الباحث القرآني

﴿وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ أيْ: بِسَبَبِ مَرْيَمَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذا الِاخْتِصامُ هو الِاقْتِراعُ، وأنْ يَكُونَ اخْتِصامًا آخَرَ بَعْدَهُ، والمَقْصُودُ: شِدَّةُ رَغْبَتِهِمْ في التَّكَفُّلِ بِشَأْنِها. والعامِلُ في: إذْ، العامِلُ في: لَدَيْهِمْ، أوْ، كُنْتَ، عَلى قَوْلِ أبِي عَلِيٍّ في: إذْ يُلْقُونَ. وتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِن ضُرُوبِ الفَصاحَةِ التَّكْرارَ في: اصْطَفاكِ، وفي: يا مَرْيَمُ، وفي: ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ. قِيلَ: والتَّقْدِيمُ والتَّأْخِيرُ في: واسْجُدِي وارْكَعِي، عَلى بَعْضِ الأقْوالِ. والِاسْتِعارَةُ، فِيمَن جَعَلَ القُنُوتَ والسُّجُودَ والرُّكُوعَ لَيْسَ كِنايَةً عَنِ الهَيْئاتِ الَّتِي في الصَّلاةِ، والإشارَةُ بِذَلِكَ مِن أنْباءِ الغَيْبِ، والعُمُومُ المُرادُ بِهِ الخُصُوصُ في: نِساءِ العالَمِينَ؛ عَلى أحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ، والتَّشْبِيهُ في: أقْلامِهِمْ، إذا قُلْنا إنَّهُ أرادَ القِداحَ. والحَذْفُ عَلى عِدَّةِ مَواضِعَ. ﴿إذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنهُ﴾ العامِلُ في: إذا، اذْكُرْ، أوْ: يَخْتَصِمُونَ، أوْ إذْ، بَدَلٌ مِن إذْ، في قَوْلِهِ: إذْ يَخْتَصِمُونَ، أوْ مِن: وإذْ قالَتِ المَلائِكَةُ، أقْوالٌ؛ يَلْزَمُ في القَوْلَيْنِ المُتَوَسِّطَيْنِ اتِّحادُ زَمانِ الِاخْتِصامِ، وزَمانِ قَوْلِ المَلائِكَةِ، وهو بَعِيدٌ، وهو قَوْلُ الزَّجّاجِ. ويَبْعُدُ الرّابِعُ لِطُولِ الفَصْلِ بَيْنَ البَدَلِ والمُبْدَلِ مِنهُ. والرّابِعُ اخْتِيارُ الزَّمَخْشَرِيِّ وبِهِ بَدَأ. والخِلافُ في المَلائِكَةِ: أهم جَمْعٌ مِنَ المَلائِكَةِ، أوْ جِبْرِيلُ وحْدَهُ عَلى ما سَبَقَ قَبْلُ في خِطابِهِمْ لِزَكَرِيّا ولِمَرْيَمَ ؟ وتَقَدَّمَ تَكْلِيمُ المَلائِكَةِ قَبْلَ هَذا التَّبْشِيرِ بِذِكْرِ الِاصْطِفاءِ، والتَّطْهِيرِ مِنَ اللَّهِ، وبِالأمْنِ بِالعِبادَةِ لَهُ عَلى سَبِيلِ التَّأْنِيسِ واللُّطْفِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مُقَدِّمَةً لِهَذا التَّبْشِيرِ بِهَذا الأمْرِ العَجِيبِ الخارِقِ الَّذِي لَمْ يَجْرِ لِامْرَأةٍ قَبْلَها، ولا يَجْرِي لِامْرَأةٍ بَعْدَها، وهو أنَّها تَحْمِلُ مِن غَيْرِ مَسِّ ذَكَرٍ لَها، وكانَ جَرْيُ ذَلِكَ الخارِقِ مِن رِزْقِ اللَّهِ لَها أيْضًا تَأْنِيسًا لِهَذا الخارِقِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عُمَرَ: وإذْ قالَ المَلائِكَةُ. والكَلِمَةُ مِنَ اللَّهِ هو عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ، سُمِّيَ كَلِمَةً لِصُدُورِهِ بِكَلِمَةِ: كُنْ، بِلا أبٍ. قالَهُ قَتادَةُ. وقِيلَ: لِتَسْمِيَتِهِ المَسِيحَ، وهو كَلِمَةٌ مِنَ اللَّهِ أيْ: مِن كَلامِ اللَّهِ. وقِيلَ: لِوَعْدِ اللَّهِ بِهِ في كِتابِهِ التَّوْراةِ والكُتُبِ السّابِقَةِ. وفي التَّوْراةِ: أتانا اللَّهُ مِن سَيْناءَ، وأشْرَقَ مِن ساعِرَ، واسْتَعْلَنَ مِن جِبالِ فارانَ. و ساعِرٌ هو المَوْضِعُ الَّذِي بُعِثَ مِنهُ المَسِيحُ. وقِيلَ: لِأنَّ اللَّهَ يَهْدِي بِكَلِمَتِهِ. وقِيلَ: لِأنَّهُ جاءَ عَلى وفْقِ كَلِمَةِ جِبْرِيلَ، وهو: ﴿إنَّما أنا رَسُولُ رَبِّكِ لِأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾ [مريم: ١٩] فَجاءَ عَلى الصِّفَةِ الَّتِي وُصِفَ. وقِيلَ: سَمّاهُ اللَّهُ بِذَلِكَ كَما سَمّى مَن شاءَ مِن سائِرِ خَلْقِهِ بِما شاءَ مِنَ الأسْماءِ، فَيَكُونُ عَلى هَذا عَلَمًا مَوْضُوعًا لَهُ لَمْ تُلْحَظْ فِيهِ جِهَةٌ مُناسِبَةٌ. وقِيلَ: الكَلِمَةُ هُنا لا يُرادُ بِها عِيسى، بَلِ الكَلِمَةُ بِشارَةُ المَلائِكَةِ لِمَرْيَمَ بِعِيسى. وقِيلَ: بِشارَةُ النَّبِيِّ لَها. ﴿اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسى بْنُ مَرْيَمَ﴾ الضَّمِيرُ في اسْمِهِ، عائِدٌ عَلى: الكَلِمَةُ، عَلى مَعْنى: نُبَشِّرُكِ بِمُكَوِّنٍ مِنهُ، أوْ بِمَوْجُودٍ مِنَ اللَّهِ. وسُمِّيَ المَسِيحَ؛ لِأنَّهُ مُسِحَ بِالبَرَكَةِ، قالَهُ الحَسَنُ، وسَعِيدٌ، وشَمِرٌ. أوْ: بِالدُّهْنِ ‌الَّذِي يُمْسَحُ بِهِ الأنْبِياءُ، خَرَجَ مِن بَطْنِ أُمِّهِ مَمْسُوحًا بِهِ، وهو دُهْنٌ طَيِّبُ الرّائِحَةِ إذا مُسِحَ بِهِ شَخْصٌ عُلِمَ أنَّهُ نَبِيٌّ. أوْ: بِالتَّطْهِيرِ مِنَ الذُّنُوبِ، أوْ: بِمَسْحِ جِبْرِيلَ لَهُ بِجَناحِهِ، أوْ: لِمَسْحِ رِجْلَيْهِ فَلَيْسَ فِيهِما خَمْصٌ، والأخْمَصُ ما تَجافى عَنِ الأرْضِ مِن باطِنِ الرِّجْلِ، وكانَ عِيسى أمْسَحَ القَدَمِ لا أخْمُصَ لَهُ. قالَ الشّاعِرُ:(p-٤٦٠) ؎باتَ يُقاسِيها غُلامٌ كالزَّلَمْ خَدَلَّجُ السّاقَيْنِ مَمْسُوحُ القَدَمْ أوْ: لِمَسْحِ الجِمالِ إيّاهُ، وهو ظُهُورُهُ عَلَيْهِ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎عَلى وجْهِ مَيٍّ مَسْحَةٌ مِن مَلاحَةٍ أوْ: لِمَسْحَةٍ مِنَ الأقْذارِ الَّتِي تَنالُ المَوْلُودِينَ؛ لِأنَّ أُمَّهُ كانَتْ لا تَحِيضُ، ولَمْ تُدَنَّسْ بِدَمِ نِفاسٍ. أقْوالٌ سَبْعَةٌ، ويَكُونُ: فَعِيلٌ، فِيها بِمَعْنى مَفْعُولٍ، والألِفُ واللّامُ في المَسِيحِ لِلْغَلَبَةِ؛ مِثْلُها في: الدَّبَرانُ، والعَيُّوقُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأنَّهُ كانَ لا يَمْسَحُ بِيَدِهِ ذا عاهَةٍ إلّا بَرِيءَ، فَعَلى هَذا يَكُونُ: فَعِيلٌ مَبْنِيًّا لِلْمُبالَغَةِ: كَعَلِيمٍ، ويَكُونُ مِنَ الأمْثِلَةِ الَّتِي حُوِّلَتْ مِن فاعِلٍ إلى فَعِيلٍ لِلْمُبالَغَةِ. وقِيلَ: مِنَ المِساحَةِ، وكانَ يَجُولُ في الأرْضِ فَكَأنَّهُ كانَ يَمْسَحُها. وقِيلَ: هو مُفْعِلٌ مِن ساحَ يَسِيحُ مِنَ السِّياحَةِ. وقالَ مُجاهِدٌ، والنَّخَعِيُّ: المَسِيحُ: الصِّدِّيقُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ: المَسِيحُ: المَلِكُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأنَّهُ مَلَكَ إحْياءَ المَوْتى، وغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: أصْلُهُ بِالعِبْرانِيَّةِ مَشِيحًا، فَغُيِّرَ، فَعَلى هَذا يَكُونُ اسْمًا مُرْتَجَلًا لَيْسَ هو مُشْتَقًّا مِنَ المَسْحِ ولا مِنَ السِّياحَةِ ﴿عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ الأبْناءُ يُنْسَبُونَ إلى الآباءِ، ونُسِبَ إلَيْها، وإنْ كانَ الخِطابُ لَها إعْلامًا أنَّهُ يُولَدُ مِن غَيْرِ أبٍ فَلا يُنْسَبُ إلّا إلَيْها. والظّاهِرُ أنَّ اسْمَهُ المَسِيحُ، فَيَكُونُ: اسْمُهُ المَسِيحُ: مُبْتَدَأً وخَبَرًا. وعِيسى: جَوَّزُوا فِيهِ أنْ يَكُونَ خَبَرًا، بَعْدَ خَبَرٍ، وأنْ يَكُونَ بَدَلًا، وأنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيانٍ. ومَنَعَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وقالَ: كانَ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ أسْماهُ عَلى المَعْنى، أوْ أسْماها عَلى لَفْظِ الكَلِمَةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ: عِيسى، خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: هو عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَدْعُو إلى هَذا كَوْنُ قَوْلِهِ: ابْنُ مَرْيَمَ، صِفَةٌ: لِعِيسى، إذْ قَدْ أجْمَعَ النّاسُ عَلى كَتْبِهِ دُونَ الألِفِ. وأمّا عَلى البَدَلِ، أوْ عَطْفِ البَيانِ، فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ: ابْنُ مَرْيَمَ، صِفَةً: لِعِيسى؛ لِأنَّ الِاسْمَ هُنا لَمْ يُرَدْ بِهِ الشَّخْصُ. هَذِهِ النَّزْعَةُ لِأبِي عَلِيٍّ، وفي صَدْرِ الكَلامِ نَظَرٌ، انْتَهى كَلامُهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإنْ قُلْتَ لِمَ قِيلَ: ﴿اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسى بْنُ مَرْيَمَ﴾ وهَذِهِ ثَلاثَةُ أشْياءَ الِاسْمُ مِنها: عِيسى، وأمّا: المَسِيحُ والِابْنُ: فَلَقَبٌ، وصِفَةٌ ؟ . قُلْتُ: الِاسْمُ لِلْمُسَمّى عَلامَةٌ يُعْرَفُ بِها، ويَتَمَيَّزُ مِن غَيْرِهِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ، ويَتَمَيَّزُ مِمَّنْ سِواهُ؛ مَجْمُوعُ هَذِهِ الثَّلاثَةِ، انْتَهى كَلامُهُ. ويَظْهَرُ مِن كَلامِهِ أنَّ اسْمَهُ مَجْمُوعُ هَذِهِ الثَّلاثَةِ، فَتَكُونُ الثَّلاثَةُ أخْبارًا عَنْ قَوْلِهِ: اسْمُهُ، ويَكُونُ مِن بابِ: هَذا حُلْوٌ حامِضٌ، وهَذا: أعْسَرُ يَسِرُ. فَلا يَكُونُ أحَدُها عَلى هَذا مُسْتَقِلًّا بِالخَبَرِيَّةِ. ونَظِيرُهُ في كَوْنِ الشَّيْئَيْنِ، أوِ الأشْياءِ في حُكْمِ شَيْءٍ واحِدٍ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎كَيْفَ أصْبَحْتَ كَيْفَ أمْسَيْتَ مِمّا ∗∗∗ يَزْرَعُ الوُدَّ في فُؤادِ الكَرِيمِ ؟ أيْ: مَجْمُوعُ هَذا مِمّا يَزْرَعُ الوِدُّ، فَلَمّا جازَ في المُبْتَدَأِ أنْ يَتَعَدَّدَ دُونَ حَرْفِ عَطْفٍ إذا كانَ المَعْنى عَلى المَجْمُوعِ، كَذَلِكَ يَجُوزُ في الخَبَرِ. وأجازَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ: ابْنُ مَرْيَمَ، خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ: هو ابْنُ مَرْيَمَ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِمّا قَبْلَهُ، ولا صِفَةً لِأنَّ: ابْنُ مَرْيَمَ، لَيْسَ بِاسْمٍ. ألا تَرى أنَّكَ لا تَقُولُ: اسْمُ هَذا الرَّجُلِ ابْنُ عَمْرٍو إلّا إذا كانَ عَلَمًا عَلَيْهِ ؟ انْتَهى. قالَ بَعْضُهم: ومَن قالَ إنَّ المَسِيحَ صِفَةٌ لِعِيسى، فَيَكُونُ في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: اسْمُهُ عِيسى المَسِيحُ، لِأنَّ الصِّفَةَ تابِعَةٌ لِمَوْصُوفِها انْتَهى. ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ المَسِيحُ في هَذا التَّرْكِيبِ صِفَةً، لِأنَّ المُخْبَرَ بِهِ عَلى هَذا اللَّفْظِ والمَسِيحَ مِن صِفَةِ المَدْلُولِ، لا مِن صِفَةِ الدّالِ؛ إذْ لَفْظُ عِيسى لَيْسَ المَسِيحَ. ومَن قالَ: إنَّهُما اسْمانِ تَقَدَّمَ المَسِيحُ عَلى عِيسى لِشُهْرَتِهِ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيُّ: وإنَّما بَدَأ بِلَقَبِهِ لِأنَّ: المَسِيحَ، أشْهَرُ مِن: عِيسى، لِأنَّهُ قَلَّ أنْ يَقَعَ عَلى سَمِيٍّ يُشْتَبَهُ، وعِيسى قَدْ يَقَعُ عَلى عَدَدٍ كَثِيرٍ، فَقَدَّمَهُ لِشُهْرَتِهِ. ألا تَرى أنَّ ألْقابَ الخُلَفاءِ أشْهَرُ مِن أسْمائِهِمْ ؟ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المَسِيحَ عِنْدَ ابْنِ الأنْبارِيِّ لَقَبٌ لا اسْمٌ. قالَ الزَّجّاجُ: وعِيسى مُعَرَّبٌ مِنَ: ايْسُوعَ، وإنْ جَعَلْتَهُ عَرَبِيًّا لَمْ يَنْصَرِفْ في مَعْرِفَةٍ، ولا (p-٤٦١)نَكِرَةٍ؛ لِأنَّ فِيهِ ألِفَ تَأْنِيثٍ، ويَكُونُ مُشْتَقًّا مِن: عاسَهُ يَعُوسُهُ، إذا ساسَهُ وقامَ عَلَيْهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُشْتَقٌّ مِنَ العِيسِ، كالرَّقْمِ في الماءِ. ﴿وجِيهًا في الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الوَجِيهُ ذُو الجاهِ، يُقالُ: وجُهَ الرَّجُلُ يُوجَهُ وجاهَةً. وقالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الوَجِيهُ المُحَبُّ المَقْبُولُ. وقالَ الأخْفَشُ: الشَّرِيفُ ذُو القَدْرِ والجاهِ. وقِيلَ: الكَرِيمُ عَلى مَن يَسْألُهُ، لِأنَّهُ لا يَرُدُّهُ لِكَرَمِ وجْهِهِ، ومَعْناهُ في حَقِّ عِيسى أنَّ وجاهَتَهُ في الدُّنْيا بِنُبُوَّتِهِ، وفي الآخِرَةِ بِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ. وقِيلَ: في الدُّنْيا بِالطّاعَةِ، وفي الآخِرَةِ بِالشَّفاعَةِ. وقِيلَ: في الدُّنْيا بِإحْياءِ المَوْتى وإبْراءِ الأكَمَةِ والأبْرَصِ، وفي الآخِرَةِ بِالشَّفاعَةِ. وقِيلَ: في الدُّنْيا كَرِيمًا لا يُرَدُّ وجْهُهُ، وفي الآخِرَةِ في عِلْيَةِ المُرْسَلِينَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الوَجاهَةُ في الدُّنْيا النُّبُوَّةُ والتَّقَدُّمُ عَلى النّاسِ، وفي الآخِرَةِ الشَّفاعَةُ وعُلُوُّ الدَّرَجَةِ في الجَنَّةِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وجاهَةُ عِيسى في الدُّنْيا نُبُوَّتُهُ وذَكَرُهُ ورَفَعَهُ، وفي الآخِرَةِ مَكانَتُهُ ونُعْمِيهُ وشَفاعَتُهُ. ﴿ومِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ مَعْناهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وكَوْنُهُ مِنَ المُقَرَّبِينَ رَفَعَهُ إلى السَّماءِ وصَحِبَتْهُ المَلائِكَةُ. وقالَ قَتادَةُ: ومِنَ المُقَرَّبِينَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيامَةِ. وقِيلَ: مِنَ النّاسِ بِالقَبُولِ والإجابَةِ، قالَهُ الماوَرْدِيُّ. وقِيلَ: مَعْناهُ: المُبالَغُ في تَقْرِيبِهِمْ؛ لِأنَّ ”فَعُلَ“ مِن صِيَغِ المُبالَغَةِ، فَقالَ: قَرَّبَهُ يُقَرِّبُهُ إذا بالَغَ في تَقْرِيبِهِ انْتَهى. ولَيْسَ ”فَعُلَ“ هُنا مِن صِيَغِ المُبالَغَةِ؛ لِأنَّ التَّضْعِيفَ هُنا لِلتَّعْدِيَةِ، إنَّما يَكُونُ لِلْمُبالَغَةِ في نَحْوِ: جَرَّحْتُ زَيْدًا، ومَوَّتَ النّاسَ. ﴿ومِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: وجِيهًا، وتَقْدِيرُهُ: ومُقَرَّبًا مِن جُمْلَةِ المُقَرَّبِينَ. أعْلَمَ تَعالى أنَّ ثَمَّ مُقَرَّبِينَ، وأنَّ عِيسى مِنهم. ونَظِيرُ هَذا العَطْفِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنَّكم لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وبِاللَّيْلِ﴾ [الصافات: ١٣٧] فَقَوْلُهُ: وبِاللَّيْلِ، جارٌّ ومَجْرُورٌ في مَوْضِعِ الحالِ، وهو مَعْطُوفٌ عَلى: مُصْبِحِينَ، وجاءَتْ هَذِهِ الحالُ هَكَذا؛ لِأنَّها مِنَ الفَواصِلِ، فَلَوْ جاءَ: ومُقَرَّبًا، لَمْ تَكُنْ فاصِلَةً، وأيْضًا فَأعْلَمَ تَعالى أنَّ عِيسى مُقَرَّبٌ مِن جُمْلَةِ المُقَرَّبِينَ، والتَّقْرِيبُ صِفَةٌ جَلِيلَةٌ عَظِيمَةٌ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿ولا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ﴾ [النساء: ١٧٢] ؟ وقَوْلِهِ: ﴿فَأمّا إنْ كانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ﴾ [الواقعة: ٨٨] وهو تَقْرِيبٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى بِالمَكانَةِ، والشَّرَفِ وعُلُوِّ المَنزِلَةِ. ﴿ويُكَلِّمُ النّاسَ في المَهْدِ وكَهْلًا﴾ وعَطَفَ: ويُكَلِّمُ، وهو حالٌ أيْضًا عَلى: وجِيهًا، ونَظِيرُهُ: ﴿إلى الطَّيْرِ فَوْقَهم صافّاتٍ ويَقْبِضْنَ﴾ [الملك: ١٩] أيْ: وقابِضاتٍ. وكَذَلِكَ: ويُكَلِّمُ، أيْ: ومُكَلِّمًا. وأتى في الحالِ الأُولى بِالِاسْمِ؛ لِأنَّ الِاسْمَ هو لِلثُّبُوتِ، وجاءَتِ الحالُ الثّانِيَةُ جارًّا ومَجْرُورًا لِأنَّهُ يُقَيَّدُ بِالِاسْمِ. وجاءَتِ الحالَةُ الثّالِثَةُ جُمْلَةً؛ لِأنَّها في الرُّتْبَةِ الثّالِثَةِ. ألا تَرى أنَّ الحالَ وصْفٌ في المَعْنى ؟ فَكَما أنَّ الأحْسَنَ والأكْثَرَ في لِسانِ العَرَبِ، أنَّهُ إذا اجْتَمَعَ أوْصافٌ مُتَغايِرَةٌ بُدِئَ بِالِاسْمِ، ثُمَّ الجارِّ والمَجْرُورِ، ثُمَّ بِالجُمْلَةِ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِن آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانَهُ﴾ [غافر: ٢٨] فَكَذَلِكَ الحالُ، بُدِئَ بِالِاسْمِ، ثُمَّ الجارِّ والمَجْرُورِ، ثُمَّ بِالجُمْلَةِ، وكانَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُضارِعِيَّةً لِأنَّ الفِعْلَ يُشْعِرُ بِالتَّجَدُّدِ، كَما أنَّ الِاسْمَ يُشْعِرُ بِالثُّبُوتِ، ويَتَعَلَّقُ: في المَهْدِ، بِمَحْذُوفٍ إذْ هو في مَوْضِعِ الحالِ، التَّقْدِيرُ: كائِنًا في المَهْدِ وكَهْلًا، مَعْطُوفٌ عَلى هَذِهِ الحالِ، كَأنَّهُ قِيلَ: طِفْلًا وكَهْلًا، فَعُطِفَ صَرِيحُ الحالِ عَلى الجارِّ والمَجْرُورِ الَّذِي في مَوْضِعِ الحالِ. ونَظِيرُهُ عَكْسًا: ﴿وإنَّكم لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وبِاللَّيْلِ﴾ [الصافات: ١٣٧] ومَن زَعَمَ أنَّ: وكَهْلًا، مَعْطُوفٌ عَلى: وجِيهًا، فَقَدْ أبْعَدَ. والمَهْدُ: مَقَرُّ الصَّبِيِّ في رِضاعِهِ، وأصْلُهُ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ، يُقالُ: مَهَّدْتُ لِنَفْسِي بِتَخْفِيفِ الهاءِ وتَشْدِيدِها، أيْ: وطَّأْتُ، ويُقالُ: أمْهَدَ الشَّيْءُ: ارْتَفَعَ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الكَهْلِ لُغَةً. وقالَ مُجاهِدٌ: الكَهْلُ الحَلِيمُ، وهَذا تَفْسِيرٌ بِاللّازِمِ غالِبًا، لِأنَّ الكَهْلَ يَقْوى عَقْلُهُ وإدْراكُهُ وتَجْرِبَتُهُ، فَلا يَكُونُ في ذَلِكَ كالشّارِخِ، والعَرَبُ تَتَمَدَّحُ بِالكُهُولَةِ، قالَ: ؎وما ضَرَّ مَن كانَتْ بَقاياهُ مِثْلَنا ∗∗∗ شَبابٌ تَسامى لِلْعُلى وكُهُولُ ولِذَلِكَ خُصَّ هَذا السِّنُّ في الآيَةِ دُونَ سائِرِ العُمْرِ؛ لِأنَّها الحالَةُ الوُسْطى في اسْتِحْكامِ العَقْلِ وجَوْدَةِ الرَّأْيِ، وفي قَوْلِهِ: وكَهْلًا، تَبْشِيرٌ بِأنَّهُ يَعِيشُ إلى سِنِّ الكُهُولَةِ، قالَهُ الرَّبِيعُ، ويُقالُ: إنَّ مَرْيَمَ ولَدَتْهُ لِثَمانِيَةِ (p-٤٦٢)أشْهُرٍ، ومَن وُلِدَ لِذَلِكَ لَمْ يَعِشْ، فَكانَ ذَلِكَ بِشارَةً لَها بِعَيْشِهِ إلى هَذا السِّنِّ. وقِيلَ: كانَتِ العادَةُ أنَّ مَن تَكَلَّمَ في المَهْدِ ماتَ، وفي قَوْلِهِ: ﴿فِي المَهْدِ وكَهْلًا﴾ إشارَةٌ إلى تَقَلُّبِ الأحْوالِ عَلَيْهِ، ورَدٌّ عَلى النَّصارى في دَعْواهم إلَهِيَّتِهِ. وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَهُ إعْلامًا بِهِ أنَّهُ يَكْتَهِلُ، فَإذا أُخْبِرَتْ بِهِ مَرْيَمُ عُلِمَ أنَّهُ مِن عِلْمِ الغَيْبِ. واخْتُلِفَ في كَلامِهِ: في المَهْدِ، أكانَ ساعَةً واحِدَةً، ثُمَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتّى بَلَغَ مَبْلَغَ النُّطْقِ ؟ أوْ كانَ يَتَكَلَّمُ دائِمًا في المَهْدِ حَتّى بَلَغَ إبّانَ الكَلامِ ؟ قَوْلانِ: الأوَّلُ: عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. ونَقَلَ الثَّعالِبِيُّ أشْياءَ مِن كَلامِهِ لِأُمِّهِ، وهو مُرْضَعٌ، والظّاهِرُ أنَّهُ كانَ حِينَ كَلَّمَ النّاسَ في المَهْدِ نَبِيًّا لِقَوْلِهِ: ﴿إنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الكِتابَ وجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ [مريم: ٣٠] ولِظُهُورِ هَذِهِ المُعْجِزَةِ مِنهُ والتَّحَدِّي بِها. وقِيلَ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا في ذَلِكَ الوَقْتِ، وإنَّما كانَ الكَلامُ تَأْسِيسًا لِنُبُوَّتِهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿وجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ [مريم: ٣٠] إخْبارًا عَمّا يَئُولُ إلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وأوْصانِي بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ﴾ [مريم: ٣١] ولَمْ يَتَعَرَّضْ لِوَقْتِ كَلامِهِ إذا كانَ كَهْلًا، فَقِيلَ: كَلامُهُ قَبْلَ رَفْعِهِ إلى السَّماءِ كَلَّمَهم بِالوَحْيِ والرِّسالَةِ. وقِيلَ: يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كَهْلًا ابْنُ ثَلاثٍ وثَلاثِينَ سَنَةً، فَيَقُولُ لَهم: إنِّي عَبْدُ اللَّهِ، كَما قالَ في المَهْدِ، وهَذِهِ فائِدَةُ قَوْلِهِ: وكَهْلًا، أخْبَرَ أنَّهُ يَنْزِلُ عِنْدَ قَتْلِهِ الدَّجّالَ كَهْلًا، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْناهُ: ويُكَلِّمُ النّاسَ في هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ كَلامَ الأنْبِياءِ مِن غَيْرِ تَفاوُتٍ بَيْنَ حالِ الطُّفُولَةِ، وحالِ الكُهُولَةِ الَّتِي يَسْتَحْكِمُ فِيها العَقْلُ، ويُنَبَّأُ فِيها الأنْبِياءُ انْتَهى. قِيلَ: وتَكَلَّمَ في المَهْدِ سَبْعَةٌ: عِيسى، ويَحْيى، و شاهِدُ يُوسُفَ، وصاحِبُ جُرَيْجٍ. وصَبِيُّ ماشِطَةِ امْرَأةِ فِرْعَوْنَ، وصاحِبُ الجَبّارِ، وصاحِبُ الأُخْدُودِ، وقَصَصُ هَؤُلاءِ مَرْوِيَّةٌ، ولا يُعارِضُ هَذا ما جاءَ مِن حَصْرِ مَن تَكَلَّمَ رَضِيعًا في ثَلاثَةٍ؛ لِأنَّ ذَلِكَ كانَ إخْبارًا قَبْلَ أنْ يُعْلِمَ بِالباقِينَ، فَأخْبَرَ عَلى سَبِيلِ ما أعْلَمَ بِهِ أوَّلًا، ثُمَّ أعْلَمُ بِالباقِينَ. ﴿ومِنَ الصّالِحِينَ﴾ أيْ: وصالِحًا مِن جُمْلَةِ الصّالِحِينَ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الصَّلاحِ المَوْصُوفِ بِهِ الأنْبِياءُ. وانْتِصابُ: وجِيهًا، وما عُطِفَ عَلَيْهِ عَلى الحالِ مِن قَوْلِهِ: بِكَلِمَةٍ مِنهُ، وحَسُنَ ذَلِكَ، وإنْ كانَ نَكِرَةً، كَوْنُهُ وُصِفَ بِقَوْلِهِ: مِنهُ، وبِقَوْلِهِ: مِنهُ، وبِقَوْلِهِ: اسْمُهُ المَسِيحُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب