الباحث القرآني

﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكم وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكم وإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ ﴿وآمِنُوا بِما أنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكم ولا تَكُونُوا أوَّلَ كافِرٍ بِهِ ولا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وإيّايَ فاتَّقُونِ﴾ [البقرة: ٤١] ﴿ولا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالباطِلِ وتَكْتُمُوا الحَقَّ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٤٢] ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٣] . ابْنُ: مَحْذُوفُ اللّامِ، وقِيلَ: الياءُ. خِلافٌ، وفي وزْنِهِ عَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ خِلافٌ، فَقِيلَ: فِعْلٌ، وقِيلَ: فَعِلٍ. فَمَن زَعَمَ أنَّ أصْلَهُ ياءٌ جَعَلَهُ مُشْتَقًّا مِنَ البِناءِ، وهو وضْعُ الشَّيْءِ عَلى الشَّيْءِ، والِابْنُ فَرْعٌ عَنِ الأبِ، فَهو مَوْضُوعٌ عَلَيْهِ، وجُعِلَ قَوْلُهم البُنُوَّةُ شاذٌّ كالفُتُوَّةِ، ومَن زَعَمَ أنَّ أصْلَهُ واوٌ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الأخْفَشُ، جَعَلَ البُنُوَّةَ دَلِيلًا عَلى ذَلِكَ، ولِكَوْنِ اللّامِ المَحْذُوفَةِ واوًا أكْثَرَ مِنها ياءٌ، وجَمْعُ ابْنٍ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، فَقالُوا: أبْناءٌ، وجَمْعُ سَلامَةٍ، فَقالُوا: بَنُونَ، وهو جَمْعٌ شاذٌّ، إذْ لَمْ يَسْلَمْ فِيهِ بِناءُ الواحِدِ، فَلَمْ يَقُولُوا ابْنُونَ، ولِذَلِكَ عامَلَتِ العَرَبُ هَذا الجَمْعَ في بَعْضِ كَلامِها مُعامَلَةَ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، فَأُلْحِقَتِ التّاءُ في فِعْلِهِ، كَما أُلْحِقَتْ في فِعْلِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، قالَ النّابِغَةُ: ؎قالَتْ بَنُو عامِرٍ خالُو بَنِي أسَدٍ يا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضَرّارًا لِأقْوامِ وقَدْ سُمِعَ الجَمْعُ بِالواوِ والنُّونِ فِيهِ مُصَغَّرًا، قالَ يُسَدِّدُ: ؎أبَيْنُوها الأصاغِرَ خُلَّتِي وهُوَ شاذٌّ أيْضًا. إسْرائِيلَ: اسْمٌ عَجَمِيٌّ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ، وقَدْ ذَكَرُوا أنَّهُ مُرَكَّبٌ مِن إسْرا: وهو العَبْدُ، وإيلَ: اسْمٌ مِن أسْماءِ اللَّهِ تَعالى، فَكَأنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وذَلِكَ بِاللِّسانِ العِبْرانِيِّ، فَيَكُونُ مِثْلَ: جِبْرائِيلَ، ومِيكائِيلَ، وإسْرافِيلَ، وعِزْرائِيلَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقِيلَ: مَعْنى إسْرا: صَفْوَةٌ، وإيلَ: اللَّهُ تَعالى، فَمَعْناهُ: صَفْوَةُ اللَّهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِ، وقالَ بَعْضُهم: إسْرا مُشْتَقٌّ مِنَ الأسْرِ، وهو الشَّدُّ، فَكَأنَّ إسْرائِيلَ مَعْناهُ: الَّذِي شَدَّهُ اللَّهُ وأتْقَنَ خَلْقَهُ. وقِيلَ: أسْرى بِاللَّيْلِ مُهاجِرًا إلى اللَّهِ تَعالى فَسُمِّيَ بِذَلِكَ. وقِيلَ: أسَرَ جِنِّيًّا كانَ يُطْفِئُ سُرُجَ بَيْتِ المَقْدِسِ، وكانَ اسْمُ الجِنِّيِّ: إيلَ، فَسُمِّيَ إسْرائِيلُ، وكانَ يَخْدُمُ بَيْتَ المَقْدِسِ، وكانَ أوَّلَ مَن يَدْخُلُ، وآخِرَ مَن يَخْرُجُ، قالَهُ كَعْبٌ، وقِيلَ: أسْرى بِاللَّيْلِ هارِبًا مِن أخِيهِ عَيْصُو إلى خالِهِ، في حِكايَةٍ طَوِيلَةٍ ذَكَرُوها، فَأُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وهَذِهِ أقاوِيلٌ ضِعافٌ، وفِيهِ تَصَرُّفاتٌ لِلْعَرَبِ بِقَوْلِهِمْ: إسْرائِيلُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الألِفِ وياءٍ بَعْدَها، وهي قِراءَةُ الجُمْهُورِ، وإسْرايِيلُ بِياءَيْنِ بَعْدَ الألِفِ، وهي قِراءَةُ أبِي جَعْفَرٍ والأعْشى وعِيسى بْنُ عُمَرَ، وإسْرائِلُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الألِفِ ثُمَّ لامٌ، وهو مَرْوِيٌّ عَنْ ورْشٍ، وإسْراءَلُ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الرّاءِ ولامٌ، وإسْرِئِلُ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الرّاءِ، وإسْرالُ بِألِفٍ مُمالَةٍ بَعْدَها لامٌ خَفِيفَةٌ، وإسْرالُ بِألِفٍ غَيْرِ مُمالَةٍ، قالَ أُمَيَّةَ:(p-١٧٢) ؎لا أرى مَن يُعَيِّشُنِي في حَياتِي ∗∗∗ غَيْرَ نَفْسِي إلّا بَنِي إسْرالا وهِيَ رِوايَةٌ خارِجَةٌ عَنْ نافِعٍ، وقَرَأ الحَسَنُ والزُّهْرِيُّ وابْنُ أبِي إسْحاقَ وغَيْرُهم: وإسْرائِنُ بَنُونٍ بَدَلَ اللّامِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎يَقُولُ أهْلُ السُّوءِ لَمّا ∗∗∗ جِينا هَذا ورَبِّ البَيْتِ إسْرائِينا كَما قالُوا: سِجِّيلٌ وسِجِّينٌ، ورَفْلٌ ورَفْنٌ، وجِبْرِيلُ وجِبْرِينُ، أُبْدِلَتْ بِالنُّونِ كَما أُبْدِلَتِ النُّونُ بِها في أصِيلانِ قالُوا: أصِيلالِ، وإذا جَمَعْتَهُ جَمْعَ تَكْسِيرٍ قُلْتَ: أسارِيلُ، وحُكِيَ: أسارِلَةٌ وأسارِلٌ. الذِّكْرُ: بِكَسْرِ الذّالِ وضَمِّها لُغَتانِ بِمَعْنًى واحِدٍ، وقالَ الكِسائِيُّ: يَكُونُ بِاللِّسانِ، والذِّكْرُ بِالقَلْبِ فَبِالكَسْرِ ضِدُّهُ: الصَّمْتُ، وبِالضَّمِّ ضِدُّهُ: النِّسْيانُ، وهو بِمَعْنى التَّيَقُّظِ والتَّنَبُّهِ، ويُقالُ: اجْعَلْهُ مِنكَ عَلى ذِكْرٍ، النِّعْمَةُ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ المُنْعَمِ بِهِ، وكَثِيرًا ما يَجِيءُ فِعْلٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ: كالذَّبْحِ، والنَّقْصِ، والرَّعْيِ، والطَّحْنِ، ومَعَ ذَلِكَ لا يَنْقاسُ. أوْفى، ووَفى، ووَفّى لُغًى ثَلاثٌ في مَعْنًى واحِدٍ، وتَأْتِي أوْفى بِمَعْنى: ارْتَفَعَ، قالَ: رُبَّما أوْفَيْتُ في عِلْمٍ تَرْفَعْنَ ثَوْبِي شَمالاتٍ والمِيفاتُ: مَكانٌ مُرْتَفِعٌ، وقالَ الفَرّاءُ: أهْلُ الحِجازِ يَقُولُونَ: أوْفَيْتُ، وأهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ: وفَّيْتُ بِغَيْرِ ألِفٍ، وقالَ الزَّجّاجُ: وفى بِالعَهْدِ، وأوْفى بِهِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎أمّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أوْفى بِذِمَّتِهِ كَما ∗∗∗ وفّى بِقِلاصِ النَّجْمِ حادِيها وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقالُ وفَّيْتُ بِالعَهْدِ، وأوْفَيْتُ بِهِ، وأوْفَيْتُ الكَيْلَ لا غَيْرُ، وقالَ أبُو الهَيْثَمِ: وفى الشَّيْءُ: تَمَّ، ووَفّى الكَيْلَ وأوْفَيْتُهُ: أتْمَمْتَهُ، ووَفّى رِيشُ الطّائِرِ: بَلَغَ التَّمامَ، ودِرْهَمٌ وافٍ: أيْ تامٌّ كامِلٌ. الرَّهَبُ والرُّهْبُ والرَّهْبُ والرَّهْبَةُ: الخَوْفُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّهابَةِ، وهو عَظْمُ الصَّدْرِ يُؤَثِّرُ فِيهِ الخَوْفُ، والرَّهَبُ: النَّصْلُ؛ لِأنَّهُ يُرْهَبُ مِنهُ، والرَّهْبَةُ والخَشْيَةُ والمَخافَةُ نَظائِرُ. التَّصْدِيقُ: اعْتِقادُ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ ومُطابَقَتِهِ لِلْمُخْبَرِ بِهِ، والتَّكْذِيبُ يُقابِلُهُ. أوَّلُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: أفْعَلُ، وفاؤُهُ وعَيْنُهُ واوانِ، ولَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنهُ فِعْلٌ لِاسْتِثْقالِ اجْتِماعِ الواوَيْنِ، فَهو مِمّا فاؤُهُ وعَيْنُهُ مِن جِنْسٍ واحِدٍ، لَمْ يُحْفَظْ مِنهُ إلّا: دُدَنٌ، وقُقَسٌ، وبُبَنٌ، وبابُوسٌ. وقِيلَ: إنَّ بابُوسًا أعْجَمِيٌّ. وعِنْدَ الكُوفِيِّينَ أفْعَلُ مِن وألَ: إذا لَجَأ، فَأصْلُهُ أوْألُ، ثُمَّ خُفِّفَ بِإبْدالِ الهَمْزَةِ واوًا، ثُمَّ بِالإدْغامِ، وهَذا تَخْفِيفٌ غَيْرُ قِياسِيٍّ، إذْ تَخْفِيفُ مِثْلِ هَذا إنَّما هو بِحَذْفِ الهَمْزَةِ ونَقْلِ حَرَكَتِها إلى السّاكِنِ قَبْلَها، وقالَ بَعْضُ النّاسِ: هو أفْعَلُ مِن آلَ يَأُولُ، فَأصْلُهُ أأُولُ، ثُمَّ قُلِبَ فَصارَ أوْألُ أعْفَلُ، ثُمَّ خُفِّفَ بِإبْدالِ الهَمْزَةِ واوًا، ثُمَّ بِالإدْغامِ. وهَذانِ القَوْلانِ ضَعِيفانِ. ويُسْتَعْمَلُ أوَّلُ اسْتِعْمالَيْنِ، أحَدُهُما: أنْ يُجْرى مَجْرى الأسْماءِ فَيَكُونَ مَصْرُوفًا، وتَلِيهِ العَوامِلُ نَحْوَ: أفْكَلُ، وإنْ كانَ مَعْناهُ مَعْنى قَدِيمٍ، وعَلى هَذا قَوْلُ العَرَبِ: مِمّا تَرَكْتُ لَهُ أوَّلًا ولا آخِرًا، أيْ ما تَرَكْتُ لَهُ قَدِيمًا ولا حَدِيثًا، والِاسْتِعْمالُ الثّانِي: أنْ يُجْرى مَجْرى أفْعَلِ التَّفْضِيلِ، فَيُسْتَعْمَلُ عَلى ثَلاثَةِ أنْحائِهِ مِن كَوْنِهِ بِمَن مَلْفُوظًا بِها، أوْ مُقَدَّرَةً، وبِالألِفِ واللّامِ، وبِالإضافَةِ، وقالَتِ العَرَبُ: ابْدَأْ بِهَذا أوَّلُ، فَهَذا مَبْنِيٌّ عَلى الضَّمِّ بِاتِّفاقٍ، والخِلافُ في عِلَّةِ بِنائِهِ ذَلِكَ لِقَطْعِهِ عَنِ الإضافَةِ، والتَّقْدِيرُ: أوَّلُ الأشْياءِ، أمْ لِشِبْهِ القَطْعِ عَنِ الإضافَةِ، والتَّقْدِيرُ: أوَّلُ مَن كَذا، والأوْلى أنْ تَكُونَ العِلَّةُ القَطْعَ عَنِ الإضافَةِ، والخِلافُ إذا بُنِيَ، أهْوَ ظَرْفٌ أوِ اسْمٌ غَيْرُ ظَرْفٍ ؟ وهو خِلافٌ مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ الَّذِي يُبْنى لِلْقَطْعِ شَرْطُهُ أنْ يَكُونَ ظَرْفًا، أوْ لا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِيهِ، وكُلُّ هَذا مُسْتَوْفًى في عِلْمِ النَّحْوِ، الثَّمَنُ: العِوَضُ المَبْذُولُ في مُقابَلَةِ العَيْنِ المَبِيعَةِ، وقالَ: ؎إنْ كُنْتَ حاوَلْتَ دُنْيا أوْ ظَفِرْتَ بِها ∗∗∗ فَما أصَبْتَ بِتَرْكِ الحَجِّ مِن ثَمَنِ أيْ مِن عِوَضٍ. القَلِيلُ: يُقابِلُهُ الكَثِيرُ، واتَّفَقا في زِنَةِ اسْمِ الفاعِلِ، واخْتَلَفا في زِنَةِ الفِعْلِ، فَماضِي (p-١٧٣)القَلِيلِ فَعَلَ، وماضِي الكَثِيرِ فَعُلَ، وكانَ القِياسُ أنْ يَكُونَ اسْمُ الفاعِلِ مَن قَلَّ عَلى فاعِلٍ نَحْوَ: شَذَّ يَشِذُّ فَهو شاذٌّ، لَكِنْ حُمِلَ عَلى مُقابِلِهِ، ومِثْلُ قَلَّ فَهو قَلِيلٌ: صَحَّ فَهو صَحِيحٌ. اللَّبْسُ: الخَلْطُ، تَقُولُ العَرَبُ: لَبَسْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ: خَلَطْتَهُ، والتَبَسَ بِهِ: اخْتَلَطَ، وقالَ العَجّاجُ: ؎لِما لَبِسْنَ الحَقَّ بِالتَّجَنِّي وجاءَ ألْبَسَ بِمَعْنى لَبَّسَ، وقالَ آخَرُ: ؎وكَتِيبَةٍ ألْبَسْتُها بِكَتِيبَةٍ حَتّى ∗∗∗ إذا التَبَسَتْ نَفَضْتُ لَها يَدِي الكَتْمُ، والكِتْمانُ: الإخْفاءُ، وضِدُّهُ: الإظْهارُ، ومِنهُ الكَتْمُ: ورَقٌ يُصْبَغُ بِهِ الشَّيْبُ. الرُّكُوعُ لَهُ مَعْنَيانِ في اللُّغَةِ، أحَدُهُما: التّطامُنُ والِانْحِناءُ، وهَذا قَوْلُ الخَلِيلِ وأبِي زَيْدٍ، ومِنهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: ؎أُخَبِّرُ أخْبارَ القُرُونِ الَّتِي مَضَتْ ∗∗∗ أدُبُّ كَأنِّي كُلَّما قُمْتُ راكِعُ والثّانِي: الذِّلَّةُ والخُضُوعُ، وهو قَوْلُ المُفَضَّلِ والأصْمَعِيِّ، قالَ الأضْبَطُ السَّعْدِيُّ: ؎لا تُهِينُ الضَّعِيفَ عَلَّكَ أنْ ∗∗∗ تَرْكَعَ يَوْمًا والدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهُ ﴿يابَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ هَذا افْتِتاحُ الكَلامِ مَعَ اليَهُودِ والنَّصارى، ومُناسَبَةُ الكَلامِ مَعَهم هُنا ظاهِرَةٌ، وذَلِكَ أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ افْتُتِحَتْ بِذِكْرِ الكِتابِ، وأنَّ فِيهِ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الكُفّارِ المَخْتُومِ عَلَيْهِمْ بِالشَّقاوَةِ، ثُمَّ بِذِكْرِ المُنافِقِينَ وذِكْرِ جُمَلٍ مِن أحْوالِهِمْ، ثُمَّ أمَرَ النّاسَ قاطِبَةً بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ ذَكَرَ إعْجازَ القُرْآنِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا ذَكَرَهُ، ثُمَّ نَبَّهَهم بِذِكْرِ أصْلِهِمْ آدَمَ، وما جَرى لَهُ مِن أكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ، وأنَّ الحامِلَ لَهُ عَلى ذَلِكَ إبْلِيسُ، وكانَتْ هاتانِ الطّائِفَتانِ، أعْنِي اليَهُودَ والنَّصارىَ، أهْلَ كِتابٍ، مُظْهِرِينَ اتِّباعَ الرُّسُلِ والِاقْتِداءَ بِما جاءَ عَنِ اللَّهِ تَعالى، وقَدِ انْدَرَجَ ذِكْرُهم عُمُومًا في قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها النّاسُ اعْبُدُوا﴾ [البقرة: ٢١]، فَجَرَّدَ ذِكْرَهم هُنا خُصُوصًا، إذْ قَدْ سَبَقَ الكَلامُ مَعَ المُشْرِكِينَ والمُنافِقِينَ، وبَقِيَ الكَلامُ مَعَ اليَهُودِ والنَّصارى، فَتَكَلَّمَ مَعَهم هُنا، وذَكَرُوا ما يَقْتَضِي لَهُمُ الإيمانَ بِهَذا الكِتابِ، كَما آمَنُوا بِكُتُبِهِمُ السّابِقَةِ، إلى آخِرِ الكَلامِ مَعَهم عَلى ما سَيَأْتِي جُمْلَةً مُفَصَّلَةً، وناسَبَ الكَلامَ مَعَهم قِصَّةَ آدَمَ، عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لِأنَّهم بَعْدَما أُوتُوا مِنَ البَيانِ الواضِحِ والدَّلِيلِ اللّائِحِ المَذْكُورِ ذَلِكَ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، مِنَ الإيفاءِ بِالعَهْدِ والإيمانِ بِالقُرْآنِ، ظَهَرَ مِنهم ضِدُّ ذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ بِالقُرْآنِ ومَن جاءَ بِهِ، وأقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالنِّداءِ لِيُحَرِّكَهم لِسَماعِ ما يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الأوامِرِ والنَّواهِي، نَحْوَ قَوْلِهِ: (يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا ويا آدَمُ اسْكُنْ) . وقَدْ تَقَدَّمَ الإشارَةُ إلى ذَلِكَ، وأضافَهم إلى لَفْظِ إسْرائِيلَ، وهو يَعْقُوبُ، ولَمْ يَقُلْ: يا بَنِي يَعْقُوبَ، لِما في لَفْظِ إسْرائِيلَ مِن أنَّ مَعْناهُ عَبْدُ اللَّهِ أوْ صَفْوَةُ اللَّهِ، وذَلِكَ عَلى أحْسَنِ تَفاسِيرِهِ، فَهَزَّهم بِالإضافَةِ إلَيْهِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: يا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، أوْ يا بَنِي صَفْوَةِ اللَّهِ، فَكانَ في ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلى أنْ يَكُونُوا مِثْلَ أبِيهِمْ في الخَيْرِ، كَما تَقُولُ: يا ابْنَ الرَّجُلِ الصّالِحِ أطِعِ اللَّهَ، فَتُضِيفُهُ إلى ما يُحَرِّكُهُ لِطاعَةِ اللَّهِ؛ لِأنَّ الإنْسانَ يُحِبُّ أنْ يَقْتَفِيَ أثَرَ آبائِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مَحْمُودًا، فَكَيْفَ إذا كانَ مَحْمُودًا ؟ ألا تَرى: ﴿إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ﴾ [الزخرف: ٢٢]، ﴿بَلْ نَتَّبِعُ ما ألْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا﴾ [البقرة: ١٧٠]، وفي قَوْلِهِ: (يا بَنِي إسْرائِيلَ) دَلِيلٌ عَلى أنَّ مَنِ انْتَمى إلى شَخْصٍ، ولَوْ بِوَسائِطَ كَثِيرَةٍ، يُطْلَقُ عَلَيْهِ أنَّهُ ابْنُهُ، وعَلَيْهِ (يا بَنِي آدَمَ) ويُسَمّى ذَلِكَ أبًا، قالَ تَعالى: ﴿مِلَّةَ أبِيكم إبْراهِيمَ﴾ [الحج: ٧٨] وفي إضافَتِهِمْ إلى إسْرائِيلَ تَشْرِيفٌ لَهم بِذِكْرِ نِسْبَتِهِمْ لِهَذا الأصْلِ الطَّيِّبِ، وهو يَعْقُوبُ بْنُ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، ونُقِلَ عَنْ أبِي الفَرَجِ بْنِ الجَوْزِيِّ: أنَّهُ لَيْسَ لِأحَدٍ مِنَ الأنْبِياءِ غَيْرَ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ، ﷺ، اسْمانِ إلّا يَعْقُوبُ، فَإنَّهُ يَعْقُوبُ، وهو إسْرائِيلُ، ونَقَلَ الجَوْهَرِيُّ في صِحاحِهِ: أنَّ المَسِيحَ اسْمُ عَلَمٍ لِعِيسى، لا اشْتِقاقَ لَهُ. وذَكَرَ البَيْهَقِيُّ عَنِ الخَلِيلِ بْنِ أحْمَدَ خَمْسَةً مِنَ الأنْبِياءِ ذَوُوا اسْمَيْنِ: مُحَمَّدٌ وأحْمَدُ نَبِيُّنا، ﷺ، وعِيسى (p-١٧٤)والمَسِيحُ، وإسْرائِيلُ ويَعْقُوبُ، ويُونُسُ وذُو النُّونِ، وإلْياسُ وذُو الكِفْلِ. والمُرادُ بِقَوْلِهِ: (يا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا) مَن كانَ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، بِالمَدِينَةِ، وما والاها مِن بَنِي إسْرائِيلَ، أوْ مَن أسْلَمَ مِنَ اليَهُودِ وآمَنَ بِالنَّبِيِّ، ﷺ، أوْ أسْلافُ بَنِي إسْرائِيلَ وقُدَماؤُهم، أقْوالٌ ثَلاثَةٌ، والأقْرَبُ الأوَّلُ؛ لِأنَّ مَن ماتَ مِن أسْلافِهِمْ لا يُقالُ لَهُ: ﴿وآمِنُوا بِما أنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ﴾ [البقرة: ٤١]، إلّا عَلى ضَرْبٍ بَعِيدٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، ولِأنَّ مَن آمَنَ مِنهم لا يُقالُ لَهُ: ﴿وآمِنُوا بِما أنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكم ولا تَكُونُوا أوَّلَ كافِرٍ بِهِ﴾ [البقرة: ٤١]، إلّا بِمَجازٍ بَعِيدٍ. ويَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: اذْكُرُوا الذِّكْرَ بِاللِّسانِ والذِّكْرَ بِالقَلْبِ، فَعَلى الأوَّلِ يَكُونُ المَعْنى: أمِرُّوا النِّعَمَ عَلى ألْسِنَتِكم ولا تَغْفُلُوا عَنْها، فَإنَّ إمْرارَها عَلى اللِّسانِ ومُدارَسَتَها سَبَبٌ في أنْ لا تُنْسى، وعَلى الثّانِي يَكُونُ المَعْنى: تَنَبَّهُوا لِلنِّعَمِ ولا تَغْفُلُوا عَنْ شُكْرِها، وفي النِّعْمَةِ المَأْمُورِ بِشُكْرِها أوْ بِحِفْظِها أقْوالٌ: ما اسْتُودِعُوا مِنَ التَّوْراةِ الَّتِي فِيها صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، أوْ ما أنْعَمَ بِهِ عَلى أسْلافِهِمْ مِن إنْجائِهِمْ مِن آلِ فِرْعَوْنَ وإهْلاكِ عَدُوِّهِمْ وإيتائِهِمُ التَّوْراةَ ونَحْوَ ذَلِكَ، قالَهُ الحَسَنُ والزَّجّاجُ، أوْ إدْراكُهم مُدَّةَ النَّبِيِّ، ﷺ، أوْ عِلْمُ التَّوْراةِ، أوْ جَمِيعُ النِّعَمِ عَلى جَمِيعِ خَلْقِهِ وعَلى سَلَفِهِمْ وخَلَفِهِمْ في جَمِيعِ الأوْقاتِ عَلى تَصارِيفِ الأحْوالِ، وأظْهَرُ هَذِهِ الأقْوالِ ما اخْتَصَّ بِهِ بَنُو إسْرائِيلَ مِنَ النِّعَمِ لِظاهِرِ قَوْلِهِ: ﴿الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ ونِعَمُ اللَّهِ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ كَثِيرَةٌ، اسْتَنْقَذَهم مِن بَلاءِ فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ، وجَعَلَهم أنْبِياءَ ومُلُوكًا، وأنْزَلَ عَلَيْهِمُ الكُتُبَ المُعَظَّمَةَ، وظَلَّلَ عَلَيْهِمْ في التِّيهِ الغَمامَ، وأنْزَلَ عَلَيْهِمُ المَنَّ والسَّلْوى، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أعْطاهم عَمُودًا مِنَ النُّورِ لِيُضِيءَ لَهم بِاللَّيْلِ، وكانَتْ رُءُوسُهم لا تَتَشَعَّثُ، وثِيابُهم لا تَبْلى، وإنَّما ذُكِّرُوا بِهَذِهِ النِّعَمِ؛ لِأنَّ في جُمْلَتِها ما شَهِدَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ، ﷺ، وهو: التَّوْراةُ والإنْجِيلُ والزَّبُورُ، ولِأنْ يَحْذَرُوا مُخالَفَةَ ما دُعُوا إلَيْهِ مِنَ الإيمانِ بِرَسُولِ اللَّهِ والقُرْآنِ، ولِأنَّ تَذْكِيرَ النِّعَمِ السّالِفَةِ يُطْمِعُ في النِّعَمِ الخالِفَةِ، وذَلِكَ الطَّمَعُ يَمْنَعُ مِن إظْهارِ المُخالَفَةِ، وهَذِهِ النِّعَمُ، وإنْ كانَتْ عَلى آبائِهِمْ، فَهي أيْضًا نِعَمٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّ هَذِهِ النِّعَمَ حَصَلَ بِها النَّسْلُ، ولِأنَّ الِانْتِسابَ إلى آباءٍ شُرِّفُوا بِنِعَمٍ تَعْظِيمٌ في حَقِّ الأوْلادِ، قالَ بَعْضُ العارِفِينَ: عَبِيدُ النِّعَمِ كَثِيرُونَ، وعَبِيدُ المُنْعِمِ قَلِيلُونَ، فاللَّهُ تَعالى ذَكَّرَ بَنِي إسْرائِيلَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ، ولَمّا آلَ الأمْرُ إلى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، ﷺ، ذَكَرَ المُنْعِمَ فَقالَ: (اذْكُرُونِي أذْكُرْكم) فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى فَضْلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، ﷺ، عَلى سائِرِ الأُمَمِ، وفي قَوْلِهِ: (نِعْمَتِيَ) نَوْعُ التِفاتٍ؛ لِأنَّهُ خُرُوجٌ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ في قَوْلِهِ: (آياتِنا) إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ الَّذِي لا يُشْعِرُ بِذَلِكَ، وفي إضافَةِ النِّعْمَةِ إلَيْهِ إشارَةٌ إلى عِظَمِ قَدْرِها وسَعَةِ بَرِّها وحُسْنِ مَوْقِعِها، ويَجُوزُ في الياءِ مِن (نِعْمَتِي) الإسْكانُ والفَتْحُ، والقُرّاءُ السَّبْعَةُ مُتَّفِقُونَ عَلى الفَتْحِ. وأنْعَمْتُ: صِلَةُ الَّتِي، والعائِدُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: أنْعَمْتُها عَلَيْكم. ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ العَهْدُ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ لُغَةً في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٧] ويَحْتَمِلُ العَهْدُ أنْ يَكُونَ مُضافًا إلى المُعاهِدِ وإلى المُعاهَدِ، وفي تَفْسِيرِ هَذَيْنِ العَهْدَيْنِ أقْوالٌ، أحَدُها: المِيثاقُ الَّذِي أخَذَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الإيمانِ بِهِ والتَّصْدِيقِ بِرُسُلِهِ، وعَهْدُهم ما وعَدَهم بِهِ مِنَ الجَنَّةِ. الثّانِي: ما أمَرَهم بِهِ، وعَهْدُهم ما وعَدَهم بِهِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. الثّالِثُ: ما ذُكِرَ لَهم في التَّوْراةِ مِن صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، وعَهْدُهم ما وعَدَهم بِهِ مِنَ الجَنَّةِ، رَواهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. الرّابِعُ: أداءُ الفَرائِضِ، وعَهْدُهم قَبُولُها والمُجازاةُ عَلَيْها. الخامِسُ: تَرْكُ الكَبائِرِ، وعَهْدُهم غُفْرانُ الصَّغائِرِ. السّادِسُ: إصْلاحُ الدِّينِ، وعَهْدُهم إصْلاحُ آخِرَتِهِمْ. السّابِعُ: مُجاهَدَةُ النُّفُوسِ، وعَهْدُهُمُ المَعُونَةُ عَلى ذَلِكَ. الثّامِنُ: إصْلاحُ السَّرائِرِ وعَهْدُهم إصْلاحُ الظَّواهِرِ. التّاسِعُ: ﴿خُذُوا ما آتَيْناكم بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: ٦٣]، قالَهُ الحَسَنُ. العاشِرُ: ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: ١٨٧] . (p-١٧٥)الحادِي عَشَرَ: الإخْلاصُ في العِباداتِ وعَهْدُهم إيصالُهم إلى مَنازِلِ الرِّعاياتِ. الثّانِي عَشَرَ: الإيمانُ بِهِ وطاعَتُهُ، وعَهْدُهم ما وعَدَهم عَلَيْهِ مِن حُسْنِ الثَّوابِ عَلى الحَسَناتِ. الثّالِثَ عَشَرَ: حِفْظُ آدابِ الظَّواهِرِ، وعَهْدُهم في السَّرائِرِ. الرّابِعَ عَشَرَ: عَهْدُ اللَّهِ عَلى لِسانِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِبَنِي إسْرائِيلَ: إنِّي باعِثٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ نَبِيًّا فَمَنِ اتَّبَعَهُ وصَدَّقَ بِالنُّورِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ غَفَرْتُ لَهُ وأدْخَلْتُهُ الجَنَّةَ وجَعَلْتُ لَهُ أجْرَيْنِ اثْنَيْنِ، قالَهُ الكَلْبِيُّ. الخامِسَ عَشَرَ: شَرْطُ العُبُودِيَّةِ، وعَهْدُهم شَرْطُ الرُّبُوبِيَّةِ. السّادِسَ عَشَرَ: أوْفُوا في دارِ مِحْنَتِي عَلى بِساطِ خِدْمَتِي بِحِفْظِ حُرْمَتِي، أُوفِ بِعَهْدِكم في دارِ نِعْمَتِي عَلى بِساطِ كَرامَتِي بِقُرْبِي ورُؤْيَتِي، قالَهُ الثَّوْرِيُّ. السّابِعَ عَشَرَ: لا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ أُدْخِلْكُمُ الجَنَّةَ، قالَهُ إسْماعِيلُ بْنُ زِيادٍ. الثّامِنَ عَشَرَ: ﴿ولَقَدْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ وبَعَثْنا﴾ [المائدة: ١٢] الآيَةَ، قالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وعَهْدُهم إدْخالُهُمُ الجَنَّةَ. التّاسِعَ عَشَرَ: أوامِرُهُ ونَواهِيهِ ووَصاياهُ، فَيَدْخُلُ في ذَلِكَ ذِكْرُ مُحَمَّدٍ، ﷺ، الَّذِي في التَّوْراةِ، قالَهُ الجُمْهُورُ. العِشْرُونَ: أوْفُوا بِعَهْدِي في التَّوَكُّلِ أُوفِ بِعَهْدِكم في كِفايَةِ المُهِمّاتِ، قالَهُ أبُو عُثْمانَ. الحادِي والعِشْرُونَ: أوْفُوا بِعَهْدِي في حِفْظِ حُدُودِي ظاهِرًا وباطِنًا أُوفِ بِعَهْدِكم بِحِفْظِ أسْرارِكم عَنْ مُشاهَدَةِ غَيْرِي. الثّانِي والعِشْرُونَ: عَهْدُهُ حِفْظُ المَعْرِفَةِ وعَهْدُنا إيصالُ المَعْرِفَةِ، قالَهُ ا لْقُشَيْرِيُّ. الثّالِثُ والعِشْرُونَ: أوْفُوا بِعَهْدِي الَّذِي قَبِلْتُمْ يَوْمَ أخْذِ المِيثاقِ أُوفِ بِعَهْدِكُمُ الَّذِي ضَمِنتُ لَكم يَوْمَ التَّلاقِ. الرّابِعُ والعِشْرُونَ: أوْفُوا بِعَهْدِي اكْتَفُوا مِنِّي بِي أُوفِ بِعَهْدِكم أرْضَ عَنْكم بِكم، فَهَذِهِ أقْوالُ السَّلَفِ في تَفْسِيرِ هَذَيْنِ العَهْدَيْنِ. والَّذِي يَظْهَرُ، واللَّهُ أعْلَمُ، أنَّ المَعْنى طَلَبُ الإيفاءِ بِما التَزَمُوهُ لِلَّهِ تَعالى، وتَرْتِيبُ إنْجازِ ما وعَدَهم بِهِ عَهْدًا عَلى سَبِيلِ المُقابَلَةِ، أوْ إبْرازًا لِما تَفَضَّلَ بِهِ تَعالى في صُورَةِ المَشْرُوطِ المُلْتَزَمِ بِهِ فَتَتَوَفَّرُ الدَّواعِي عَلى الإيفاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ومَن أوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾ [التوبة: ١١١]، ﴿إلّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ [مريم: ٨٧] وقالَ رَسُولُ اللَّهِ، ﷺ،: «فَإنَّ لَهُ عَهْدًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ» . وقَرَأ الزُّهْرِيُّ: (أُوَفِّ بِعَهْدِكم) مُشَدَّدًا. ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ التَّكْثِيرُ، وأنْ يَكُونَ مُوافِقًا لِلْمُجَرَّدِ. فَإنْ أُرِيدَ بِهِ التَّكْثِيرُ فَيَكُونُ في ذَلِكَ مُبالَغَةٌ عَلى لَفْظِ أُوفِ، وكَأنَّهُ قِيلَ: أُبالِغْ في إيفائِكم، فَضَمِنَ تَعالى إعْطاءَ الكَثِيرِ عَلى القَلِيلِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِها﴾ [الأنعام: ١٦٠] . وانْجِزامُ المُضارِعِ بَعْدَ الأمْرِ نَحْوَ: اضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، يَدُلُّ عَلى مَعْنى شَرْطٍ سابِقٍ، وإلّا فَنَفْسُ الأمْرِ وهو طَلَبُ إيجادِ الفِعْلِ لا يَقْتَضِي شَيْئًا آخَرَ، ولِذَلِكَ يَجُوزُ الِاقْتِصارُ عَلَيْهِ فَتَقُولُ: اضْرِبْ زَيْدًا، فَلا يَتَرَتَّبُ عَلى الطَّلَبِ بِما هو طَلَبُ شَيْءٍ أصْلًا، لَكِنْ إذا لُوحِظَ مَعْنى شَرْطٍ سابِقٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضاهُ. وقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ في ذَلِكَ، فَذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ جُمْلَةَ الأمْرِ ضُمِّنَتْ مَعْنى الشَّرْطِ، فَإذا قُلْتَ: اضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، ضُمِّنَ (اضْرِبْ) مَعْنى: إنْ تَضْرِبْ، وإلى هَذا ذَهَبَ الأُسْتاذُ أبُو الحَسَنِ بْنُ خَرُوفٍ. وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ جُمْلَةَ الأمْرِ نابَتْ مَنابَ الشَّرْطِ، ومَعْنى النِّيابَةِ أنَّهُ كانَ التَّقْدِيرُ: اضْرِبْ زَيْدًا، إنْ تَضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، ثُمَّ حُذِفَتْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ وأُنِيبَتْ جُمْلَةُ الأمْرِ مَنابَها. وعَلى القَوْلِ الأوَّلِ لَيْسَ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ، بَلْ عَمِلَتِ الجُمْلَةُ الأُولى الجَزْمَ لِتَضَمُّنِ الشَّرْطِ، كَما عَمِلَتْ (مِن) الشَّرْطِيَّةِ الجَزْمَ لِتَضَمُّنِها مَعْنى (إنْ) . وعَلى القَوْلِ الثّانِي عَمِلَتِ الجَزْمَ لِنِيابَتِها مَنابَ الجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وفي الحَقِيقَةِ العَمَلُ إنَّما هو لِلشَّرْطِ المُقَدَّرِ، وهو اخْتِيارُ الفارِسِيِّ والسِّيرافِيِّ، وهو الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ عَنِ الخَلِيلِ. والتَّرْجِيحُ بَيْنَ القَوْلَيْنِ يُذْكَرُ في عِلْمِ النَّحْوِ. ﴿وإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ . إيّايَ: مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرًا بَعْدَهُ؛ لِانْفِصالِ الضَّمِيرِ، وإيّايَ ارْهَبُوا، وحُذِفَ لِدِلالَةِ ما بَعْدَهُ عَلَيْهِ وتَقْدِيرُهُ قَبْلَهُ، وهم مِنَ السَّجاوِنْدِيِّ، إذْ قَدَّرَهُ وارْهَبُوا إيّايَ، وفي مَجِيئِهِ ضَمِيرُ نَصْبٍ مُناسَبَةً لِما قَبْلَهُ؛ لِأنَّ قَبْلَهُ أمْرٌ، ولِأنَّ فِيهِ تَأْكِيدًا، إذِ الكَلامُ (p-١٧٦)مَفْرُوغٌ في قالَبِ جُمْلَتَيْنِ، ولَوْ كانَ ضَمِيرَ رَفْعٍ لَجازَ، لَكِنْ يَفُوتُ هَذانِ المَعْنَيانِ، وحُذِفَتِ الياءُ ضَمِيرُ النَّصْبِ مِن (فارْهَبُونِ) لِأنَّها فاصِلَةٌ، وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ بِالياءِ عَلى الأصْلِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهو أوْكَدُ في إفادَةِ الِاخْتِصاصِ مِن (إيّاكَ نَعْبُدُ) . ومَعْنى ذَلِكَ أنَّ الكَلامَ جُمْلَتانِ في التَّقْدِيرِ، وإيّاكَ نَعْبُدُ جُمْلَةٌ واحِدَةٌ، والِاخْتِصاصُ مُسْتَفادٌ عِنْدَهُ مِن تَقْدِيمِ المَعْمُولِ عَلى العامِلِ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ مَعَهُ في ذَلِكَ وأنّا لا نَذْهَبُ إلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ مِن ذَلِكَ. والفاءُ في قَوْلِهِ: (فارْهَبُونِ)، دَخَلَتْ في جَوابِ أمْرٍ مُقَدَّرٍ، والتَّقْدِيرُ: تَنَبَّهُوا فارْهَبُونِ، وقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ في كِتابِهِ ما نَصُّهُ: تَقُولُ: كُلُّ رَجُلٍ يَأْتِيكَ فاضْرِبْ؛ لِأنَّ (يَأْتِيكَ) صِفَةٌ هَهُنا، كَأنَّكَ قُلْتَ: كُلُّ رَجُلٍ صالِحٍ فاضْرِبْ. انْتَهى. قالَ ابْنُ خَرُوفٍ: قَوْلُهُ كُلَّ رَجُلٍ يَأْتِيكَ فاضْرِبْ، بِمَنزِلَةِ: زَيْدًا فاضْرِبْ، إلّا أنَّ هُنا مَعْنى الشَّرْطِ لِأجْلِ النَّكِرَةِ المَوْصُوفَةِ بِالفِعْلِ، فانْتَصَبَ (كُلَّ) وهو أحْسَنُ مِن: زَيْدًا فاضْرِبْ. انْتَهى. ولا يَظْهَرُ لِي وجْهُ الأحْسَنِيَّةِ الَّتِي أشارَ إلَيْها ابْنُ خَرُوفٍ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا التَّرْكِيبَ، أعْنِي: زَيْدًا فاضْرِبْ، تَرْكِيبٌ عَرَبِيٌّ صَحِيحٌ، قَوْلُهُ تَعالى: (بَلِ اللَّهَ فاعْبُدْ)، وقالَ الشّاعِرُ: ؎ولا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ واللَّهَ فاعْبُدا قالَ بَعْضُ أصْحابِنا: الَّذِي ظَهَرَ فِيها بَعْدَ البَحْثِ أنَّ الأصْلَ في: (زَيْدًا فاضْرِبْ) تَنَبَّهْ فاضْرِبْ زَيْدًا، ثُمَّ حُذِفَ (تَنَبَّهْ) فَصارَ: فاضْرِبْ زَيْدًا. فَلَمّا وقَعَتِ الفاءُ صَدْرًا قَدَّمُوا الِاسْمَ إصْلاحًا لِلَّفْظِ، وإنَّما دَخَلَتِ الفاءُ هُنا لِتَرْبِطَ هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ. انْتَهى ما لُخِّصَ مِن كَلامِهِ. وإذا تَقَرَّرَ هَذا فَتَحْتَمِلُ الآيَةُ وجْهَيْنِ، أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وإيّايَ ارْهَبُوا، تَنَبَّهُوا فارْهَبُونِ، فَتَكُونُ الفاءُ دَخَلَتْ في جَوابِ الأمْرِ، ولَيْسَتْ مُؤَخَّرَةً مِن تَقْدِيمٍ. والوَجْهُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وتُنَبَّهُوا فارْهَبُونِ، ثُمَّ قُدِّمَ المَفْعُولُ فانْفَصَلَ، وأُخِّرَتِ الفاءُ حِينَ قُدِّمِ المَفْعُولُ وفِعْلُ الأمْرِ الَّذِي هو تَنَبَّهُوا مَحْذُوفٌ، فالتَقى بَعْدَ حَذْفِهِ حَرْفانِ: الواوُ العاطِفَةُ والفاءُ، الَّتِي هي جَوابُ أمْرٍ، فَتَصَدَّرَتِ الفاءُ، فَقُدِّمَ المَفْعُولَ وأُخِّرَتِ الفاءُ إصْلاحًا لِلَّفْظِ، ثُمَّ أُعِيدَ المَفْعُولُ عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ ولِتَكْمِيلِ الفاصِلَةِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ الأخِيرِ لا يَكُونُ (إيّايَ) مَعْمُولًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، بَلْ مَعْمُولًا لِهَذا الفِعْلِ المَلْفُوظِ بِهِ، ولا يَبْعُدُ تَأْكِيدُ الضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ بِالضَّمِيرِ المُتَّصِلِ، كَما أُكِّدَ المُتَّصِلُ بِالمُنْفَصِلِ في نَحْوِ: ضَرَبْتُكَ إيّاكَ، والمَعْنى: ارْهَبُونِ أنْ أُنْزِلَ بِكم ما أنْزَلَتُ بِمَن كانَ قَبْلَكم مِن آبائِكم مِنَ النِّقْماتِ الَّتِي قَدْ عَرَفْتُمْ مِنَ المَسْخِ وغَيْرِهِ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ. وقِيلَ مَعْنى فارْهَبُونِ: أنْ لا تَنْقُضُوا عَهْدِي، وفي الأمْرِ بِالرَّهْبَةِ وعِيدٌ بالِغٌ، ولَيْسَ قَوْلُ مَن زَعَمَ أنَّ هَذا الأمْرَ مَعْناهُ التَّهْدِيدُ والتَّخْوِيفُ والتَّهْوِيلُ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠] تَشْدِيدٌ لِأنَّ هَذا في الحَقِيقَةِ مَطْلُوبٌ، واعْمَلُوا ما شِئْتُمْ غَيْرُ مَطْلُوبٍ فافْتَرَقا. وقِيلَ: الخَوْفُ خَوْفانِ، خَوْفُ العُقابِ، وهو نَصِيبُ أهْلِ الظّاهِرِ، ويَزُولُ، وخَوْفُ جَلالٍ، وهو نَصِيبُ أهْلِ القَلْبِ، ولا يَزُولُ. وقالَ السُّلَمِيُّ: الرَّهْبَةُ خَشْيَةُ القَلْبِ مِن رَدِيءِ خَواطِرِهِ. وقالَ سَهْلٌ: ﴿وإيّايَ فارْهَبُونِ﴾، مَوْضِعُ اليَقِينِ بِمَعْرِفَتِهِ، ﴿وإيّايَ فاتَّقُونِ﴾ [البقرة: ٤١]، مَوْضِعُ العِلْمِ السّابِقِ ومَوْضِعُ المَكْرِ والِاسْتِدْراجِ. وقالَ القُشَيْرِيُّ: أفْرِدُونِي بِالخَشْيَةِ لِانْفِرادِي بِالقُدْرَةِ عَلى الإيجادِ. ﴿وآمِنُوا بِما أنْزَلْتُ﴾ [البقرة: ٤١]: ظاهِرُهُ أنَّهُ أمْرٌ لِبَنِي إسْرائِيلَ؛ لِأنَّ المَأْمُورِينَ قَبْلُ هم، وهَذا مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ، فَظاهِرُهُ اتِّحادُ المَأْمُورِ. وقِيلَ: أُنْزِلَتْ في كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ وأصْحابِهِ، عُلَماءِ اليَهُودِ ورُؤَسائِهِمْ، والظّاهِرُ الأوَّلُ، ويَنْدَرِجُ فِيهِ كَعْبٌ ومَن مَعَهُ، و(ما) في قَوْلِهِ: (بِما أنْزَلْتُ) مَوْصُولَةٌ، أيْ بِالَّذِي أنْزَلْتُ، والعائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أنْزَلْتُهُ، وشُرُوطُ جَوازِ الحَذْفِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ، والَّذِي أنْزَلَ تَعالى هو القُرْآنُ، والَّذِي مَعَهم هو التَّوْراةُ والإنْجِيلُ. وقالَ قَتادَةُ: المُرادُ (بِما أنْزَلْتُ) مِن كِتابٍ ورَسُولٍ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكم في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، وأبْعَدَ مَن جَعَلَ (ما) مَصْدَرِيَّةً، وأنَّ التَّقْدِيرَ: وآمِنُوا بِإنْزالِي لِما مَعَكم مِنَ التَّوْراةِ، فَتَكُونُ اللّامُ في لِما مِن تَمامِ المَصْدَرِ لا مِن تَمامِ (مُصَدِّقًا) . وعَلى القَوْلِ الأوَّلِ (p-١٧٧)يَكُونُ (لِما مَعَكم) مِن تَمامِ (مُصَدِّقًا)، واللّامُ عَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ في (لِما) مُقَوِّيَةٌ لِلتَّعْدِيَةِ، كَهي في قَوْلِهِ تَعالى: (فَعّالٌ لِما يُرِيدُ) . وإعْرابُ (مُصَدِّقًا) عَلى قَوْلِ مَن جَعَلَ (ما) مَصْدَرِيَّةً حالٌ مِن (ما) في قَوْلِهِ: (لِما مَعَكم) . ولا نَقُولُ: يَبْعُدُ ذَلِكَ لِدُخُولِ حَرْفِ الجَرِّ عَلى ذِي الحالِ؛ لِأنَّ حَرْفَ الجَرِّ كَما ذَكَرْناهُ هو مُقَوٍّ لِلتَّعْدِيَةِ، فَهو كالحَرْفِ الزّائِدِ، وصارَ نَظِيرَ: زَيْدٌ ضارِبٌ مُجَرَّدَةً لِهِنْدٍ، التَّقْدِيرُ: ضارِبٌ هِنْدًا مُجَرَّدَةً، ثُمَّ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الحالُ، وهَذا جائِزٌ عِنْدَنا، ويَبْعُدُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ المَصْدَرِ المُقَدَّرِ لِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: الفَصْلُ بَيْنَ المَصْدَرِ ومَعْمُولِهِ الحالُ المُصَدَّرُ. والوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ يَبْعُدُ وصْفُ الإنْزالِ بِالتَّصْدِيقِ إلّا أنَّ يُتَجَوَّزَ بِهِ، ويُرادُ بِهِ المُنَزَّلُ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا يَكُونُ لِما مَعَكم مِن تَمامِهِ؛ لِأنَّهُ إذا أُرِيدَ بِهِ المُنَزَّلُ لا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا لِلْمَفْعُولِ. والظّاهِرُ أنَّ (مُصَدِّقًا) حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ العائِدِ عَلى المَوْصُولِ المَحْذُوفِ، وهي حالٌ مُؤَكَّدَةٌ، والعامِلُ فِيها أنْزَلْتُ. وقِيلَ: حالٌ مِن ما في قَوْلِهِ: بِما أنْزَلْتُ، وهي حالٌ مُؤَكَّدَةٌ أيْضًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب