشارَةُ لِلَّذِينَ آمَنُوا. وإنَّما كانَ المَعْطُوفُ عَلى الجَوابِ مُخالِفًا لَهُ لِأنَّ الآيَةَ سِيقَتْ مَساقَ خِطابٍ لِلْكافِرِينَ عَلى لِسانِ النَّبِيءِ فَلَمّا أُرِيدَ تَرَتُّبُ الإنْذارِ لَهم والبِشارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ جُعِلَ الجَوابُ خِطابًا لَهم مُباشَرَةً لِأنَّهُمُ المُبْتَدَأُ بِخِطابِهِمْ، وخِطابًا لِلنَّبِيِّ لِيُخاطِبَ المُؤْمِنِينَ إذْ لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِينَ ذِكْرٌ في هَذا الخِطابِ فَلَمْ يَكُنْ طَرِيقٌ لِخِطابِهِمْ إلّا الإرْسالُ إلَيْهِمْ. (p-٣٥٢)وقَدِ اسْتُضْعِفَ هَذا الوَجْهُ بِأنَّ عُلَماءَ النَّحْوِ قَرَّرُوا امْتِناعَ عَطْفِ أمْرٍ مُخاطَبٍ عَلى أمْرٍ مُخاطَبٍ إلّا إذا اقْتَرَنَ بِالنِّداءِ نَحْوَ: يا زَيْدُ واكْتُبْ يا عَمْرُو، وهَذا لا نِداءَ فِيهِ. وجَوَّزَ صاحِبُ المِفْتاحِ أنَّ (بَشِّرِ) مَعْطُوفٌ عَلى ”قُلْ“ مُقَدَّرًا قَبْلَ ﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا﴾ [البقرة: ٢١] وقالَ القَزْوِينِيُّ في الإيضاحِ: إنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى مُقَدِّرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٤] أيْ فَأنْذِرِ الَّذِينَ كَفَرُوا. وكُلُّ ذَلِكَ تَكَلُّفٌ لا داعِيَ إلَيْهِ إلّا الوُقُوفُ عِنْدَ ظاهِرِ كَلامِ النُّحاةِ، مَعَ أنَّ صاحِبَ الكَشّافِ لَمْ يَعْبَأْ بِهِ قالَ عَبْدُ الحَكِيمِ لِأنَّ مَنعَ النُّحاةِ إذا انْتَفَتْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلى تَغايُرِ المُخاطَبِينَ، والنِّداءُ ضَرْبٌ مِنَ القَرِينَةِ نَحْوُ ﴿يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْ هَذا واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ﴾ [يوسف: ٢٩] اهـ. يُرِيدُ أنَّ كُلَّ ما يَدُلُّ عَلى المُرادِ بِالخِطابِ فَهو كافٍ، وإنَّما خَصَّ النُّحاةُ النِّداءَ لِأنَّهُ أظْهَرُ قَرِينَةً، واخْتِلافُ الأمْرَيْنِ هُنا بِعَلامَةِ الجَمْعِ والإفْرادِ دالٌّ عَلى المُرادِ، وأيًّا ما كانَ فَقَدْ رُوعِيَ في الجُمَلِ المَعْطُوفَةِ ما يُقابِلُ ما في الجُمَلِ المَعْطُوفِ عَلَيْها، فَقُوبِلَ الإنْذارُ الَّذِي في قَوْلِهِ ﴿فاتَّقُوا النّارَ﴾ [البقرة: ٢٤] بِالتَّبْشِيرِ، وقُوبِلَ (النّاسُ) المُرادُ بِهِ المُشْرِكُونَ بِالَّذِينَ آمَنُوا، وقُوبِلَ (النّارُ) بِالجَنَّةِ، فَحَصَلَ ثَلاثَةُ طِباقاتٍ. والتَّبْشِيرُ الإخْبارُ بِالأمْرِ المَحْبُوبِ، فَهو أخَصُّ مِنَ الخَبَرِ. وقَيَّدَ بَعْضُ العُلَماءِ مَعْنى التَّبْشِيرِ بِأنْ يَكُونَ المُخْبَرُ - بِالفَتْحِ - غَيْرَ عالِمٍ بِذَلِكَ الخَبَرِ، والحَقُّ أنَّهُ يَكْفِي عَدَمُ تَحَقُّقِ المُخْبِرِ - بِالكَسْرِ - عِلْمَ المُخْبَرِ - بِالفَتْحِ - فَإنَّ المُخْبِرَ - بِالكَسْرِ - لا يَلْزَمُهُ البَحْثُ عَنْ عِلْمِ المُخاطَبِ، فَإذا تَحَقَّقَ المُخْبِرُ عِلْمَ المُخاطَبِ لَمْ يَصِحَّ الإخْبارُ إلّا إذا اسْتُعْمِلَ الخَبَرُ في لازِمِ الفائِدَةِ أوْ في تَوْبِيخٍ ونَحْوِهِ. والصّالِحاتُ جَمْعُ صالِحَةٍ وهي الفِعْلَةُ الحَسَنَةُ فَأصْلُها صِفَةٌ جَرَتْ مَجْرى الأسْماءِ لِأنَّهم يَقُولُونَ صالِحَةٌ وحَسَنَةٌ ولا يُقَدِّرُونَ مَوْصُوفًا مَحْذُوفًا، قالَ الحُطَيْئَةُ: ؎كَيْفَ الهِجاءُ وما تَنْفَكُّ صالِحَةٌ مِن آلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الغَيْبِ تَأْتِينا وكَأنَّ ذَلِكَ هو وجْهُ تَأْنِيثِها لِلنَّقْلِ مِنَ الوَصْفِيَّةِ لِلِاسْمِيَّةِ، والتَّعْرِيفُ هُنا لِلِاسْتِغْراقِ وهو اسْتِغْراقٌ عُرْفِيٌّ يُحَدَّدُ مِقْدارُهُ بِالتَّكْلِيفِ والِاسْتِطاعَةِ والأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلِ كَوْنِ اجْتِنابِ الكَبائِرِ يَغْفِرُ الصَّغائِرَ فَيَجْعَلُها كالعَدَمِ. فَإنْ قُلْتَ لِماذا لَمْ يَقُلْ: وعَمِلُوا الصّالِحَةَ بِالإفْرادِ فَقَدْ قالُوا إنَّ اسْتِغْراقَ المُفْرَدِ أشْمَلُ مِنِ اسْتِغْراقِ المَجْمُوعِ، قُلْتُ: تِلْكَ عِبارَةٌ سَرَتْ إلَيْهِمْ مِن كَلامِ صاحِبِ الكَشّافِ في هَذا المَوْضِعِ (p-٣٥٣)مِن تَفْسِيرِهِ إذْ قالَ إذا دَخَلَتْ لامُ الجِنْسِ عَلى المُفْرَدِ كانَ صالِحًا لِأنْ يُرادَ بِهِ الجِنْسُ إلى أنْ يُحاطَ بِهِ وأنْ يُرادَ بِهِ بَعْضُهُ إلى الواحِدِ مِنهُ، وإذا دَخَلَتْ عَلى المَجْمُوعِ صَلُحَ أنْ يُرادَ بِهِ جَمِيعُ الجِنْسِ وأنْ يُرادَ بِهِ بَعْضُهُ لا إلى الواحِدِ مِنهُ اهـ. فاعْتَمَدَها صاحِبُ المِفْتاحِ وتَناقَلَها العُلَماءُ ولَمْ يَفْصِلُوا بَيانَها. ولَعَلَّ سائِلًا يَسْألُ عَنْ وجْهِ إتْيانِ العَرَبِ بِالجُمُوعِ بَعْدَ ”ألِ“ الِاسْتِغْراقِيَّةِ إذا كانَ المُفْرَدُ مُغْنِيًا غِناءَها فَأقُولُ: إنَّ ”ألِ“ المُعَرِّفَةَ تَأْتِي لِلْعَهْدِ وتَأْتِي لِلْجِنْسِ مُرادًا بِهِ الماهِيَّةُ ولِلْجِنْسِ مُرادًا بِهِ جَمِيعُ أفْرادِهِ الَّتِي لا قَرارَ لَهُ في غَيْرِها، فَإذا أرادُوا مِنها الِاسْتِغْراقَ نَظَرُوا فَإنْ وجَدُوا قَرِينَةَ الِاسْتِغْراقِ ظاهِرَةً مِن لَفْظٍ أوْ سِياقٍ نَحْوِ ﴿إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ﴾ [العصر: ٢] ﴿إلّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الشعراء: ٢٢٧] ﴿وتُؤْمِنُونَ بِالكِتابِ كُلِّهِ﴾ [آل عمران: ١١٩] ﴿والمَلَكُ عَلى أرْجائِها﴾ [الحاقة: ١٧] اقْتَنَعُوا بِصِيغَةِ المُفْرَدِ لِأنَّهُ الأصْلُ الأخَفُّ، وإنْ رَأوْا قَرِينَةَ الِاسْتِغْراقِ خَفِيَّةً أوْ مَفْقُودَةً عَدَلُوا إلى صِيغَةِ الجَمْعِ لِدَلالَةِ الصِّيغَةِ عَلى عِدَّةِ أفْرادٍ لا عَلى فَرْدٍ واحِدٍ. ولَمّا كانَ تَعْرِيفُ العَهْدِ لا يُتَوَجَّهُ إلى عَدَدٍ مِنَ الأفْرادِ غالِبًا تَعَيَّنَ أنَّ تَعْرِيفَها لِلِاسْتِغْراقِ نَحْوُ ﴿واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٤] لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّ الحَدِيثَ عَلى مُحْسِنٍ خاصٍّ، نَحْوُ قَوْلِها ﴿وأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخائِنِينَ﴾ [يوسف: ٥٢] لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّ الحَدِيثَ عَنْ خائِنٍ مُعَيَّنٍ تَعْنِي نَفْسَها فَيَصِيرُ الجَمْعُ في هَذِهِ المَواطِنِ قَرِينَةً عَلى قَصْدِ الِاسْتِغْراقِ. وانْتَصَبَ (الصّالِحاتِ) عَلى المَفْعُولِ بِهِ لِـ (عَمِلُوا) عَلى المَعْرُوفِ مِن كَلامِ أئِمَّةِ العَرَبِيَّةِ. وزَعَمَ ابْنُ هِشامٍ في البابِ السّادِسِ مِن مُغْنِي اللَّبِيبِ أنَّ مَفْعُولَ الفِعْلِ إذا كانَ لا يُوجَدُ إلّا بِوُجُودِ فِعْلِهِ كانَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا لا مَفْعُولًا بِهِ، فَنَحْوُ ﴿عَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ ونَحْوُ ﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ﴾ [العنكبوت: ٤٤] كَذَلِكَ، واعْتَضَدَ لِذَلِكَ بِأنَّ ابْنَ الحاجِبِ في شَرْحِ المُفَصَّلِ زَعَمَ أنَّ المَفْعُولَ المُطْلَقَ يَكُونُ جُمْلَةً نَحْوَ: قالَ زَيْدٌ عَمْرٌو مُنْطَلِقٌ. وكَلامُ ابْنِ هِشامٍ خَطَأٌ وكَلامُ ابْنِ الحاجِبِ مِثْلُهُ، وقَدْ رَدَّهُ ابْنُ هِشامٍ نَفْسُهُ. والصَّوابُ أنَّ المَفْعُولَ المُطْلَقَ هو مَصْدَرُ فِعْلِهِ أوْ ما يَجْرِي مَجْراهُ. والجَنّاتُ جَمْعُ جَنَّةٍ، والجَنَّةُ في الأصْلِ فِعْلَةٌ مِن جَنَّهُ إذا سَتَرَهُ، نَقَلُوهُ لِلْمَكانِ الَّذِي تَكاثَرَتْ أشْجارُهُ والتَفَّ بَعْضُها بِبَعْضٍ حَتّى كَثُرَ ظِلُّها، وذَلِكَ مِن وسائِلِ التَّنَعُّمِ والتَّرَفُّهِ عِنْدَ البَشَرِ قاطِبَةً لاسِيَّما في بَلَدٍ تَغْلُبُ عَلَيْهِ الحَرارَةُ كَبِلادِ العَرَبِ، قالَ تَعالى ﴿وجَنّاتٍ ألْفافًا﴾ [النبإ: ١٦] (p-٣٥٤)والجَرْيُ حَقِيقَتُهُ سُرْعَةٌ شَدِيدَةٌ في المَشْيِ، ويُطْلَقُ مَجازًا عَلى سَيْلِ الماءِ سَيْلًا مُتَكَرِّرًا مُتَعاقِبًا، وأحْسَنُ الماءِ ما كانَ جارِيًا غَيْرَ قارٍّ لِأنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ جَدِيدًا كُلَّما اغْتَرَفَ مِنهُ شارِبٌ أوِ اغْتَسَلَ مُغْتَسِلٌ. والأنْهارُ جَمْعُ نَهَرٍ بِفَتْحِ الهاءِ وسُكُونِها والفَتْحُ أفْصَحُ والنَّهْرُ الأُخْدُودُ الجارِي فِيهِ الماءُ عَلى الأرْضِ وهو مُشْتَقٌّ مِن مادَّةِ نَهَرَ الدّالَّةِ عَلى الِانْشِقاقِ والِاتِّساعِ، ويَكُونُ كَبِيرًا وصَغِيرًا. وأكْمَلُ مَحاسِنِ الجَنّاتِ جَرَيانُ المِياهِ في خِلالِها وذَلِكَ شَيْءٌ اجْتَمَعَ البَشَرُ كُلُّهم عَلى أنَّهُ مِن أنْفَسِ المَناظِرِ لِأنَّ في الماءِ طَبِيعَةَ الحَياةِ، ولِأنَّ النّاظِرَ يَرى مَنظَرًا بَدِيعًا وشَيْئًا لَذِيذًا. وأوْدَعَ في النُّفُوسِ حُبَّ ذَلِكَ، فَإمّا لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أعَدَّ نَعِيمَ الصّالِحِينَ في الجَنَّةِ عَلى نَحْوِ ما ألِفَتْهُ أرْواحُهم في هَذا العالَمِ فَإنَّ لِلْإلْفِ تَمَكُّنًا مِنَ النُّفُوسِ والأرْواحِ بِمُرُورِها عَلى هَذا العالَمِ _ عالَمِ المادَّةِ - اكْتَسَبَتْ مَعارِفَ ومَأْلُوفاتٍ لَمْ تَزَلْ تَحِنُّ إلَيْها وتَعُدُّها غايَةَ المُنى، ولِذا أعَدَّ اللَّهُ لَها النَّعِيمَ الدّائِمَ في تِلْكَ الصُّوَرِ، وإمّا لِأنَّ اللَّهَ تَعالى حَبَّبَ إلى الأرْواحِ هاتِهِ الأشْياءَ في الدُّنْيا لِأنَّها عَلى نَحْوِ ما ألِفَتْهُ في العَوالِمِ العُلْيا قَبْلَ نُزُولِها لِلْأبْدانِ لِإلْفِها بِذَلِكَ في عالَمِ المِثالِ، وسَبَبُ نُفْرَتِها مِن أشْكالٍ مُنْحَرِفَةٍ وذَواتٍ بَشِعَةٍ عَدَمُ إلْفِها بِأمْثالِها في عَوالِمِها. والوَجْهُ الأوَّلُ الَّذِي ظَهَرَ لِي أراهُ أقْوى في تَعْلِيلِ مَجِيءِ لَذّاتِ الجَنَّةِ عَلى صُوَرِ اللَّذّاتِ المَعْرُوفَةِ في الدُّنْيا، وسَيَنْفَعُنا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا﴾ ومَعْنى (﴿مِن تَحْتِها﴾) مِن أسْفَلِها والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى الجَنّاتِ بِاعْتِبارِ مَجْمُوعِها المُشْتَمِلِ عَلى الأشْجارِ والأرْضِ النّابِتَةِ فِيها، ويَجُوزُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إلى الجَنّاتِ بِاعْتِبارِ الأشْجارِ لِأنَّها أهَمُّ ما في الجَنّاتِ، وهَذا القَيْدُ لِمُجَرَّدِ الكَشْفِ فَإنَّ الأنْهارَ لا تَكُونُ إلّا كَذَلِكَ ويُفِيدُ هَذا القَيْدُ تَصْوِيرَ حالِ الأنْهارِ لِزِيادَةِ تَحْسِينِ وصْفِ الجَنّاتِ كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: ؎شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِن ماءِ مَحْنِيَّةٍ ∗∗∗ صافٍ بِأبْطَحَ أضْحى وهْوَ مَشْمُولُ البَيْتَيْنِ. وقَدْ أوْرَدَ صاحِبُ الكَشّافِ تَوْجِيهًا لِتَعْرِيفِ الأنْهارِ ومُخالَفَتِها لِتَنْكِيرِ جَنّاتٍ إمّا بِأنْ يُرادَ تَعْرِيفُ الجِنْسِ فَيَكُونُ كالنَّكِرَةِ، وإمّا بِأنْ يُرادَ مِنَ التَّعْرِيفِ العَهْدُ إلّا أنَّهُ عَهْدٌ تَقْدِيرِيٌّ لِأنَّ الجَنّاتِ لَمّا ذُكِرَتِ اسْتُحْضِرَ لِذِهْنِ السّامِعِ لَوازِمُها ومُقارَناتُها فَساغَ لِلْمُتَكَلِّمِ أنْ يُشِيرَ (p-٣٥٥)إلى ذَلِكَ المَعْهُودِ فَجِيءَ بِاللّامِ، وهَذا مَعْنى قَوْلِهِ أوْ يُرادُ أنْهارُها فَعُوِّضَ التَّعْرِيفُ بِاللّامِ مِن تَعْرِيفِ الإضافَةِ، يُرِيدُ أنَّ المُتَكَلِّمَ في مِثْلِ هَذا المَقامِ في حَيْرَةٍ بَيْنَ أنْ يَأْتِيَ بِالأنْهارِ مُعَرَّفَةً بِالإضافَةِ لِلْجَنّاتِ وبَيْنَ أنْ يُعَرِّفَها بِألِ العَهْدِيَّةِ عَهْدًا تَقْدِيرِيًّا، واخْتِيرَ الثّانِي تَفادِيًا مِن كُلْفَةِ الإضافَةِ وتَنْبِيهًا عَلى أنَّ الأنْهارَ نِعْمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ جَدِيرَةٌ بِأنْ لا يَكُونَ التَّنَعُّمُ بِها تَبَعًا لِلتَّنَعُّمِ بِالجَنّاتِ ولَيْسَ مُرادُهُ أنَّ ألْ عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ عَلى طَرِيقَةِ نُحاةِ الكُوفَةِ لِأنَّهُ قَدْ أباهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَإنَّ الجَحِيمَ هي المَأْوى﴾ [النازعات: ٣٩] وإنَّما أرادَ أنَّ الإضافَةَ واللّامَ مُتَعاقِبَتانِ هُنا ولَيْسَ ذَلِكَ صالِحًا في كُلِّ مَوْضِعٍ، عَلى أنِّي أرى مَذْهَبَ الكُوفِيِّينَ مَقْبُولًا وأنَّهم ما أرادُوا إلّا بَيانَ حاصِلِ المَعْنى مِن ذَلِكَ التَّعْرِيفِ، فَإنَّ تَقْدِيرَ المُضافِ إلَيْهِ هو الَّذِي جَعَلَ المُضافَ المَذْكُورَ كالمَعْهُودِ فَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ لامُ التَّعْرِيفِ العَهْدِيِّ. وعِنْدِي أنَّ الدّاعِيَ إلى التَّعْرِيفِ هو التَّفَنُّنُ لِئَلّا يُعادَ التَّنْكِيرُ مَرَّةً ثانِيَةً فَخُولِفَ بَيْنَهُما في اللَّفْظِ اقْتِناعًا بِسُورَةِ التَّعْرِيفِ. وقَوْلُهُ ﴿مِن تَحْتِها﴾ يَظْهَرُ أنَّهُ قَيْدٌ كاشِفٌ قُصِدَ مِنهُ زِيادَةُ إحْضارِ حالَةِ جَرْيِ الأنْهارِ إذِ الأنْهارُ لا تَكُونُ في بَعْضِ الأحْوالِ تَجْرِي مِن فَوْقُ، فَهَذا الوَصْفُ جِيءَ بِهِ لِتَصْوِيرِ الحالَةِ لِلسّامِعِ لِقَصْدِ التَّرْغِيبِ، وهَذا مِن مَقاصِدِ البُلَغاءِ إذْ لَيْسَ البَلِيغُ يَقْتَصِرُ عَلى مُجَرَّدِ الإفْهامِ، وقَرِيبٌ مِن هَذا قَوْلُ النّابِغَةِ يَصِفُ فَرَسَ الصّائِدِ وكِلابَهُ. ؎مِن حِسِّ أطْلَسَ تَسْعى تَحْتَهُ شِرَعٌ ∗∗∗ كَأنَّ أحْناكَها السُّفْلى مَآشِيرُ والتَّحْتُ اسْمٌ لِجِهَةِ المَكانِ الأسْفَلِ وهو ضِدُّ الأعْلى. ولِكُلِّ مَكانِ عُلُوٌّ وسُفْلٌ، ولا يَقْتَضِي ذَلِكَ ارْتِفاعَ ما أُضِيفَ إلَيْهِ التَّحْتُ عَلى التَّحْتِ بَلْ غايَةُ مَدْلُولِهِ أنَّهُ بِجِهَةِ سُفْلِهِ، قالَ تَعالى حِكايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ ﴿وهَذِهِ الأنْهارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي﴾ [الزخرف: ٥١] فَلا حاجَةَ إلى تَأْوِيلِ الجَنَّةِ هُنا بِالأشْجارِ لِتَصْحِيحِ التَّحْتِ ولا إلى غَيْرِهِ مِنَ التَّكَلُّفاتِ. * * * (p-٣٥٦)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلَّما رُزِقُوا مِنها مِن ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هَذا الَّذِي رُزِقْنا مِن قَبْلُ وأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا ولَهم فِيها أزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وهم فِيها خالِدُونَ﴾ جُمْلَةُ ﴿كُلَّما رُزِقُوا﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ صِفَةً ثانِيَةً لِـ (جَنّاتٍ) ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ خَبَرًا عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وهو ضَمِيرُ الَّذِينَ آمَنُوا فَتَكُونَ جُمْلَةً ابْتِدائِيَّةً الغَرَضُ مِنها بَيانُ شَأْنٍ آخَرَ مِن شُئُونِ الَّذِينَ آمَنُوا، ولِكَمالِ الِاتِّصالِ بَيْنَها وبِينَ جُمْلَةِ ﴿أنَّ لَهم جَنّاتٍ﴾ فُصِلَتْ عَنْها كَما تُفْصَلُ الأخْبارُ المُتَعَدِّدَةُ. وكُلَّما ظَرْفُ زَمانٍ لِأنَّ ”كُلَّ“ أُضِيفَتْ إلى ”ما“ الظَّرْفِيَّةِ المَصْدَرِيَّةِ فَصارَتْ لِاسْتِغْراقِ الأزْمانِ المُقَيَّدَةِ بِصِلَةِ ما المَصْدَرِيَّةِ وقَدْ أُشْرِبَتْ مَعْنى الشَّرْطِ، لِذَلِكَ فَإنَّ الشَّرْطَ لَيْسَ إلّا تَعْلِيقًا عَلى الأزْمانِ مُقَيَّدَةً بِمَدْلُولِ فِعْلِ الشَّرْطِ، ولِذَلِكَ خَرَجَتْ كَثِيرٌ مِن كَلِماتِ العُمُومِ إلى مَعْنى الشَّرْطِ عِنْدَ اقْتِرانِها بِما الظَّرْفِيَّةِ نَحْوِ كَيْفَما وحَيْثُما وأنَّما وأيْنَما ومَتى وما ومَهْما. والنّاصِبُ لِكُلَّما الجَوابُ لِأنَّ الشَّرْطِيَّةَ طارِئَةٌ عَلَيْها طَرَيانًا غَيْرَ مُطَّرِدٍ بِخِلافِ مَهْما وأخَواتِها. وإذْ كانَتْ كُلَّما نَصًّا في عُمُومِ الأزْمانِ تَعَيَّنَ أنَّ قَوْلَهُ (مِن قَبْلُ) المَبْنِيَّ عَلى الضَّمِّ هو عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ ظاهِرِ التَّقْدِيرِ أيْ مِن قَبْلِ هَذِهِ المَرَّةِ فَيَقْتَضِي أنَّ ذَلِكَ دَيْدَنُ صِفاتِ ثَمَراتِهِمْ أنْ تَأْتِيَهم في صُوَرِ ما قُدِّمَ إلَيْهِمْ في المَرَّةِ السّابِقَةِ. وهَذا إمّا أنْ يَكُونَ حِكايَةً لِصِفَةِ ثِمارِ الجَنَّةِ ولَيْسَ فِيهِ قَصْدُ امْتِنانٍ خاصٍّ فَيَكُونُ المَعْنى أنَّ ثِمارَ الجَنَّةِ مُتَّحِدَةُ الصُّورَةِ مُخْتَلِفَةُ الطُّعُومِ. ووَجْهُ ذَلِكَ واللَّهُ أعْلَمُ أنَّ اخْتِلافَ الأشْكالِ في الدُّنْيا نَشَأ مِنِ اخْتِلافِ الأمْزِجَةِ والتَّراكِيبِ فَأمّا مَوْجُوداتُ الآخِرَةِ فَإنَّها عَناصِرُ الأشْياءِ فَلا يَعْتَوِرُها الشَّكْلُ وإنَّما يَجِيءُ في شَكْلٍ واحِدٍ وهو الشَّكْلُ العُنْصُرِيُّ. ويَحْتَمِلُ أنَّ في ذَلِكَ تَعْجِيبًا لَهم والشَّيْءُ العَجِيبُ لَذِيذُ الوَقْعِ عِنْدَ النُّفُوسِ ولِذَلِكَ يَرْغَبُ النّاسُ في مُشاهَدَةِ العَجائِبِ والنَّوادِرِ. وهَذا الِاحْتِمالُ هو الأظْهَرُ مِنَ السِّياقِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ كَلَّما لِعُمُومِ غَيْرِ الزَّمَنِ الأوَّلِ فَهو عامٌّ مُرادٌ بِهِ الخُصُوصُ بِالقَرِينَةِ، ومَعْنى (مِن قَبْلُ) في المَرَّةِ الأُولى مِن دُخُولِ الجَنَّةِ. ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن حَمَلَ قَوْلَهُ (مِن قَبْلُ) عَلى تَقْدِيرِ مِن قَبْلِ دُخُولِ الجَنَّةِ أيْ هَذا الَّذِي رُزِقْناهُ في الدُّنْيا، ووَجْهُهُ في الكَشّافِ بِأنَّ الإنْسانَ بِالمَأْلُوفِ آنَسُ وهو بَعِيدٌ لِاقْتِضائِهِ أنْ يَكُونَ عُمُومُ كُلَّما مُرادًا بِهِ خُصُوصُ الإتْيانِ بِهِ في المَرَّةِ الأُولى في الجَنَّةِ ولِأنَّهُ يَقْتَضِي اخْتِلافَ الطَّعْمِ واخْتِلافَ الأشْكالِ وهَذا أضْعَفُ في التَّعْجِيبِ، ولِأنَّ مِن أهْلِ الجَنَّةِ مَن (p-٣٥٧)لا يَعْرِفُ جَمِيعَ أصْنافِ الثِّمارِ فَيَقْتَضِي تَحْدِيدَ الأصْنافِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ. وقَوْلُهُ ﴿وأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا﴾ ظاهِرٌ في أنَّ التَّشابُهَ بَيْنَ المَأْتِيِّ بِهِ لا بَيْنَهُ وبَيْنَ ثِمارِ الدُّنْيا. ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةِ التَّأنُّسِ بِالأزْواجِ ونَزَّهَ النِّساءَ عَنْ عَوارِضِ نِساءِ الدُّنْيا مِمّا تَشْمَئِزُّ مِنهُ النَّفْسُ لَوْلا النِّسْيانُ فَجَمَعَ لَهم سُبْحانَهُ اللَّذّاتِ عَلى نَحْوِ ما ألِفُوهُ فَكانَتْ نِعْمَةً عَلى نِعْمَةٍ. والأزْواجُ جَمْعُ زَوْجٍ يُقالُ لِلذَّكَرِ والأُنْثى لِأنَّهُ جَعَلَ الآخَرَ بَعْدَ أنْ كانَ مُنْفَرِدًا زَوْجًا، وقَدْ يُقالُ لِلْأُنْثى زَوْجَةً بِالتّاءِ ووَرَدَ ذَلِكَ في حَدِيثِ عَمّارِ بْنِ ياسِرٍ في البُخارِيِّ «إنِّي لَأعْلَمُ أنَّها زَوْجَتُهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ» يَعْنِي عائِشَةَ وقالَ الفَرَزْدَقُ: ؎وإنَّ الَّذِي يَسْعى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي كَساعٍ إلى أُسْدِ الشَّرى يَسْتَمِيلُها وقَوْلُهُ ﴿وهم فِيها خالِدُونَ﴾ احْتِراسٌ مِن تَوَهُّمِ الِانْقِطاعِ بِما تَعَوَّدُوا مِنِ انْقِطاعِ اللَّذّاتِ في الدُّنْيا لِأنَّ جَمِيعَ اللَّذّاتِ في الدُّنْيا مُعَرَّضَةٌ لِلزَّوالِ، وذَلِكَ يُنَغِّصُها عِنْدَ المُنْعَمِ عَلَيْهِ كَما قالَ أبُو الطَّيِّبِ: ؎أشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي في سُرُورٍ ∗∗∗ تَحَقَّقَ عَنْهُ صاحِبُهُ انْتِقالا وقَوْلُهُ ﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ هو بِزِنَةِ الإفْرادِ، وكانَ الظّاهِرُ أنْ يُقالَ مُطَهَّراتٍ كَما قُرِئَ بِذَلِكَ ولَكِنَّ العَرَبَ تَعْدِلُ عَنِ الجَمْعِ مَعَ التَّأْنِيثِ كَثِيرًا لِثِقْلِهِما لِأنَّ التَّأْنِيثَ خِلافُ المَأْلُوفِ والجَمْعُ كَذَلِكَ، فَإذا اجْتَمَعا تَفادَوْا عَنِ الجَمْعِ بِالإفْرادِ وهو كَثِيرٌ شائِعٌ في كَلامِهِمْ لا يَحْتاجُ لِلِاسْتِشْهادِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب