﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهم أوْ أبْناءَهم أوْ إخْوانَهم أوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ .
كانَ لِلْمُنافِقِينَ قَرابَةٌ بِكَثِيرٍ مِن أصْحابِ النَّبِيءِ ﷺ، وكانَ نِفاقُهم لا يَخْفى عَلى بَعْضِهِمْ، فَحَذَّرَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ الخالِصِينَ مِن مُوادَّةِ مَن يُعادِي اللَّهَ ورَسُولَهُ ﷺ .
ورُوِيَتْ ثَمانِيَةُ أقْوالٍ مُتَفاوِتَةٍ قُوَّةَ أسانِيدَ اسْتَقْصاها القُرْطُبِيُّ في نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ (p-٥٨)ولَيْسَ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ لِلْآيَةِ سَبَبُ نُزُولٍ فَإنَّ ظاهِرَها أنَّها مُتَّصِلَةُ المَعْنى بِما قَبْلَها وما بَعْدَها مِن ذَمِّ المُنافِقِينَ ومُوالاتِهِمُ اليَهُودَ، فَما ذُكِرَ فِيها مِن قَصَصٍ لِسَبَبِ نُزُولِها فَإنَّما هو أمْثِلَةٌ لِمُقْتَضى حُكْمِها.
وافْتِتاحُ الكَلامِ بِـ ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا﴾ يُثِيرُ تَشْوِيقًا إلى مَعْرِفَةِ حالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ وما سَيُساقُ في شَأْنِهِمْ مِن حُكْمٍ.
والخِطابُ لِلنَّبِيءِ ﷺ . والمَقْصُودُ مِنهُ أمْرُهُ بِإبْلاغِ المُسْلِمِينَ أنَّ مُوادَّةَ مَن يُعْلَمُ أنَّهُ مُحادُّ اللَّهِ ورَسُولِهِ هي مِمّا يُنافِي الإيمانَ لِيَكُفَّ عَنْها مَن عَسى أنْ يَكُونَ مُتَلَبِّسًا بِها. فالكَلامُ مِن قِبَلِ الكِنايَةِ عَنِ السَّعْيِ في نَفْيِ وِجْدانِ قَوْمٍ هَذِهِ صِفَتُهم، مِن قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: لا أرَيَنَّكَ هاهُنا، أيْ لا تَحْضُرْ هُنا.
ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿قُلْ أتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ﴾ [يونس: ١٨] أرادَ بِما لا يَكُونُ، لِأنَّ ما لا يَعْلَمُهُ اللَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، وكانَتْ هَذِهِ عادَةُ المُؤْمِنِينَ قَبْلَ الهِجْرَةِ أيّامَ كانُوا بِمَكَّةَ. وقَدْ نُقِلَتْ أخْبارٌ مِن شَواهِدِ ذَلِكَ مُتَفاوِتَةُ القُوَّةِ ولَكِنْ كانَ الكُفْرُ أيّامَئِذٍ مَكْشُوفًا والعَداوَةُ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ والمُشْرِكِينَ واضِحَةً. فَلَمّا انْتَقَلَ المُسْلِمُونَ إلى المَدِينَةِ كانَ الكُفْرُ مَسْتُورًا في المُنافِقِينَ فَكانَ التَّحَرُّزُ مِن مُوادَّتِهِمْ أجْدَرَ وأحْذَرَ.
والمُوادَّةُ أصْلُها: حُصُولُ المَوَدَّةِ في جانِبَيْنِ. والنَّهْيُ هُنا إنَّما هو عَنْ مَوَدَّةِ المُؤْمِنِ الكافِرِينَ لا عَنْ مُقابَلَةِ الكافِرِ المُؤْمِنِينَ بِالمَوَدَّةِ، وإنَّما جِيءَ بِصِيغَةِ المُفاعَلَةِ هُنا اعْتِبارًا بِأنَّ شَأْنَ الوُدِّ أنْ يَجْلِبَ وُدًّا مِنَ المَوْدُودِ لِلْوادِّ.
وإمّا أنْ تَكُونَ المُفاعَلَةُ كِنايَةً عَنْ كَوْنِ الوُدِّ صادِقًا لِأنَّ الوادَّ الصّادِقَ يُقابِلُهُ المَوْدُودُ بِمِثْلِهِ. ويُعْرَفُ ذَلِكَ بِشَواهِدِ المُعامَلَةِ، وقَرِينَةُ الكِنايَةِ تَوْجِيهُ نَفْيِ وِجْدانِ المَوْصُوفِ بِذَلِكَ إلى القَوْمِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ﷺ، ولِذَلِكَ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ هُنا ﴿إلّا أنْ تَتَّقُوا مِنهم تُقاةً﴾ [آل عمران: ٢٨]، لِأنَّ المَوَدَّةَ مِن أحْوالِ القَلْبِ فَلا تُتَصَوَّرُ مَعَها التَّقِيَةُ، بِخِلافِ قَوْلِهِ ﴿لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ٢٨] إلى قَوْلِهِ ﴿إلّا أنْ تَتَّقُوا مِنهم تُقاةً﴾ [آل عمران: ٢٨] .
(p-٥٩)وقَوْلُهُ ﴿ولَوْ كانُوا آباءَهُمْ﴾ إلى آخِرِهِ مُبالَغَةٌ في نِهايَةِ الأحْوالِ الَّتِي قَدْ يُقْدِمُ فِيها المَرْءُ عَلى التَّرَخُّصِ فِيما نُهِيَ عَنْهُ بِعِلَّةِ قُرْبِ القَرابَةِ.
ثُمَّ إنَّ الَّذِي يُحادُّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ﷺ إنْ كانَ مُتَجاهِرًا بِذَلِكَ مُعْلِنًا بِهِ، أوْ مُتَجاهِرًا بِسُوءِ مُعامَلَةِ المُسْلِمِينَ لِأجْلِ إسْلامِهِمْ لا لِمُوجِبِ عَداوَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، فالواجِبُ عَلى المُسْلِمِينَ إظْهارُ عَداوَتِهِ، قالَ تَعالى ﴿إنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكم في الدِّينِ وأخْرَجُوكم مِن دِيارِكم وظاهَرُوا عَلى إخْراجِكم أنْ تَوَلَّوْهم ومَن يَتَوَلَّهم فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ [الممتحنة: ٩] ولَمْ يُرَخَّصْ في مُعامَلَتِهِمْ بِالحُسْنى إلّا لِاتِّقاءِ شَرِّهِمْ إنْ كانَ لَهم بَأْسٌ قالَ تَعالى ﴿لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ في شَيْءٍ إلّا أنْ تَتَّقُوا مِنهم تُقاةً﴾ [آل عمران: ٢٨] .
وأمّا مَن عَدا هَذا الصِّنْفَ فَهو الكافِرُ المُمْسِكُ شَرَّهُ عَنِ المُسْلِمِينَ، قالَ تَعالى ﴿لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكم في الدِّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكم مِن دِيارِكم أنْ تَبَرُّوهم وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: ٨] .
ومِن هَذا الصِّنْفِ أهْلُ الذِّمَّةِ وقَدْ بَيَّنَ شِهابُ الدِّينِ القَرافِيِّ في الفَرْقِ التّاسِعَ عَشَرَ بَعْدَ المِائَةِ مَسائِلَ الفَرْقِ بَيْنَ البِرِّ والمَوَدَّةِ وبِهَذا تَعْلَمُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَيْسَتْ مَنسُوخَةً بِآيَةِ ﴿لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكم في الدِّينِ﴾ [الممتحنة: ٨] وأنَّ لِكُلٍّ مِنهُما حالَتَها.
فَ لَوْ وصْلِيَةٌ وتَقَدَّمَ بَيانُ مَعْنى لَوِ الوَصْلِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِن أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا ولَوِ افْتَدى بِهِ﴾ [آل عمران: ٩١] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ ورُتِّبَتْ أصْنافُ القَرابَةِ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى طَرِيقَةِ التَّدَلِّي مِنَ الأقْوى إلى مَن دُونَهُ لِئَلا يُتَوَهَّمَ أنَّ النَّهْيَ خاصُّ بِمَن تَقْوى فِيهِ ظَنَّةُ النَّصِيحَةِ لَهُ والِائْتِمارُ بِأمْرِهِ.
وعَشِيرَةُ الرَّجُلِ قَبِيلَتُهُ الَّذِينَ يَجْتَمِعُ مَعَهم في جَدٍّ غَيْرِ بَعِيدٍ وقَدْ أخَذَ العُلَماءُ مِن هَذِهِ الآيَةِ أنَّ أهْلَ الإيمانِ الكامِلِ لا يُوادُّونَ مَن فِيهِ مَعْنًى مِن مُحادَّةِ اللَّهِ ورَسُولِهِ ﷺ بِخَرْقِ سِياجِ شَرِيعَتِهِ عَمْدًا. والِاسْتِخْفافِ بِحُرُماتِ الإسْلامِ، وهَؤُلاءِ مِثْلُ أهْلِ الظُّلْمِ والعُدْوانِ في الأعْمالِ مِن كُلِّ ما يُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِراثِ مُرْتَكِبِهِ بِالدِّينِ ويُنْبِئُ عَنْ ضُعْفِ احْتِرامِهِ لِلدِّينِ مِثْلُ المُتَجاهِرِينَ بِالكَبائِرِ والفَواحِشِ السّاخِرِينَ (p-٦٠)مِنَ الزَّواجِرِ والمَواعِظِ، ومِثْلُ أهْلِ الزَّيْغِ والضَّلالِ في الِاعْتِقادِ مِمَّنْ يُؤْذَنُ حالُهم بِالإعْراضِ عَنْ أدِلَّةِ الِاعْتِقادِ الحَقِّ، وإيثارُ الهَوى النَّفْسِيِّ والعَصَبِيَّةِ عَلى أدِلَّةِ الِاعْتِقادِ الإسْلامِيِّ الحَقِّ. فَعَنِ الثَّوْرِيِّ أنَّهُ قالَ: كانُوا يَرَوْنَ تَنْزِيلَ هَذِهِ الآيَةِ عَلى مَن يَصْحَبُ سَلاطِينَ الجَوْرِ. وعَنْ مالِكٍ: لا تُجالِسِ القَدَرِيَّةَ وعادَهِمْ في اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعالى ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ .
وقالَ فُقَهاؤُنا: يَجُوزُ أوْ يَجِبُ هُجْرانُ ذِي البِدْعَةِ الضّالَّةِ أوْ الِانْغِماسِ في الكَبائِرِ إذا لَمْ يَقْبَلِ المَوْعِظَةَ.
وهَذا كُلُّهُ مِن إعْطاءِ بَعْضِ أحْكامِ المَعْنى الَّذِي فِيهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أوْ وعِيدٌ لِمَعْنًى آخَرَ فِيهِ وصْفٌ مِن نَوْعِ المَعْنى ذِي الحُكْمِ الثّابِتِ. وهَذا يَرْجِعُ إلى أنْواعٍ مِنَ الشَّبَهِ في مَسالِكِ العِلَّةِ لِلْقِياسِ فَإنَّ الأشْياءَ مُتَفاوِتَةٌ في الشَّبَهِ.
وقَدِ اسْتَدَلَّ أيِمَّةُ الأُصُولِ عَلى حُجِّيَّةِ الإجْماعِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿ومَن يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ [النساء: ١١٥] مَعَ أنَّ مَهْيَعَ الآيَةِ المُحْتَجِّ بِها إنَّما هو الخُرُوجُ عَنِ الإسْلامِ ولَكِنَّهم رَأوُا الخُرُوجَ مَراتِبَ مُتَفاوِتَةً فَمُخالَفَةُ إجْماعِ المُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ فِيهِ شَبَهُ اتِّباعِ غَيْرِ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ.
* * *
﴿أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وأيَّدَهم بِرُوحٍ مِنهُ ويُدْخِلُهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ألا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ .
الإشارَةُ إلى القَوْمِ المَوْصُوفِينَ بِأنَّهم ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهم أوْ أبْناءَهم أوْ إخْوانَهم أوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ .
والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا لِأنَّ الأوْصافَ السّابِقَةَ ووُقُوعُها عَقِبَ ما وُصِفَ بِهِ المُنافِقُونَ مِن مُحادَّةِ اللَّهِ ورَسُولِهِ ﷺ سابِقًا وآنِفًا، وما تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ أنَّهُ أعَدَّ لَهم عَذابًا شَدِيدًا ولَهم عَذابٌ مُهِينٌ، وأنَّهم حِزْبُ الشَّيْطانِ، وأنَّهُمُ (p-٦١)الخاسِرُونَ، مِمّا يَسْتَشْرِفُ بَعْدَهُ السّامِعُ إلى ما سَيُخْبَرُ بِهِ عَنِ المُتَّصِفِينَ بِضِدِّ ذَلِكَ. وهُمُ المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لا يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ﷺ .
وكِتابَةُ الإيمانِ في القُلُوبِ نَظِيرُ قَوْلِهِ ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأغْلِبَنَّ أنا ورُسُلِي﴾ [المجادلة: ٢١] . وهي التَّقْدِيرُ الثّابِتُ الَّذِي لا تَتَخَلَّفُ آثارُهُ، أيْ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا الَّذِينَ زَيَّنَ اللَّهُ الإيمانَ في قُلُوبِهِمْ فاتَّبَعُوا كَمالَهُ وسَلَكُوا شِعْبَهُ.
والتَّأْكِيدُ: التَّقْوِيَةُ والنَّصْرُ. وتَقَدَّمَ بَيانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وأيَّدْناهُ بِرُوحِ القُدُسِ﴾ [البقرة: ٨٧] في سُورَةِ البَقَرَةِ، أيْ إنَّ تَأْيِيدَ اللَّهِ إيّاهم قَدْ حَصَلَ وتَقَرَّرَ بِالإتْيانِ بِفِعْلِ المُضِيِّ لِلدِّلالَةِ عَلى الحُصُولِ وعَلى التَّحَقُّقِ والدَّوامِ فَهو مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنَيَيْهِ.
والرُّوحُ هُنا: ما بِهِ كَمالُ نَوْعِ الشَّيْءِ مِن عَمَلٍ أوْ غَيْرِهِ ورُوحٌ مِنَ اللَّهِ: عِنايَتُهُ ولُطْفُهُ. ومَعانِيَ الرُّوحِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ [الإسراء: ٨٥] في سُورَةِ الإسْراءِ، ووَعَدَهم بِأنَّهُ يُدْخِلُهم في المُسْتَقْبَلِ الجَنّاتِ خالِدِينَ فِيها.
ورَضِي اللَّهُ عَنْهم حاصِلٌ مِنَ الماضِي ومُحَقَّقُ الدَّوامِ فَهو مِثْلُ الماضِي في قَوْلِهِ وأيَّدَهم، ورِضاهم عَنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ حاصِلٌ في الدُّنْيا بِثَباتِهِمْ عَلى الدِّينِ ومُعاداةِ أعْدائِهِ، وحاصِلٌ في المُسْتَقْبَلِ بِنَوالِ رِضا اللَّهِ عَنْهم ونَوالِ نَعَيْمِ الخُلُودِ.
وأمّا تَحْوِيلُ التَّعْبِيرِ إلى المُضارِعِ في قَوْلِهِ ﴿ويُدْخِلُهم جَنّاتٍ﴾ فَلِأنَّهُ الأصْلُ في الِاسْتِقْبالِ. وقَدِ اسْتُغْنِيَ عَنْ إفادَةِ التَّحْقِيقِ بِما تَقَدَّمَهُ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وأيَّدَهم بِرُوحٍ مِنهُ﴾ .
وقَوْلُهُ ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ﴾ إلى آخِرِهِ كالقَوْلِ في ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ﴾ [المجادلة: ١٩] . وحَرْفُ التَّنْبِيهِ يَحْصُلُ مِنهُ تَنْبِيهُ المُسْلِمِينَ إلى فَضْلِهِمْ. وتَنْبِيهُ مَن يَسْمَعُ ذَلِكَ مِنَ المُنافِقِينَ إلى ما حَبا اللَّهُ بِهِ المُسْلِمِينَ مَن خَيْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ لَعَلَّ المُنافِقِينَ يَغْبِطُونَهم فَيُخْلِصُونَ الإسْلامَ.
وشَتّانَ بَيْنَ الحِزْبَيْنِ. فالخُسْرانُ لِحِزْبِ الشَّيْطانِ، والفَلّاحُ لِحِزْبِ اللَّهِ تَعالى.
* * *
(p-٦٢)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الحَشْرِ اشْتُهِرَتْ تَسْمِيَةُ هَذِهِ السُّورَةُ (سُورَةُ الحَشْرِ) . وبِهَذا الِاسْمِ دَعاها النَّبِيءُ ﷺ .
رَوى التِّرْمِذِيُّ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسارٍ قالَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «مَن قالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلاثَ مَرّاتٍ أُعَوِّذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ وقَرَأ ثَلاثَ آياتٍ مِن آخِرِ سُورَةِ الحَشْرِ» الحَدِيثَ، أيِ الآياتِ الَّتِي أوَّلُها ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ [الحشر: ٢٢] إلى آخِرِ السُّورَةِ.
وفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبّاسٍ سُورَةُ الحَشْرِ قالَ (قُلْ بَنِي النَّضِيرِ)، أيْ سُورَةُ بَنِي النَّضِيرِ فابْنُ جُبَيْرٍ سَمّاها بِاسْمِها المَشْهُورِ. وابْنُ عَبّاسٍ يُسَمِّيها سُورَةَ بَنِي النَّضِيرِ. ولَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ تَسْمِيَةُ النَّبِيءِ ﷺ إيّاها (سُورَةَ الحَشْرِ) لِأنَّ ظاهِرَ كَلامِهِ أنَّهُ يَرى تَسْمِيَتَها سُورَةَ بَنِي النَّضِيرِ لِقَوْلِهِ لِابْنِ جُبَيْرٍ قُلْ بَنِي النَّضِيرِ.
وتَأوَّلَ ابْنُ حَجْرٍ كَلامَ ابْنَ عَبّاسٍ عَلى أنَّهُ كَرِهَ تَسْمِيَتَها بِـ (الحَشْرِ) لِئَلا يَظُنَّ أنَّ المُرادَ بِالحَشْرِ يَوْمَ القِيامَةِ. وهَذا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ. وأحْسَنُ مِن هَذا أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ أرادَ أنْ لَها اسْمَيْنِ، وأنَّ الأمْرَ في قَوْلِهِ: قُلْ، لِلتَّخْيِيرِ.
فَأمّا وجْهُ تَسْمِيَتِها (الحَشْرَ) فَلِوُقُوعِ لَفْظِ (الحَشْرِ) فِيها. ولِكَوْنِها ذُكِرَ (p-٦٣)فِيها حَشْرُ بَنِي النَّضِيرِ مِن دِيارِهِمْ أيْ مِن قَرْيَتِهِمُ المُسَمّاةِ الزُّهْرَةِ قَرِيبًا مِنَ المَدِينَةِ. فَخَرَجُوا إلى بِلادِ الشّامِ إلى أرِيحا وأذْرُعاتٍ، وبَعْضُ بُيُوتِهِمْ خَرَجُوا إلى خَيْبَرَ، وبَعْضُ بُيُوتِهِمْ خَرَجُوا إلى الحِيرَةِ.
وأمّا وجْهُ تَسْمِيَتِها سُورَةَ بَنِي النَّضِيرِ فَلِأنَّ قِصَّةَ بَنِي النَّضِيرِ ذُكِرَتْ فِيها.
وهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفاقِ.
وهِيَ الثّامِنَةُ والتِّسْعُونَ في عِدادِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جابِرِ بْنِ زَيْدٍ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ البَيِّنَةِ وقَبْلَ سُورَةِ النَّصْرِ.
وكانَ نُزُولُها عَقِبَ إخْراجِ بَنِي النَّضِيرِ مِن بِلادِهِمْ سَنَةَ أرْبَعٍ مِنَ الهِجْرَةِ.
وعَدَدُ آيِها أرْبَعٌ وعِشْرُونَ بِاتِّفاقِ العادِّينَ.
* * *
وقَعَ الِاتِّفاقُ عَلى أنَّها نَزَلَتْ في شَأْنِ بَنِي النَّضِيرِ ولَمْ يُعَيِّنُوا ما هو الغَرَضُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ. ويَظْهَرُ أنَّ المَقْصِدَ مِنها حُكْمُ أمْوالِ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ الِانْتِصارِ عَلَيْهِمْ، كَما سَنُبَيِّنُهُ في تَفْسِيرِ الآيَةِ الأُولى مِنها.
وقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلى أنَّ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ دالٌّ عَلى تَنْزِيهِ اللَّهِ، وكَوْنِ في السَّماواتِ والأرْضِ مُلْكُهُ، وأنَّهُ الغالِبُ المُدَبِّرُ.
وعَلى ذِكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلى ما يَسَّرَ مِن إجْلاءِ بَنِي النَّضِيرِ مَعَ ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ المَنَعَةِ والحُصُونِ والعُدَّةِ. وتِلْكَ آيَةٌ مِن آياتِ تَأْيِيدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وغَلَبَتِهِ عَلى أعْدائِهِ.
وذِكْرِ ما أجْراهُ المُسْلِمُونَ مِن إتْلافِ أمْوالِ بَنِي النَّضِيرِ وأحْكامِ ذَلِكَ في أمْوالِهِمْ وتَعْيِينِ مُسْتَحِقِّيهِ مِنَ المُسْلِمِينَ.
وتَعْظِيمِ شَأْنِ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ والَّذِينَ يَجِيئُونَ بَعْدَهم مِنَ المُؤْمِنِينَ.
وكَشْفِ دَخائِلِ المُنافِقِينَ ومَواعِيدِهِمْ لِبَنِي النَّضِيرِ أنْ يَنْصُرُوهم وكَيْفَ كَذَبُوا وعْدَهم (p-٦٤)وأنْحى عَلى بَنِي النَّضِيرِ والمُنافِقِينَ بِالجُبْنِ وتَفَرُّقِ الكَلِمَةِ وتَنْظِيرِ حالِ تَغْرِيرِ المُنافِقِينَ لِلْيَهُودِ بِتَغْرِيرِ الشَّيْطانِ لِلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وتَنَصُّلِهِ مِن ذَلِكَ يَوْمَ القِيامَةِ فَكانَ عاقِبَةُ الجَمِيعِ الخُلُودَ في النّارِ.
ثُمَّ خِطابُ المُؤْمِنِينَ بِالأمْرِ بِالتَّقْوى والحَذَرِ مِن أحْوالِ أصْحابِ النّارِ والتَّذْكِيرِ بِتَفاوُتِ حالِ الفَرِيقَيْنِ.
وبَيانِ عَظَمَةِ القُرْآنِ وجَلالَتِهِ واقْتِضائِهِ خُشُوعَ أهْلِهِ.
وتَخَلَّلَ ذَلِكَ إيماءٌ إلى حِكْمَةِ شَرائِعِ انْتِقالِ الأمْوالِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ بِالوُجُوهِ الَّتِي نَظَّمَها الإسْلامُ بِحَيْثُ لا تَشُقُّ عَلى أصْحابِ الأمْوالِ.
والآمِرُ بِاتِّباعِ ما يَشْرَعُهُ اللَّهُ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ ﷺ .
وخُتِمَتْ بِصِفاتٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الصِّفاتِ الإلَهِيَّةِ وأنَّهُ يُسَبِّحُ لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ تَزَكِيَهً لِحالِ المُؤْمِنِينَ وتَعْرِيضًا بِالكافِرِينَ.
{"ayah":"لَّا تَجِدُ قَوۡمࣰا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ یُوَاۤدُّونَ مَنۡ حَاۤدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوۤا۟ ءَابَاۤءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَاۤءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَ ٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِیرَتَهُمۡۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَتَبَ فِی قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِیمَـٰنَ وَأَیَّدَهُم بِرُوحࣲ مِّنۡهُۖ وَیُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ رَضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُوا۟ عَنۡهُۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَاۤ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ"}