الباحث القرآني

(p-٤٤٧)﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكم وأوْفُوا بِعَهْدِي أوْفِ بِعَهْدِكم وإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ انْتِقالٌ مِن مَوْعِظَةِ المُشْرِكِينَ إلى مَوْعِظَةِ الكافِرِينَ مِن أهْلِ الكِتابِ، وبِذَلِكَ تَتِمُّ مَوْعِظَةُ الفِرَقِ المُتَقَدَّمُ ذِكْرُها، لِأنَّ فَرِيقَ المُنافِقِينَ لا يَعْدُوا أنْ يَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ أوْ مِن أهْلِ الكِتابِ اليَهُودِ، ووُجِّهَ الخِطابُ هُنا إلى بَنِي إسْرائِيلَ وهم أشْهَرُ الأُمَمِ المُتَدَنِّيَةِ ذاتِ الكِتابِ الشَّهِيرِ والشَّرِيعَةِ الواسِعَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ هَذا القُرْآنَ جاءَ يَهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ فَكانَتْ هاتِهِ السُّورَةُ الَّتِي هي فُسْطاطُهُ مُشْتَمِلَةً عَلى الغَرَضِ الَّذِي جاءَ لِأجْلِهِ، وقَدْ جاءَ الوَفاءُ بِهَذا الغَرَضِ عَلى أبْدَعِ الأسالِيبِ وأكْمَلِ وُجُوهِ البَلاغَةِ فَكانَتْ فاتِحَتُها في التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ هَذا الكِتابِ وآثارِ هَدْيِهِ وما يَكْتَسِبُ مُتَّبِعُوهُ مِنَ الفَلّاحِ دُنْيا وأُخْرى، وبِالتَّحْذِيرِ مِن سُوءِ مَغَبَّةِ مَن يُعْرِضُ عَنْ هَدْيِهِ ويَتَنَكَّبُ طَرِيقَهُ، ووَصَفَ في خِلالِ ذَلِكَ أحْوالَ النّاسِ تُجاهَ تَلَقِّي هَذا الكِتابِ مِن مُؤْمِنٍ وكافِرٍ ومُنافِقٍ، بَعْدَ ذَلِكَ أقْبَلَ عَلى أصْنافِ أُولَئِكَ بِالدَّعْوَةِ إلى المَقْصُودِ، وقَدِ انْحَصَرَ الأصْنافُ الثَّلاثَةُ مِنَ النّاسِ المُتَلَقِّينَ لِهَذا الكِتابِ بِالنِّسْبَةِ لِحالِهِمْ تُجاهَ الدَّعْوَةِ الإسْلامِيَّةِ في صِنْفَيْنِ لِأنَّهم إمّا مُشْرِكٌ أوْ مُتَدَيِّنٌ أيْ كِتابِيٌّ، إذْ قَدِ انْدَرَجَ صِنْفُ المُنافِقِينَ في الصِّنْفِ المُتَدَيِّنِ لِأنَّهم مِنَ اليَهُودِ كَما قَدَّمْناهُ. فَدَعا المُشْرِكِينَ إلى عِبادَتِهِ تَعالى بِقَوْلِهِ ﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] فالنّاسُ إنْ كانَ المُرادُ بِهِ المُشْرِكِينَ كَما هو اصْطِلاحُ القُرْآنِ غالِبًا كَما تَقَدَّمَ فَظاهِرٌ. وإنْ كانَ المُرادُ بِهِ كُلَّ النّاسِ فَقَوْلُهُ ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] يَخْتَصُّ بِهِمْ لا مَحالَةَ إذْ لَيْسَ المُؤْمِنُونَ بِداخِلِينَ في ذَلِكَ، وذَكَّرَهم بِدَلائِلِ الصَّنْعَةِ وهي خَلْقُ أُصُولِهِمْ وبِأُصُولِ نِعَمِ الحَياةِ وهي خَلْقُ الأرْضِ والسَّماءِ وإنْزالُ الماءِ مِنَ السَّماءِ لِإخْراجِ الثَّمَراتِ، وعَجِبَ مِن كُفْرِهِمْ مَعَ ظُهُورِ دَلائِلِ إثْباتِ الخالِقِ مِنَ الحَياةِ والمَوْتِ، وذَكَّرَهم بِنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وهي نِعْمَةُ تَكْرِيمِ أصْلِهِمْ وتَوْبَتُهُ عَلى أبِيهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ اقْتِصارٌ عَلى القَدْرِ الثّابِتِ في فِطْرَتِهِمْ إذْ لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِمْ مِنَ الأُصُولِ الدِّينِيَّةِ ما يُمْكِنُ أنْ يُجْعَلَ مَرْجِعًا في المُحاوَرَةِ والمُجادَلَةِ يَقْتَنِعُونَ بِهِ، وخاطَبَهم في شَأْنِ إثْباتِ صِدْقِ الرَّسُولِ خِلالَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الَّذِي تُدْرِكُهُ أذْواقُهُمُ البَلاغِيَّةُ فَقالَ ﴿وإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] الآياتِ. ولَمّا قَضى ذَلِكَ كُلَّهَ حَقَّهُ أقْبَلَ بِالخِطابِ هُنا عَلى الصِّنْفِ الثّانِي وهم أهْلُ الشَّرائِعِ والكِتابِ وخَصَّ مِن (p-٤٤٨)بَيْنِهِمْ بَنِي إسْرائِيلَ لِأنَّهم أمْثَلُ أُمَّةٍ ذاتِ كِتابٍ مَشْهُورٍ في العالَمِ كُلِّهِ، وهُمُ الأوْحِداءُ بِهَذا الوَصْفِ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ السّاكِنِينَ المَدِينَةَ وما حَوْلَها، وهم أيْضًا الَّذِينَ ظَهَرَ مِنهُمُ العِنادُ والنِّواءُ لِهَذا الدِّينِ، ومِن أجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَدْعُ اليَهُودَ إلى تَوْحِيدٍ ولا اعْتِرافٍ بِالخالِقِ لِأنَّهم مُوَحِّدُونَ ولَكِنَّهُ دَعاهم إلى تَذَكُّرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وإلى ما كانَتْ تُلاقِيهِ أنْبِياؤُهم مِن مُكَذِّبِيهِمْ، لِيَذْكُرُوا أنَّ تِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ ولِيَرْجِعُوا عَلى أنْفُسِهِمْ بِمِثْلِ ما كانُوا يُؤَنِّبُونَ بِهِ مَن كَذَّبَ أنْبِياءَهم وذَكَّرَهم بِبِشاراتِ رُسُلِهِمْ وأنْبِيائِهِمْ بِنَبِيٍّ يَأْتِي بَعْدَهم. ولِتَوْجِيهِ الخِطابِ إلَيْهِمْ طَرِيقَةٌ أُخْرى وهي أنَّهُ جادَلَهم بِالأدِلَّةِ الدِّينِيَّةِ العِلْمِيَّةِ وإثْباتِ صِدْقِ الرِّسالَةِ بِما تَعارَفُوهُ مِن أحْوالِ الرُّسُلِ، ولَمْ يُعَرِّجْ لَهم عَلى إثْباتِ الصِّدْقِ بِدَلالَةِ مُعْجِزَةِ القُرْآنِ إذْ لَمْ يَكُونُوا مِن فُرْسانِ هَذا المَيْدانَ كَما قَدَّمْناهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما﴾ [البقرة: ٢٦] فَكانَ خِطابُهم هُنا بِالدَّلائِلِ الدِّينِيَّةِ وبِحُجَجِ الشَّرِيعَةِ المُوسَوِيَّةِ لِيَكُونَ دَلِيلُ صِدْقِ الرَّسُولِ في الِاعْتِبارِ بِحالِهِ وأنَّهُ جاءَ عَلى وِفاقِ أحْوالِ إخْوانِهِ المُرْسَلِينَ السّابِقِينَ. وقَدْ أفاضَ القُرْآنُ في ذَلِكَ وتَدَرَّجَ فِيهِ مِن دَرَجَةٍ إلى أُخْتِها بِأُسْلُوبٍ بَدِيعٍ في مُجادَلَةِ المُخاطَبِينَ وأفادَ فِيهِ تَعْلِيمَ المُسْلِمِينَ حَتّى لا يَفُوتَهم عُلَماءُ بَنِي إسْرائِيلَ قالَ تَعالى ﴿أوَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ آيَةً أنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [الشعراء: ١٩٧] فَقَدْ كانَ العِلْمُ يَوْمَئِذٍ مَعْرِفَةَ التَّشْرِيعِ ومَعْرِفَةَ أخْبارِ الأنْبِياءِ والأُمَمِ الماضِيَةِ وأحْوالِ العالَمَيْنِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ مَعَ الوِصاياتِ الأدَبِيَّةِ والمَواعِظِ الأخْلاقِيَّةِ، فَبِذَلِكَ كانَ اليَهُودُ يَفُوقُونَ العَرَبَ، ومِن أجْلِهِ كانَتِ العَرَبُ تَسْتَرْشِدُهم في الشُّئُونِ وبِهِ امْتازَ اليَهُودُ عَلى العَرَبِ في بِلادِهِمْ بِالفِكْرَةِ المَدَنِيَّةِ. وكانَ عِلْمُ عامَّةِ اليَهُودِ في هَذا الشَّأْنِ ضَعِيفًا، وإنَّما انْفَرَدَتْ بِعِلْمِهِ عُلَماؤُهم وأحْبارُهم فَجاءَ القُرْآنُ في هاتِهِ المُجادَلاتِ مُعْلِمًا أيْضًا لِلْمُسْلِمِينَ ومُلْحِقًا لَهم بِعُلَماءِ بَنِي إسْرائِيلَ حَتّى تَكُونَ الدَّرَجَةُ العُلْيا لَهم لِأنَّهم يَضُمُّونَ هَذا العِلْمَ إلى عُلُومِهِمُ اللِّسانِيَّةِ ونَباهَتِهِمُ الفِكْرِيَّةِ فَتُصْبِحَ عامَّةُ المُسْلِمِينَ مُساوِيَةً في العِلْمِ لِخاصَّةِ الإسْرائِيلِيِّينَ وهَذا مَعْنًى عَظِيمٌ مِن مَعانِي تَعْمِيمِ التَّعْلِيمِ والإلْحاقِ في مُسابَقَةِ التَّمُدْيُنِ. وبِهِ تَنْكَشِفُ لَكم حِكْمَةٌ مِن حِكَمِ تَعَرُّضِ القُرْآنِ لِقِصَصِ الأُمَمِ وأحْوالِهِمْ فَإنَّ في ذَلِكَ مَعَ العِبْرَةِ تَعْلِيمًا اصْطِلاحِيًّا. ولَقَدْ نَعُدُّ هَذا مِن مُعْجِزاتِ القُرْآنِ وهو أنَّهُ شَرَحَ مِن أحْوالِ بَنِي إسْرائِيلَ ما لا يَعْلَمُهُ إلّا أحْبارُهم وخاصَّتُهم مَعَ حِرْصِهِمْ عَلى كِتْمانِهِ والِاسْتِئْثارِ بِهِ (p-٤٤٩)خَشْيَةَ المُزاحَمَةِ في الجاهِ والمَنافِعِ فَجاءَ القُرْآنُ عَلى لِسانِ أبْعَدِ النّاسِ عَنْهم وعَنْ عِلْمِهِمْ صادِعًا بِما لا يَعْلَمُهُ غَيْرُ خاصَّتِهِمْ فَكانَتْ هَذِهِ المُعْجِزَةُ لِلْكِتابِيِّينَ قائِمَةً مَقامَ المُعْجِزَةِ البَلاغِيَّةِ لِلْأُمِّيِّينَ. وقَدْ تَقَدَّمَ الإلْمامُ بِهَذا في المُقَدِّمَةِ السّابِعَةِ. وقَدْ رُوعِيَتْ في هَذا الِانْتِقالِ مُسايَرَةُ تَرْتِيبِ كُتُبِ التَّوْراةِ إذْ عَقَّبَتْ كِتابَ التَّكْوِينِ بِكِتابِ الخُرُوجِ أيْ وصْفِ أحْوالِ بَنِي إسْرائِيلَ في مُدَّةِ فِرْعَوْنَ ثُمَّ بَعْثَةِ مُوسى وقَدِ اقْتَصَرَ مِمّا في سِفْرِ التَّكْوِينِ عَلى ذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ وإسْكانِهِ الأرْضَ لِأنَّهُ مَوْضِعُ العِبْرَةِ وانْتَقَلَ مِن ذَلِكَ إلى أحْوالِ بَنِي إسْرائِيلَ لِأنَّ فِيها عِبَرًا جَمَّةً لَهم ولِلْأُمَّةِ. فَقَوْلُهُ ﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ﴾ خِطابٌ لِذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ وفي ذُرِّيَّتِهِ انْحَصَرَ سائِرُ الأُمَّةِ اليَهُودِيَّةِ، وقَدْ خاطَبَهم بِهَذا الوَصْفِ دُونَ أنْ يَقُولَ يا أيُّها اليَهُودُ لِكَوْنِهِ هو اسْمَ القَبِيلَةِ أمّا اليَهُودُ فَهو اسْمُ النِّحْلَةِ والدِّيانَةِ ولِأنَّ مَن كانَ مُتَّبِعًا دِينَ اليَهُودِيَّةِ مِن غَيْرِ بَنِي إسْرائِيلَ كَحِمْيَرَ لَمْ يُعَتَدَّ بِهِمْ لِأنَّهم تَبَعٌ لِبَنِي إسْرائِيلَ فَلَوْ آمَنَ بَنُو إسْرائِيلَ بِالنَّبِيءِ ﷺ لَآمَنَ أتْباعُهم لِأنَّ المُقَلِّدَ تَبَعٌ لِمُقَلِّدِهِ. ولِأنَّ هَذا الخِطابَ لِلتَّذْكِيرِ بِنِعَمٍ أنْعَمَ اللَّهُ بِها عَلى أسْلافِهِمْ وكَراماتٍ أكْرَمَهم بِها فَكانَ لِنِدائِهِمْ بِعُنْوانِ كَوْنِهِمْ أبْناءَ يَعْقُوبَ وأعْقابَهُ مَزِيدُ مُناسَبَةٍ لِذَلِكَ ألا تَرى أنَّهُ لَمّا ذُكِّرُوا بِعُنْوانِ التَّدَيُّنِ بِدِينِ مُوسى ذُكِّرُوا بِوَصْفِ الَّذِينَ هادُوا في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا﴾ [البقرة: ٦٢] الآيَةَ كَما سَيَأْتِي قَرِيبًا. وتَوْجِيهُ الخُطّابِ إلى جَمِيعِ بَنِي إسْرائِيلَ يَشْمَلُ عُلَماءَهم وعامَّتَهم لِأنَّ ما خُوطِبُوا بِهِ هو مِنَ التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلى أسْلافِهِمْ وبِعَهْدِ اللَّهِ لَهم. وكَذَلِكَ نَجِدُ خِطابَهم في الأغْراضِ الَّتِي يُرادُ مِنها التَّسْجِيلُ عَلى جَمِيعِهِمْ يَكُونُ بِنَحْوِ يا أهْلَ الكِتابِ أوْ بِوَصْفِ اليَهُودِ الَّذِينَ هادُوا أوْ بِوَصْفِ النَّصارى، فَأمّا إذا كانَ الغَرَضُ التَّسْجِيلَ عَلى عُلَمائِهِمْ نَجِدُ القُرْآنَ يُعَنْوِنُهم بِوَصْفِ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ [البقرة: ١٠١] أوِ ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ﴾ [البقرة: ١٢١] وقَدْ يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ بِكَوْنِ الخَبَرِ المَسُوقِ مِمّا يُناسِبُ عُلَماءَهم خاصَّةً مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنهم يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وهم يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٧٥] . . ونَحْوَ ﴿ولا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٤١] ونَحْوَ ﴿ولا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالباطِلِ وتَكْتُمُوا الحَقَّ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٤٢] ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بِأيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٧٩] الآيَةَ ﴿ولَمّا جاءَهم كِتابٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهم وكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهم ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩] ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلْنا مِنَ البَيِّناتِ والهُدى مِن بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ في الكُتّابِ أُولَئِكَ (p-٤٥٠)يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ١٥٩] ﴿ولَئِنْ أتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ [البقرة: ١٤٥] الآيَةَ. فَإذا جاءَ الخِطابُ بِأُسْلُوبٍ شامِلٍ لِعُلَمائِهِمْ وعامَّتِهِمْ صُرِفَ إلى كُلِّ طائِفَةٍ مِنَ الطّائِفَتَيْنِ ما هو لائِقٌ بِها. وبَنُونَ مِمّا أُلْحِقَ بِجَمْعِ المُذَكَّرِ السّالِمِ ولَيْسَ مِنهُ لِأنَّهُ دَخَلَهُ التَّكْسِيرُ بِحَذْفِ لامِهِ وزِيادَةِ هَمْزَةِ الوَصْلِ في أوَّلِهِ فَحَقُّهُ أنْ يُجْمَعَ عَلى أبْناءٍ. وقَدِ اخْتُلِفَ في أصْلِ ابْنٍ فَقِيلَ هو مُشْتَقٌّ مِن بَنى أيْ فَهو مَصْدَرٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ كالخَلْقِ فَأصْلُهُ بَنْيٌ أيْ مَبْنِيٌّ لِأنَّ أباهُ بَناهُ وكَوَّنَهُ فَحُذِفَتْ لامُهُ لِلتَّخْفِيفِ وعُوِّضَ عَنْها هَمْزَةُ الوَصْلِ فَفِيهِ مُناسَبَةٌ في مَعْنى الِاشْتِقاقِ إلّا أنَّ الحَذْفَ حِينَئِذٍ عَلى غَيْرِ قِياسٍ لِأنَّ الياءَ لا مُوجِبَ لِحَذْفِها إلّا أنْ يُتَكَلَّفَ لَهُ بِأنَّ الياءَ تَحَرَّكَتْ مَعَ سُكُونِ ما قَبْلَها فَنُقِلَتْ حَرَكَتُها لِلسّاكِنِ إجْراءً لَهُ مُجْرى عَيْنِ الكَلِمَةِ ثُمَّ لَمّا انْقَلَبَ ألِفًا عَلى تِلْكَ القاعِدَةِ خِيفَ التِباسُهُ بِفِعْلِ بَنى فَحُذِفَتِ اللّامُ وعُوِّضَ عَنْها هَمْزَةُ الوَصْلِ. وقِيلَ أصْلُهُ واوٌ عَلى وزْنِ بَنْوٍ أوْ بَنَوٍ بِسُكُونِ النُّونِ أوْ بِالتَّحْرِيكِ فَحُذِفَتِ الواوُ كَما حُذِفَتْ مِن نَظائِرِهِ نَحْوَ أخٍ وأبٍ وفي هَذا الوَجْهِ بُعْدٌ عَنِ الِاشْتِقاقِ وبُعْدٌ عَنْ نَظائِرِهِ لِأنَّ نَظائِرَهُ لَمّا حُذِفَتْ لاماتُها لَمْ تُعَوِّضْ عَنْها هَمْزَةُ الوَصْلِ. وإسْرائِيلُ لَقَبُ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ مَعْناهُ عَبْدُ اللَّهِ، لِأنَّ (إسْرا) بِمَعْنى عَبْدٍ و(إيلُ) اسْمُ اللَّهِ أيْ مُرَكَّبٌ مِن كَلِمَتَيْنِ (إسْرا) و(إيلُ) اسْمُ اللَّهِ تَعالى كَما يَقُولُونَ بَيْتُ إيلَ اسْمٌ لِقَرْيَةٍ تُسَمّى، لَوْزَ، مِن أرْضِ كَنْعانَ نَزَلَها يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ في مُهاجَرِهِ فِرارًا مِن أخِيهِ عِيسُو وبَنى فِيها مَذْبَحًا ودَعا اسْمَهُ بَيْتَ إيلَ. والَّذِي في كُتُبِ اليَهُودِ أنَّ سَبَبَ تَسْمِيَةِ يَعْقُوبَ إسْرائِيلَ أنَّهُ لَمّا كانَ خائِفًا في مُهاجَرِهِ مِن أنْ يَلْحَقَهُ أخُوهُ عِيسُو لِيَنْتَقِمَ مِنهُ عَرَضَ لَهُ في إحْدى اللَّيالِي شَخْصٌ فَعَلِمَ يَعْقُوبُ أنَّهُ رَبُّهُ أيْ مَلَكٌ مِن مَلائِكَةِ اللَّهِ فَأمْسَكَهُ وصارَعَهُ يَعْقُوبُ كامِلَ اللَّيْلِ إلى طُلُوعِ الفَجْرِ فَقالَ لَهُ أطْلِقْنِي فَقَدْ طَلَعَ الفَجْرُ فَقالَ لَهُ يَعْقُوبُ لا أُطْلِقُكَ حَتّى تُبارِكَنِي فَقالَ لَهُ ما اسْمُكَ قالَ يَعْقُوبُ قالَ لَهُ لا يُدْعى اسْمُكَ يَعْقُوبَ بَعْدَ اليَوْمِ بَلْ أنْتَ (p-٤٥١)إسْرائِيلُ لِأنَّكَ جاهَدْتَ اللَّهَ والنّاسَ وقَدَرْتَ، وبارَكَهُ هُناكَ. فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ (إسْرا) في هَذا الِاسْمِ راجِعٌ إلى مَعْنى الأسْرِ في الحَرْبِ كَما هو في العَرَبِيَّةِ فَإذا كانَ هَذا مِن أصْلِ التَّوْراةِ فَهو عَلى تَأْوِيلِ رُؤْيا رَآها يَعْقُوبُ جَعَلَ اللَّهُ بِها لَهُ شَرَفًا أوْ عَرَضَ لَهُ مَلَكٌ كَذَلِكَ. ثُمَّ إنَّ يَعْقُوبَ لَهُ اثْنا عَشَرَ أبْناؤُهُمُ المَشْهُورُونَ بِالأسْباطِ لِأنَّهم أسْباطُ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ وإلى هَؤُلاءِ الأسْباطِ يَرْجِعُ نَسَبُ جَمِيعِ بَنِي إسْرائِيلَ وسَيَأْتِي ذِكْرُ الأسْباطِ في هَذِهِ السُّورَةِ. واذْكُرُوا أمْرٌ مِنَ الذِّكْرِ وهو أيِ الذِّكْرُ بِكَسْرِ الذّالِ وضَمِّها يُطْلَقُ عَلى خُطُورٍ شَيْءٍ بِبالِ مَن نَسِيَهُ ولِذَلِكَ قِيلَ، وكَيْفَ يَذْكُرُهُ مَن لَيْسَ يَنْساهُ، ويُطْلَقُ عَلى النُّطْقِ بِاسْمِ الشَّيْءِ الخاطِرِ بِبالِ النّاسِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى التَّصْرِيحِ بِالدّالِ مُطْلَقًا لِأنَّ الشَّأْنَ أنَّ أحَدًا لا يَنْطِقُ بِاسْمِ الشَّيْءِ إلّا إذا خَطَرَ بِبالِهِ، وقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ بَيْنَ مَكْسُورِ الذّالِ ومَضْمُومِهِ فَجَعَلَ المَكْسُورَ لِلِّسانِيِّ والمَضْمُومَ لِلْعَقْلِيِّ ولَعَلَّها تَفْرِقَةٌ اسْتِعْمالِيَّةٌ مُوَلَّدَةٌ إذْ لا يُحْجَرُ عَلى المُسْتَعْمِلِ تَخْصِيصُهُ أحَدَ مَصْدَرَيِ الفِعْلِ الواحِدِ لِأحَدِ مَعانِي الفِعْلِ عِنْدَ التَّعْبِيرِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ اصْطِلاحِيًّا اسْتِعْمالِيًّا لا وضْعًا حَتّى يَكُونَ مِنَ المُتَرادِفِ إذِ اتِّحادُ الفِعْلِ مانِعٌ مِن دَعْوى تَرادُفِ المَصْدَرَيْنِ فَقَدَ قالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أفْضَلُ مِن ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أمْرِهِ ونَهْيِهِ فَسَمّى النَّوْعَيْنِ ذِكْرًا. والمَقْصُودُ هُنا الذِّكْرُ العَقْلِيُّ إذْ لَيْسَ المُرادُ ذِكْرَ النِّعْمَةِ بِاللِّسانِ. والمُرادُ بِالنِّعْمَةِ هُنا جَمِيعُ ما أنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلى المُخاطَبِينَ مُباشَرَةً أوْ بِواسِطَةِ الإنْعامِ عَلى أسْلافِهِمْ فَإنَّ النِّعْمَةَ عَلى الأسْلافِ نِعْمَةٌ عَلى الأبْناءِ لِأنَّها سُمْعَةٌ لَهم، وقُدْوَةٌ يَقْتَدُونَ بِها، وبَرَكَةٌ تَعُودُ عَلَيْهِمْ مِنها، وصَلاحُ حالِهِمُ الحاضِرِ كانَ بِسَبَبِها، وبَعْضُ النِّعَمِ يَكُونُ فِيما فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الإنْسانَ مِن فِطْنَةٍ وسَلامَةِ ضَمِيرٍ وتِلْكَ قَدْ تُورَثُ في الأبْناءِ. ولَوْلا تِلْكَ النِّعَمُ لَهَلَكَ سَلَفُهم أوْ لَساءَتْ حالُهم فَجاءَ أبْناؤُهم في شَرِّ حالٍ. فَيَشْمَلُ هَذا جَمِيعَ النِّعَمِ الَّتِي أنْعَمَ اللَّهُ بِها عَلَيْهِمْ فَهو بِمَنزِلَةِ اذْكُرُوا نِعَمِي عَلَيْكم. وهَذا العُمُومُ مُسْتَفادٌ مِن إضافَةِ نِعْمَةٍ إلى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعالى إذِ الإضافَةُ تَأْتِي لِما تَأْتِي لَهُ اللّامُ ولا يَسْتَقِيمُ مِن مَعانِي اللّامِ العَهْدُ إذْ لَيْسَ في الكَلامِ نِعْمَةٌ مُعَيَّنَةٌ مَعْهُودَةٌ، ولا يَسْتَقِيمُ مَعْنى اللّامِ الجِنْسِيَّةِ، فَتَعَيَّنَ أنْ تَكُونَ الإضافَةُ عَلى مَعْنى لامِ الِاسْتِغْراقِ فالعُمُومُ حَصَلَ مِن إضافَةِ نِعْمَةٍ إلى المَعْرِفَةِ وقَلِيلٌ مِن عُلَماءِ أُصُولِ الفِقْهِ مَن يَذْكُرُونَ المُفْرَدَ المُعَرَّفَ بِالإضافَةِ في صِيَغِ العُمُومِ، وقَدْ ذَكَرَهُ الإمامُ الرّازِيُّ في المَحْصُولِ في أثْناءِ (p-٤٥٢)الِاسْتِدْلالِ. وقالَ ولِيُّ الدِّينِ الإضافَةُ عِنْدَ الإمامِ أدَلُّ عَلى العُمُومِ مِنَ اللّامِ وقالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ في شَرْحِ مُخْتَصَرِ ابْنِ الحاجِبِ: دِلالَةُ المُفْرَدِ المُضافِ عَلى العُمُومِ ما لَمْ يَتَحَقَّقْ عَهْدٌ هو الصَّحِيحُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ﴾ [النور: ٦٣] أيْ كُلِّ أمْرِهِ وقَدْ تَأيَّدَ قَصْدُ عُمُومِ النِّعْمَةِ بِأنَّ المَقامَ لِلِامْتِنانِ والدَّعْوَةِ إلى الإسْلامِ فَيُناسِبُهُ تَكْثِيرُ النِّعَمِ. والمُرادُ النِّعَمُ الَّتِي أنْعَمَ اللَّهُ بِها عَلى أسْلافِهِمْ وعَلى الحاضِرِينَ مِنهم زَمَنَ نُزُولِ القُرْآنِ فَإنَّ النِّعْمَةَ عَلى أسْلافِهِمْ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ وقَدْ تَتابَعَتِ النِّعَمُ عَلَيْهِمْ إذْ بَوَّأهم قُرًى في بِلادِ العَرَبِ بَعْدَ أنْ سُلِبَتْ بِلادُهم فِلَسْطِينُ وجَعَلَهم في بُحْبُوحَةٍ مِنَ العَيْشِ مَعَ الأمْنِ والثَّرْوَةِ ومُسالَمَةِ العَرَبِ لَهم. والأمْرُ بِذِكْرِ النِّعْمَةِ هَنا مُرادٌ مِنهُ لازِمُهُ وهو شُكْرُها ومِن أوَّلِ مَراتِبِ الشُّكْرِ تَرْكُ المُكابَرَةِ في تَلَقِّي ما يُنْسَبُ إلى اللَّهِ مِنَ الرِّسالَةِ بِالنَّظَرِ في أدِلَّتِها ومُتابَعَةِ ما يَأْتِي بِهِ المُرْسَلُونَ. فَقَوْلُهُ ﴿الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ وصْفٌ أُشِيرَ بِهِ إلى وُجُوبِ شُكْرِ النِّعَمِ لِما يُؤْذِنُ لِلْمَوْصُولِ وصِلَتِهِ مِنَ التَّعْلِيلِ فَهو مَن بابِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكم لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: ٦] ويُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ أمْرَهم بِتَفَكُّرِ النِّعَمِ الَّتِي أنْعَمَ بِها عَلَيْهِمْ لِيَنْصَرِفُوا بِذَلِكَ عَنْ حَسَدِ غَيْرِهِمْ فَإنَّ تَذْكِيرَ الحَسُودِ بِما عِنْدَهُ مِنَ النِّعَمِ عِظَةٌ لَهُ وصَرْفٌ لَهُ عَنِ الحَسَدِ النّاشِئِ عَنِ الِاشْتِغالِ بِنِعَمِ الغَيْرِ وهَذا تَعْرِيضٌ بِهِمْ أنَّهم حاسِدُونَ لِلْعَرَبِ فِيما أُوتُوا مِنِ الكِتابِ والحِكْمَةِ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وانْتِقالِ النُّبُوَّةِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ إلى العَرَبِ وإنَّما ذُكِّرُوا بِذَلِكَ لِأنَّ لِلنَّفْسِ غَفْلَةً عَمّا هو قائِمٌ بِها وإنَّما تَشْتَغِلُ بِأحْوالِ غَيْرِها لِأنَّ الحِسَّ هو أصْلُ المَعْلُوماتِ فَإذا رَأى الحاسِدُ نِعَمَ الغَيْرِ نَسِيَ أنَّهُ أيْضًا في نِعْمَةٍ فَإذا أُرِيدَ صَرْفُهُ عَنِ الحَسَدِ ذُكِّرَ بِنِعَمِهِ حَتّى يَخِفَّ حَسَدُهُ فَإنَّ حَسَدَهم هو الَّذِي حالَ دُونَ تَصْدِيقِهِمْ بِهِ فَيَكُونُ وِزانُهُ وِزانَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: ٥٤] وتَقْدِيمُهُ عَلى قَوْلِهِ ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِي﴾ مِن بابِ تَقْدِيمِ التَّخْلِيَةِ بِالمُعْجَمَةِ عَلى التَّحْلِيَةِ بِالمُهْمَلَةِ ويَكُونُ افْتِتاحُ خِطابِهِمْ بِهَذا التَّذْكِيرِ تَهْيِئَةً لِنُفُوسِهِمْ إلى تَلَقِّي الخِطابِ بِسَلامَةِ طَوِيَّةٍ وإنْصافٍ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِي﴾ هو فِعْلٌ مَهْمُوزٌ مِن وفى المُجَرَّدِ وأصْلُ مَعْنى وفى أتَمَّ الأمْرَ تَقُولُ وفَيْتُهُ حَقَّهُ، ولَمّا كانَ المُجَرَّدُ مُتَعَدِّيًا لِلْمَفْعُولِ ولَمْ يَكُنْ في المَهْمُوزِ زِيادَةُ تَعْدِيَةٍ لِلتَّساوِي بَيْنَ قَوْلِكَ وفَيْتُهُ حَقَّهُ وأوْفَيْتُهُ حَقَّهُ تَعَيَّنَتِ الزِّيادَةُ لِمُجَرَّدِ المُبالَغَةِ في التَّوْفِيَةِ مِثْلَ بانَ وأبانَ وشَغَلَ وأشْغَلَ، وأمّا وفّى بِالتَّضْعِيفِ فَهو أبْلَغُ مِن أوْفى لِأنَّ فَعَّلَ وإنْ شارَكَ أفْعَلَ في مَعانِيهِ إلّا أنَّهُ لَمّا كانَ (p-٤٥٣)دالًّا عَلى التَّقَضِّي شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كانَ أدَلَّ عَلى المُبالَغَةِ لِأنَّ شَأْنَ الأمْرِ الَّذِي يُفْعَلُ مُدَرَّجًا أنْ يَكُونَ أتْقَنَ. وقَدْ أُطْلِقَ الوَفاءُ عَلى تَحْقِيقِ الوَعْدِ والعَهْدِ إطْلاقًا شائِعًا صَيَّرَهُ حَقِيقَةً. والعَهْدُ تَقَدَّمَ مَعْناهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ﴾ [البقرة: ٢٧] في هَذِهِ السُّورَةِ. والعَهْدُ هُنا هو الِالتِزامُ لِلْغَيْرِ بِمُعامَلَةٍ التِزامًا لا يُفَرِّطُ فِيهِ المَعاهِدُ حَتّى يَفْسَخاهُ بَيْنَهُما واسْتُعِيرَ العَهْدُ المُضافُ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ لِقَبُولِ ما يُكَلِّفُهم بِهِ مِنَ الدِّينِ واسْتُعْمِلَ مَجازًا لِقَبُولِ التَّكالِيفِ والدُّخُولِ في الدِّينِ واسْتُعِيرَ المُضافُ إلى ضَمِيرِ المُخاطَبِينَ لِلْوَعْدِ عَلى ذَلِكَ بِالثَّوابِ في الآخِرَةِ والنَّصْرِ في الدُّنْيا فَلَكَ أنْ تَجْعَلَ كُلَّ عَهْدٍ مَجازًا مُفْرَدًا اسْتُعْمِلَ العَهْدُ الأوَّلُ في التَّكالِيفِ واسْتُعْمِلَ العَهْدُ الثّانِي في الوَعْدِ بِالثَّوابِ والنَّصْرِ واسْتُعْمِلَ الإيفاءُ مَعَ كِلَيْهِما في تَحْقِيقِ ما التَزَمَ بِهِ كِلا الجانِبَيْنِ مُسْتَعارًا مِن مُلائِمِ المُشَبَّهِ بِهِ إلى مُلائِمِ المُشَبَّهِ تَرْشِيحًا لِاسْتِعارَتِهِ ولَكَ أنْ تَجْعَلَ المَجْمُوعَ اسْتِعارَةً تَمْثِيلِيَّةً بِأنْ شَبَّهَ الهَيْئَةَ الحاصِلَةَ مِن قَوْلِهِمْ لَمّا أمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ وأنْ لا يُقَصِّرُوا في العَمَلِ ومِن وعْدِ اللَّهِ إيّاهم عَلى ذَلِكَ بِالثَّوابِ بِهَيْئَةِ المُتَعاهِدِينَ عَلى التِزامِ كُلٍّ مِنهُما بِعَمَلٍ لِلْآخَرِ ووَفائِهِ بِعَهْدِهِ في عَدَمِ الإخْلالِ بِهِ فاسْتُعِيرَ لِهَذِهِ الهَيْئَةِ الكَلامُ المُشْتَمِلُ عَلى قَوْلِهِ ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ وهَذا أحْسَنُ وبِهِ يَتَبَيَّنُ وجْهُ اسْتِعْمالِ لَفْظِ العَهْدِ الثّانِي في قَوْلِهِ تَعالى ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ وتُقَرِّبُهُ المُشاكَلَةُ. وعَلى الوَجْهَيْنِ فالعَهْدُ في المَوْضِعَيْنِ مُضافٌ لِلْمَفْعُولِ وهو ما ذَهَبَ إلَيْهِ صاحِبُ الكَشّافِ لِأنَّ إضافَتَهُ إلى المَفْعُولِ مُتَعَيِّنَةٌ إذا تَعَلَّقَ بِهِ الإيفاءُ إذْ لا يُوفِي أحَدٌ إلّا بِعَهْدِ نَفْسِهِ فَإذا أُضِيفَ العَهْدُ الَّذِي هو مَفْعُولُ أوْفُوا إلى غَيْرِ فاعِلِ الإيفاءِ تَعَيَّنَ أنْ تَكُونَ إضافَتُهُ لِلْمَفْعُولِ وبِذَلِكَ يَتِمُّ تَرْشِيحُ المَجازِ إنْ كانَ مُفْرَدًا كَما أشارَ لَهُ المُحَقِّقُ التَّفْتَزانِيُّ فَإنْ كانَ مُرَكَّبًا فَأخْلِقْ بِهِ لِأنَّ اللَّفْظَ المَوْضُوعَ لِلْهَيْئَةِ المُشَبَّهِ بِها يُضافُ بِقَيْدِ الإيفاءِ إلى مَفْعُولِهِ لا مَحالَةَ. ومِن لَطائِفِ القُرْآنِ في اخْتِيارِ لَفْظِ العَهْدِ لِلِاسْتِعارَةِ هُنا لِتَكْلِيفِ اللَّهِ تَعالى إيّاهم أنَّ ذَلِكَ خِطابٌ لَهم بِاللَّفْظِ المَعْرُوفِ عِنْدَهم في كُتُبِهِمْ فَإنَّ التَّوْراةَ المُنَزَّلَةَ عَلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ تُلَقَّبُ عِنْدَهم بِالعَهْدِ لِأنَّها وصاياتُ اللَّهِ تَعالى لَهم ولِذا عُبِّرَ عَنْهُ في مَواضِعَ مِنَ القُرْآنِ بِالمِيثاقِ وهَذا مِن طُرُقِ الإعْجازِ العِلْمِيِّ الَّذِي لا يَعْرِفُهُ إلّا عُلَماؤُهم وهم أشَحُّ بِهِ مِنهم في كُلِّ شَيْءٍ بِحَيْثُ لا يَعْرِفُ ذَلِكَ إلّا خاصَّةُ أهْلُ الدِّينِ فَمَجِيئُهُ عَلى لِسانِ النَّبِيءِ العَرَبِيِّ الأُمِّيِّ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ وحْيٌ مِنَ العَلّامِ بِالغُيُوبِ. والعَهْدُ قَدْ أُخِذَ عَلى أسْلافِهِمْ بِواسِطَةِ رُسُلِهِمْ وأنْبِيائِهِمْ قالَ تَعالى (p-٤٥٤)﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيئِينَ لَما آتَيْتُكم مِن كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ مُصَدِّقٍ لِما مَعَكم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ﴾ [آل عمران: ٨١] الآيَةَ وإذْ قَدْ كانَ المُخاطَبُونَ بِالآيَةِ قَدْ تَلَقَّوُا الشَّرِيعَةَ مِن أسْلافِهِمْ بِما فِيها مِن عَهْدٍ فَقَدْ كانَ العَهْدُ لازِمًا لَهم وكانَ الوَفاءُ مُتَعَيِّنًا عَلَيْهِمْ لِأنَّهُمُ الَّذِينَ جاءَ فِيهِمُ الرَّسُولُ المَوْعُودُ بِهِ. وقَوْلُهُ ﴿وإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ عَطَفَتِ الواوُ جُمْلَةَ وإيّايَ عَلى الجُمَلِ المُتَقَدِّمَةِ مِن قَوْلِهِ ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِي﴾ إلى آخِرِها عَلى طَرِيقَةِ الِانْتِقالِ مِن مَعْنًى إلى المَعْنى المُتَوَلِّدِ عَنْهُ وهي أصْلُ طَرِيقَةِ المُنْشِئِينَ أنْ يُراعُوا التَّرْتِيبَ الخارِجِيَّ في الخَبَرِ والإنْشاءِ لِأنَّهُ الأصْلُ ما لَمْ يَطْرَأْ مُقْتَضٍ لِتَغْيِيرِ التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ ومِنهُ في القُرْآنِ قَوْلُهُ ﴿ولَمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وضاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وقالَ هَذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ [هود: ٧٧] ﴿وجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إلَيْهِ﴾ [هود: ٧٨] إلَخْ، فَإنَّهُ لَمّا افْتَتَحَ خِطابَهم بِالتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ الباعِثِ عَلى شُكْرِ المُنْعِمِ ومُراقَبَةِ حَقِّهِ والمُطَهِّرِ لَهم مِنَ الحَسَدِ فَإنَّهُ صارِفٌ عَنِ الِاعْتِرافِ بِالنِّعْمَةِ كَما قَدَّمْنا. ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِي﴾ وهو مَبْدَأُ المَقْصُودِ مِنَ الأمْرِ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ المَوْعُودِ بِهِ عَلى ألْسِنَةِ أنْبِيائِهِمْ. ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿وإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ فَهو تَتْمِيمٌ لِذَلِكَ الأمْرِ السّابِقِ بِالنَّهْيِ عَمّا يَحُولُ بَيْنَهم وبَيْنَ الإيفاءِ بِالعَهْدِ عَلى وجْهِهِ وذَلِكَ هو صَدُّ كُبَرائِهِمْ وأحْبارِهِمْ إيّاهم عَنِ الِانْتِقالِ عَمّا هم عَلَيْهِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالتَّوْراةِ فَإنَّهم هُمُ القَوْمُ الَّذِينَ كانُوا يَقُولُونَ لِمَلِكِ بِلادِهِمْ فِرْعَوْنَ مِصْرَ يَوْمَ بِعْثَةِ مُوسى لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ البَيِّناتِ والَّذِي فَطَرَنا فَكانُوا أحْرِياءَ بِأنْ يُخاطِبُوا ساداتِهِمْ وأحْبارَهم بِمِثْلِ ذَلِكَ الخِطابِ عِنْدَ البِعْثَةِ المُحَمَّدِيَّةِ. فَتَقْدِيمُ المَفْعُولِ هُنا مُتَعَيِّنٌ لِلِاخْتِصاصِ لِيَحْصُلَ مِنَ الجُمْلَةِ إثْباتٌ ونَفْيٌ واخْتِيرَ مِن طُرُقِ القَصْرِ طَرِيقُ التَّقْدِيمِ دُونَ ما وإلّا لِيَكُونَ الحاصِلُ بِالمَنطُوقِ هو الأمْرَ بِرَهْبَةِ اللَّهِ تَعالى ويَكُونَ النَّهْيُ عَنْ رَهْبَةِ غَيْرِهِ حاصِلًا بِالمَفْهُومِ فَإنَّهم إذا رَهِبُوا اللَّهَ تَعالى حَرَصُوا عَلى الإيفاءِ بِالعَهْدِ ولَمّا كانَتْ رَهْبَتُهم أحْبارَهم تَمْنَعُهم مِنِ الإيفاءِ بِالعَبْدِ أُدْمِجَ النَّهْيُ عَنْ رَهْبَةِ غَيْرِ اللَّهِ مَعَ الأمْرِ بِرَهْبَةِ اللَّهِ تَعالى في صِيغَةٍ واحِدَةٍ. وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ مَعَ اشْتِغالِ فِعْلِهِ بِضَمِيرِهِ آكَدُ في إفادَةِ التَّقْدِيمِ الحَصْرَ مِن تَقْدِيمِ المَفْعُولِ عَلى الفِعْلِ غَيْرِ المُشْتَغِلِ بِضَمِيرِهِ، فَإيّايَ ارْهَبُونِ آكَدُ مِن نَحْوِ إيّايَ ارْهَبُوا كَما أشارَ إلَيْهِ صاحِبُ الكَشّافِ إذْ قالَ وهو مِن قَوْلِكَ زَيْدًا رَهِبْتُهُ وهو أوْكَدُ في إفادَةِ الِاخْتِصاصِ مِن إيّاكَ نَعْبُدُ اهـ. ووَجْهُهُ عِنْدِي أنَّ تَقْدِيمَ المَفْعُولِ يَحْتَمِلُ الِاخْتِصاصَ، إلّا أنَّ الأصْلَ فِيهِ أنْ يَدُلَّ (p-٤٥٥)عَلى الِاخْتِصاصِ إلّا إذا أقامَتِ القَرِينَةُ عَلى التَّقْوى فَإذا كانَ مَعَ التَّقْدِيمِ اشْتِغالُ الفِعْلِ بِضَمِيرِ المُقَدَّمِ نَحْوَ زَيْدًا ضَرَبْتُهُ كانَ الِاخْتِصاصُ أوْكَدَ أيْ كانَ احْتِمالُ التَّقْوى أضْعَفَ وذَلِكَ لِأنَّ إسْنادَ الفِعْلِ إلى الضَّمِيرِ بَعْدَ إسْنادِهِ إلى الظّاهِرِ المُتَقَدِّمِ يُفِيدُ التَّقْوى فَتَعَيَّنَ أنَّ تَقْدِيمَ المَفْعُولِ لِلِاخْتِصاصِ دُونَ التَّقْوى إذِ التَّقْوى قَدْ حَصَلَ بِإسْنادِ الفِعْلِ أوَّلًا إلى الِاسْمِ أوِ الظّاهِرِ المُتَقَدِّمِ وثانِيًا إلى ضَمِيرِ المُتَقَدِّمِ ولِهَذا لَمْ يَقُلْ صاحِبُ الكَشّافِ: وهو أكْثَرُ اخْتِصاصًا ولا أقْوى اخْتِصاصًا؛ إذِ الِاخْتِصاصُ لا يَقْبَلُ التَّقْوِيَةَ. بَلْ قالَ وهو أوْكَدُ في إفادَةِ الِاخْتِصاصِ أيْ أنَّ إفادَتَهُ الِاخْتِصاصَ أقْوى لِأنَّ احْتِمالَ كَوْنِ التَّقْدِيمِ لِلتَّقْوى قَدْ صارَ مَعَ الِاشْتِغالِ ضَعِيفًا جِدًّا. ولَسْنا نَدَّعِي أنَّ الِاشْتِغالَ مُتَعَيِّنٌ لِلتَّخْصِيصِ فَإنَّهُ قَدْ يَأْتِي بِلا تَخْصِيصٍ في نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩] وقَوْلِهِ ﴿أبَشَرًا مِنّا واحِدًا نَتَّبِعُهُ﴾ [القمر: ٢٤] وقَوْلِ زُهَيْرٍ. ؎فَكُلًّا أراهم أصْبَحُوا يَعْقِلُونَهُ صَحِيحاتِ مالٍ طالِعاتٍ بِمَخْرَمِ لِظُهُورِ أنْ لا مَعْنى لِلتَّخْصِيصِ في شَيْءٍ مِمّا ذَكَرْنا غَيْرَ أنَّ الغالِبَ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيمُ مَعَ صِيغَةِ الِاشْتِغالِ لِلتَّخْصِيصِ إذِ العَرَبُ لا تُقَدِّمُ المَفْعُولَ غالِبًا إلّا لِذَلِكَ ولا التِفاتَ إلى ما وجَّهَ بِهِ صاحِبُ المِفْتاحِ أنَّ احْتِمالَ المَفْعُولِ في الِاشْتِغالِ التَّخْصِيصُ، والتَّقْوى باقٍ عَلى حالِهِ ولَكِنَّكَ إنْ قَدَّرْتَ الفِعْلَ المَحْذُوفَ مُتَقَدِّمًا عَلى المَفْعُولِ كانَ التَّقْدِيمُ لِلتَّقْوى وإنْ قَدَّرْتَهُ بَعْدَ المَفْعُولِ كانَ التَّقْدِيمُ لِلتَّخْصِيصِ فَإنَّهُ بَناهُ عَلى حالَةِ مَوْقِعِ الفِعْلِ المُقَدَّرِ مَعَ أنَّ تَقْدِيرَ الفِعْلِ اعْتِبارٌ لا يُلاحِظُهُ البُلَغاءُ ولِأنَّهم يَنْصِبُونَ عَلى مَوْقِعِهِ قَرِينَةً فَتَعَيَّنَ أنَّ السّامِعَ إنَّما يَعْتَدُّ بِالتَّقْدِيمِ المَحْسُوسِ وبِتَكْرِيرِ التَّعَلُّقِ وأمّا الِاعْتِدادُ بِمَوْقِعِ الفِعْلِ المُقَدَّرِ فَحَوالَةٌ عَلى غَيْرِ مُشاهَدٍ لِأنَّ التَّقْدِيرَ إنْ كانَ بِنِيَّةِ المُتَكَلِّمِ فَلا قِبَلَ لِلسّامِعِ بِمَعْرِفَةِ نِيَّتِهِ ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ الخِيارُ في التَّقْدِيرِ لِلسّامِعِ. هَذا والتَّقْدِيمُ إذا اقْتَرَنَ بِالفاءِ كانَ فِيهِ مُبالَغَةٌ، لِأنَّ الفاءَ كَما في هَذِهِ الآيَةِ مُؤْذِنَةٌ بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ ولَمّا كانَ هَذا الشَّرْطُ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ إلّا الفاءَ تَعَيَّنَ تَقْدِيرُهُ عامًّا نَحْوَ إنْ يَكُنْ شَيْءٌ أوْ مَهْما يَكُنْ شَيْءٌ كَما أشارَ لَهُ صاحِبُ الكَشّافِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ورَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ [المدثر: ٣] حَيْثُ قالَ ودَخَلَتِ الفاءُ لِمَعْنى الشَّرْطِ كَأنَّهُ قِيلَ مَهْما كانَ فَلا تَدَعْ تَكْبِيرَهُ. فالمَعْنى هُنا ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ ومَهْما يَكُنْ شَيْءٌ فَإيّايَ ارْهَبُونِي، فَلَمّا حُذِفَتْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ بَعْدَ واوِ العَطْفِ بَقِيَتْ فاءُ الجَوابِ مُوالِيَةً لِواوِ العَطْفِ فَزُحْلِقَتْ إلى أثْناءِ الجَوابِ كَراهِيَةَ تَوالِي (p-٤٥٦)حَرْفَيْنِ فَقِيلَ وإيّايَ فارْهَبُونِ بَدَلًا عَنْ أنْ يُقالَ فارْهَبُونِ. والتَّعْلِيقُ عَلى الشَّرْطِ العامِّ يَسْتَلْزِمُ تَحَقُّقَ وُقُوعِ الجَوابِ لِأنَّ التَّعْلِيقَ الشَّرْطِيَّ بِمَنزِلَةِ رَبْطِ المُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ فَإذا كانَ المُعَلَّقُ عَلَيْهِ أمْرًا مُحَقَّقَ الوُقُوعِ لِعَدَمِ خُلُوِّ الحَدَثانِ عَنْهُ تَعَيَّنَ تَحَقُّقُ وُقُوعِ المُعَلَّقِ، وهَذا مَبْنِيٌّ عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ في بابِ الأمْرِ والنَّهْيِ يُخْتارُ فِيهِما النَّصْبُ في الِاسْمِ الَّذِي يُبْنى عَلَيْهِ الفِعْلُ وذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِكَ زَيْدًا اضْرِبْهُ ومِثْلَ ذَلِكَ أمّا زَيْدًا فاقْتُلْهُ فَإذا قُلْتَ ”زَيْدٌ فاضْرِبْهُ“ لَمْ يَسْتَقِمْ أنْ تَحَمِلَهُ عَلى الِابْتِداءِ. ألا تَرى أنَّكَ لَوْ قُلْتَ ”زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ“ لَمْ يَسْتَقِمْ، ثُمَّ أشارَ إلى أنَّ الفاءَ هُنا في مَعْنى فاءِ الجَزاءِ فَمِن ثَمَّ جَزَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأنَّ هاتِهِ الفاءَ مَهْما وُجِدَتْ في الِاشْتِغالِ دَلَّتْ عَلى شَرْطٍ عامٍّ مَحْذُوفٍ وإنَّ الفاءَ كانَتْ داخِلَةً عَلى الِاسْمِ فَزُحْلِقَتْ عَلى حُكْمِ فاءِ جَوابِ أمّا الشَّرْطِيَّةُ وأحْسَبُ أنَّ مِثْلَ هَذا التَّرْكِيبِ مِن مُبْتَكَرِ أسالِيبِ القُرْآنِ ولَمْ أذْكُرْ أنِّي عَثَرْتُ عَلى مِثْلِهِ في كَلامِ العَرَبِ. ومِمّا يُؤَيِّدُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ صاحِبُ الكَشّافِ المَبْنِيَّ عَلى كَلامِ سِيبَوَيْهِ مِنِ اعْتِبارِ الفاءِ مُشْعِرَةً بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أنَّ غالِبَ مَواقِعِ هاتِهِ الفاءِ المُتَقَدِّمِ مَعَها المَفْعُولُ عَلى مَدْخَلِها أنْ تَقَعَ بَعْدَ نَهْيٍ أوْ أمْرٍ يُناقِضُ الأمْرَ والنَّهْيَ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الفاءُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَقَدْ أُوحِيَ إلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أشْرَكْتَ﴾ [الزمر: ٦٥] إلى قَوْلِهِ ﴿بَلِ اللَّهَ فاعْبُدْ﴾ [الزمر: ٦٦] وقَوْلِ الأعْشى ؎ولا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ واللَّهَ فاعْبُدا فَكانَ ما يَتَقَدَّمُ هاتِهِ الفاءَ يَتَوَلَّدُ مِنهُ شَرْطٌ في المَعْنى وكانَتِ الفاءُ مُؤْذِنَةً بِذَلِكَ الشَّرْطِ وعَلامَةً عَلَيْهِ فَلِأجْلِ كَوْنِهِ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِدَلِيلَيْنِ أصْلِهِ وفَرْعِهِ كانَ كالمَذْكُورِ كَأنَّهُ قِيلَ ﴿لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥] وفَإنْ كُنْتَ عابِدًا شَيْئًا فاللَّهَ فاعْبُدْ، وكَذا في البَيْتِ. وهَذِهِ فائِدَةٌ لَمْ يُفْصِحْ عَنْها السَّلَفُ فَخُذْها ولا تَخَفْ. (p-٤٥٧)قالَ التَّفْتَزانِيُّ ونُقِلَ عَنْ صاحِبِ الكَشّافِ أنَّهُ قالَ إنَّ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ وُجُوهًا مِنَ التَّأْكِيدِ: تَقْدِيمُ الضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ وتَأْخِيرُ المُتَّصِلِ، والفاءُ المُوجِبَةُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ ومَعْطُوفًا تَقْدِيرُهُ إيّايَ ارْهَبُوا فارْهَبُونِ: أحَدُهُما مُقَدَّرٌ والثّانِي مُظْهَرٌ. وما في ذَلِكَ مِن تَكْرارِ الرَّهْبَةِ. وما فِيهِ مِن مَعْنى الشَّرْطِ بِدِلالَةِ الفاءِ كَأنَّهُ قِيلَ إنْ كُنْتُمْ راهِبِينَ شَيْئًا فارْهَبُونِ اهـ. يُرِيدُ أنَّ في تَقْدِيمِ الضَّمِيرِ إفادَةَ الِاخْتِصاصِ والِاخْتِصاصُ تَأْكِيدٌ، قالَ صاحِبُ المِفْتاحِ لَيْسَ الحَصْرُ والتَّخْصِيصُ إلّا تَأْكِيدًا عَلى تَأْكِيدٍ وأمّا تَأْخِيرُ الضَّمِيرِ المُتَّصِلِ فَلَمّا في إعادَةِ الإسْنادِ مِنَ التَّقْوى، ومُرادُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِقَوْلِهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ ومَعْطُوفًا العَطْفُ اللُّغَوِيُّ أيْ مُعَقَّبًا ومُعَقَّبًا بِهِ لا العَطْفُ النَّحْوِيُّ إذْ لا يَسْتَقِيمُ هُنا. فَتَحَصَّلَ أنَّ في التَّعْبِيرِ عَنْ مِثْلِ هَذا الِاخْتِصاصِ في كَلامِ البُلَغاءِ مَراتِبَ أرْبَعًا: مُجَرَّدُ التَّقْدِيمِ لِلْمَفْعُولِ نَحْوَ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] وتَقْدِيمُهُ عَلى فِعْلِهِ العامِلِ في ضَمِيرِهِ نَحْوَ زَيْدًا رَهِبْتُهُ. وتَقْدِيمُهُ عَلى فِعْلِهِ مَعَ اقْتِرانِ الفِعْلِ بِالفاءِ نَحْوَ ورَبَّكَ فَكَبِّرْ. وتَقْدِيمُهُ عَلى فِعْلِهِ العامِلِ في ضَمِيرِهِ مَعَ اقْتِرانِ الفِعْلِ بِالفاءِ نَحْوَ ﴿وإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ فالثّانِيَةُ والثّالِثَةُ والرّابِعَةُ أوْكَدُ مِنهُما. وحُذِفَتْ ياءُ المُتَكَلِّمِ بَعْدَ نُونِ الوِقايَةِ في قَوْلِهِ فارْهَبُونِ لِلْجُمْهُورِ مِنَ العَشَرَةِ في الوَصْلِ والوَقْفِ وأثْبَتَها يَعْقُوبُ في الوَصْلِ والوَقْفِ. وجُمْهُورُ العَرَبِ يَحْذِفُونَها في الوَقْفِ دُونَ الوَصْلِ وهُذَيْلٌ يَحْذِفُونَها في الوَقْفِ والوَصْلِ وأهْلُ الحِجازِ يُثْبِتُونَها في الحالَيْنِ وإنَّما اتَّفَقَ الجُمْهُورُ هُنا عَلى حَذْفِها في الوَصْلِ مِثْلَ الوَقْفِ لِأنَّ كَلِمَةَ فارْهَبُونِ كُتِبَتْ في المُصْحَفِ الإمامِ بِدُونِ ياءٍ وقُرِئَتْ كَذَلِكَ في سُنَّةِ القِراءَةِ. ووَجْهُ ذَلِكَ أنَّها وقَعَتْ فاصِلَةً فاعْتَبَرُوها كالمَوْقُوفِ عَلَيْها قالَ سِيبَوَيْهِ في بابِ ما يُحْذَفُ مِن أواخِرِ الأسْماءِ في الوَقْفِ وجَمِيعِ ما لا يُحْذَفُ في الكَلامِ وما يُخْتارُ فِيهِ أنْ لا يُحْذَفَ يُحْذَفُ في الفَواصِلِ والقَوافِي. ولِأنَّ لُغَةَ هُذَيْلٍ تَحْذِفُها مُطْلَقًا، وقِراءَةُ يَعْقُوبَ بِإثْباتِ الياءِ في الوَصْلِ والوَقْفِ جَرى عَلى لُغَةِ أهْلِ الحِجازِ ولِأنَّهُ رَواها بِالإثْباتِ وهو وجْهٌ في العَرَبِيَّةِ ويَكُونُ قَدْ تَأوَّلَ كِتابَتَها بِدُونِ ياءٍ في المُصْحَفِ أنَّهُ اعْتِمادٌ عَلى أنَّ القارِئَ يُجْرِيها عَلى رِوايَتِهِ ولِذَلِكَ لَوْ لَمْ تَكُنْ ياءُ المُتَكَلِّمِ في كَلِمَةٍ هي فاصِلَةً مِنَ الآيِ لَما اتَّفَقَ الجُمْهُورُ عَلى حَذْفِها كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِي إذا دَعانِ﴾ [البقرة: ١٨٦] كَما سَيَأْتِي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب