الباحث القرآني

القَوْلُ في النِّعَمِ الخاصَّةِ بِبَنِي إسْرائِيلَ اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا أقامَ دَلائِلَ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ والمَعادِ أوَّلًا ثُمَّ عَقَّبَها بِذِكْرِ الإنْعاماتِ العامَّةِ لِكُلِّ البَشَرِ عَقَّبَها بِذِكْرِ الإنْعاماتِ الخاصَّةِ عَلى أسْلافِ اليَهُودِ كَسْرًا لِعِنادِهِمْ ولَجاجِهِمْ بِتَذْكِيرِ النِّعَمِ السّالِفَةِ، واسْتِمالَةً لِقُلُوبِهِمْ بِسَبَبِها وتَنْبِيهًا عَلى ما يَدُلُّ عَلى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِن حَيْثُ كَوْنِها إخْبارًا عَنِ الغَيْبِ. واعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ ذَكَّرَهم تِلْكَ النِّعَمَ أوَّلًا عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ فَقالَ: ﴿يابَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكم وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ وفَرَّعَ عَلى تَذْكِيرِها الأمْرَ بِالإيمانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَقالَ: ﴿وآمِنُوا بِما أنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ﴾ [البقرة: ٤١] ثُمَّ عَقَّبَها بِذِكْرِ الأُمُورِ الَّتِي تَمْنَعُهم عَنِ الإيمانِ بِهِ، ثُمَّ ذَكَّرَهم تِلْكَ النِّعَمَ عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ ثانِيًا بِقَوْلِهِ مَرَّةً أُخْرى: ﴿يابَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ تَنْبِيهًا عَلى شِدَّةِ غَفْلَتِهِمْ، ثُمَّ أرْدَفَ هَذا التَّذْكِيرَ بِالتَّرْغِيبِ البالِغِ بِقَوْلِهِ: ﴿وأنِّي فَضَّلْتُكم عَلى العالَمِينَ﴾ مَقْرُونًا بِالتَّرْهِيبِ البالِغِ بِقَوْلِهِ: ﴿واتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٤٨] إلى آخَرِ الآيَةِ، ثُمَّ شَرَعَ (p-٢٨)بَعْدَ ذَلِكَ في تَعْدِيدِ تِلْكَ النِّعَمِ عَلى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، ومَن تَأمَّلَ وأنْصَفَ عَلِمَ أنَّ هَذا هو النِّهايَةُ في حُسْنِ التَّرْتِيبِ لِمَن يُرِيدُ الدَّعْوَةَ وتَحْصِيلَ الِاعْتِقادِ في قَلْبِ المُسْتَمِعِ. وإذْ قَدْ حَقَّقْنا هَذِهِ المُقَدِّمَةَ فَلْنَتَكَلَّمِ الآنَ في التَّفْسِيرِ بِعَوْنِ اللَّهِ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يابَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكم وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكم وإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ اعْلَمْ أنَّ فِيهِ مَسائِلَ: (المَسْألَةُ الأُولى): اتَّفَقَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ إسْرائِيلَ هو يَعْقُوبُ بْنُ إسْحَقَ بْنِ إبْراهِيمَ ويَقُولُونَ: إنَّ مَعْنى إسْرائِيلَ عَبْدُ اللَّهِ؛ لِأنَّ ”إسْرا“ في لُغَتِهِمْ هو العَبْدُ و”إيلُ“ هو اللَّهُ، وكَذَلِكَ جِبْرِيلُ وهو عَبْدُ اللَّهِ ومِيكائِيلُ عَبْدُ اللَّهِ. قالَ القَفّالُ: قِيلَ إنْ ”إسْرا“ بِالعِبْرانِيَّةِ في مَعْنى إنْسانٍ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: رَجُلُ اللَّهِ فَقَوْلُهُ: ﴿يابَنِي إسْرائِيلَ﴾ خِطابٌ مَعَ جَماعَةِ اليَهُودِ الَّذِينَ كانُوا بِالمَدِينَةِ مِن ولَدِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ في أيّامِ مُحَمَّدٍ ﷺ . (المَسْألَةُ الثّانِيَةُ): حَدُّ النِّعْمَةِ أنَّها المَنفَعَةُ المَفْعُولَةُ عَلى جِهَةِ الإحْسانِ إلى الغَيْرِ، ومِنهم مَن يَقُولُ: المَنفَعَةُ الحَسَنَةُ المَفْعُوَلَةُ عَلى جِهَةِ الإحْسانِ إلى الغَيْرِ، قالُوا: وإنَّما زِدْنا هَذا؛ لِأنَّ النِّعْمَةَ يُسْتَحَقُّ بِها الشُّكْرُ، وإذا كانَتْ قَبِيحَةً لَمْ يُسْتَحَقَّ بِها الشُّكْرُ، والحَقُّ أنَّ هَذا القَيْدَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَسْتَحِقَّ الشُّكْرَ بِالإحْسانِ وإنْ كانَ فِعْلُهُ مَحْظُورًا؛ لِأنَّ جِهَةَ اسْتِحْقاقِ الشُّكْرِ غَيْرُ جِهَةِ اسْتِحْقاقِ الذَّمِّ والعِقابِ، فَأيُّ امْتِناعٍ في اجْتِماعِهِما ؟ ألا تَرى أنَّ الفاسِقَ يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ بِإنْعامِهِ والذَّمَّ بِمَعْصِيَتِهِ، فَلِمَ لا يَجُوزُ هَهُنا أنْ يَكُونَ الأمْرُ كَذَلِكَ ؟ ولْنَرْجِعْ إلى تَفْسِيرِ الحَدِّ فَنَقُولُ: أمّا قَوْلُنا: المَنفَعَةُ؛ فَلِأنَّ المَضَرَّةَ المَحْضَةَ لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ نِعْمَةً، وقَوْلُنا: المَفْعُولَةُ عَلى جِهَةِ الإحْسانِ؛ فَلِأنَّهُ لَوْ كانَ نَفْعًا وقَصَدَ الفاعِلُ نَفْعَ نَفْسِهِ لا نَفْعَ المَفْعُولِ بِهِ كَمَن أحْسَنَ إلى جارِيَتِهِ لِيَرْبَحَ عَلَيْها، أوْ أرادَ اسْتِدْراجَهُ إلى ضَرَرٍ واخْتِداعِهِ كَمَن أطْعَمَ خَبِيصًا مَسْمُومًا لِيُهْلِكَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نِعْمَةً، فَأمّا إذا كانَتِ المَنفَعَةُ مَفْعُولَةً عَلى قَصْدِ الإحْسانِ إلى الغَيْرِ كانَتْ نِعْمَةً. إذا عَرَفْتَ حَدَّ النِّعْمَةِ فَلْنُفَرِّعْ عَلَيْهِ فُرُوعًا: الفَرْعُ الأوَّلُ: اعْلَمْ أنَّ كُلَّ ما يَصِلُ إلَيْنا آناءَ اللَّيْلِ والنَّهارِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ مِنَ النَّفْعِ ودَفْعِ الضَّرَرِ فَهو مِنَ اللَّهِ تَعالى عَلى ما قالَ تَعالى: ﴿وما بِكم مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: ٥٣] ثُمَّ إنَّ النِّعْمَةَ عَلى ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: أحَدُها: نِعْمَةٌ تَفَرَّدَ اللَّهُ بِها نَحْوَ أنْ خَلَقَ ورَزَقَ. وثانِيها: نِعْمَةٌ وصَلَتْ إلَيْنا مِن جِهَةِ غَيْرِهِ بِأنْ خَلَقَها وخَلَقَ المُنْعِمَ ومَكَّنَهُ مِنَ الإنْعامِ، وخَلَقَ فِيهِ قُدْرَةَ الإنْعامِ وداعِيَتَهُ، ووَفَّقَهُ عَلَيْهِ وهَداهُ إلَيْهِ، فَهَذِهِ النِّعْمَةُ في الحَقِيقَةِ أيْضًا مِنَ اللَّهِ تَعالى، إلّا أنَّهُ تَعالى لَمّا أجْراها عَلى يَدِ عَبْدِهِ كانَ ذَلِكَ العَبْدُ مَشْكُورًا، ولَكِنَّ المَشْكُورَ في الحَقِيقَةِ هو اللَّهُ تَعالى، ولِهَذا قالَ: ﴿أنِ اشْكُرْ لِي ولِوالِدَيْكَ﴾ [لقمان: ١٤] فَبَدَأ بِنَفْسِهِ، وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«لا يَشْكُرُ اللَّهَ مَن لا يَشْكُرُ النّاسَ» “ . وثالِثُها: نِعْمَةٌ وصَلَتْ إلَيْنا مِنَ اللَّهِ تَعالى بِواسِطَةِ طاعاتِنا، وهي أيْضًا مِنَ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ لَوْلا أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى وفَّقَنا عَلى الطّاعاتِ وأعانَنا عَلَيْها وهَدانا إلَيْها وأزاحَ الأعْذارَ وإلّا لَما وصَلْنا إلى شَيْءٍ مِنها، فَظَهَرَ بِهَذا التَّقْرِيرِ أنَّ جَمِيعَ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ تَعالى عَلى ما قالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿وما بِكم مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: ٥٣] . (p-٢٩)الفَرْعُ الثّانِي: أنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعالى عَلى عَبِيدِهِ مِمّا لا يُمْكِنُ عَدُّها وحَصْرُها عَلى ما قالَ: ﴿وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها﴾ [النحل: ١٨] وإنَّما لا يُمْكِنُ ذَلِكَ؛ لِأنَّ كُلَّ ما أُودِعَ فِينا مِنَ المَنافِعِ واللَّذّاتِ الَّتِي نَنْتَفِعُ بِها والجَوارِحِ والأعْضاءِ الَّتِي نَسْتَعْمِلُها في جَلْبِ المَنافِعِ ودَفْعِ المَضارِّ وما خَلَقَ اللَّهُ تَعالى في العالَمِ مِمّا يُلْتَذُّ بِهِ ويُسْتَدَلُّ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ، وما وُجِدَ في العالَمِ مِمّا يَحْصُلُ الِانْزِجارُ بِرُؤْيَتِهِ عَنِ المَعاصِي مِمّا لا يُحْصى عَدَدُهُ، وكُلُّ ذَلِكَ مَنافِعُ؛ لِأنَّ المَنفَعَةَ هي اللَّذَّةُ أوْ ما يَكُونُ وسِيلَةً إلى اللَّذَّةِ، وجَمِيعُ ما خَلَقَ اللَّهُ تَعالى كَذَلِكَ؛ لِأنَّ كُلَّ ما يُلْتَذُّ بِهِ نِعْمَةٌ، وكُلُّ ما يُلْتَذُّ بِهِ وهو وسِيلَةٌ إلى دَفْعِ الضَّرَرِ فَهو كَذَلِكَ، والَّذِي لا يَكُونُ جالِبًا لِلنَّفْعِ الحاضِرِ ولا دافِعًا لِلضَّرَرِ الحاضِرِ فَهو صالِحٌ لِأنْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلى الصّانِعِ الحَكِيمِ، فَيَقَعُ ذَلِكَ وسِيلَةً إلى مَعْرِفَتِهِ وطاعَتِهِ وهُما وسِيلَتانِ إلى اللَّذّاتِ الأبَدِيَّةِ، فَثَبَتَ أنَّ جَمِيعَ مَخْلُوقاتِهِ سُبْحانَهُ نِعَمٌ عَلى العَبِيدِ، ولَمّا كانَتِ العُقُولُ قاصِرَةً عَنْ تَعْدِيدِ ما في أقَلِّ الأشْياءِ مِنَ المَنافِعِ والحِكَمِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الإحاطَةُ بِكُلِّ ما في العالَمِ مِنَ المَنافِعِ والحِكَمِ، فَصَحَّ بِهَذا مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها﴾ [النحل: ١٨] فَإنْ قِيلَ: فَإذا كانَتِ النِّعَمُ غَيْرَ مُتَناهِيَةٍ وما لا يَتَناهى لا يَحْصُلُ العِلْمُ بِهِ في حَقِّ العَبْدِ فَكَيْفَ أمَرَ بِتَذَكُّرِها في قَوْلِهِ: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ والجَوابُ أنَّها غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ بِحَسَبِ الأنْواعِ والأشْخاصِ إلّا أنَّها مُتَناهِيَةٌ بِحَسَبِ الأجْناسِ، وذَلِكَ يَكْفِي في التَّذْكِيرِ الَّذِي يُفِيدُ العِلْمَ بِوُجُودِ الصّانِعِ الحَكِيمِ. واعْلَمْ أنَّهُ لَمّا ثَبَتَ أنَّ اسْتِحْقاقَ الحَمْدِ والثَّناءِ والطّاعَةِ لا يَتَحَقَّقُ إلّا عَلى إيصالِ النِّعْمَةِ ثَبَتَ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى هو المُسْتَحِقُّ لِحَمْدِ الحامِدِينَ؛ ولِهَذا قالَ في ذَمِّ الأصْنامِ: ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكم إذْ تَدْعُونَ أوْ يَنْفَعُونَكم أوْ يَضُرُّونَ﴾ [الشعراء: ٧٣] وقالَ تَعالى: ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهم ولا يَضُرُّهُمْ﴾ [الفرقان: ٥٥] وقالَ: ﴿أفَمَن يَهْدِي إلى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهِدِّي إلّا أنْ يُهْدى﴾ [يونس: ٣٥] . الفَرْعُ الثّالِثُ: أنَّ أوَّلَ ما أنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلى عَبِيدِهِ هو أنْ خَلَقَهم أحْياءً والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكم ثُمَّ يُمِيتُكم ثُمَّ يُحْيِيكم ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ٢٨] ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] إلى آخِرِ الآيَةِ، وهَذا صَرِيحٌ في أنَّ أصْلَ النِّعَمِ الحَياةُ؛ لِأنَّهُ تَعالى أوَّلَ ما ذَكَرَ مِنَ النِّعَمِ فَإنَّما ذَكَرَ الحَياةَ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ عَقِيبَها سائِرَ النِّعَمِ، وأنَّهُ تَعالى إنَّما ذَكَّرَ المُؤْمِنِينَ لِيُبَيِّنَ أنَّ المَقْصُودَ مِن حَياةِ الدُّنْيا حَياةُ الآخِرَةِ والثَّوابُ. وبَيَّنَ أنَّ جَمِيعَ ما خَلَقَ قِسْمانِ مُنْتَفِعٌ ومُنْتَفَعٌ بِهِ، هَذا قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ. وقالَ أهْلُ السُّنَّةِ: إنَّهُ سُبْحانَهُ كَما خَلَقَ المَنافِعَ خَلَقَ المَضارَّ، ولا اعْتِراضَ لِأحَدٍ عَلَيْهِ، ولِهَذا سَمّى نَفْسَهُ ”النّافِعَ الضّارَّ“ ولا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ. الفَرْعُ الرّابِعُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ أنْعَمَ عَلى المُكَلَّفِينَ بِنِعْمَةِ الدُّنْيا ونِعْمَةِ الدِّينِ، وسَوّى بَيْنِ الجَمِيعِ في النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ والدُّنْيَوِيَّةِ، أمّا في النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ فَلِأنَّ كُلَّ ما كانَ في المَقْدُورِ مِنَ الألْطافِ فَقَدْ فَعَلَ بِهِمْ، والَّذِي لَمْ يَفْعَلْهُ فَغَيْرُ داخِلٍ في القُدْرَةِ، إذْ لَوْ قَدَرَ عَلى لُطْفٍ لَمْ يَفْعَلْهُ بِالمُكَلَّفِ لَبَقِيَ عُذْرُ المُكَلَّفِ، وأمّا في الدُّنْيا فَعَلى قَوْلِ البَغْدادِيِّينَ خاصَّةً؛ لِأنَّ عِنْدَهم يَجِبُ رِعايَةُ الأصْلَحِ في الدُّنْيا وعِنْدَ البَصْرِيِّينَ لا يَجِبُ. وقالَ أهْلُ السُّنَّةِ: إنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ الكافِرَ لِلنّارِ ولِعَذابِ الآخِرَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا في أنَّهُ هَلْ لِلَّهِ نِعْمَةٌ عَلى الكافِرِ في الدُّنْيا ؟ فَمِنهم مَن قالَ: هَذِهِ النِّعَمُ القَلِيلَةُ في الدُّنْيا لَمّا كانَتْ مُؤَدِّيَةً إلى الضَّرَرِ الدّائِمِ في الآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نِعْمَةً عَلى الكافِرِ في الدُّنْيا، فَإنَّ مَن جَعَلَ السُّمَّ في الحَلْوى لَمْ يَعُدَّ النَّفْعَ الحاصِلَ مِن أكْلِ الحَلْوى نِعْمَةً لَمّا (p-٣٠)كانَ ذَلِكَ سَبِيلًا إلى الضَّرَرِ العَظِيمِ، ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّما نُمْلِي لَهم خَيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ إنَّما نُمْلِي لَهم لِيَزْدادُوا إثْمًا﴾ [آل عمران: ١٧٨] ومِنهم مَن قالَ: إنَّهُ تَعالى وإنْ لَمْ يُنْعِمْ عَلى الكافِرِ بِنِعْمَةِ الدِّينِ فَلَقَدْ أنْعَمَ عَلَيْهِ بِنِعْمَةِ الدُّنْيا، وهو قَوْلُ القاضِي أبِي بَكْرٍ الباقِلّانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وهَذا القَوْلُ أصْوَبُ ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم والَّذِينَ مِن قَبْلِكم لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشًا والسَّماءَ بِناءً﴾ [البقرة: ٢٢] فَنَبَّهَ عَلى أنَّهُ يَجِبُ عَلى الكُلِّ طاعَتُهُ لِمَكانِ هَذِهِ النِّعَمِ وهي نِعْمَةُ الخَلْقِ والرِّزْقِ. ثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أمْواتًا﴾ إلى آخِرِهِ، وذَكَرَ ذَلِكَ في مَعْرِضِ الِامْتِنانِ وشَرْحِ النِّعَمِ ولَوْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعالى شَيْءٌ مِنَ النِّعَمِ لَما صَحَّ ذَلِكَ. وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿يابَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكم وأنِّي فَضَّلْتُكم عَلى العالَمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٢] وهَذا نَصٌّ صَرِيحٌ في أنَّ اللَّهَ تَعالى أنْعَمَ عَلى الكافِرِ، إذِ المُخاطَبُ بِذَلِكَ هم أهْلُ الكِتابِ وكانُوا مِنَ الكُفّارِ، وكَذا قَوْلُهُ: ﴿يابَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وإذْ أنْجَيْناكُمْ﴾ [الأعراف: ١٤١] وقَوْلُهُ: ﴿وإذْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ والفُرْقانَ لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٥٣] . وكُلُّ ذَلِكَ عَدٌّ لِلنِّعَمِ عَلى العَبِيدِ. ورابِعُها: قَوْلُهُ: ﴿ألَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا مِن قَبْلِهِمْ مِن قَرْنٍ مَكَّنّاهم في الأرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكم وأرْسَلْنا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْرارًا﴾ [الأنعام: ٦] . وخامِسُها: قَوْلُهُ: ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكم مِن ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ تَدْعُونَهُ﴾ [الأنعام: ٦٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٦٤] . وسادِسُها: قَوْلُهُ: ﴿ولَقَدْ مَكَّنّاكم في الأرْضِ وجَعَلْنا لَكم فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: ١٠]، وقالَ في قِصَّةِ إبْلِيسَ: ﴿ولا تَجِدُ أكْثَرَهم شاكِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٧]، ولَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ نِعْمَةٌ لَما كانَ لِهَذا القَوْلِ فائِدَةٌ. وسابِعُها: قَوْلُهُ: ﴿واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكم خُلَفاءَ مِن بَعْدِ عادٍ وبَوَّأكم في الأرْضِ﴾ [الأعراف: ٧٤] الآيَةَ، وقالَ حاكِيًا عَنْ شُعَيْبٍ: ﴿واذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف: ٨٦] وقالَ حاكِيًا عَنْ مُوسى: ﴿قالَ أغَيْرَ اللَّهِ أبْغِيكم إلَهًا وهو فَضَّلَكم عَلى العالَمِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٠] . وثامِنُها: قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أنْعَمَها عَلى قَوْمٍ﴾ [الأنفال: ٥٣] وهَذا صَرِيحٌ. وتاسِعُها: قَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً والقَمَرَ نُورًا وقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إلّا بِالحَقِّ﴾ [يونس: ٥] . وعاشِرُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا أذَقْنا النّاسَ رَحْمَةً مِن بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُمْ﴾ [يُونُسَ: ٢١] . الحادِي عَشَرَ: قَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكم في البَرِّ والبَحْرِ حَتّى إذا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وفَرِحُوا بِها﴾ [يونس: ٢٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا أنْجاهم إذا هم يَبْغُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ [يونس: ٢٣] . (p-٣١)الثّانِي عَشَرَ: قَوْلُهُ: ﴿وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباسًا﴾ [الفرقان: ٤٧] . وقَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ والنَّهارَ مُبْصِرًا﴾ [يونس: ٦٧] . الثّالِثَ عَشَرَ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وأحَلُّوا قَوْمَهم دارَ البَوارِ﴾ ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وبِئْسَ القَرارُ﴾ [إبراهيم: ٢٨] . الرّابِعَ عَشَرَ: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكم وسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ في البَحْرِ بِأمْرِهِ﴾ [إبراهيم: ٣٢] . الخامِسَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إنَّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ﴾ [إبراهيم: ٣٤] وهَذا صَرِيحٌ في إثْباتِ النِّعْمَةِ في حَقِّ الكُفّارِ. واعْلَمْ أنَّ الخِلافَ في هَذِهِ المَسْألَةِ راجِعٌ إلى العِبارَةِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لا نِزاعَ في أنَّ هَذِهِ الأشْياءَ أعْنِي الحَياةَ والعَقْلَ والسَّمْعَ والبَصَرَ وأنْواعَ الرِّزْقِ والمَنافِعِ مِنَ اللَّهِ تَعالى؛ إنَّما الخِلافُ في أنَّ أمْثالَ هَذِهِ المَنافِعِ إذا حَصَلَ عَقِيبَها تِلْكَ المَضارُّ الأبَدِيَّةُ هَلْ يُطْلَقُ في العُرْفِ عَلَيْها اسْمُ النِّعْمَةِ أمْ لا ؟ ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ نِزاعٌ في مُجَرَّدِ عِبارَةٍ، وأمّا الَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ ما لا يَلْتَذُّ بِهِ المُكَلَّفُ فَهو تَعالى إنَّما خَلَقَهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ في الِاسْتِدْلالِ عَلى الصّانِعِ وعَلى لُطْفِهِ وإحْسانِهِ فَأُمُورٌ: أحَدُها: قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ ( أتى أمْرُ اللَّهِ): ﴿يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ [النحل: ٢] فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ إنَّما بَعَثَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ ولِأجْلِ الدَّعْوَةِ إلى وحْدانِيَّتِهِ والإيمانِ بِتَوْحِيدِهِ وعَدْلِهِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِالحَقِّ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ٣] ﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِن نُطْفَةٍ فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ [النحل: ٤] فَبَيَّنَ أنَّ حُدُوثَ العَبْدِ مَعَ ما فِيهِ مِنَ الكُفْرِ مَن أعْظَمِ الدَّلائِلِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ، وهو انْقِلابُهُ مِن حالٍ إلى حالٍ، مِن كَوْنِهِ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً إلى أنْ يَنْتَهِيَ مِن أخَسِّ أحْوالِهِ وهو كَوْنُهُ نُطْفَةً إلى أشْرَفِ أحْوالِهِ وهو كَوْنُهُ خَصِيمًا مُبِينًا، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وُجُوهَ إنْعامِهِ فَقالَ: ﴿والأنْعامَ خَلَقَها لَكم فِيها دِفْءٌ ومَنافِعُ ومِنها تَأْكُلُونَ﴾ [النحل: ٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكم مِنهُ شَرابٌ ومِنهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ [النحل: ١٠] بَيَّنَ بِذَلِكَ الرَّدِّ عَلى الدَّهْرِيَّةِ وأصْحابِ الطَّبائِعِ؛ لِأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ الماءَ واحِدٌ والتُّرابَ واحِدٌ ومَعَ ذَلِكَ اخْتَلَفَتِ الألْوانُ والطُّعُومُ والرَّوائِحُ، ثُمَّ قالَ: ﴿وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهارَ﴾ [النحل: ١٢] بَيَّنَ بِهِ الرَّدَّ عَلى المُنَجِّمِينَ وأصْحابِ الأفْلاكِ حَيْثُ اسْتُدِلَّ بِحَرَكاتِها وبِكَوْنِها مُسَخَّرَةً عَلى طَرِيقَةٍ واحِدَةٍ عَلى حُدُوثِها، فَأثْبَتَ سُبْحانَهُ وتَعالى بِهَذِهِ الآياتِ أنَّ كُلَّ ما في العالَمِ مَخْلُوقٌ لِأجْلِ المُكَلَّفِينَ؛ لِأنَّ كُلَّ ما في العالَمِ مِمّا يُغايِرُ ذاتَ المُكَلَّفِ لَيْسَ يَخْلُو مِن أنْ يَلْتَذَّ بِهِ المُكَلَّفُ ويَسْتَرْوِحَ إلَيْهِ فَيَحْصُلُ لَهُ بِهِ سُرُورٌ أوْ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ كُلْفَةً أوْ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ اعْتِبارٌ، نَحْوَ الأجْسامِ المُؤْذِيَةِ كالحَيّاتِ والعَقارِبِ فَيَتَذَكَّرُ بِالنَّظَرِ إلَيْها أنْواعَ العِقابِ في الآخِرَةِ فَيَحْتَرِزُ مِنها، ويَسْتَدِلُّ بِها عَلى المُنْعِمِ الأعْظَمِ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِن مَخْلُوقاتِهِ عَنْ هَذِهِ المَنافِعِ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى نَبَّهَ عَلى عِظَمِ إنْعامِهِ بِهَذِهِ الأشْياءِ في آخِرِ هَذِهِ الآياتِ فَقالَ: ﴿وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها﴾ [النحل: ١٨] . وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَدًا مِن كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ﴾ (p-٣٢)﴿بِأنْعُمِ اللَّهِ﴾ [النحل: ١١٢] فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلى أنَّ كَوْنَ النِّعْمَةِ واصِلَةً إلَيْهِمْ يُوجِبُ أنْ يَكُونَ كُفْرانُها سَبَبًا لِلتَّبْدِيلِ، وثالِثُها: قَوْلُهُ في قِصَّةِ قارُونَ: ﴿وأحْسِنْ كَما أحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ﴾ [القصص: ٧٧] وقالَ: ﴿ألَمْ تَرَوْا أنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكم ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وأسْبَغَ عَلَيْكم نِعَمَهُ ظاهِرَةً وباطِنَةً﴾ [لقمان: ٢٠] وقالَ: ﴿أفَرَأيْتُمْ ما تُمْنُونَ﴾ ﴿أأنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أمْ نَحْنُ الخالِقُونَ﴾ [الواقعة: ٥٨] وقالَ: ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٣٠] عَلى سَبِيلِ التَّكْرِيرِ، وكُلُّ ما في هَذِهِ السُّورَةِ فَهو مِنَ النِّعَمِ، إمّا في الدِّينِ أوْ في الدُّنْيا، فَهَذا ما يَتَعَلَّقُ بِهَذا البابِ. * * * (المَسْألَةُ الثّالِثَةُ): في النِّعَمِ المَخْصُوصَةِ بِبَنِي إسْرائِيلَ. قالَ بَعْضُ العارِفِينَ: عَبِيدُ النِّعَمِ كَثِيرُونَ وعَبِيدُ المُنْعِمِ قَلِيلُونَ، فاللَّهُ تَعالى ذَكَّرَ بَنِي إسْرائِيلَ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ ولَمّا آلَ الأمْرُ إلى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ذَكَّرَهم بِالمُنْعِمِ فَقالَ: ﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٢] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى فَضْلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلى سائِرِ الأُمَمِ. واعْلَمْ أنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعالى عَلى بَنِي إسْرائِيلَ كَثِيرَةٌ (أ) اسْتَنْقَذَهم مِمّا كانُوا فِيهِ مِنَ البَلاءِ مِن فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ وأبْدَلَهم مِن ذَلِكَ بِتَمْكِينِهِمْ في الأرْضِ وتَخْلِيصِهِمْ مِنَ العُبُودِيَّةِ كَما قالَ: ﴿ونُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الأرْضِ ونَجْعَلَهم أئِمَّةً ونَجْعَلَهُمُ الوارِثِينَ﴾ ﴿ونُمَكِّنَ لَهم في الأرْضِ ونُرِيَ فِرْعَوْنَ وهامانَ وجُنُودَهُما مِنهم ما كانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: ٥] . (ب) جَعَلَهم أنْبِياءَ ومُلُوكًا بَعْدَ أنْ كانُوا عَبِيدًا لِلْقِبْطِ فَأهْلَكَ أعْداءَهم وأوْرَثَهم أرْضَهم ودِيارَهم وأمْوالَهم كَما قالَ: ﴿كَذَلِكَ وأوْرَثْناها بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [الشعراء: ٥٩] (ج) أنْزَلَ عَلَيْهِمُ الكُتُبَ العَظِيمَةَ الَّتِي ما أنْزَلَها عَلى أُمَّةٍ سِواهم كَما قالَ: ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم إذْ جَعَلَ فِيكم أنْبِياءَ وجَعَلَكم مُلُوكًا وآتاكم ما لَمْ يُؤْتِ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ﴾ [المائدة: ٢٠] . (د) رَوى هِشامٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: مِن نِعْمَةِ اللَّهِ تَعالى عَلى بَنِي إسْرائِيلَ أنْ نَجّاهم مِن آلِ فِرْعَوْنَ وظَلَّلَ عَلَيْهِمْ في التِّيهِ الغَمامَ، وأنْزَلَ عَلَيْهِمُ المَنَّ والسَّلْوى في التِّيهِ وأعْطاهُمُ الحَجَرَ الَّذِي كانَ كَرَأْسِ الرَّجُلِ يَسْقِيهِمْ ما شاءُوا مِنَ الماءِ مَتى أرادُوا، فَإذا اسْتَغْنَوْا عَنِ الماءِ رَفَعُوهُ فاحْتَبَسَ الماءُ عَنْهم وأعْطاهم عَمُودًا مِنَ النُّورِ لِيُضِيءَ لَهم بِاللَّيْلِ، وكانَتْ رُءُوسُهم لا تَتَشَعَّثُ وثِيابُهم لا تَبْلى. واعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى إنَّما ذَكَّرَهم بِهَذِهِ النِّعَمِ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ في جُمْلَةِ النِّعَمِ ما يَشْهَدُ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ ﷺ وهو التَّوْراةُ والإنْجِيلُ والزَّبُورُ. وثانِيها: أنَّ كَثْرَةَ النِّعَمِ تُوجِبُ عِظَمَ المَعْصِيَةِ فَذَكَّرَهم تِلْكَ النِّعَمَ لِكَيْ يَحْذَرُوا مُخالَفَةَ ما دُعُوا إلَيْهِ مِنَ الإيمانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وبِالقُرْآنِ. وثالِثُها: أنَّ تَذْكِيرَ النِّعَمِ الكَثِيرَةِ يُوجِبُ الحَياءَ عَنْ إظْهارِ المُخالَفَةِ. ورابِعُها: أنَّ تَذْكِيرَ النِّعَمِ الكَثِيرَةِ يُفِيدُ أنَّ المُنْعِمَ خَصَّهم مِن بَيْنِ سائِرِ النّاسِ بِها، ومَن خَصَّ أحَدًا بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ فالظّاهِرُ أنَّهُ لا يُزِيلُها عَنْهم لِما قِيلَ: إتْمامُ المَعْرُوفِ خَيْرٌ مِنَ ابْتِدائِهِ فَكَأنَّ تَذْكِيرَ النِّعَمِ السّالِفَةِ يُطْمِعُ في النِّعَمِ الآتِيَةِ، وذَلِكَ الطَّمَعُ مانِعٌ مِن إظْهارِ المُخالَفَةِ والمُخاصَمَةِ. فَإنْ قِيلَ: هَذِهِ النِّعَمُ ما كانَتْ عَلى المُخاطَبِينَ بَلْ كانَتْ عَلى آبائِهِمْ فَكَيْفَ تَكُونُ نِعَمًا عَلَيْهِمْ وسَبَبًا لِعِظَمِ مَعْصِيَتِهِمْ ؟ والجَوابُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: لَوْلا هَذِهِ النِّعَمُ عَلى آبائِهِمْ لَما بَقُوا فَما كانَ يَحْصُلُ هَذا النَّسْلُ فَصارَتِ النِّعَمُ عَلى الآباءِ كَأنَّها نِعَمٌ عَلى الأبْناءِ. (p-٣٣). وثانِيها: أنَّ الِانْتِسابَ إلى الآباءِ وقَدْ خَصَّهُمُ اللَّهُ تَعالى بِنِعَمِ الدِّينِ والدُّنْيا نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ في حَقِّ الأوْلادِ. وثالِثُها: الأوْلادُ مَتى سَمِعُوا أنَّ اللَّهَ تَعالى خَصَّ آباءَهم بِهَذِهِ النِّعَمِ لِمَكانِ طاعَتِهِمْ وإعْراضِهِمْ عَنِ الكُفْرِ والجُحُودِ رَغِبَ الوَلَدُ في هَذِهِ الطَّرِيقَةِ؛ لِأنَّ الوَلَدَ مَجْبُولٌ عَلى التَّشَبُّهِ بِالأبِ في أفْعالِ الخَيْرِ، فَيَصِيرُ هَذا التَّذْكِيرُ داعِيًا إلى الِاشْتِغالِ بِالخَيْراتِ والإعْراضِ عَنِ الشُّرُورِ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ فاعْلَمْ أنَّ العَهْدَ يُضافُ إلى المُعاهِدِ والمُعاهَدِ جَمِيعًا وذَكَرُوا في هَذا العَهْدِ قَوْلَيْنِ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنهُ جَمِيعُ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ مِن غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِبَعْضِ التَّكالِيفِ دُونَ بَعْضٍ ثُمَّ فِيهِ رِواياتٌ، إحْداها: أنَّهُ تَعالى جَعَلَ تَعْرِيفَهُ إيّاهم نِعَمَهُ عَهْدًا لَهُ عَلَيْهِمْ مِن حَيْثُ يَلْزَمُهُمُ القِيامُ بِشُكْرِها، كَما يَلْزَمُهُمُ الوَفاءُ بِالعَهْدِ والمِيثاقِ، وقَوْلُهُ: ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ أرادَ بِهِ الثَّوابَ والمَغْفِرَةَ، فَجَعَلَ الوَعْدَ بِالثَّوابِ شَبِيهًا بِالعَهْدِ مِن حَيْثُ اشْتِراكُهُما في أنَّهُ لا يَجُوزُ الإخْلالُ بِهِ. ثانِيها: قالَ الحَسَنُ: المُرادُ مِنهُ العَهْدُ الَّذِي أخَذَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى بَنِي إسْرائِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وبَعَثْنا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وقالَ اللَّهُ إنِّي مَعَكم لَئِنْ أقَمْتُمُ الصَّلاةَ وآتَيْتُمُ الزَّكاةَ﴾ [المائدة: ١٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿ولَأُدْخِلَنَّكم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ [المائدة: ١٢] فَمَن وفّى لِلَّهِ بِعَهْدِهِ وفّى اللَّهُ لَهُ بِعَهْدِهِ. وثالِثُها: وهو قَوْلُ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ: أنَّ المُرادَ أوْفُوا بِما أمَرْتُكم بِهِ مِنَ الطّاعاتِ ونَهَيْتُكم عَنْهُ مِنَ المَعاصِي أُوفِ بِعَهْدِكم، أيْ أرْضى عَنْكم وأُدْخِلْكُمُ الجَنَّةَ، وهو الَّذِي حَكاهُ الضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وتَحْقِيقُهُ ما جاءَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهم وأمْوالَهم بِأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾ [التوبة: ١١١] إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن أوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ﴾ [التوبة: ١١١] . القَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِن هَذا العَهْدِ ما أثْبَتَهُ في الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ مِن وصْفِ مُحَمَّدٍ ﷺ وأنَّهُ سَيَبْعَثُهُ عَلى ما صَرَّحَ بِذَلِكَ في سُورَةِ المائِدَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [المائدة: ١٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكم سَيِّئاتِكم ولَأُدْخِلَنَّكم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ [المائدة: ١٢] وقالَ في سُورَةِ الأعْرافِ: ﴿ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ والَّذِينَ هم بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهم في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ﴾ [الأعراف: ١٥٦] وأمّا عَهْدُ اللَّهِ مَعَهم فَهو أنْ يُنْجِزَ لَهم ما وعَدَهم مِن وضْعِ ما كانَ عَلَيْهِمْ مِنَ الإصْرِ والأغْلالِ الَّتِي كانَتْ في أعْناقِهِمْ، وقالَ: ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكم مِن كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ﴾ [آل عمران: ٨١] الآيَةَ. وقالَ: ﴿وإذْ قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِي إسْرائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ومُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ﴾ [الصف: ٦] . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنَّ اللَّهَ تَعالى عَهِدَ إلى بَنِي إسْرائِيلَ في التَّوْراةِ أنِّي باعِثٌ مِن بَنِي إسْماعِيلَ نَبِيًّا أُمِّيًّا فَمَن تَبِعَهُ وصَدَّقَ بِالنُّورِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ - أيْ بِالقُرْآنِ - غَفَرْتُ لَهُ ذَنْبَهُ وأدْخَلْتُهُ الجَنَّةَ وجَعَلْتُ لَهُ أجْرَيْنِ، أجْرًا بِاتِّباعِ ما جاءَ بِهِ مُوسى وجاءَتْ بِهِ سائِرُ أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ، وأجْرًا بِاتِّباعِ ما جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الأُمِّيُّ مِن ولَدِ إسْماعِيلَ، وتَصْدِيقُ هَذا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِن قَبْلِهِ هم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: ٥٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا﴾ [القصص: ٥٤] وكانَ عَلِيُّ بْنُ عِيسى يَقُولُ: تَصْدِيقُ ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: (p-٣٤)﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكم كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ﴾ [الحديد: ٢٨] وتَصْدِيقُهُ أيْضًا فِيما رَوى أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ رَجُلٌ مِن أهْلِ الكِتابِ آمَنَ بِعِيسى ثُمَّ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَلَهُ أجْرانِ، ورَجُلٌ أدَّبَ أمَتَهُ فَأحْسَنَ تَأْدِيبَها وعَلَّمَها فَأحْسَنَ تَعْلِيمَها ثُمَّ أعْتَقَها وتَزَوَّجَها فَلَهُ أجْرانِ، ورَجُلٌ أطاعَ اللَّهَ وأطاعَ سَيِّدَهُ فَلَهُ أجْرانِ» “ بَقِيَ هَهُنا سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: لَوْ كانَ الأمْرُ كَما قُلْتُمْ فَكَيْفَ يَجُوزُ مِن جَماعَتِهِمْ جَحْدَهُ ؟ والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ هَذا العِلْمَ كانَ حاصِلًا عِنْدَ العُلَماءِ بِكُتُبِهِمْ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ العَدَدُ الكَثِيرُ فَجازَ مِنهم كِتْمانُهُ. الثّانِي: أنَّ ذَلِكَ النَّصَّ كانَ نَصًّا خَفِيًّا لا جَلِيًّا فَجازَ وُقُوعُ الشُّكُوكِ والشُّبُهاتِ فِيهِ. السُّؤالُ الثّانِي: الشَّخْصُ المُبَشَّرُ بِهِ في هَذِهِ الكُتُبِ إمّا أنْ يَكُونَ قَدْ ذُكِرَ في هَذِهِ الكُتُبِ وقْتُ خُرُوجِهِ ومَكانُ خُرُوجِهِ وسائِرُ التَّفاصِيلِ المُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ أوْ لَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ، فَإنْ كانَ ذَلِكَ النَّصُّ نَصًّا جَلِيًّا وارِدًا في كُتُبٍ مَنقُولَةٍ إلى أهْلِ العِلْمِ بِالتَّواتُرِ فَكانَ يَمْتَنِعُ قُدْرَتُهم عَلى الكِتْمانِ، وكانَ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ مِن دِينِ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ. وإنْ كانَ الثّانِي لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ النَّصُّ عَلى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ لِاحْتِمالِ أنْ يَقُولُوا: إنَّ ذَلِكَ المُبَشَّرَ بِهِ سَيَجِيءُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلى ما هو قَوْلُ جُمْهُورِ اليَهُودِ. والجَوابُ أنَّ الَّذِينَ حَمَلُوا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ عَلى الأمْرِ بِالتَّأمُّلِ في الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ عَلى ما شَرَحْناهُ في القَوْلِ الأوَّلِ إنَّما اخْتارُوهُ لِقُوَّةِ هَذا السُّؤالِ، فَأمّا مَن أرادَ أنْ يَنْصُرَ القَوْلَ الثّانِيَ فَإنَّهُ يُجِيبُ عَنْهُ بِأنَّ تَعْيِينَ الزَّمانِ والمَكانِ لَمْ يَكُنْ مَنصُوصًا عَلَيْهِ نَصًّا جَلِيًّا يَعْرِفُهُ كُلُّ أحَدٍ، بَلْ كانَ مَنصُوصًا عَلَيْهِ نَصًّا خَفِيًّا، فَلا جَرَمَ لَمْ يَلْزَمْ أنْ يُعْلَمَ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ مِن دِينِ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. ولْنَذْكُرِ الآنَ بَعْضَ ما جاءَ في كُتُبِ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ مِنَ البِشارَةِ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ ﷺ: فالأوَّلُ: جاءَ في الفَصْلِ التّاسِعِ مِنَ السِّفْرِ الأوَّلِ مِنَ التَّوْراةِ أنَّ هاجَرَ لَمّا غَضِبَتْ عَلَيْها سارَّةُ تَراءى لَها مَلَكٌ [ مِن قِبَلِ ] اللَّهِ فَقالَ لَها: يا هاجَرُ أيْنَ تُرِيدِينَ، ومِن أيْنَ أقْبَلْتِ ؟ قالَتْ: أهْرُبُ مِن سَيِّدَتِي سارَّةَ فَقالَ لَها: ارْجِعِي إلى سَيِّدَتِكِ واخْفِضِي لَها فَإنَّ اللَّهَ سَيُكْثِرُ زَرْعَكِ، وذُرِّيَّتَكِ وسَتَحْبَلِينَ وتَلِدِينَ ابْنًا وتُسَمِّينَهُ إسْماعِيلَ مِن أجْلِ أنَّ اللَّهَ سَمِعَ تَبَتُّلَكِ وخُشُوعَكِ وهو يَكُونُ عَيْنَ النّاسِ وتَكُونُ يَدُهُ فَوْقَ الجَمِيعِ ويَدُ الجَمِيعِ مَبْسُوطَةٌ إلَيْهِ بِالخُضُوعِ وهو يَشْكُرُ عَلى رَغْمِ جَمِيعِ إخْوَتِهِ. واعْلَمْ أنَّ الِاسْتِدْلالَ بِهَذا الكَلامِ أنَّ هَذا الكَلامَ خَرَجَ مَخْرَجَ البِشارَةِ، ولَيْسَ يَجُوزُ أنْ يُبَشِّرَ المَلَكُ مِن قِبَلِ اللَّهِ بِالظُّلْمِ والجَوْرِ وبِأمْرٍ لا يَتِمُّ إلّا بِالكَذِبِ عَلى اللَّهِ تَعالى، ومَعْلُومٌ أنَّ إسْماعِيلَ ووَلَدَهُ لَمْ يَكُونُوا مُتَصَرِّفِينَ في الكُلِّ أعْنِي في مُعْظَمِ الدُّنْيا ومُعْظَمِ الأُمَمِ، ولا كانُوا مُخالِطِينَ لِلْكُلِّ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِيلاءِ إلّا بِالإسْلامِ؛ لِأنَّهم كانُوا قَبْلَ الإسْلامِ مَحْصُورِينَ في البادِيَةِ لا يَتَجاسَرُونَ عَلى الدُّخُولِ في أوائِلِالعِراقِ وأوائِلِ الشّامِ إلّا عَلى أتَمِّ خَوْفٍ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ اسْتَوْلَوْا عَلى الشَّرْقِ والغَرْبِ بِالإسْلامِ ومازَجُوا الأُمَمَ ووَطِئُوا بِلادَهم، ومازَجَتْهُمُ الأُمَمُ وحَجُّوا بَيْتَهم ودَخَلُوا بادِيَتَهم بِسَبَبِ مُجاوَرَةِ الكَعْبَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ صادِقًا لَكانَتْ هَذِهِ المُخالَطَةُ مِنهم لِلْأُمَمِ ومِنَ الأُمَمِ لَهم مَعْصِيَةً لِلَّهِ تَعالى وخُرُوجًا عَنْ طاعَتِهِ إلى طاعَةِ الشَّيْطانِ، واللَّهُ يَتَعالى عَنْ أنْ يُبَشِّرَ بِما هَذا سَبِيلُهُ. والثّانِي: جاءَ في الفَصْلِ الحادِي عَشَرَ مِنَ السِّفْرِ الخامِسِ: ”إنَّ الرَّبَّ إلَهَكم يُقِيمُ لَكم نَبِيًّا مِثْلِي مِن (p-٣٥)بَيْنِكم ومِن إخْوانِكم“، وفي هَذا الفَصْلِ أنَّ الرَّبَّ تَعالى قالَ لِمُوسى: ”إنِّي مُقِيمٌ لَهم نَبِيًّا مِثْلَكَ مِن بَيْنِ إخْوانِهِمْ، وأيُّما رَجُلٍ لَمْ يَسْمَعْ كَلِماتِي الَّتِي يُؤَدِّيها عَنِّي ذَلِكَ الرَّجُلُ بِاسْمِي أنا أنْتَقِمُ مِنهُ“ . وهَذا الكَلامُ يَدُلُّ عَلى أنَّ النَّبِيَّ الَّذِي يُقِيمُهُ اللَّهُ تَعالى لَيْسَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، كَما أنَّ مَن قالَ لِبَنِي هاشِمٍ: إنَّهُ سَيَكُونُ مِن إخْوانِكم إمامٌ، عَقَلَ أنَّهُ لا يَكُونُ مِن بَنِي هاشِمٍ، ثُمَّ إنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ هو إسْرائِيلُ ولَمْ يَكُنْ لَهُ أخٌ إلّا العِيصَ، ولَمْ يَكُنْ لِلْعِيصِ ولَدٌ مِنَ الأنْبِياءِ سِوى أيُّوبَ وإنَّهُ كانَ قَبْلَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مُبَشِّرًا بِهِ، وأمّا إسْماعِيلُ فَإنَّهُ كانَ أخًا لِإسْحَقَ والِدِ يَعْقُوبَ ثُمَّ إنَّ كُلَّ نَبِيٍّ بُعِثَ بَعْدَ مُوسى كانَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، فالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ ما كانَ مِنهم لَكِنَّهُ كانَ مِن إخْوانِهِمْ؛ لِأنَّهُ مِن ولَدِ إسْماعِيلَ الَّذِي هو أخُو إسْحَقَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. فَإنْ قِيلَ قَوْلُهُ: ”مِن بَيْنِكم“ يَمْنَعُ مِن أنْ يَكُونَ المُرادُ مُحَمَّدًا ﷺ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَقُمْ مِن بَيْنِ بَنِي إسْرائِيلَ. قُلْنا: بَلْ قَدْ قامَ مِن بَيْنِهِمْ؛ لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ظَهَرَ بِالحِجازِ فَبُعِثَ بِمَكَّةَ وهاجَرَ إلى المَدِينَةِ وبِها تَكامَلَ أمْرُهُ. وقَدْ كانَ حَوْلَ المَدِينَةِ بِلادُ اليَهُودِ كَخَيْبَرَ وبَنِي قَيْنُقاعَ والنَّضِيرِ وغَيْرِهِمْ، وأيْضًا فَإنَّ الحِجازَ يُقارِبُ الشّامَ، وجُمْهُورُ اليَهُودِ كانُوا إذْ ذاكَ بِالشّامِ، فَإذا قامَ مُحَمَّدٌ بِالحِجازِ فَقَدْ قامَ مِن بَيْنِهِمْ، وأيْضًا فَإنَّهُ إذا كانَ مِن إخْوانِهِمْ فَقَدْ قامَ مِن بَيْنِهِمْ فَإنَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنهم. والثّالِثُ: قالَ في الفَصْلِ العِشْرِينَ مِن هَذا السِّفْرِ: ”إنَّ الرَّبَّ تَعالى جاءَ في طُورِ سَيْناءَ وطَلَعَ لَنا مِن ساعِيرَ وظَهَرَ مِن جِبالِ فارانَ وصَفَّ عَنْ يَمِينِهِ عُنْوانَ القِدِّيسِينَ فَمَنَحَهُمُ العِزَّ وحَبَّبَهم إلى الشُّعُوبِ ودَعا لِجَمِيعِ قِدِّيسِيهِ بِالبَرَكَةِ“ وجْهُ الِاسْتِدْلالِ: أنَّ جَبَلَ فارانَ هو بِالحِجازِ؛ لِأنَّ في التَّوْراةِ أنَّ إسْماعِيلَ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ في بَرِّيَّةِ فارانَ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ إنَّما سَكَنَ بِمَكَّةَ. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ: ”فَمَنَحَهُمُ العِزَّ“ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ إسْماعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ عَقِيبَ سُكْنى إسْماعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ هُناكَ عِزٌّ ولا اجْتَمَعَ هُناكَ رَبَواتُ القِدِّيسِينَ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ. قالَتِ اليَهُودُ: المُرادُ أنَّ النّارَ لَمّا ظَهَرَتْ مِن طُورِ سَيْناءَ ظَهَرَتْ مِن ساعِيرَ نارٌ أيْضًا، ومِن جَبَلِ فارانَ أيْضًا، فانْتَشَرَتْ في هَذِهِ المَواضِعِ. قُلْنا: هَذا لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَوْ خَلَقَ نارًا في مَوْضِعٍ فَإنَّهُ لا يُقالُ جاءَ اللَّهُ مِن ذَلِكَ إذا تابَعَ ذَلِكَ الواقِعَةَ وحْيٌ نَزَلَ في ذَلِكَ المَوْضِعِ أوْ عُقُوبَةٌ وما أشْبَهَ ذَلِكَ، وعِنْدَكم أنَّهُ لَمْ يَتْبَعْ ظُهُورَ النّارِ وحْيٌ ولا كَلامٌ إلّا مِن طُورِ سَيْناءَ فَما كانَ يَنْبَغِي إلّا أنْ يُقالَ: ظَهَرَ مِن ساعِيرَ ومِن جَبَلِ فارانَ فَلا يَجُوزُ وُرُودُهُ كَما لا يُقالُ جاءَ اللَّهُ مِنَ الغَمامِ إذا ظَهَرَ في الغَمامِ احْتِراقٌ ونِيرانٌ كَما يَتَّفِقُ ذَلِكَ في أيّامِ الرَّبِيعِ، وأيْضًا فَفي كِتابِ حَبْقُوقَ بَيانُ ما قُلْنا وهو: جاءَ اللَّهُ مِن طُورِ سَيْناءَ والقُدْسِ مِن جَبَلِ فارانَ، وانْكَشَفَتِ السَّماءُ مِن بَهاءِ مُحَمَّدٍ وامْتَلَأتِ الأرْضُ مِن حَمْدِهِ. يَكُونُ شُعاعُ مَنظَرِهِ مِثْلَ النُّورِ يَحْفَظُ بَلَدَهُ بِعِزِّهِ، تَسِيرُ المَنايا أمامَهُ، ويَصْحَبُ سِباعُ الطَّيْرِ أجْنادَهُ، قامَ فَمَسَحَ الأرْضَ، وتَأمَّلَ الأُمَمَ وبَحَثَ عَنْها فَتَضَعْضَعَتِ الجِبالُ القَدِيمَةُ، واتَّضَعَتِ الرَّوابِي والدَّهْرِيَّةُ، وتَزَعْزَعَتْ سُتُورُ أهْلِ مَدْيَنَ، ورَكِبْتَ الخُيُولَ، وعَلَوْتَ مَراكِبَ الِانْقِيادِ والغَوْثِ، وسَتَنْزِعُ في قِسِيِّكَ إغْراقًا ونَزْعًا، وتَرْتَوِي السِّهامُ بِأمْرِكَ يا مُحَمَّدُ ارْتِواءً، وتَخُورُ الأرْضُ بِالأنْهارِ، ولَقَدْ رَأتْكَ الجِبالُ فارْتاعَتْ وانْحَرَفَ عَنْكَ شُؤْبُوبُ السَّيْلِ، ونَفَرَتِ المَهارِي نَفِيرًا ورُعْبًا، ورَفَعَتْ أيْدِيَها وجَلًا وفَرَقًا، وتَوَقَّفَتِ الشَّمْسُ والقَمَرُ عَنْ مَجْراهُما، وسارَتِ العَساكِرُ في بَرْقِ سِهامِكَ ولَمَعانِ بَيانِكَ تُدَوِّخُ الأرْضَ غَضَبًا وتَدُوسُ الأُمَمَ زَجْرًا؛ لِأنَّكَ ظَهَرْتَ بِخَلاصِ أُمَّتِكَ وإنْقاذِ تُرابِ آبائِكَ ”. هَكَذا نُقِلَ عَنِ ابْنِ رَزِينٍ الطَّبَرِيِّ. أمّا النَّصارى فَقالَ أبُو الحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتابِ الغَرَرِ قَدْ رَأيْتُ في نُقُولِهِمْ:“ وظَهَرَ مِن جِبالِ فارانَ لَقَدْ تَقَطَّعَتِ السَّماءُ مِن بَهاءِ مُحَمَّدٍ المَحْمُودِ وتَرْتَوِي السِّهامُ بِأمْرِكَ المَحْمُودِ؛ لِأنَّكَ ظَهَرْتَ بِخَلاصِ (p-٣٦)أُمَّتِكَ وإنْقاذِ مَسِيحِكَ ”، فَظَهَرَ بِما ذَكَرْنا أنَّ قَوْلَهُ تَعالى في التَّوْراةِ:“ ظَهَرَ الرَّبُّ مِن جِبالِ فارانَ ”لَيْسَ مَعْناهُ ظُهُورُ النّارِ مِنهُ بَلْ مَعْناهُ ظُهُورُ شَخْصٍ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصِّفاتِ، وما ذاكَ إلّا رَسُولُنا مُحَمَّدٌ ﷺ . فَإنْ قالُوا: المُرادُ مَجِيءُ اللَّهِ تَعالى ولِهَذا قالَ في آخِرِ الكَلامِ:“ وإنْقاذِ مَسِيحِكَ ”قُلْنا: لا يَجُوزُ وصْفُ اللَّهِ تَعالى بِأنَّهُ يَرْكَبُ الخُيُولَ، وبِأنَّ شُعاعَ مَنظَرِهِ مِثْلُ النُّورِ، وبِأنَّهُ جازَ المَشاعِرَ القَدِيمَةَ، أمّا قَوْلُهُ: (وإنْقاذِ مَسِيحِكِ) فَإنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلامُ أنْقَذَ المَسِيحَ مِن كَذِبِ اليَهُودِ والنَّصارى. والرّابِعُ: ما جاءَ في كِتابِ أشْعِياءَ في الفَصْلِ الثّانِي والعِشْرِينَ مِنهُ:“ قُومِي فَأزْهِرِي مِصْباحَكِ - يُرِيدُ مَكَّةَ - فَقَدْ دَنا وقْتُكِ، وكَرامَةُ اللَّهِ تَعالى طالِعَةٌ عَلَيْكِ، فَقَدْ تَجَلَّلَ الأرْضَ الظَّلامُ وغَطّى عَلى الأُمَمِ الضَّبابُ، والرَّبُّ يُشْرِقُ عَلَيْكِ إشْراقًا ويُظْهِرُ كَرامَتَهُ عَلَيْكِ تَسِيرُ الأُمَمُ إلى نُورِكِ والمُلُوكُ إلى ضَوْءِ طُلُوعِكِ وارْفَعِي بَصَرَكِ إلى ما حَوْلَكِ وتَأمَّلِي فَإنَّهم مُسْتَجْمَعُونَ عِنْدَكِ، ويَحُجُّونَكِ ويَأْتِيكِ ولَدُكِ مِن بَلَدٍ بَعِيدٍ لِأنَّكِ أُمُّ القُرى، فَأوْلادُ سائِرِ البِلادِ كَأنَّهم أوْلادُ مَكَّةَ، وتَتَزَيَّنُ ثِيابُكِ عَلى الأرائِكِ والسُّرُرِ حِينَ تَرَيْنَ ذَلِكَ تُسَرِّينَ وتَبْتَهِجِينَ مِن أجْلِ أنَّهُ يَمِيلُ إلَيْكِ ذَخائِرُ البَحْرِ، ويَحُجُّ إلَيْكِ عَساكِرُ الأُمَمِ، ويُساقُ إلَيْكِ كِباشُ مَدْيَنَ، ويَأْتِيكِ أهْلُ سَبَأٍ ويَتَحَدَّثُونَ بِنِعَمِ اللَّهِ ويُمَجِّدُونَهُ، وتَسِيرُ إلَيْكِ أغْنامُ فارانَ، ويُرْفَعُ إلى مَذْبَحِي ما يُرْضِينِي، وأُحْدِثُ حِينَئِذٍ لِبَيْتِ مَحْمَدَتِي حَمْدًا ”فَوَجْهُ الِاسْتِدْلالِ أنَّ هَذِهِ الصِّفاتِ كُلَّها مَوْجُودَةٌ لِمَكَّةَ، فَإنَّهُ قَدْ حَجَّ إلَيْها عَساكِرُ الأُمَمِ، ومالَ إلَيْها ذَخائِرُ البَحْرِ، وقَوْلُهُ:“ وأُحْدِثُ لِبَيْتِ مَحْمَدَتِي حَمْدًا ”مَعْناهُ أنَّ العَرَبَ كانَتْ تُلَبِّي قَبْلَ الإسْلامِ فَتَقُولُ: لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ إلّا شَرِيكٌ هو لَكَ تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ. ثُمَّ صارَ في الإسْلامِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ. فَهَذا هو الحَمْدُ الَّذِي جَدَّدَهُ اللَّهُ لِبَيْتِ مَحْمَدَتِهِ. فَإنْ قِيلَ المُرادُ بِذَلِكَ بَيْتُ المَقْدِسِ وسَيَكُونُ ذَلِكَ فِيما بَعْدُ. قُلْنا لا يَجُوزُ أنْ يَقُولَ الحَكِيمُ:“ قَدْ دَنا وقْتُكِ ”مَعَ أنَّهُ ما دَنا بَلِ الَّذِي دَنا أمْرٌ لا يُوافِقُ رِضاهُ، ومَعَ ذَلِكَ لا يُحَذِّرُ مِنهُ، وأيْضًا فَإنَّ كِتابَ أشْعِياءَ مَمْلُوءٌ مِن ذِكْرِ البادِيَةِ وصِفَتِها، وذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهم. والخامِسُ: رَوى السَّمّانُ في تَفْسِيرِهِ في السِّفْرِ الأوَّلِ مِنَ التَّوْراةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى أوْحى إلى إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ:“ قَدْ أجَبْتُ دُعاكَ في إسْماعِيلَ وبارَكْتُ عَلَيْهِ فَكَبَّرْتُهُ وعَظَّمْتُهُ جِدًّا جِدًّا وسَيَلِدُ اثْنَيْ عَشَرَ عَظِيمًا وأجْعَلُهُ لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ ”والِاسْتِدْلالُ بِهِ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ في ولَدِ إسْماعِيلَ مَن كانَ لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ غَيْرَ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ ﷺ فَأمّا دُعاءُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وإسْماعِيلَ فَكانَ لِرَسُولِنا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمّا فَرَغا مِن بِناءِ الكَعْبَةِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنهم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِكَ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ ويُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٩] ولِهَذا كانَ يَقُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:“ «أنا دَعْوَةُ أبِي إبْراهِيمَ وبِشارَةُ عِيسى» ”وهو قَوْلُهُ: ﴿ومُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ﴾ [الصف: ٦] فَإنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الحَمْدِ والِاسْمُ المُشْتَقُّ مِنَ الحَمْدِ لَيْسَ إلّا لِنَبِيِّنا فَإنَّ اسْمَهُ مُحَمَّدٌ وأحْمَدُ ومَحْمُودٌ. قِيلَ إنَّ صِفَتَهُ في التَّوْراةِ أنَّ مَوْلِدَهُ بِمَكَّةَ، ومَسْكَنَهُ بِطِيبَةَ، ومُلْكَهُ بِالشّامِ، وأُمَّتَهُ الحَمّادُونَ. والسّادِسُ: قالَ المَسِيحُ لِلْحَوارِيِّينَ:“ أنا أذْهَبُ وسَيَأْتِيكُمُ الفارْقَلِيطْ رَوُحُ الحَقِّ الَّذِي لا يَتَكَلَّمُ مِن قِبَلِ نَفْسِهِ إنَّما يَقُولُ كَما يُقالُ لَهُ ”وتَصْدِيقُ ذَلِكَ: ﴿إنْ أتَّبِعُ إلّا ما يُوحى إلَيَّ﴾ [الأحقاف: ٩]، وقَوْلُهُ: ﴿قُلْ ما يَكُونُ لِي أنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقاءِ نَفْسِي إنْ أتَّبِعُ إلّا ما يُوحى إلَيَّ﴾ [يونس: ١٥] أمّا“ الفارْقَلِيطْ ”فَفي تَفْسِيرِهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ الشّافِعُ المُشَفَّعُ، وهَذا أيْضًا صِفَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. الثّانِي: قالَ بَعْضُ النَّصارى: الفارْقَلِيطْ هو (p-٣٧)الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ وكانَ في الأصْلِ فارُوقٌ كَما يُقالُ راوُوقٌ لِلَّذِي يُرَوَّقُ بِهِ وأمّا“ لِيطْ ”فَهو التَّحْقِيقُ في الأمْرِ كَما يُقالُ شَيْبٌ أشْيَبُ ذُو شَيْبٍ، وهَذا أيْضًا صِفَةُ شَرْعِنا؛ لِأنَّهُ هو الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ. والسّابِعُ: قالَ دانْيالُ لِبُخْتَنَصَّرَ حِينَ سَألَهُ عَنِ الرُّؤْيا الَّتِي كانَ رَآها مِن غَيْرِ أنْ قَصَّها عَلَيْهِ: رَأيْتَ أيُّها المَلِكُ مَنظَرًا هائِلًا رَأْسُهُ مِنَ الذَّهَبِ الأبْرِيزِ، وساعِدُهُ مِنَ الفِضَّةِ، وبَطْنُهُ وفَخِذاهُ مِن نُحاسٍ، وساقاهُ مِن حَدِيدٍ وبَعْضُها مِن خَزَفٍ، ورَأيْتَ حَجَرًا يَقْطَعُ مِن غَيْرِ قاطِعٍ، وصَكَّ رِجْلَ ذَلِكَ الصَّنَمَ ودَقَّها دَقًّا شَدِيدًا فَتَفَتَّتَ الصَّنَمُ كُلُّهُ حَدِيدُهُ ونُحاسُهُ وفِضَّتُهُ وذَهَبُهُ وصارَتْ رُفاتًا، وعَصَفَتْ بِها الرِّياحُ فَلَمْ يُوجَدْ لَها أثَرٌ، وصارَ ذَلِكَ الحَجَرُ الَّذِي صَكَّ ذَلِكَ الرِّجْلَ مِن ذَلِكَ الصَّنَمِ جَبَلًا عالِيًا امْتَلَأتْ بِهِ الأرْضُ فَهَذا رُؤْياكَ أيُّها المَلِكُ. وأمّا تَفْسِيرُها فَأنْتَ الرَّأْسُ الَّذِي رَأيْتَهُ مِنَ الذَّهَبِ ويَقُومُ بَعْدَكَ مَمْلَكَةٌ أُخْرى دُونَكَ، والمَمْلَكَةُ الثّالِثَةُ الَّتِي تُشْبِهُ النُّحاسَ تَنْبَسِطُ عَلى الأرْضِ كُلِّها، والمَمْلَكَةُ الرّابِعَةُ تَكُونُ قُوَّتُها مِثْلَ الحَدِيدِ، وأمّا الرِّجْلُ الَّتِي كانَ بَعْضُها مِن خَزَفٍ فَإنَّ بَعْضَ المَمْلَكَةِ يَكُونُ عَزِيزًا وبَعْضَها يَكُونُ ذَلِيلًا، وتَكُونُ كَلِمَةُ المُلْكِ مُتَفَرِّقَةً، ويُقِيمُ إلَهُ السَّماءِ في تِلْكَ الأيّامِ مَمْلَكَةً أبَدِيَّةً لا تَتَغَيَّرُ ولا تَزُولُ وإنَّها تُزِيلُ جَمِيعَ المَمالِكِ وسُلْطانُها يُبْطِلُ جَمِيعَ السَّلاطِينِ وتَقُومُ هي إلى الدَّهْرِ الدّاهِرِ، فَهَذا تَفْسِيرُ الحَجَرِ الَّذِي رَأيْتَ أنَّهُ يَقْطَعُ مِن جَبَلٍ بِلا قاطِعٍ حَتّى دَقَّ الحَدِيدَ والنُّحاسَ والخَزَفَ، واللَّهُ أعْلَمُ بِما يَكُونُ في آخِرِ الزَّمانِ. فَهَذِهِ هي البِشاراتُ الوارِدَةُ في الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ بِمَبْعَثِ رَسُولِنا مُحَمَّدٍ ﷺ . أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ فَقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: ذَلِكَ العَهْدُ هو ما دَلَّ العَقْلُ عَلَيْهِ مِن أنَّ اللَّهَ تَعالى يَجِبُ عَلَيْهِ إيصالُ الثَّوابِ إلى المُطِيعِ وصَحَّ وصْفُ ذَلِكَ الوُجُوبِ بِالعَهْدِ؛ لِأنَّهُ بِحَيْثُ يَجِبُ الوَفاءُ بِهِ فَكانَ ذَلِكَ أوْكَدَ مِنَ العَهْدِ بِالإيجابِ بِالنَّذْرِ واليَمِينِ: وقالَ أصْحابُنا: إنَّهُ لا يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلى اللَّهِ شَيْءٌ، وفي هَذِهِ الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا قَدَّمَ ذِكْرَ النِّعَمِ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ الأمْرَ بِالوَفاءِ بِالعَهْدِ دَلَّ عَلى أنَّ تِلْكَ النِّعَمَ السّالِفَةَ تُوجِبُ عَهْدَ العُبُودِيَّةِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ أداءُ العِباداتِ أداءً لِما وجَبَ بِسَبَبِ النِّعَمِ السّالِفَةِ وأداءُ الواجِبِ لا يَكُونُ سَبَبًا لِواجِبٍ آخَرَ، فَثَبَتَ أنَّ أداءَ التَّكالِيفِ لا يُوجِبُ الثَّوابَ فَبَطَلَ قَوْلُالمُعْتَزِلَةِ بَلِ التَّفْسِيرُ الحَقُّ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا وعَدَ بِالثَّوابِ - وكُلُّ ما وعَدَ بِهِ اسْتَحالَ أنْ لا يُوجَدَ، لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ لانْقَلَبَ خَبَرُهُ الصِّدْقُ كَذِبًا والكَذِبُ عَلَيْهِ مُحالٌ، والمُفْضِي إلى المُحالِ مُحالٌ - فَكانَ ذَلِكَ واجِبَ الوُقُوعِ فَكانَ ذَلِكَ آكَدَ مِمّا ثَبَتَ بِاليَمِينِ والنَّذْرِ. الثّانِي: أنْ يُقالَ العَهْدُ هو الأمْرُ والعَبْدُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَأْمُورًا إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَأْمُورًا لَكِنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى جَرى في ذَلِكَ عَلى مُوافَقَةِ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ: ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ وهو خادِعُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٢] ﴿ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٥٤] وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ فاعْلَمْ أنَّ الرَّهْبَةَ هي الخَوْفُ قالَ المُتَكَلِّمُونَ: الخَوْفُ مِنهُ تَعالى هو الخَوْفُ مِن عِقابِهِ، وقَدْ يُقالُ في المُكَلَّفِ: إنَّهُ خائِفٌ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: مَعَ العِلْمِ، والآخَرُ مَعَ الظَّنِّ، أمّا العِلْمُ فَإذا كانَ عَلى يَقِينٍ مِن أنَّهُ أتى بِكُلِّ ما أُمِرَ بِهِ واحْتَرَزَ عَنْ كُلِّ ما نُهِيَ عَنْهُ فَإنَّ خَوْفَهُ إنَّما يَكُونُ عَنِ المُسْتَقْبَلِ، وعَلى هَذا نَصِفُ المَلائِكَةَ والأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بِالخَوْفِ والرَّهْبَةِ. قالَ تَعالى: ﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: ٥٠] وأمّا الظَّنُّ فَإذا لَمْ يَقْطَعْ بِأنَّهُ فَعَلَ (p-٣٨)المَأْمُوراتِ واحْتَرَزَ عَنِ المَنهِيّاتِ، فَحِينَئِذٍ يَخافُ أنْ لا يَكُونَ مِن أهْلِ الثَّوابِ، واعْلَمْ أنَّ كُلَّ مَن كانَ خَوْفُهُ في الدُّنْيا أشَدَّ كانَ أمْنُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أكْثَرَ وبِالعَكْسِ. رُوِيَ:“ «أنَّهُ يُنادِي مُنادٍ يَوْمَ القِيامَةِ وعِزَّتِي وجَلالِي إنِّي لا أجْمَعُ عَلى عَبْدِي خَوْفَيْنِ ولا أمْنَيْنِ مَن أمِنَنِي في الدُّنْيا خَوَّفْتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ، ومَن خافَنِي في الدُّنْيا أمَّنْتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ» " وقالَ العارِفُونَ: الخَوْفُ خَوْفانِ: خَوْفُ العِقابِ وخَوْفُ الجَلالِ. والأوَّلُ: نَصِيبُ أهْلِ الظّاهِرِ، والثّانِي: نَصِيبُ أهْلِ القَلْبِ، والأوَّلُ يَزُولُ، والثّانِي لا يَزُولُ. واعْلَمْ أنَّ في الآيَةِ دَلالَةً عَلى أنَّ كَثْرَةَ النِّعَمِ تُعَظِّمُ المَعْصِيَةَ، ودَلالَةً عَلى ما تَقَدَّمَ العَهْدُ يُعَظِّمُ المُخالَفَةَ ودَلالَةً عَلى أنَّ الرَّسُولَ كَما كانَ مَبْعُوثًا إلى العَرَبِ كانَ مَبْعُوثًا إلى بَنِي إسْرائِيلَ. وقَوْلُهُ: ﴿وإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ المَرْءَ يَجِبُ أنْ لا يَخافَ أحَدًا إلّا اللَّهَ تَعالى، وكَما يَجِبُ ذَلِكَ في الخَوْفِ فَكَذا في الرَّجاءِ والأمَلِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الكُلَّ بِقَضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ إذْ لَوْ كانَ العَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِالفِعْلِ لَوَجَبَ أنْ يُخافَ مِنهُ كَما يُخافُ مِنَ اللَّهِ تَعالى وحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الحَصْرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ بَلْ كانَ يَجِبُ أنْ لا يَرْهَبَ إلّا نَفْسَهُ؛ لِأنَّ مَفاتِيحَ الثَّوابِ والعِقابِ بِيَدِهِ لا بِيَدِ اللَّهِ تَعالى فَوَجَبَ أنْ لا يَخافَ إلّا نَفْسَهُ، وأنْ لا يَخافَ اللَّهَ ألْبَتَّةَ، وفِيها دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ يَجِبُ عَلى المُكَلَّفِ أنْ يَأْتِيَ بِالطّاعاتِ لِلْخَوْفِ والرَّجاءِ، وأنَّ ذَلِكَ لا بُدَّ مِنهُ في صِحَّتِها، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب