الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿يابَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيكُمْ وأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وإيّايَ فارْهَبُونِ ﴾ [البقرة: ٤٠].
أمَرَ اللهُ سبحانَهُ بني إسرائيلَ بالوفاءِ بالعهدِ، ولا وفاءَ بعهدٍ إلا وقد سبَقَ عهدٌ بينَهم وبينَ اللهِ يَعْلَمونَه، وقد سمّاهُ اللهُ ميثاقًا تارةً، وتارةً عهدًا، قال تعالى: ﴿وأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، وقال: ﴿وأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عاهَدْتُّمْ﴾ [النحل: ٩١]، وقال: ﴿ولَقَدْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ وبَعَثْنا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ [المائدة: ١٢]، وقال: ﴿لَقَدْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ وأَرْسَلْنا إلَيْهِمْ رُسُلًا﴾ [المائدة: ٧٠]، وقال: ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤].
عهدُ اللهِ لبني إسرائيلَ:
وميثاقُهم وعهدُ اللهِ إليهم: هو حِفْظُ الدِّينِ وصيانتُهُ، والقيامُ بواجبِهِ بالبلاغِ والتذكيرِ والتعليمِ، والإيمانُ بالنبيِّ الأُمِّيِّ لو رأَوْهُ أو سمِعوا به، هذا عهدُ اللهِ إليهم، وعهدُهم إليه سبحانَه: هو إدخالُهم الجنةَ، وإثابتُهم على ذلك.
روى أبو نُعَيْمٍ في «الحِلْيَةِ»، مِن حديثِ داودَ بنِ مِهْرانَ، قال: سمِعتُ فُضَيْلًا يقولُ في قولِهِ: ﴿وأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، قال: أوْفُوا بما أمَرْتُكم، أُوفِ لكم بما وعدتُّكم[[«حلية الأولياء» (٨ /١٠٤).]].
وهذا العهدُ نسَبَهُ اللهُ إليهم، إكرامًا لهم لو وفَوْا بعهدِهِ، وإلا فاللهُ جعَلَهُ على نفسِهِ بنفسِهِ، روى ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ، مِن حديثِ أبي رَوْقٍ، عن الضَّحّاكِ، عنِ ابنِ عباسٍ، في قولِهِ: ﴿وأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، يقولُ: أوْفُوا بما أمرتُكم به مِن طاعتي ونهيتُكم عنه مِن معصيتي في النبيِّ ﷺ وفي غيرِهِ، ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، يقولُ: أرْضَ عنكم، وأُدخِلْكمُ الجنةَ[[«تفسير الطبري» (١/٥٩٨)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٩٦).]].
ويفسِّرُ هذا قولُهُ ﷺ في «الصحيحينِ»، من حديثِ معاذٍ، قال: (حَقُّ اللهِ عَلى العِبادِ: أنْ يَعْبُدُوهُ ولا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وحَقُّ العِبادِ عَلى اللهِ: ألاَّ يُعذِّبَ مَن لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) [[أخرجه البخاري (٢٨٥٦) (٤ /٢٩)، ومسلم (٣٠) (١ /٥٨).]].
وهذا نظيرُ قولِهِ تعالى في الخبرِ القُدْسيِّ الذي رواه مسلم: (يا عِبادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلى نَفْسِي، وجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا) [[أخرجه مسلم (٢٥٧٧) (٤ /١٩٩٤).]].
فهو مَن يحرِّمُ على نفسِهِ، ويكتُبُ ويُوجِبُ سبحانَه، ولمّا كان الأمرُ مِن طرَفَيْنِ، أشْبَهَ العهدَ والعقدَ.
ولكنَّ بني إسرائيلَ نقَضُوا العهدَ، وبدَّلُوا وحرَّفوا، وكتَمُوا ما لم يستطيعوا تحريفَهُ، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ﴾ [البقرة: ٢٧].
وفي الآيةِ مسائلُ مِن أظهرِها:
أولًا: وجوبُ الالتزامِ بالعهودِ والمواثيقِ وأدائِها إلى أهلِها كما هي، وأنّها لا تسقُطُ إلا بفسخِها مِن الطرَفَيْنِ، قال تعالى: ﴿وأَوْفُوا بِالعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كانَ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: ٣٤]، وقال: ﴿والَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وعَهْدِهِمْ راعُونَ ﴾ [المؤمنون: ٨، والمعارج: ٣٢].
وإنّما كانتِ العهودُ والمواثيقُ بينَ العبادِ مشابهةً لعهودِهم مع الخالقِ سبحانَه في وجوبِ الوفاءِ والالتزامِ بها، لأنّ اللهَ ـ جلَّ وعلا ـ جعَلَ الوفاءَ بينَ العبادِ والعدلَ بينَهم والتظالُمَ مشابهًا لعدلِهِ سبحانه وتعالى مِن جهةِ الاشتراكِ المعنويِّ في وجوبِ العدلِ وتحريمِ الظلمِ، ففي «صحيحِ مسلمٍ»، عن أبي ذرٍّ، عن النبيِّ ﷺ فيما روى عن اللهِ ـ تبارَكَ وتعالى ـ أنّه قال: (يا عِبادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلى نَفْسِي، وجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلا تَظالَمُوا...) الحديثَ[[سبق تخريجه قريبًا (ص٤٤).]].
فدلَّلَ سبحانَه لعبادِهِ على تحريمِ التظالُمِ بكونِهِ محرَّمًا عليه، فقد حرَّمَ على نفسِهِ أنْ يَظلِمَ أحدًا بعدمِ إعطائِهِ ما جعلَهُ سبحانَهُ حقًّا له، فكذلك العبادُ فيما بينَهم، فالظلمُ إذا حرَّمَهُ اللهُ على نفسِهِ وله حقٌّ تامٌّ على عبادِهِ، فهو بينَ العبادِ المُتساوِينَ مِن بابِ أولى.
وقولُهُ: (وجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا): إشارةٌ إلى العقودِ والعهودِ وشبهِها التي يجبُ فيها الوفاءُ، ويدخُلُ في ذلك حُرْمةُ التعدِّي، لأنّها داخلةٌ في أصلِ ما تعاهَدَتْ عليه البشريَّةُ مِن بَذْلِ الأمانِ ولو عُرْفًا، أو بالتحيةِ التي يبذُلُها بعضُهم لبعضٍ: «السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ».
ثانيًا: أنّ تفريطَ أحدِ المتعاهدَيْنِ موجِبٌ لسقوطِ حقِّهِ في وفاءِ الآخَرِ له، والعقودُ والعهودُ لها شروطٌ، ومِن حيثُ جهاتُها هي نوعانِ:
النوعُ الأولُ: شروطُ الخالقِ مع المخلوقِ، وهي كشروطِ العباداتِ التي فرَضَها اللهُ معها، كشروطِ الصلاةِ ونحوِها، فمَن ترَكَ شرطًا متعمِّدًا بلا عذرٍ، بطَلَتْ صلاتُهُ، ولم يستحقَّ الأجرَ، كسَتْرِ العورةِ، ومَن ترَكَ شرطًا بعذرٍ، كعادمِ الماءِ والترابِ، وعادمِ الثوبِ للعورةِ، فصلاتُهُ صحيحةٌ رحمةً مِن اللهِ ولطفًا.
ولا يُتصوَّرُ الإخلالُ بالشروطِ إلا مِن العبدِ، لضعفِهِ وقصورِ أهليَّتِهِ بنسيانٍ وضعفٍ وعجزٍ وعنادٍ.
النوعُ الثاني: شروطٌ في العقودِ بينَ الخَلْقِ، كالعقودِ على البيوعِ والنكاحِ وشبهِها، فهذه يجبُ الوفاءُ بها بالاتِّفاقِ، قال تعالى: ﴿والَّذِينَ هُمْ لأِماناتِهِمْ وعَهْدِهِمْ راعُونَ ﴾ [المؤمنون: ٨، والمعارج: ٣٢].
والإخلالُ بشرطٍ مِن شروطِ العقدِ موجبٌ لحقِّ الفسخِ إنْ أرادَ صاحبُ الحقِّ فَسْخَه، وإنْ أرادَ إجازتَهُ، فله ذلك.
فروى أبو داودَ في «سننِهِ»، من حديثِ مَرْوانَ بنِ محمدٍ، عن سليمانَ بنِ بلالٍ، أو عبدِ العزيزِ بنِ محمدٍ، عن كَثِيرِ بنِ زيدٍ، عن الوليدِ بنِ رَباحٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (المُسْلِمُونَ عَلى شُرُوطِهِمْ) [[أبو داود (٣٥٩٤) (٣ /٣٠٤).]].
ورواهُ البخاريُّ في «صحيحِه»، معلَّقًا بصيغةِ الجزمِ، فقال: وقال النبيُّ ﷺ: (المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ) [[البخاري (٣ /٩٢).]].
وروى الترمذيُّ في «سننِهِ»، مِن حديثِ كَثِيرِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ عَوْفٍ المُزَنِيِّ، عن أبيه، عن جدِّهِ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (الصُّلْحُ جائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، إلاَّ صُلْحًا حَرَّمَ حَلالًا، أوْ أحَلَّ حَرامًا، والمُسْلِمُونَ عَلى شُرُوطِهِمْ، إلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلالًا، أوْ أحَلَّ حَرامًا) [[الترمذي (١٣٥٢) (٣ /٦٢٦).]].
وروى مالكٌ في «الموطَّأِ»، قال: أخبَرَني يحيى بنُ سعيدٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ القاسمِ، أنّه سَمِعَ مكحولًا الدِّمَشقيَّ يسألُ القاسمَ بنَ محمدٍ عن العُمْرى، وما يقولُ الناسُ فيها؟ فقال له القاسمُ: ما أدْرَكْتُ الناسَ إلا وهم على شروطِهم في أموالِهم، وفيما أعْطَوْا[[أخرجه مالك في «الموطأ» (عبد الباقي) (٤٤) (٢ /٧٥٦).]].
وكذلك العهودُ التي بينَ الأُمَمِ والدُّوَلِ والقبائلِ يجبُ الوفاءُ بها بالاتفاقِ، والإخلالُ بواحدٍ منها مُسقِطٌ لكاملِ العقدِ.
وإنْ أخَلَّ أحدُ المتعاقدَيْنِ بشرطٍ، فللثاني حقُّ إسقاطِ العقدِ، وله حقُّ إبقائِهِ بدونِهِ مِن جديدٍ، وإلا فهو باطلٌ بصيغتِهِ السابقةِ.
{"ayah":"یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتِیَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ وَأَوۡفُوا۟ بِعَهۡدِیۤ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ وَإِیَّـٰیَ فَٱرۡهَبُونِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق