الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحاتِ أنَّ لَهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنها مِن ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هَذا الَّذِي رُزِقْنا مِن قَبْلُ وأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا ولَهم فِيها أزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وهم فِيها خالِدُونَ﴾
"بَشِّرِ" مَأْخُوذٌ مِنَ البُشْرَةِ، لِأنَّ ما يُبَشِّرُ بِهِ الإنْسانَ مِن خَيْرٍ أو شَرٍّ يَظْهَرُ عنهُ أثَرٌ في بَشْرَةِ الوَجْهِ، والأغْلَبُ اسْتِعْمالُ البِشارَةِ في الخَيْرِ، وقَدْ تُسْتَعْمَلُ في الشَرِّ مُقَيَّدَةٌ بِهِ، مَنصُوصًا عَلى الشَرِّ المُبَشِّرِ بِهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ [الإنشقاق: ٢٤]، ومَتى أُطْلِقَ لَفْظُ البِشارَةِ فَإنَّما يُحْمَلُ عَلى الخَيْرِ.
وفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَعَمِلُوا الصالِحاتِ﴾ رَدٌّ عَلى مَن يَقُولُ إنَّ لَفْظَةَ الإيمانِ بِمُجَرَّدِها تَقْتَضِي الطاعاتِ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ ذَلِكَ ما أعادَها. "أنَّ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ "بَشِّرِ"، وقِيلَ: في مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلى تَقْدِيرِ باءِ الجَرِّ. و"جَنّاتٍ" جَمْعُ جَنَّةٍ، وهي بُسْتانُ (p-١٥١)الشَجَرِ والنَخِيلِ، وبُسْتانُ الكَرْمِ يُقالُ لَهُ: الفِرْدَوْسُ، وسُمِّيَتْ جَنَّةً لِأنَّها تُجِنُّ مَن دَخَلَها أيْ: تَسْتُرُهُ، ومِنهُ المِجَنُّ والجَنَنُ وجِنُّ اللَيْلِ.
و﴿مِن تَحْتِها﴾ مَعْناهُ: مِن تَحْتِ الأشْجارِ الَّتِي يَتَضَمَّنُها ذِكْرُ الجَنَّةِ، وقِيلَ: قَوْلُهُ ﴿مِن تَحْتِها﴾ مَعْناهُ: بِإزائِها كَما تَقُولُ: دارِي تَحْتَ دارِ فُلانٍ. وهَذا ضَعِيفٌ، و"الأنْهارُ" المِياهُ في مَجارِيها المُتَطاوِلَةِ الواسِعَةِ، لِأنَّها لَفْظَةٌ مَأْخُوذَةٌ مِن أنَهَرَتْ أيْ وسَعَتْ، ومِنهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الخَطِيمِ:
؎ مَلَكْتُ بِها كَفِّي فَأنْهَرْتُ فَتْقَها يَرى قائِمٌ مِن دُونِها ما وراءَها
ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: «ما أُنْهِرَ الدَمُ، وذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ» مَعْناهُ ما وسِعَ الذَبْحُ حَتّى جَرى الدَمُ كالنَهْرِ، ونَسَبَ الجَرْيَ إلى النَهْرِ وإنَّما يَجْرِي الماءُ وحْدَهُ تَجَوُّزًا، كَما قالَ: ﴿واسْألِ القَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢]، وكَما قالَ الشاعِرُ:
؎ نُبِّئْتُ أنَّ النارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتْ ∗∗∗ واسْتَبَّ بَعْدَكَ يا كُلَيْبُ المَجْلِسُ
ورُوِيَ أنَّ أنْهارَ الجَنَّةِ لَيْسَتْ في أخادِيدَ، إنَّما تَجْرِي عَلى سَطْحِ أرْضِ الجَنَّةِ مُنْضَبِطَةً.
وقَوْلُهُ: "كُلَّما": ظَرْفٌ يَقْتَضِي الحَصْرَ.
وفِي هَذِهِ الآيَةِ رَدٌّ عَلى مَن يَقُولُ: إنَّ الرِزْقَ مِن شُرُوطِهِ التَمَلُّكُ، ذَكَرَ هَذا بَعْضُ الأُصُولِيِّينَ، ولَيْسَ عِنْدِي بِبَيْنٍ.
(p-١٥٢)وَقَوْلُهم "هَذا" إشارَةٌ إلى الجِنْسِ، أيْ: هَذا مِنَ الجِنْسِ الَّذِي رُزِقْنا مِنهُ مِن قَبْلُ، والكَلامُ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ تَعَجُّبًا، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا مِن بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، قالَهُ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ. وقالَ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ: يُرْزَقُونَ الثَمَرَةَ، ثُمَّ يُرْزَقُونَ بَعْدَها مِثْلَ صُورَتِها. والطَعْمُ مُخْتَلِفٌ، فَهم يَتَعَجَّبُونَ لِذَلِكَ، ويُخْبِرُ بَعْضُهم بَعْضًا. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَيْسَ في الجَنَّةِ شَيْءٌ مِمّا في الدُنْيا سِوى الأسْماءِ، وأمّا الذَواتُ فَمُتَبايِنَةٌ، وقالَ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ: المَعْنى أنَّهم يَرَوْنَ الثَمَرَ فَيُمَيِّزُونَ أجْناسَهُ، حِينَ أشْبَهَ مَنظَرَهُ ما كانَ في الدُنْيا، فَيَقُولُونَ: هَذا الَّذِي رُزِقْنا مِن قَبْلُ في الدُنْيا.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ الَّذِي قُبِلَ هَذا يَرُدُّ عَلى هَذا القَوْلِ بَعْضَ الرَدِّ. وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: المَعْنى هَذا الَّذِي وُعِدْنا بِهِ في الدُنْيا، فَكَأنَّهم قَدْ رُزِقُوهُ في الدُنْيا إذْ وعْدُ اللهِ مُنْتَجِزٌ. وقالَ قَوْمٌ: إنَّ ثَمَرَ الجَنَّةِ إذا قُطِفَ مِنهُ شَيْءٌ خَرَجَ في الحِينِ في مَوْضِعِهِ مِثْلِهِ، فَهَذا إشارَةٌ إلى الخارِجِ في مَوْضِعِ المَجْنِيِّ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ "وَأُتُوا" بِضَمِّ الهَمْزَةِ، وضَمِّ التاءِ، وقَرَأ هارُونُ الأعْوَرُ: "وَأتَوْا" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ والتاءِ، والفاعِلُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ الوِلْدانُ والخُدّامُ، و"أُتُوا" عَلى قِراءَةِ الجَماعَةِ أصْلُهُ أُتِيُوا نُقِلَتْ حَرَكَةُ الياءِ إلى التاءِ، ثُمَّ حُذِفَتِ الياءُ لِلِالتِقاءِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "مُتَشابِهًا" قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، والحَسَنُ، وغَيْرُهُمْ، مَعْناهُ: يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا في المَنظَرِ، ويَخْتَلِفُ في الطَعْمِ، وقالَ عِكْرِمَةُ: مَعْناهُ يُشْبِهُ ثَمَرَ الدُنْيا في المَنظَرِ، ويُبايِنُهُ في جُلِّ الصِفاتِ، وقالَ قَتادَةُ: "مُتَشابِهًا": مَعْناهُ خِيارًا لا رَذْلَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كِتابًا مُتَشابِهًا﴾ [الزمر: ٢٣].
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: كَأنَّهُ يُرِيدُ مُتَناسِبًا في أنَّ كُلَّ صِنْفٍ هو أعْلى جِنْسِهِ، فَهَذا تَشابُهٌ ما، وقِيلَ "مُتَشابِهًا" أيْ مَعَ ثَمَرِ الدُنْيا في الأسْماءِ، لا في غَيْرِ ذَلِكَ (p-١٥٣)مِن هَيْئَةٍ وطَعْمٍ، و"أزْواجٌ" جَمْعُ زَوْجٍ، والمَرْأةُ زَوْجُ الرَجُلِ، والرَجُلُ زَوْجُ المَرْأةِ، ويُقالُ في المَرْأةِ: زَوْجَةٌ، ومِنهُ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ:
؎ وإنَّ الَّذِي يَسْعى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي ∗∗∗ كَساعٍ إلى أسَدِ الشَرى يَسْتَبِيلُها
وقالَ عَمّارُ بْنُ ياسِرٍ في شَأْنِ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها: واللهِ إنِّي لَأعْلَمُ أنَّها زَوْجَتُهُ في الدُنْيا والآخِرَةِ، ولَكِنَّ اللهَ ابْتَلاكم. ذَكَرَ البُخارِيُّ وغَيْرُهُ الحَدِيثَ بِطُولِهِ. و"مُطَهَّرَةٌ" أبْلَغُ مِن طاهِرَةٍ، ومَعْنى هَذِهِ الطَهارَةِ مِنَ الحَيْضِ والبُزاقِ، وسائِرِ أقْذارِ الآدَمِيّاتِ، وقِيلَ مِنَ الآثامِ، و"الخُلُودُ": الدَوامُ في الحَياةِ، أوِ المِلْكِ ونَحْوِهِ، وخَلَدَ بِالمَكانِ إذا اسْتَمَرَّتْ إقامَتُهُ فِيهِ، وقَدْ يُسْتَعْمَلُ الخُلُودُ مَجازًا فِيما يَطُولُ، وأمّا هَذا الَّذِي في الآيَةِ فَهو أبَدِيٌّ حَقِيقَةً.
{"ayah":"وَبَشِّرِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُوا۟ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةࣲ رِّزۡقࣰا قَالُوا۟ هَـٰذَا ٱلَّذِی رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُوا۟ بِهِۦ مُتَشَـٰبِهࣰاۖ وَلَهُمۡ فِیهَاۤ أَزۡوَ ٰجࣱ مُّطَهَّرَةࣱۖ وَهُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق