قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهم أوْ أبْناءَهم أوْ إخْوانَهم أوْ عَشِيرَتَهم أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وأيَّدَهم بِرُوحٍ مِنهُ ويُدْخِلُهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ألا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾
المَعْنى أنَّهُ لا يَجْتَمِعُ الإيمانُ مَعَ وِدادِ أعْداءِ اللَّهِ، وذَلِكَ لِأنَّ مَن أحَبَّ أحَدًا امْتَنَعَ أنْ يُحِبَّ مَعَ ذَلِكَ عَدُوَّهُ، وهَذا عَلى وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّهُما لا يَجْتَمِعانِ في القَلْبِ، فَإذا حَصَلَ في القَلْبِ وِدادُ أعْداءِ اللَّهِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الإيمانُ، فَيَكُونُ صاحِبُهُ مُنافِقًا.
والثّانِي: أنَّهُما يَجْتَمِعانِ ولَكِنَّهُ مَعْصِيَةٌ وكَبِيرَةٌ، وعَلى هَذا الوَجْهِ لا يَكُونُ صاحِبُ هَذا الوِدادِ كافِرًا بِسَبَبِ هَذا الوِدادِ، بَلْ كانَ عاصِيًا في اللَّهِ، فَإنْ قِيلَ: أجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى أنَّهُ تَجُوزُ مُخالَطَتُهم ومُعاشَرَتُهم، فَما هَذِهِ المَوَدَّةُ المُحَرَّمَةُ المَحْظُورَةُ ؟ قُلْنا: المَوَدَّةُ المَحْظُورَةُ هي إرادَةُ مُنافِسِهِ دِينًا ودُنْيا مَعَ كَوْنِهِ كافِرًا، فَأمّا ما سِوى ذَلِكَ فَلا حَظْرَ فِيهِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بالَغَ في المَنعِ مِن هَذِهِ المَوَدَّةِ مِن وُجُوهٍ:
أوَّلُها: ما ذُكِرَ أنَّ هَذِهِ المَوَدَّةَ مَعَ الإيمانِ لا يَجْتَمِعانِ.
وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ كانُوا آباءَهم أوْ أبْناءَهم أوْ إخْوانَهم أوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ والمُرادُ أنَّ المَيْلَ إلى هَؤُلاءِ أعْظَمُ أنْواعِ المَيْلِ، ومَعَ هَذا فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ هَذا المَيْلُ مَغْلُوبًا مَطْرُوحًا بِسَبَبِ الدِّينِ. «قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرّاحِ، قَتَلَ أباهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الجَرّاحِ يَوْمَ أُحُدٍ، وعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ قَتَلَ خالَهُ العاصَ بْنَ هِشامِ بْنِ المُغِيرَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وأبِي بَكْرٍ دَعا ابْنَهُ يَوْمَ بَدْرٍ إلى البِرازِ، فَقالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”مَتِّعْنا بِنَفْسِكَ“»، ومُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ قَتَلَ أخاهُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ، وعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ [ وحَمْزَةَ ] وعُبَيْدَةَ قَتَلُوا عُتْبَةَ وشَيْبَةَ والوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ يَوْمَ بَدْرٍ، أخْبَرَ أنَّ هَؤُلاءِ لَمْ يُوادُّوا أقارِبَهم (p-٢٤١)وعَشائِرَهم غَضَبًا لِلَّهِ ودِينِهِ.
وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى عَدَّدَ نِعَمَهُ عَلى المُؤْمِنِينَ، فَبَدَأ بِقَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: المَعْنى أنَّ مَن أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ كَيْفَ يُمْكِنُ أنْ يَحْصُلَ في قَلْبِهِ مَوَدَّةُ أعْداءِ اللَّهِ، واخْتَلَفُوا في المُرادِ مِن قَوْلِهِ: ﴿كَتَبَ﴾ أمّا القاضِي فَذَكَرَ ثَلاثَةَ أوْجُهٍ عَلى وفْقِ قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ:
أحَدُها: جَعَلَ في قُلُوبِهِمْ عَلامَةً تَعْرِفُ بِها المَلائِكَةُ ما هم عَلَيْهِ مِنَ الإخْلاصِ.
وثانِيها: المُرادُ شَرَحَ صُدُورَهم لِلْإيمانِ بِالألْطافِ والتَّوْفِيقِ.
وثالِثُها: قِيلَ في: ﴿كَتَبَ﴾ قَضى أنَّ قُلُوبَهم بِهَذا الوَصْفِ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الوُجُوهَ الثَّلاثَةَ نُسَلِّمُها لِلْقاضِي ونُفَرِّعُ عَلَيْها صِحَّةَ قَوْلِنا، فَإنَّ الَّذِي قَضى اللَّهُ بِهِ أخْبَرَ عَنْهُ وكَتَبَهُ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، لَوْ لَمْ يَقَعْ لانْقَلَبَ خَبَرُ اللَّهِ الصِّدْقُ كَذِبًا، وهَذا مُحالٌ، والمُؤَدِّي إلى المُحالِ مُحالٌ، وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: مَعْناهُ: جَمَعَ، والكَتِيبَةُ: الجَمْعُ مِنَ الجَيْشِ، والتَّقْدِيرُ: أُولَئِكَ الَّذِينَ جَمَعَ اللَّهُ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ، أيِ اسْتَكْمَلُوا فَلَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَقُولُونَ: ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ [النساء: ١٥٠] ومَتى كانُوا كَذَلِكَ امْتَنَعَ أنْ يَحْصُلَ في قُلُوبِهِمْ مَوَدَّةُ الكُفّارِ، وقالَ جُمْهُورُ أصْحابِنا: ﴿كَتَبَ﴾ مَعْناهُ أثْبَتَ وخَلَقَ، وذَلِكَ لِأنَّ الإيمانَ لا يُمْكِنُ كَتْبُهُ، فَلا بُدَّ مِن حَمْلِهِ عَلى الإيجادِ والتَّكْوِينِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: رَوى المُفَضَّلُ عَنْ عاصِمٍ: ”كُتِبَ“ عَلى فِعْلِ ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، والباقُونَ: ”كَتَبَ“ عَلى إسْنادِ الفِعْلِ إلى الفاعِلِ.
والنِّعْمَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وأيَّدَهم بِرُوحٍ مِنهُ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَصَرَهم عَلى عَدُوِّهِمْ، وسَمّى تِلْكَ النُّصْرَةَ رُوحًا؛ لِأنَّ بِها يَحْيا أمْرُهم.
والثّانِي: قالَ السُّدِّيُّ: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿مِنهُ﴾ عائِدٌ إلى الإيمانِ، والمَعْنى أيَّدَهم بِرُوحٍ مِنَ الإيمانِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا﴾ [الشورى: ٥٢] .
النِّعْمَةُ الثّالِثَةُ: ﴿ويُدْخِلُهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها﴾ وهو إشارَةٌ إلى نِعْمَةِ الجَنَّةِ.
النِّعْمَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ﴾ وهي نِعْمَةُ الرِّضْوانِ، وهي أعْظَمُ النِّعَمِ وأجَلُّ المَراتِبِ، ثُمَّ لَمّا عَدَّدَ هَذِهِ النِّعَمَ ذَكَرَ الأمْرَ الرّابِعَ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي تُوجِبُ تَرْكَ المُوادَّةِ مَعَ أعْداءِ اللَّهِ، فَقالَ: ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ألا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ وهو في مُقابَلَةِ قَوْلِهِ فِيهِمْ: ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ ألا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ .
واعْلَمْ أنَّ الأكْثَرِينَ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ نَزَلَتْ في حاطِبِ بْنِ أبِي بَلْتَعَةَ وإخْبارِهِ أهْلَ مَكَّةَ بِمَسِيرِ النَّبِيِّ ﷺ لَمّا أرادَ فَتْحَ مَكَّةَ، وتِلْكَ القِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ، وبِالجُمْلَةِ فالآيَةُ زَجْرٌ عَنِ التَّوَدُّدِ إلى الكُفّارِ والفُسّاقِ.
عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: ”«اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ لِفاجِرٍ ولا لِفاسِقٍ عِنْدِي نِعْمَةً فَإنِّي وجَدْتُ فِيما أوْحَيْتُ ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا﴾ إلى آخِرِهِ» “ واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ، والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، وصَلاتُهُ وسَلامُهُ عَلى سَيِّدِ المُرْسَلِينَ وخاتَمِ النَّبِيِّينَ، سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ، وعَلى آلِهِ وصَحْبِهِ أجْمَعِينَ.
{"ayah":"لَّا تَجِدُ قَوۡمࣰا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ یُوَاۤدُّونَ مَنۡ حَاۤدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوۤا۟ ءَابَاۤءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَاۤءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَ ٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِیرَتَهُمۡۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَتَبَ فِی قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِیمَـٰنَ وَأَیَّدَهُم بِرُوحࣲ مِّنۡهُۖ وَیُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ رَضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُوا۟ عَنۡهُۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَاۤ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ"}