الباحث القرآني

﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ خِطابٌ لِطائِفَةٍ خاصَّةٍ مِنَ الكَفَرَةِ المُعاصِرِينَ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَعْدَ الخِطابِ العامِّ، وإقامَةِ دَلائِلِ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ والمَعادِ والتَّذْكِيرِ بِصُنُوفِ الإنْعامِ، وجَعَلَهُ سُبْحانَهُ بَعْدَ قِصَّةِ آدَمَ، لِأنَّ هَؤُلاءِ بَعْدَ ما أتَوْا مِنَ البَيانِ الواضِحِ، والدَّلِيلِ اللّائِحِ، وأُمِرُوا ونُهُوا وحُرِّضُوا عَلى اتِّباعِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهم ظَهَرَ مِنهم ضِدُّ ذَلِكَ، فَخَرَجُوا عَنْ جَنَّةِ الإيمانِ الرَّفِيعَةِ، وهَبَطُوا إلى أرْضِ الطَّبِيعَةِ، وتَعَرَّضَتْ لَهُمُ الكَلِماتُ إلّا أنَّهم لَمْ يَتَلَقَّوْها بِالقَبُولِ، فَفاتَ مِنهم ما فاتَ، وأقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالنِّداءِ لِيُحَرِّكَهم لِسَماعِ ما يَرِدُ مِنَ الأوامِرِ والنَّواهِي، وبَنِي جَمْعُ ابْنٍ شَبِيهٌ بِجَمْعِ التَّكْسِيرِ لِتَغَيُّرِ مُفْرَدِهِ، ولِذا أُحْلِقَ في فِعْلِهِ تاءُ التَّأْنِيثِ، كَقالَتْ بَنُو عامِرٍ، وهو مُخْتَصٌّ بِالأوْلادِ الذُّكُورِ، وإذا أُضِيفَ عَمَّ في العُرْفِ الذُّكُورَ والإناثَ، فَيَكُونُ بِمَعْنى الأوْلادِ، وهو المُرادُ هُنا، وذَكَرَ السّالِيكُوتِيُّ أنَّهُ حَقِيقَةٌ في الأبْناءِ الصُّلْبِيَّةِ كَما بُيِّنَ في الأُصُولِ، واسْتِعْمالُهُ في العامِّ مَجازٌ، وهو مَحْذُوفُ اللّامِ، وفي كَوْنِها ياءً، أوْ واوًا خِلافٌ، فَذَهَبَ إلى الأوَّلِ ابْنُ دُرُسْتُوَيْهِ، وجَعَلَهُ مِنَ البِناءِ، لِأنَّ الِابْنَ فَرْعُ الأبِ ومَبْنِيٌّ عَلَيْهِ، ولِهَذا يُنْسَبُ المَصْنُوعُ إلى صانِعِهِ، فَيُقالُ لِلْقَصِيدَةِ مَثَلًا: بِنْتُ الفِكَرِ، وقَدْ أُطْلِقَ في شَرِيعَةِ مَن قَبْلَنا عَلى بَعْضِ المَخْلُوقِينَ أبْناءُ اللَّهِ تَعالى بِهَذا المَعْنى، لَكِنْ لَمّا تَصَوَّرَ مِن هَذا الجَهَلَةُ الأغْبِياءُ مَعْنى الوِلادَةِ حُظِرَ ذَلِكَ حَتّى صارَ التَّفَوُّهُ بِهِ كُفْرًا، وذَهَبَ إلى الثّانِي الأخْفَشُ وأيَّدَهُ بِأنَّهم قالُوا: البُنُوَّةُ، وبِأنَّ حَذْفَ الواوِ أكْثَرُ، وقَدْ حُذِفَتْ في أبٍ وأخٍ، وبِهِ قالَ الجَوْهَرِيُّ، ولَعَلَّ الأوَّلَ أصَحُّ، ولا دِلالَةَ في البُنُوَّةِ، لِأنَّهم قالُوا أيْضًا: الفُتُوَّةُ، ولا خِلافَ في أنَّها مِن ذَواتِ الياءِ، وأمْرُ الأكْثَرِيَّةِ سَهْلٌ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ في وزْنِ ابْنٍ، هَلْ هو فِعْلٌ، أوْ فَعُلٌ خِلافٌ، وإسْرائِيلُ اسْمٌ أعْجَمِيٌّ، وقَدْ ذَكَرُوا أنَّهُ مُرَكَّبٌ مِن إي، لِاسْمٍ مِن أسْمائِهِ تَعالى، وإسْرا، وهو العَبْدُ، أوِ الصَّفْوَةُ، أوِ الإنْسانُ، أوِ المُهاجِرُ وهو لَقَبُ سَيِّدِنا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولِلْعَرَبِ فِيهِ تَصَرُّفاتٌ فَقَدْ قالُوا: إسْرائِيلُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الألِفِ وياءٍ بَعْدَها، وبِهِ قَرَأ الجُمْهُورُ، وإسْرايِيلُ بِياءَيْنِ، بَعْدَ الألِفِ، وبِهِ قَرَأ أبُو جَعْفَرٍ وغَيْرُهُ، وإسْرائِلُ، بِهَمْزَةٍ ولامٍ، وهو مَرْوِيٌّ عَنْ ورْشٍ، وإسْرَألُ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ، ومَكْسُورَةٍ، بَعْدَ الرّاءِ، ولامٍ، وإسْرَألُ بِألِفٍ مُمالَةٍ بَعْدَها لامٌ خَفِيفَةٌ، وبِها ولا إمالَةَ، وهي رِوايَةٌ عَنْ نافِعٍ، وقِراءَةُ الحَسَنِ وغَيْرِهِ، وإسْرائِينُ (p-242)بِنُونٍ بَدَلَ اللّامِ كَما في قَوْلِهِ: ؎تَقُولُ أهْلُ السُّوءِ لَمّا جِينا هَذا ورَبِّ البَيْتِ إسْرائِينا وأضافَ سُبْحانَهُ هَؤُلاءِ المُخاطَبِينَ إلى هَذا اللَّقَبِ تَأْكِيدًا لِتَحْرِيكِهِمْ إلى طاعَتِهِ، فَإنَّ في إسْرائِيلَ ما لَيْسَ في اسْمِهِ الكَرِيمِ يَعْقُوبَ، وقَوْلُكَ: يا ابْنَ الصّالِحِ أطِعِ اللَّهَ تَعالى، أحَثُّ لِلْمَأْمُورِ مِن قَوْلِكَ: يا ابْنَ زَيْدٍ مَثَلًا أطِعْ، لِأنَّ الطَّبائِعَ تَمِيلُ إلى اقْتِفاءِ أثَرِ الآباءِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مَحْمُودًا، فَكَيْفَ إذا كانَ، ويُسْتَعْمَلُ مِثْلُ هَذا في مَقامِ التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ بِناءً عَلى أنَّ الحَسَنَةَ في نَفْسِها حَسَنَةٌ، وهي مِن بَيْتِ النُّبُوَّةِ أحْسَنُ، والسَّيِّئَةُ في نَفْسِها سَيِّئَةٌ، وهي مِن بَيْتِ النُّبُوَّةِ أسْوَأُ، (واذْكُرُوا) أمْرٌ مِنَ الذِّكْرِ بِكَسْرِ الذّالِ، وضَمِّها بِمَعْنًى واحِدٍ، ويَكُونانِ بِاللِّسانِ والجَنانِ، وقالَ الكِسائِيُّ: هو بِالكَسْرِ، لِلِّسانِ، وبِالضَّمِّ لِلْقَلْبِ، وضِدُّ الأوَّلِ الصَّمْتُ، وضِدُّ الثّانِي النِّسْيانُ، وعَلى العُمُومِ، فَإمّا أنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُما أوْ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى عامٍّ شامِلٍ لَهُما، والظّاهِرُ هو الأوَّلُ، والمَقْصُودُ مِنَ الأمْرِ بِذَلِكَ الشُّكْرُ عَلى النِّعْمَةِ، والقِيامُ بِحُقُوقِهِ، لا مُجَرَّدُ الإخْطارِ بِالجَنانِ، أوِ التَّفَوُّهِ بِاللِّسانِ، وإضافَةُ النِّعْمَةِ إلى ضَمِيرِهِ تَعالى لِتَشْرِيفِها، وإيجابِ تَخْصِيصِ شُكْرِها بِهِ سُبْحانَهُ، وقَدْ قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: إنَّها تُفِيدُ الِاسْتِغْراقَ إذْ لا عَهْدَ، ولِمُناسَبَتِهِ بِمَقامِ الدَّعْوَةِ إلى الإيمانِ فَهي شامِلَةٌ لِلنِّعَمِ العامَّةِ والخاصَّةِ بِالمُخاطَبِينَ، وفائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِكَوْنِها عَلَيْهِمْ أنَّها مِن هَذِهِ الحَيْثِيَّةِ أدْعى لِلشُّكْرِ، فَإنَّ الإنْسانَ حَسُودٌ غَيُورٌ، وقالَ قَتادَةُ: أُرِيدَ بِها ما أنْعَمَ بِهِ عَلى آبائِهِمْ مِمّا قَصَّهُ سُبْحانَهُ في كِتابِهِ، وعَلَيْهِمْ مِن فُنُونِ النِّعْمَةِ الَّتِي أجَلُّها إدْراكُ زَمَنِ أشْرَفِ الأنْبِياءِ، وجَعَلَهم مِن جُمْلَةِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ لَهُ، ويَحْتاجُ تَصْحِيحُ الخِطابِ حِينَئِذٍ إلى اعْتِبارِ التَّغْلِيبِ أوْ جَعْلِ نِعَمِ الآباءِ نِعَمَهُمْ، فَلا جَمْعَ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ، كَما وهِمَ، ويَجُوزُ في الياءِ مِن (نِعْمَتِيَ) الإسْكانُ والفَتْحُ، والقُرّاءُ السَّبْعَةُ مُتَّفِقُونَ عَلى الفَتْحِ، (وأنْعَمْتُ)، صِلَةُ الَّتِي، والعائِدُ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ أنْعَمْتُها، وقُرِئَ (ادَّكِرُوا) بِالدّالِ المُهْمَلَةِ المُشَدَّدَةِ عَلى وزْنِ افْتَعِلُوا، ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ يُقالُ: أوْفى، ووَفى مُخَفَّفًا ومُشَدَّدًا بِمَعْنًى، وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقالُ: أوْفَيْتُ بِالعَهْدِ، ووَفَّيْتُ بِهِ، وأوْفَيْتُ الكَيْلَ لا غَيْرُ، وجاءَ أوْفى بِمَعْنى ارْتَفَعَ كَقَوْلِهِ: ؎رُبَّما أوْفَيْتُ في عِلْمٍ ∗∗∗ تَرْفَعْنَ ثَوْبِي شِمالاتُ والعَهْدُ يُضافُ إلى كُلٍّ مِمَّنْ يَتَوَلّى أحَدَ طَرَفَيْهِ، والظّاهِرُ هُنا أنَّ الأوَّلَ مُضافٌ إلى الفاعِلِ، والثّانِيَ إلى المَفْعُولِ، فَإنَّهُ تَعالى أمَرَهم بِالإيمانِ والعَمَلِ، وعَهِدَ إلَيْهِمْ بِما نَصَبَ مِنَ الحُجَجِ العَقْلِيَّةِ والنَّقْلِيَّةِ الآمِرَةِ بِذَلِكَ، ووَعَدَهم بِحُسْنِ الثَّوابِ عَلى حَسَناتِهِمْ، والمَعْنى: أوْفُوا بِعَهْدِي بِالإيمانِ والطّاعَةِ أُوفِ بِعَهْدِكم بِحُسْنِ الإثابَةِ، ولِتَوَسُّطِ الأمْرِ صَحَّ طَلَبُ الوَفاءِ مِنهُمْ، وانْدَفَعَ ما قالَ العَلّامَةُ التَّفْتازانِيُّ عَلى ما فِيهِ أنَّهُ لا مَعْنى لِوَفاءِ غَيْرِ الفاعِلِ بِالعَهْدِ، وقِيلَ: وهو المَفْهُومُ مِن كَلامِ قَتادَةَ ومُجاهِدٍ أنَّ كِلَيْهِما مُضافٌ إلى المَفْعُولِ، والمَعْنى أوْفُوا بِما عاهَدْتُمُونِي مِنَ الإيمانِ والتِزامِ الطّاعَةِ أُوفِ بِما عاهَدْتُكم مِن حُسْنِ الإثابَةِ، وتَفْصِيلُ العَهْدَيْنِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ولأُدْخِلَنَّكُمْ﴾ إلَخْ، ويُحْوِجُ هَذا إلى اعْتِبارِ أنَّ عَهْدَ الآباءِ عَهْدُ الأبْناءِ لِتَناسُبِهِمْ في الدِّينِ، وإلّا فالمُخاطَبُونَ بِأوْفُوا ما عُوهِدُوا بِالعَهْدِ المَذْكُورِ في الآيَةِ، وقِيلَ: إنْ فُسِّرَ الإيفاءُ بِإتْمامِ العَهْدِ تَكُونُ الإضافَةُ إلى المَفْعُولِ في المَوْضِعَيْنِ، وإنْ فُسِّرَ بِمُراعاتِهِ تَكُونُ الإضافَةُ الأُولى لِلْفاعِلِ والثّانِيَةُ لِلْمَفْعُولِ (p-243)وفِيهِ تَأمُّلٌ، ولا يَخْفى أنَّ لِلْوَفاءِ عَرْضًا عَرِيضًا، فَأوَّلُ المَراتِبِ الظّاهِرَةِ مِنّا الإتْيانُ بِكَلِمَتَيِ الشَّهادَةِ، ومِنهُ تَعالى حَقْنُ الدِّماءِ والمالِ، وآخِرُها مِنّا الفَناءُ حَتّى عَنِ الفَناءِ، ومِنهُ تَعالى التَّحْلِيَةُ بِأنْوارِ الصِّفاتِ والأسْماءِ، فَما رُوِيَ مِنَ الآثارِ عَلى اخْتِلافِ أسانِيدِها صِحَّةً وضَعْفًا في بَيانِ الوَفاءِ بِالعَهْدَيْنِ، فَبِالنَّظَرِ إلى المَراتِبِ المُتَوَسِّطَةِ، وهي لَعَمْرِي كَثِيرَةٌ، ولَكَ أنْ تَقُولَ: أوَّلُ المَراتِبِ مِنّا تَوْحِيدُ الأفْعالِ وأوْسَطُها تَوْحِيدُ الصِّفاتِ، وآخِرُها تَوْحِيدُ الذّاتِ، ومِنهُ تَعالى ما يُفِيضُهُ عَلى السّالِكِ في كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِمّا تَقْتَضِيهِ تِلْكَ المَرْتَبَةُ مِنَ المَعارِفِ، والأخْلاقِ، وقَرَأ الزُّهْرِيُّ (أُوَفِّ) بِالتَّشْدِيدِ، فَإنْ كانَ مُوافِقًا لِلْمُجَرَّدِ فَذاكَ، وإنْ أُرِيدَ بِهِ التَّكْثِيرُ والقَلْبُ إلَيْهِ يَمِيلُ فَهو إشارَةٌ إلى عَظِيمِ كَرَمِهِ وإحْسانِهِ، ومَزِيدِ امْتِنانِهِ حَيْثُ أخْبَرَ وهو الصّادِقُ أنَّهُ يُعْطِي الكَثِيرَ في مُقابَلَةِ القَلِيلِ، وهو صَرَّحَ بِذَلِكَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِها﴾ وانْجِزامُ الفِعْلِ لِوُقُوعِهِ في جَوابِ الأمْرِ، والجَزْمُ إمّا بِهِ نَفْسِهِ أوْ بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ، وهو اخْتِيارُ الفارِسِيِّ، ونَصُّ سِيبَوَيْهِ. ﴿وإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ الرَّهْبَةُ الخَوْفُ مُطْلَقًا، وقِيلَ: مَعَ تَحَرُّزٍ، وبِهِ فارَقَ الِاتِّقاءَ لِأنَّهُ مَعَ حَزْمٍ، ولِهَذا كانَ الأوَّلُ لِلْعامَّةِ، والثّانِي لِلْأئِمَّةِ، والأشْبَهُ بِمَواقِعِ الِاسْتِعْمالِ أنَّ الِاتِّقاءَ التَّحَفُّظُ عَنِ المَخُوفِ، وأنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ في وِقايَةٍ مِنهُ، والرَّهْبَةُ نَفْسُ الخَوْفِ، وفي الأمْرِ بِها وعِيدٌ بالِغٌ، ولَيْسَ ذَلِكَ لِلتَّهْدِيدِ، والتَّهْوِيلِ، كَما في ﴿اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ﴾ كَما وهِمَ، لِأنَّ هَذا مَطْلُوبٌ، وذاكَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ، كَما لا يَخْفى، (وإيّايَ) ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مَنصُوبُ المَحَلِّ بِمَحْذُوفٍ، يُفَسِّرُهُ المَذْكُورُ، والفاءُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ جَزائِيَّةٌ زُحْلِقَتْ مِنَ الجَزاءِ المَحْذُوفِ إلى مُفَسِّرِهِ لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلى تَقْدِيرِ الشَّرْطِ، ويَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً لِلْفاءِ الجَزائِيَّةِ المَحْذُوفَةِ مَعَ الجَزاءِ، ومَن أطْلَقَ الجَزائِيَّةَ عَلَيْها، فَقَدْ تَوَسَّعَ، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ عاطِفَةً لِئَلّا يَجْتَمِعَ عاطِفانِ، واخْتارَ صاحِبُ المِفْتاحِ أنَّها لِلْعَطْفِ عَلى الفِعْلِ المَحْذُوفِ، فَإنْ أُرِيدَ التَّعْقِيبُ الزَّمانِيُّ أفادَتْ طَلَبَ اسْتِمْرارِ الرَّهْبَةِ في جَمِيعِ الأزْمِنَةِ بِلا تَخَلُّلِ فاصِلٍ، وإنْ أُرِيدَ الرُّتَبِيُّ كانَ مُفادُها طَلَبَ التَّرَقِّي مِن رَهْبَةٍ إلى رَهْبَةٍ أعْلى، ولا يَقْدَحُ في ذَلِكَ اجْتِماعُها مَعَ واوِ العَطْفِ مَثَلًا، لِأنَّها لِعَطْفِ المَحْذُوفِ عَلى ما قَبْلَهُ، وهَذِهِ الفاءُ لِعَطْفِ المَذْكُورِ عَلى المَحْذُوفِ، وكَوْنُ (فارْهَبُونِ) مُفَسِّرًا لِلْمَحْذُوفِ لا يَقْتَضِي اتِّحادَهُ بِهِ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ، وأنْ لا يُفِيدَ مَعْنًى سِوى التَّفْسِيرِ حَتّى يَصِحَّ جَعْلُها عاطِفَةً، واسْتَحْسَنَ هَذا بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ لِاشْتِمالِهِ عَلى مَعْنًى بَدِيعٍ خَلَتْ عَنْهُ الجَزائِيَّةُ، وقالَ بَعْضُهم كالمُتَوَسِّطِ في المَسْألَةِ: إنَّها عاطِفَةٌ بِحَسَبِ الأصْلِ، وبَعْدَ الحَذْفِ زُحْلِقَتْ وجُعِلَتْ جَزائِيَّةً، وعَلى كُلِّ تَقْدِيرٍ فالآيَةُ الكَرِيمَةُ آكَدُ في إفادَةِ التَّخْصِيصِ مِن ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ وعُدَّ مِن وُجُوهِ التَّأْكِيدِ تَقْدِيمُ الضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ، وتَأْخِيرُ المُتَّصِلِ، والفاءُ المُوجِبَةُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، ومَعْطُوفًا، أحَدُهُما مُظْهَرٌ والآخَرُ مُضْمَرٌ، تَقْدِيرُهُ: إيّايَ ارْهَبُوا، (فارْهَبُونِ)، وما في ذَلِكَ مِن تَكْرِيرِ الرَّهْبَةِ وما فِيهِ مِن مَعْنى الشَّرْطِ بِدِلالَةِ الفاءِ، والمَعْنى: إنْ كُنْتُمْ مُتَّصِفِينَ بِالرَّهْبَةِ، فَخُصُّونِي بِالرَّهْبَةِ، وحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الرَّهْبَةِ لِلْعُمُومِ، أيِ ارْهَبُونِي في جَمِيعِ ما تَأْتُونَ وتَذَرُوَنَ، وقِيلَ: ارْهَبُونِ في نَقْضِ العَهْدِ، ولَعَلَّ التَّخْصِيصَ بِهِ مُسْتَفادٌ مِن ذِكْرِ الأمْرِ بِالرَّهْبَةِ مَعَهُ، ثُمَّ الخَوْفُ خَوْفانِ خَوْفُ العِقابِ، وهو نَصِيبُ أهْلِ الظّاهِرِ وخَوْفُ إجْلالٍ وهو نَصِيبُ أهْلِ القُلُوبِ، وما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ المَعْنى: ارْهَبُونِ أنْ أُنْزِلَ بِكم ما أنْزَلْتُ بِمَن كانَ قَبْلَكم مِن آبائِكم مِنَ النَّقَماتِ الَّتِي قَدْ عَرَفْتُمْ مِنَ المَسْخِ، وغَيْرِهِ، ظاهِرٌ في قِسْمِ أهْلِ الظّاهِرِ، وهو المُناسِبُ بِحالِ هَؤُلاءِ المُخاطَبِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا وهم عَنِ الآخِرَةِ هم غافِلُونَ، وحُذِفَتْ ياءُ الضَّمِيرِ مِنَ (ارْهَبُونِ) لِأنَّها فاصِلَةٌ، وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ بِالياءِ عَلى الأصْلِ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب