الباحث القرآني
﴿إذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ وجِيهًا في الدُّنْيا والآخِرَةِ ومِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ ﴿ويُكَلِّمُ النّاسَ في المَهْدِ وكَهْلًا ومِنَ الصّالِحِينَ﴾ .
بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ ﴿وإذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ﴾ [آل عمران: ٤٢] قُصِدَ مِنهُ التَّكْرِيرُ لِتَكْمِيلِ المَقُولِ بَعْدَ الجُمَلِ المُعْتَرِضَةِ. ولِكَوْنِهِ بَدَلًا لَمْ يُعْطَفْ عَلى ”إذْ قالَتِ“ الأوَّلِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ”يُبَشِّرُكِ“ .
والكَلِمَةُ مُرادٌ بِها كَلِمَةُ التَّكْوِينِ وهي تَعَلُّقُ القُدْرَةِ التَّنْجِيزِيُّ كَما في حَدِيثِ خَلْقِ الإنْسانِ مِن قَوْلِهِ «ويُؤْمَرُ بِأرْبَعِ كَلِماتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وأجَلِهِ» إلَخْ.
ووَصْفُ عِيسى بِكَلِمَةٍ مُرادٌ بِهِ كَلِمَةٌ خاصَّةٌ مُخالِفَةٌ لِلْمُعْتادِ في تَكْوِينِ الجَنِينِ أيْ بِدُونِ الأسْبابِ المُعْتادَةِ.
(p-٢٤٦)وقَوْلُهُ ”مِنهُ“ ”مِن“ لِلِابْتِداءِ المَجازِيِّ أيْ بِدُونِ واسِطَةِ أسْبابِ النَّسْلِ المُعْتادَةِ وقَدْ دَلَّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ إذا قَضى أمْرًا.
وقَوْلُهُ ﴿اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ عَبَّرَ عَنِ العَلَمِ واللَّقَبِ والوَصْفِ بِالِاسْمِ، لِأنَّ لِثَلاثَتِها أثَرًا في تَمْيِيزِ المُسَمّى. فَأمّا اللَّقَبُ والعَلَمُ فَظاهِرٌ. وأمّا الوَصْفُ المُفِيدُ لِلنَّسَبِ فَلِأنَّ السّامِعِينَ تَعارَفُوا ذِكْرَ اسْمِ الأبِ في ذِكْرِ الأعْلامِ لِلتَّمْيِيزِ وهو المُتَعارَفُ، وتُذْكَرُ الأُمُّ في النَّسَبِ إمّا لِلْجَهْلِ بِالأبِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: زِيادُ ابْنُ سُمَيَّةَ قَبْل أنْ يُلْحَقَ بِأبِي سُفْيانَ في زَمَنِ مُعاوِيَةَ بْنِ أبِي سُفْيانَ، وإمّا لِأنَّ لِأُمِّهِ مَفْخَرًا عَظِيمًا كَقَوْلِهِمْ: عَمْرُو ابْنُ هِنْدٍ، وهو عَمْرُو بْنُ المُنْذِرِ مَلِكُ العَرَبِ.
و المَسِيحُ كَلِمَةٌ عِبْرانِيَّةٌ بِمَعْنى الوَصْفِ، ونُقِلَتْ إلى العَرَبِيَّةِ بِالغَلَبَةِ عَلى عِيسى وقَدْ سَمّى مُتَنَصِّرَةُ العَرَبِ بَعْضَ أبْنائِهِمْ عَبْدَ المَسِيحِ وأصْلُها ”مَسِّيِّحْ“ بِمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ ثُمَّ ياءٍ مُثَنّاةٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ ثُمَّ حاءٍ مُهْمَلَةٍ ساكِنَةٍ ونَطَقَ بِهِ بَعْضُ العَرَبِ بِوَزْنِ سِكِّينٍ.
ومَعْنى مَسِيحٍ مَمْسُوحٌ بِدُهْنِ المَسْحَةِ وهو الزَّيْتُ المُعَطَّرُ الَّذِي أمَرَ اللَّهُ مُوسى أنْ يَتَّخِذَهُ لِيَسْكُبَهُ عَلى رَأْسِ أخِيهِ هارُونَ حِينَما جَعَلَهُ كاهِنًا لِبَنِي إسْرائِيلَ، وصارَتْ كَهَنَةُ بَنِي إسْرائِيلَ يَمْسَحُونَ بِمِثْلِهِ مَن يُمَلِّكُونَهم عَلَيْهِمْ مِن عَهْدِ شاوِلَ المَلِكِ، فَصارَ المَسِيحُ عِنْدَهم بِمَعْنى المَلِكِ: فَفي أوَّلِ سِفْرِ صَمْوِيلَ الثّانِي مِن كُتُبِ العَهْدِ القَدِيمِ قالَ داوُدُ لِلَّذِي أتاهُ بِتاجِ شاوِلَ المَلِكِ المَعْرُوفِ عِنْدَ العَرَبِ بِطالُوتَ: كَيْفَ لَمْ تَخَفْ أنْ تَمُدَّ يَدَكَ لِتُهْلِكَ مَسِيحَ الرَّبِّ.
فَيُحْتَمَلُ أنَّ عِيسى سُمِّيَ بِهَذا الوَصْفِ كَما يُسَمُّونَ بِمَلِكٍ ويُحْتَمَلُ أنَّهُ لَقَبٌ لَقَّبَهُ بِهِ اليَهُودُ تَهَكُّمًا عَلَيْهِ إذِ اتَّهَمُوهُ بِأنَّهُ يُحاوِلُ أنْ يَصِيرَ مَلِكًا عَلى إسْرائِيلَ ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ إطْلاقُ هَذا الوَصْفِ بَيْنَهم واشْتُهِرَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ بِهِ في القُرْآنِ.
والوَجِيهُ: ذُو الوَجاهَةِ وهي: التَّقَدُّمُ عَلى الأمْثالِ، والكَرامَةُ بَيْنَ القَوْمِ، وهي وصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الوَجْهِ لِلْإنْسانِ وهو أفْضَلُ أعْضائِهِ الظّاهِرَةِ مِنهُ، وأجْمَعُها لِوَسائِلِ الإدْراكِ وتَصْرِيفِ الأعْمالِ، فَأُطْلِقَ الوَجْهُ عَلى أوَّلِ الشَّيْءِ عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِعارَةِ (p-٢٤٧)الشّائِعَةِ فَيُقالُ: وجْهُ النَّهارِ لِأوَّلِ النَّهارِ قالَ تَعالى: ﴿وقالَتْ طائِفَةٌ مِن أهْلِ الكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وجْهَ النَّهارِ واكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ [آل عمران: ٧٢] وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ زِيادٍ العَبْسِيُّ:
؎مَن كانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مالِكٍ فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنا بِوَجْهِ نَـهَـارِ
وقالَ الأعْشى:
؎ولاحَ لَهم وجْهُ العَشِيّاتِ سَمْلَقُ
ويَقُولُونَ: هو وجْهُ القَوْمِ أيْ سَيِّدُهم والمُقَدَّمُ بَيْنَهم. واشْتُقَّ مِن هَذا الِاسْمِ فِعْلُ ”وجُهَ“ بِضَمِّ الجِيمِ كَكَرُمَ فَجاءَ مِنهُ ”وجِيهٌ“ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، فَوَجِيهُ النّاسِ المُكَرَّمُ بَيْنَهم، ومَقْبُولُ الكَلِمَةِ فِيهِمْ، قالَ تَعالى في وصْفِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وكانَ عِنْدَ اللَّهِ وجِيهًا﴾ [الأحزاب: ٦٩] .
و المَهْدُ شِبْهُ الصُّنْدُوقِ مِن خَشَبٍ لا غِطاءَ لَهُ يُمَهَّدُ فِيهِ مَضْجَعٌ لِلصَّبِيِّ مُدَّةَ رِضاعِهِ يُوضَعُ فِيهِ لِحِفْظِهِ مِنَ السُّقُوطِ.
وخُصَّ تَكْلِيمُهُ بِحالَيْنِ: حالِ كَوْنِهِ في المَهْدِ، وحالِ كَوْنِهِ كَهْلًا، مَعَ أنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِيما بَيْنَ ذَلِكَ لِأنَّ لِذَيْنِكَ الحالَيْنِ مَزِيدَ اخْتِصاصٍ بِتَشْرِيفِ اللَّهِ إيّاهُ. فَأمّا تَكْلِيمُهُ النّاسَ في المَهْدِ فَلِأنَّهُ خارِقُ عادَةٍ إرْهاصًا لِنُبُوءَتِهِ. وأمّا تَكْلِيمُهم كَهْلًا فَمُرادٌ بِهِ دَعْوَتُهُ النّاسَ إلى الشَّرِيعَةِ. فالتَّكْلِيمُ مُسْتَعْمَلٌ في صَرِيحِهِ وفي كِنايَتِهِ بِاعْتِبارِ القَرِينَةِ المُعَيَّنَةِ لِلْمَعْنَيَيْنِ وهي ما تَعَلَّقَ بِالفِعْلِ مِنَ المَجْرُورَيْنِ.
وعُطِفَ عَلَيْهِ ومِنَ الصّالِحِينَ فالمَجْرُورُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ في مَوْضِعِ الحالِ.
والصّالِحُونَ الَّذِينَ صِفَتُهُمُ الصَّلاحُ لا تُفارِقُهم، والصَّلاحُ اسْتِقامَةُ الأعْمالِ وطَهارَةُ النَّفْسِ قالَ إبْراهِيمُ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينَ﴾ [الصافات: ١٠٠] .
والكَهْلُ مَن دَخَلَ في عَشَرَةِ الأرْبَعِينَ وهو الَّذِي فارَقَ عَصْرَ الشَّبابِ، والمَرْأةُ شَهْلَةٌ بِالشِّينِ، ولا يُقالُ كَهْلَةٌ كَما لا يُقالُ شَهْلٌ لِلرَّجُلِ إلّا أنَّ العَرَبَ قَدِيمًا سَمَّوْا شَهْلًا مِثْلَ شَهْلِ بْنِ شَيْبانَ المُلَقَّبِ الفِنْدُ الزِّمانِيُّ فَدَلَّنا ذَلِكَ عَلى أنَّ الوَصْفَ أُمِيتَ. وقَدْ كانَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ بُعِثَ ابْنَ نَيِّفٍ وثَلاثِينَ.
(p-٢٤٨)وقَوْلُهُ وجِيهًا حالٌ مِن ”كَلِمَةٍ“ بِاعْتِبارِ ما صَدَّقَها ومِنَ المُقَرَّبِينَ عَطْفٌ عَلى الحالِ، ويُكَلِّمُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى الحالِ المُفْرَدَةِ: لِأنَّ الجُمْلَةَ الَّتِي لَها مَحَلٌّ مِنَ الإعْرابِ لَها حُكْمُ المُفْرَدِ.
وقَوْلُهُ في المَهْدِ حالٌ مِن ضَمِيرِ ”يُكَلِّمُ“ . وكَهْلًا عَطْفٌ عَلى مَحَلِّ الجارِّ والمَجْرُورِ، لِأنَّهُما في مَوْضِعِ الحالِ، فَعُطِفَ عَلَيْها بِالنَّصْبِ، مِنَ الصّالِحِينَ مَعْطُوفٌ عَلى ومِنَ المُقَرَّبِينَ.
{"ayahs_start":45,"ayahs":["إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَـٰمَرۡیَمُ إِنَّ ٱللَّهَ یُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةࣲ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِیحُ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ وَجِیهࣰا فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِینَ","وَیُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِی ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلࣰا وَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ"],"ayah":"وَیُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِی ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلࣰا وَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق