قوله عزّ وجلّ:
﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهم أو أبْناءَهم أو إخْوانَهم أو عَشِيرَتَهم أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وأيَّدَهم بِرُوحٍ مِنهُ ويُدْخِلُهم جَنّاتٍ تَجْرِي مَن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهَ عنهم ورَضُوا عنهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهَ ألا إنَّ حِزْبُ اللهَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾
نَفَتْ هَذِهِ الآيَةُ أنْ يُوجَدَ مَن يُؤْمِنُ بِاللهِ تَعالى حَقَّ الإيمانِ ويَلْتَزِمُ شُعَبَهُ عَلى الكَمالِ يُوادِّ كافِرًا أو مُنافِقًا، ومَعْنى "يُوادِّ" يَكُونُ بَيْنَهُما مِنَ اللُطْفِ بِحَيْثُ يَوَدُّ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما صاحِبَهُ، وعَلى هَذا التَأْوِيلِ قالَ بَعْضُ الصَحابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ: اللهُمَّ لا تَجْعَلْ لِمُشْرِكٍ قَبْلِي يَدًا فَتَكُونُ سَبَبًا لِلْمَوَدَّةِ، فَإنَّكَ تَقُولُ: وتَلا هَذِهِ الآيَةَ. وتَحْتَمِلُ الآيَةُ أنْ يُرِيدَ بِها: لا يُوجَدُ مَن يُؤْمِنُ بِاللهِ والبَعْثِ يُوادُّ مَن حادَّ اللهَ مِن حَيْثُ هو مُحادٌّ؛ لِأنَّهُ حِينَئِذٍ يَوَدُّ المُحادَّةَ، وذَلِكَ يُوجِبُ أنْ لا يَكُونُ مُؤْمِنًا.
ويُرْوى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في شَأْنِ حاطِبِ بْنِ أبِي بَلْتَعَةَ ومُخاطَبَتِهِ أهْلَ مَكَّةَ، (p-٢٥٨)وَظاهِرُ هَذِهِ الآياتِ أنَّها مُتَّصِلَةُ المَعْنى، وأنَّ هَذا في مَعْنى الذَمِّ لِلْمُنافِقِينَ المُوالِينَ لِلْيَهُودِ، وإذا قُلْنا إنَّها في أمْرٍ حاطِبٍ جاءَ ذَلِكَ أجْنَبِيًّا في أمْرِ المُنافِقِينَ، وإنْ كانَ شَبِيهًا بِهِ، و"الإخْوانُ" هُنا إخْوَةُ النَسَبِ بِدَلِيلِ اقْتِرانِهِ بِالآباءِ، وعُرِفَ "الإخْوانُ" أنَّهُ في الأوِدّاءِ، كَما عُرِفَ "الإخْوَةُ" أنَّهُ في النَسَبِ، وقَدْ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا في إخاءِ الوِدِّ. و﴿كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ﴾ مَعْناهُ: أثْبَتَهُ وخَلَقَهُ بِالإيجادِ، وذَهَبَ أبُو عَلَيٍّ الفارِسِيُّ وغَيْرُهُ مِنَ المُعْتَزِلَةِ إلى أنَّ المَعْنى: جَعَلَ في قُلُوبِهِمْ عَلاماتٍ تعْرِفُ المَلائِكَةُ بِها أنَّهم مُؤْمِنُونَ، وذَلِكَ لِأنَّهم يَرَوْنَ العَبْدَ يَخْلُقُ إيمانَهُ، وقَدْ صَرَّحَ النَقّاشُ بِهَذا المَذْهَبِ، وما أراهُ إلّا قالَهُ غَيْرُ مُحَصَّلٍ لِما قالَ، وأمّا أبُو عَلِيِّ الفارِسِيُّ فَعن بَصَرٍ بِهِ.
وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "كَتَبَ" عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْفاعِلِ، "والإيمانَ" بِالنَصْبِ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ، وعاصِمٌ -فِي رِوايَةِ المُفَضَّلِ عنهُ-: "كَتَبَ" عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، "والإيمانُ" بِالرَفْعِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "أُولَئِكَ" إشارَةٌ إلى المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَقْتَضِيهِمْ مَعْنى الآيَةِ؛ لِأنَّ المَعْنى: لَكِنَّكَ تَجِدُهم لا يُوادُّونَ مَن حادَّ اللهَ، وقَوْلُهُ تَعالى: "بِرُوحٍ مِنهُ" بِهُدًى ولُطْفٍ ونُورٍ وتَوْفِيقٍ إلَهِيٍّ يَنْقَدِحُ مِنَ القُرْآنِ ومِن كَلامِ النَبِيِّ ﷺ، وقِيلَ: المَعْنى: بِالقُرْآنِ، لِأنَّهُ رُوحٌ، قِيلَ: المَعْنى: بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلام.
و"الحِزْبُ": الفَرِيقُ الَّذِي يَجْمَعُهُ مَذْهَبٌ واحِدٌ، و"المُفْلِحُ": الفائِزُ بِبُغْيَتِهِ، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ.
كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ [المُجادَلَةِ] والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ
{"ayah":"لَّا تَجِدُ قَوۡمࣰا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ یُوَاۤدُّونَ مَنۡ حَاۤدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوۤا۟ ءَابَاۤءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَاۤءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَ ٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِیرَتَهُمۡۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَتَبَ فِی قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِیمَـٰنَ وَأَیَّدَهُم بِرُوحࣲ مِّنۡهُۖ وَیُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ رَضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُوا۟ عَنۡهُۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَاۤ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ"}