ولَمّا ذَكَرَ ما لَهم تَرْهِيبًا أتْبَعَهُ ما لِلْمُؤْمِنِينَ تَرْغِيبًا فَقالَ صارِفًا وجْهَ الخِطابِ بِالرَّحْمَةِ إلى نَبِيِّ الرَّحْمَةِ ﷺ عاطِفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: فَأنْذِرْهم بِذَلِكَ، ولَكِنَّهُ طَواهُ لِأنَّ السِّياقَ لِلِاسْتِعْطافِ ﴿وبَشِّرِ﴾ والبُشْرى قالَ الحَرالِّيُّ إظْهارُ غَيْبِ المَسَرَّةِ بِالقَوْلِ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيْ صَدَّقُوا الرُّسُلَ ﴿وعَمِلُوا﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: مِنَ العَمَلِ وهو فِعْلٌ بُنِيَ عَلى عِلْمٍ أوْ زَعْمِهِ ﴿الصّالِحاتِ﴾ مِنَ الأقْوالِ والأفْعالِ، قالَ الحَرالِّيُّ: جَمْعُ صالِحَةٍ، (p-١٩٠)وهُوَ العَمَلُ المُتَحَفَّظُ بِهِ مِن مَداخِلِ الخَلَلِ فِيهِ، وإذا كانَتِ البُشْرى لِهَؤُلاءِ فالمُؤْمِنُونَ أحَقُّ بِما فَوْقَ البُشْرى، وإنَّما يُبَشَّرُ مَن يَكُونُ عَلى خَطَرٍ، والمُؤْمِنُ مُطْمَئِنٌّ فَكَيْفَ بِما فَوْقَ ذَلِكَ مِن رُتْبَةِ الإحْسانِ إلى ما لا عَيْنٌ رَأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وما لا يَنالُهُ عِلْمُ نَفْسٍ ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ.
ولَمّا ذَكَرَ المُبَشَّرَ، أتْبَعَهُ المُبَشَّرَ بِهِ فَقالَ: ﴿أنَّ لَهم جَنّاتٍ﴾ أيْ مُتَعَدِّدَةً، قالَ الحَرالِّيُّ: لِتَعَدُّدِ رُتَبِ أفْعالِهِمُ الَّتِي يُطابِقُ الجَزاءُ تَرَتُّبَها وتَعَدُّدَها كَما قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِلَّتِي سَألَتْ عَنِ ابْنِها: «إنَّها جِنانٌ وإنَّ (p-١٩١)ابْنَكِ أصابَ الفِرْدَوْسَ الأعْلى» . وفي التَّعْبِيرِ بِـ ”لَهم“ إشْعارٌ بِأنَّ ذَلِكَ الَّذِي لَهم يَنْبَغِي لَحاقُهُ بِذَواتِهِمْ لِيَحْصُلَ بِهِ مِن كَمالِ أمْرِهِمْ وصَلاحِ حالِهِمْ نَحْوٌ مِمّا يَحْصُلُ بِكَمالِ خَلْقِهِمْ وتَسْوِيَتِهِمْ. والجَنّاتُ مُبْتَهَجاتٌ لِلنُّفُوسِ تَجْمَعُ مَلاذَّ جَمِيعِ حَواسِّها، تُجِنُّ المُتَصَرِّفَ فِيها أيْ تُخْفِيهِ وتُجِنُّ وراءَ نَعِيمِها مَزِيدًا دائِمًا. انْتَهى.
ثُمَّ وصَفَها بِأنَّها ﴿تَجْرِي﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: مِنَ الجَرْيِ وهو إسْراعُ (p-١٩٢)حَرَكَةِ الشَّيْءِ ودَوامُها،
﴿مِن تَحْتِها﴾ أيْ مِن تَحْتِ غُرَفِها، والتَّحْتُ ما دُونُ المُسْتَوى،
﴿الأنْهارُ﴾ جَمْعُ نَهْرٍ، وهو المَجْرى الواسِعُ لِلْماءِ. انْتَهى. فَإسْنادُ الجَرْيِ إلَيْها مَجازٌ، والتَّعْرِيفُ لِما عَهِدَهُ السّامِعُ مِنَ الجِنْسِ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: إنَّ أرْضَها مَنبَعُ الأنْهارِ، فَتَحْتَ كُلِّ شَجَرَةٍ وغُرْفَةٍ مَنبَعُ نَهْرٍ، فَهي لا تَزالُ غَضَّةً يانِعَةً مُتَّصِلَةَ الزَّهْرِ والثَّمَرِ لا كَما يُجْلَبُ إلَيْهِ الماءُ ورُبَّما انْقَطَعَ في وقْتٍ فاخْتَلَّ بَعْضُ أمْرِهِ. قالَ الحَرالِّيُّ: وإذا تَعَرَّفَ حالُ العامِلِ مِن وصْفِ جَزائِهِ عُلِمَ أنَّ أعْمالَهم كانَتْ مَبْنِيَّةً عَلى الإخْلاصِ الَّذِي هو حَظُّ العامِلِينَ مِنَ التَّوْلِيدِ الَّذِي الماءُ آيَتُهُ. انْتَهى.
فَلَمّا كانَتِ الجِنانُ مَعْرُوفَةً بِالثِّمارِ ساقَ وصْفَها بِذَلِكَ مَساقَ ما لا شَكَّ فِيهِ بِخِلافِ جَرْيِ الأنْهارِ فَقالَ: ﴿كُلَّما﴾ وهي كَلِمَةٌ تُفْهِمُ تَكَرُّرَ الأمْرِ في عُمُومِ الأوْقاتِ ﴿رُزِقُوا مِنها مِن ثَمَرَةٍ﴾ أيِّ ثَمَرَةٍ كانَتْ رِزْقًا ﴿قالُوا﴾ لِكَوْنِهِ عَلى صُورَةِ ما في الدُّنْيا ﴿هَذا﴾ أيِ الجِنْسُ لِاسْتِحْكامِ الشَّبَهِ ﴿الَّذِي رُزِقْنا مِن قَبْلُ﴾ أيْ في الدُّنْيا، ولَمّا كانَ الرِّزْقُ مَعْلُومًا ولَمْ يَتَعَلَّقْ غَرَضٌ بِمَعْرِفَةِ الآتِي بِالرِّزْقِ بُنِيا لِلْمَجْهُولِ فَقالَ تَعالى عاطِفًا (p-١٩٣)عَلى ما تَقْدِيرُهُ لِأنّا خَلَقْناهُ عَلى شَكْلِ ما كانَ لِيَكُونُوا بِهِ أغْبَطَ ولِمَزِيَّتِهِ أعْرَفَ ولَهُ أقْبَلَ وإلَيْهِ أمْيَلَ مُوَحِّدًا لِلضَّمِيرِ إشارَةً إلى أنَّهُ لِاسْتِحْكامِ الشَّبَهِ كَأنَّهُ واحِدٌ ﴿وأُتُوا بِهِ﴾ أيْ جِيءَ لَهم بِهَذا الجِنْسِ المَرْزُوقِ لَهم في الدّارَيْنِ في الجَنَّةِ مِن غَيْرِ تَطَلُّبٍ وتَشَوُّقٍ ﴿مُتَشابِهًا﴾ في مُطْلَقِ اللَّوْنِ والجِنْسِ لِيُظَنَّ أنَّهُ مُتَشابِهٌ في الطَّعْمِ، فَيَصِيرُ فَضْلُهُ في ذَلِكَ بِالذَّوْقِ نِعْمَةً أُخْرى والتَّشابُهُ المُرادُ هُنا اشْتِراكٌ في ظاهِرِ الصُّورَةِ، والإتْيانُ بِأداةِ التَّكْرارِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الشَّبَهَ يَزْدادُ عَظَمَةً في كُلِّ مَرَّةٍ فَيَزْدادُ العَجَبُ وجَعَلَ الحَرالِّيُّ (p-١٩٤)هَذا خاصًّا بِثِمارِ الجَنَّةِ فَقالَ: ”مِن قَبْلُ“ إعْلامٌ بِأنَّ أشْخاصَ ثَمَرِ الجَنَّةِ وآحادَها لا تَتَمايَزُ لِأنَّها عَلى أعْلى صُورَتِها لا تَتَفاوَتُ بِأعْلى وأدْنى ولا يَتَراخى زَمانُ عَوْدِها، فَهي تَتَخَلَّفُ لِآنِ قَطْفِها ولا تَتَمايَزُ صُوَرُ المَقْطُوفِ مِنَ الخالِفِ حَتّى يَظُنَّ القاطِفُ أنَّ المُتَخَلِّفَ عَيْنُ الأوَّلِ؛ فَحالُ ثَمَرِ الجَنَّةِ كَحالِ الماءِ الَّذِي هو أصْلُهُ، وبِسُرْعَةِ الخَلْفِ مِن ثَمَرِ الجَنَّةِ وأنَّهُ مُتَّصِلُ جَرْيَةِ الوُجُودِ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ في عُنْقُودٍ مِن ثَمَرِها: «لَوْ أخَذْتُهُ لَأكَلْتُمْ مِنهُ ما بَقِيَتِ الدُّنْيا» . ويُشْعِرُ ذَلِكَ عِنْدَ اعْتِبارِ العَمَلِ بِهِ بِأنَّ نِيّاتِهِمْ في الأعْمالِ صالِحَةٌ ثابِتَةٌ مُرابِطَةٌ حَتّى جَرُّوا بِها هَذا الِاتِّصالَ وكَمالَ الصُّورَةِ في الرِّزْقِ، ومِنهُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: «نِيَّةُ المُؤْمِنِ خَيْرٌ مِن عَمَلِهِ» .
﴿وأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا﴾ أظْهَرَ عُذْرَهم في تَوَهُّمِ (p-١٩٥)اتِّحادِ الثَّمَرِ وعَرَّفَ بِأمَنَتِهِمْ مِن العَنا، لِأنَّهُ لَوْ تَفاوَتَ تَبِعَهُ الكَراهَةُ لِلْأدْنى وتَكَلَّفَ لِلِانْتِقاءِ لِلْأعْلى وذَلِكَ إنَّما هو لائِقٌ بِكَيْدِ الدُّنْيا لا بِنَعِيمِ الجَنَّةِ، وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ العُلَماءِ اطِّرادَ هَذا التَّشابُهِ في ثَمَرِ الجَنَّةِ وإنِ اخْتَلَفَتْ أصْنافُهُ، ويُضَعِّفُهُ ما يَلْزَمُ مِنهُ كَمالُ الدَّلالَةِ في المَعْنى والصُّورَةِ في نَحْوِ (p-١٩٦)قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِيهِما فاكِهَةٌ ونَخْلٌ ورُمّانٌ﴾ [الرحمن: ٦٨] وما يَجْرِي مَجْراهُ. انْتَهى.
ولَمّا ذَكَرَ المَسْكَنَ الَّذِي هو مَحَلُّ اللَّذَّةِ وأتْبَعَهُ المَطْعَمَ المَقْصُودَ بِالذّاتِ وكانَتْ لَذَّةُ الدّارِ لا تَكْمُلُ إلّا بِأُنْسِ الجارِ لا سِيَّما المُسْتَمْتِعُ بِهِ قالَ: ﴿ولَهم فِيها﴾ أيْ مَعَ ذَلِكَ ﴿أزْواجٌ﴾ ولَمّا كُنَّ عَلى خَلْقٍ واحِدٍ لا نَقْصَ فِيهِ أشارَ إلَيْهِ بِتَوْحِيدِ الصِّفَةِ، وأكَّدَ ذَلِكَ بِالتَّعْبِيرِ بِالتَّفْعِيلِ إلْمامًا بِأنَّهُ عَمِلَ فِيهِ عَمَلَ ما يُبالَغُ فِيهِ بِحَيْثُ لا مَطْمَعَ في الزِّيادَةِ فَقالَ: ﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: والزَّوْجُ ما لا يَكْمُلُ المَقْصُودُ مِنَ الشَّيْءِ إلّا مَعَهُ عَلى نَحْوٍ مِنَ الِاشْتِراكِ والتَّعاوُنِ، والتَّطْهِيرُ تَكْرارُ إذْهابِ مُجْتَنِبٍ بَعْدَ مُجْتَنِبٍ عَنِ الشَّيْءِ؛ ولَمّا ذَكَرَ تَعالى الرِّزْقَ المُسْتَثْمَرَ مِن أعْمالِ الَّذِينَ آمَنُوا وصَلَ بِهِ ذِكْرَ الأزْواجِ المُسْتَثْمِرَةِ مِن حالِ نُفُوسِهِمْ مِن (p-١٩٧)حُسْنِ أخْلاقِها وجَمالِ صُورَتِها الباطِنَةِ في الدُّنْيا، وكانَتِ المَرْأةُ زَوْجَ الرَّجُلِ لَمّا كانَ لا يَسْتَقِلُّ أمْرُهُ في النَّسْلِ والسَّكَنِ إلّا بِها. انْتَهى.
ولَمّا كانَ خَوْفُ الزَّوالِ أوْ الِانْتِقالِ إلى أدْنى مُنَغِّصًا فَلا تَرُوقُ اللَّذَّةُ إلّا مَعَ الِاسْتِقْرارِ وكانَ هَذا الوَصْفُ عامًّا في جَمِيعِ الجِنانِ العُلى وغَيْرِها قالَ مُقَدِّمًا لِلْجارِّ إشارَةً إلى أنَّهم لا يَكُونُونَ في جَنَّةٍ إلّا وهَذِهِ صِفَتُها وأنَّ نَعِيمَهم لا آخِرَ لَهُ ﴿وهم فِيها﴾ ولَمّا أفادَ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ تَخْصِيصَ الكَوْنِ بِها وعَدَمَ الكَوْنِ في غَيْرِها وكانَ ذَلِكَ مَعْنى الخُلُودِ وكانَ قَدْ يُطْلَقُ عَلى الإقامَةِ بِلا نِهايَةٍ عَلى طُولِ الإقامَةِ وإنْ كانَ لَهُ آخِرٌ صَرَّحَ بِهِ بَيانًا بِأنَّ المُرادَ ما لا آخِرَ لَهُ وإلّا لَمْ يُفِدْ شَيْئًا جَدِيدًا فَقالَ: ﴿خالِدُونَ﴾ (p-١٩٨)والخُلُودُ طُولُ الإقامَةِ بِالقَرارِ، وسِياقُ الِامْتِنانِ أغْنى عَنْ تَقْيِيدِهِ بِالتَّأْبِيدِ والدَّوامِ.
{"ayah":"وَبَشِّرِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُوا۟ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةࣲ رِّزۡقࣰا قَالُوا۟ هَـٰذَا ٱلَّذِی رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُوا۟ بِهِۦ مُتَشَـٰبِهࣰاۖ وَلَهُمۡ فِیهَاۤ أَزۡوَ ٰجࣱ مُّطَهَّرَةࣱۖ وَهُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ"}