الباحث القرآني

(p-٣٧٨)﴿هو الَّذِي خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ هَذا إمّا اسْتِدْلالٌ ثانٍ عَلى شَناعَةِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ تَعالى وعَلى أنَّهُ مِمّا يُقْضى مِنهُ العَجَبُ فَإنَّ دَلائِلَ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ ووَحْدانِيَّتِهِ ظاهِرَةٌ في خَلْقِ الإنْسانِ وفي خَلْقِ جَمِيعِ ما في الأرْضِ، فَهو ارْتِقاءٌ في الِاسْتِدْلالِ بِكَثْرَةِ المَخْلُوقاتِ. وفَصْلُ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِمُراعاةِ كَمالِ الِاتِّصالِ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ لِأنَّ هَذِهِ كالنَّتِيجَةِ لِلدَّلِيلِ الأوَّلِ لِأنَّ في خَلْقِ الأرْضِ وجَمِيعِ ما فِيها وفي كَوْنِ ذَلِكَ لِمَنفَعَةِ البَشَرِ إكْمالًا لِإيجادِهِمُ المُشارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ﴿وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] لِأنَّ فائِدَةَ الإيجادِ لا تَكْمُلُ إلّا بِإمْدادِ المَوْجُودِ بِما فِيهِ سَلامَتُهُ مِن آلامِ الحاجَةِ إلى مُقَوِّماتِ وجُودِهِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَرْكُ العَطْفِ لِدَفْعِ أنْ يُوهِمَ العَطْفُ أنَّ الدَّلِيلَ هو مَجْمُوعُ الأمْرَيْنِ، فَبِتَرْكِ العَطْفِ يُعْلَمُ أنَّ الدَّلِيلَ الأوَّلَ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ وفي الأوَّلِ بُعْدٌ وفي الثّانِي مُخالَفَةُ الأصْلِ لِأنَّ أصْلَ الفَصْلِ أنْ لا يَكُونَ قَطْعًا عَلى أنَّهُ تَوَهُّمٌ لا يَضِيرُ. وإمّا أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ﴾ امْتِنانًا عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ لِتَسْجِيلِ أنَّ إشْراكَهم كُفْرانٌ بِالنِّعْمَةِ أُدْمِجَ فِيهِ الِاسْتِدْلالُ عَلى أنَّهُ خالِقٌ لِما في الأرْضِ مِن حَيَوانٍ ونَباتٍ ومَعادِنَ اسْتِدْلالًا بِما هو نِعْمَةٌ مُشاهَدَةٌ كَما أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ لَكُمُ فَيَكُونُ الفَصْلُ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ كَما قُرِّرَ آنِفًا. ولَمْ يُلْتَفَتْ إلى ما في هَذِهِ الجُمْلَةِ مِن مُغايَرَةٍ لِلْجُمْلَةِ الأوْلى بِالِامْتِنانِ لِأنَّ ما أُدْمِجَ فِيها مِنَ الِاسْتِدْلالِ رَجَّحَ اعْتِبارَ الفَصْلِ. والخَلْقُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] والأرْضُ اسْمٌ لِلْعالَمِ الكُرَوِيِّ المُشْتَمِلِ عَلى البَرِّ والبَحْرِ. الَّذِي يُعَمِّرُهُ الإنْسانُ والحَيَوانُ والنَّباتُ والمَعادِنُ وهي المَوالِيدُ الثَّلاثَةُ، وهَذِهِ الأرْضُ هي مَوْجُودٌ كائِنٌ هو ظَرْفٌ لِما فِيهِ مِن أصْنافِ المَخْلُوقاتِ وحَيْثُ إنَّ العِبْرَةَ كائِنَةٌ في مُشاهَدَةِ المَوْجُوداتِ مِنَ المَوالِيدِ الثَّلاثَةِ، عُلِّقَ الخَلْقُ هُنا بِما في الأرْضِ مِمّا يَحْتَوِيهِ ظَرْفُها مِن ظاهِرِهِ وباطِنِهِ ولَمْ يُعَلَّقْ بِذاتِ الأرْضِ لِغَفْلَةِ جُلِّ النّاسِ عَنِ الِاعْتِبارِ بِبَدِيعِ خَلْقِها إلّا أنَّ خالِقَ المَظْرُوفِ جَدِيرٌ بِخَلْقِ الظَّرْفِ إذِ الظَّرْفُ إنَّما يُقْصَدُ لِأجْلِ المَظْرُوفِ، فَلَوْ كانَ الظَّرْفُ مِن غَيْرِ صُنْعِ خالِقِ المَظْرُوفِ لَلَزِمَ إمّا تَأخُّرُ الظَّرْفِ عَنْ مَظْرُوفِهِ - وفي ذَلِكَ إتْلافُ المَظْرُوفِ والمُشاهَدَةُ تَنْفِي ذَلِكَ - وإمّا تَقَدُّمُ الظَّرْفِ وذَلِكَ عَبَثٌ. فاسْتِفادَةُ أنَّهُ خَلَقَ الأرْضَ مَأْخُوذَةٌ بِطَرِيقِ الفَحْوى، فَمِنَ البَعِيدِ أنْ يُجَوِّزَ صاحِبُ الكَشّافِ أنْ يُرادَ بِالأرْضِ الجِهَةُ السُّفْلِيَّةُ كَما يُرادُ بِالسَّماءِ الجِهَةُ العُلْوِيَّةُ، وبُعْدُهُ مِن (p-٣٧٩)وجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنَّ الأرْضَ لَمْ تُطْلَقْ قَطُّ عَلى غَيْرِ الكُرَةِ الأرْضِيَّةِ إلّا مَجازًا كَما في قَوْلِ شاعِرٍ أنْشَدَهُ صاحِبُ المِفْتاحِ في بَحْثِ التَّعْرِيفِ بِاللّامِ ولَمْ يَنْسُبْهُ هو ولا شارِحُوهُ: ( ؎النّاسُ أرْضٌ بِكُلِّ أرْضٍ وأنْتِ مِن فَوْقِهِمْ سَماءْ ) بِخِلافِ السَّماءِ فَقَدْ أُطْلِقَتْ عَلى كُلِّ ما عَلا فَأظَلَّ، والفَرْقُ بَيْنَهُما أنَّ الأرْضَ شَيْءٌ مُشاهَدٌ، والسَّماءُ لا يُتَعَقَّلُ إلّا بِكَوْنِهِ شَيْئًا مُرْتَفِعًا. الثّانِي عَلى تَسْلِيمِ القِياسِ فَإنَّ السَّماءَ لَمْ تُطْلَقْ عَلى الجِهَةِ العُلْيا حَتّى يَصِحَّ إطْلاقُ الأرْضِ عَلى الجِهَةِ السُّفْلى بَلْ إنَّما تُطْلَقُ السَّماءُ عَلى شَيْءٍ عالٍ لا عَلى نَفْسِ الجِهَةِ. وجُمْلَةُ ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ﴾ صِيغَةُ قَصْرٍ وهو قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ سِيقَ لِلْمُخاطَبِينَ مِنَ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا شَكَّ عِنْدِهِمْ في أنَّ اللَّهَ خالِقٌ ما في الأرْضِ ولَكِنَّهم نُزِّلُوا مَنزِلَةَ الجاهِلِ بِذَلِكَ فَسِيقَ لَهُمُ الخَبَرُ المَحْصُورُ لِأنَّهم في كُفْرِهِمْ وانْصِرافِهِمْ عَنْ شُكْرِهِ والنَّظَرِ في دَعْوَتِهِ وعِبادَتِهِ كَحالِ مَن يَجْهَلُ أنَّ اللَّهَ خالِقُ جَمِيعِ المَوْجُوداتِ. ونَظِيرُ هَذا قَوْلُهُ ﴿أفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: ١٧] ﴿إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ [الحج: ٧٣] فَإنَّ المُشْرِكِينَ ما كانُوا يُثْبِتُونَ لِأصْنامِهِمْ قُدْرَةً عَلى الخَلْقِ وإنَّما جَعَلُوها شُفَعاءَ ووَسائِطَ وعَبَدُوها وأعْرَضُوا عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ حَقَّ عِبادَتِهِ، ونَسُوا الخَلْقَ المُلْتَصِقَ بِهِمْ وبِما حَوْلَهم مِنَ الأحْياءِ، والمَقْصُودُ مِنَ الكَلامِ فِيما أراهُ مُوافِقًا لِلْبَلاغَةِ التَّذْكِيرُ بِأنَّ اللَّهَ هو خالِقُ الأرْضِ وما عَلَيْها وما في داخِلِها وأنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ خَلَقَهُ بِقَدْرِ انْتِفاعِنا بِها وبِما فِيها في مُخْتَلَفِ الأزْمانِ والأحْوالِ فَأوْجَزَ الكَلامَ إيجازًا بَدِيعًا بِإقْحامِ قَوْلِهِ لَكُمُ فَأغْنى عَنْ جُمْلَةٍ كامِلَةٍ، فالكَلامُ مَسُوقٌ مَساقَ إظْهارِ عَظِيمِ القُدْرَةِ وإظْهارِ عَظِيمِ المِنَّةِ عَلى البَشَرِ وإظْهارِ عَظِيمِ مَنزِلَةِ الإنْسانِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. وكُلُّ أُولَئِكَ يَقْتَضِي اقْتِلاعَ الكُفْرِ مِن نُفُوسِهِمْ. وفِي هَذِهِ الآيَةِ فائِدَتانِ: الأُولى أنَّ لامَ التَّعْلِيلِ دَلَّتْ عَلى أنَّ خَلْقَ ما في الأرْضِ كانَ لِأجْلِ النّاسِ، وفي هَذا تَعْلِيلٌ لِلْخَلْقِ وبَيانٌ لِثَمَرَتِهِ وفائِدَتِهِ فَتُثارُ عَنْهُ مَسْألَةُ تَعْلِيلِ أفْعالِ اللَّهِ تَعالى وتَعَلُّقِها بِالأغْراضِ. والمَسْألَةُ مُخْتَلَفٌ فِيها بَيْنَ المُتَكَلِّمِينَ اخْتِلافًا يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا، فَإنَّ جَمِيعَ المُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ أفْعالَ اللَّهِ تَعالى ناشِئَةٌ عَنْ إرادَةٍ واخْتِيارٍ وعَلى وفْقِ عِلْمِهِ وأنَّ جَمِيعِها مُشْتَمِلٌ عَلى حِكَمٍ ومَصالِحَ وأنَّ تِلْكَ الحِكَمَ هي ثَمَراتٌ لِأفْعالِهِ تَعالى ناشِئَةٌ عَنْ حُصُولِ الفِعْلِ فَهي لِأجَلِ (p-٣٨٠)حُصُولِها عِنْدَ الفِعْلِ تُثْمِرُ غاياتٍ، هَذا كُلُّهُ لا خِلافَ فِيهِ. وإنَّما الخِلافُ في أنَّها أتُوصَفُ بِكَوْنِها أغْراضًا وعِلَلًا غائِبَةً أمْ لا ؟ فَأثْبَتَ ذَلِكَ جَماعَةٌ اسْتِدْلالًا بِما ورَدَ مِن نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] ومَنَعَ مِن ذَلِكَ أصْحابُ الأشْعَرِيِّ فِيما عَزاهُ إلَيْهِمُ الفَخْرُ في التَّفْسِيرِ مُسْتَدِلِّينَ بِأنَّ الَّذِي يُفْعَلُ لِغَرَضٍ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ مُسْتَفِيدًا مِن غَرَضِهِ ذَلِكَ ضَرُورَةَ أنَّ وُجُودَ ذَلِكَ الغَرَضِ أوْلى بِالقِياسِ إلَيْهِ مِن عَدَمِهِ، فَيَكُونُ مُسْتَفِيدًا مِن تِلْكَ الأوْلَوِيَّةِ، ويَلْزَمُ مِن كَوْنِ ذَلِكَ الغَرَضِ سَبَبًا في فِعْلِهِ أنْ يَكُونَ، هو ناقِصًا في فاعِلِيَّتِهِ مُحْتاجًا إلى حُصُولِ السَّبَبِ، وقَدْ أُجِيبَ بِأنَّ لُزُومَ الِاسْتِفادَةِ والِاسْتِكْمالِ إذا كانَتِ المَنفَعَةُ راجِعَةً إلى الفاعِلِ، وأمّا إذا كانَتْ راجِعَةً لِلْغَيْرِ كالإحْسانِ فَلا، فَرَدَّهُ الفَخْرُ بِأنَّهُ إذا كانَ الإحْسانُ أرْجَحَ مِن غَيْرِهِ وأوْلى لَزِمَتِ الِاسْتِفادَةُ. وهَذا الرَّدُّ باطِلٌ لِأنَّ الأرْجَحِيَّةَ لا تَسْتَلْزِمُ الِاسْتِفادَةَ أبَدًا بَلْ إنَّما تَسْتَلْزِمُ تَعَلُّقَ الإرادَةِ، وإنَّما تَلْزَمُ الِاسْتِفادَةُ لَوِ ادَّعَيْنا التَّعَيُّنَ والوُجُوبَ. والحاصِلُ أنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ يَشْتَمِلُ عَلى مُقَدِّمَتَيْنِ سُفِسْطائِيَّتَيْنِ أُولاهُما قَوْلُهم: إنَّهُ لَوْ كانَ الفِعْلُ لِغَرَضٍ لَلَزِمَ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ مُسْتَكْمِلًا بِهِ وهَذا سَفْسَطَةٌ شُبِّهَ فِيها الغَرَضُ النّافِعُ لِلْفاعِلِ بِالغَرَضِ بِمَعْنى الدّاعِي إلى الفِعْلِ، والرّاجِعُ إلى ما يُناسِبُهُ مِنَ الكَمالِ لا تَوَقُّفَ كَمالِهِ عَلَيْهِ. الثّانِيَةُ قَوْلُهم: إذا كانَ الفِعْلُ لِغَرَضٍ كانَ الغَرَضُ سَبَبًا يَقْتَضِي عَجْزَ الفاعِلِ، وهَذا شُبِّهَ فِيهِ السَّبَبُ الَّذِي هو بِمَعْنى الباعِثِ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَلْزَمُ مِن وُجُودِهِ الوُجُودُ ومَن عَدِمَهِ العَدَمُ وكِلاهُما يُطْلَقُ عَلَيْهِ سَبَبٌ. ومِنَ العَجائِبِ أنَّهم يُسَلِّمُونَ أنَّ أفْعالَ اللَّهِ تَعالى لا تَخْلُو عَنِ الثَّمَرَةِ والحِكْمَةِ ويَمْنَعُونَ أنْ تَكُونَ تِلْكَ الحِكَمُ عِلَلًا وأغْراضًا مَعَ أنَّ ثَمَرَةَ فِعْلِ الفاعِلِ العالِمِ بِكُلِّ شَيْءٍ لا تَخْلُو مِن أنْ تَكُونَ غَرَضًا لِأنَّها تَكُونُ داعِيًا لِلْفِعْلِ ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ عِلْمِ الفاعِلِ وإرادَتِهِ. ولَمْ أدْرِ أيَّ حَرَجٍ نَظَرُوا إلَيْهِ حِينَ مَنَعُوا تَعْلِيلَ أفْعالِ اللَّهِ تَعالى وأغْراضِها. ويَتَرَجَّحُ عِنْدِي أنَّ هاتِهِ المَسْألَةَ اقْتَضاها طَرْدُ الأُصُولِ في المُناظَرَةِ، فَإنَّ الأشاعِرَةَ (p-٣٨١)لَمّا أنْكَرُوا وُجُوبَ فِعْلِ الصَّلاحِ والأصْلَحِ أوْرَدَ عَلَيْهِمُ المُعْتَزِلَةُ أوْ قَدَّرُوا هم في أنْفُسِهِمْ أنْ يُورَدَ عَلَيْهِمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَفْعَلُ شَيْئًا إلّا لِغَرَضٍ وحِكْمَةٍ ولا تَكُونُ الأغْراضُ إلّا المَصالِحَ فالتَزَمُوا أنَّ أفْعالَ اللَّهِ تَعالى لا تُناطُ بِالأغْراضِ ولا يُعَبَّرُ عَنْها بِالعِلَلِ ويُنْبِئُ عَنْ هَذا أنَّهم لَمّا ذَكَرُوا هَذِهِ المَسْألَةَ ذَكَرُوا في أدِلَّتِهِمُ الإحْسانَ لِلْغَيْرِ ورَعْيَ المَصْلَحَةِ. وهُنالِكَ سَبَبٌ آخَرُ لِفَرْضِ المَسْألَةِ وهو التَّنَزُّهُ عَنْ وصْفِ أفْعالِ اللَّهِ تَعالى بِما يُوهِمُ المَنفَعَةَ لَهُ أوْ لِغَيْرِهِ وكِلاهُما باطِلٌ لِأنَّهُ لا يَنْتَفِعُ بِأفْعالِهِ ولِأنَّ الغَيْرَ قَدْ لا يَكُونُ فِعْلُ اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ مَنفَعَةً. هَذا وقَدْ نَقَلَ أبُو إسْحاقَ الشّاطِبِيُّ في المُوافَقاتِ عَنْ جُمْهُورِ الفُقَهاءِ والمُتَكَلِّمِينَ أنَّ أحْكامَ اللَّهِ تَعالى مُعَلَّلَةٌ بِالمَصالِحِ ودَرْءِ المَفاسِدِ، وقَدْ جَمَعَ الأقْوالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ في تَفْسِيرِهِ فَقالَ: هَذا هو تَعْلِيلُ أفْعالِ اللَّهِ تَعالى وفِيهِ خِلافٌ وأمّا أحْكامُهُ فَمُعَلَّلَةٌ. الفائِدَةُ الثّانِيَةُ: أخَذُوا مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ أنَّ أصْلَ اسْتِعْمالِ الأشْياءِ فِيما يُرادُ لَهُ مِن أنْواعِ الِاسْتِعْمالِ هو الإباحَةُ حَتّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلى عَدَمِها لِأنَّهُ جَعَلَ ما في الأرْضِ مَخْلُوقًا لِأجْلِنا وامْتَنَّ بِذَلِكَ عَلَيْنا وبِذَلِكَ قالَ الإمامُ الرّازِيُّ والبَيْضاوِيُّ وصاحِبُ الكَشّافِ - ونُسِبَ إلى المُعْتَزِلَةِ وجَماعَةٍ مِنَ الشّافِعِيَّةِ والحَنَفِيَّةِ مِنهُمُ الكَرْخِيُّ ونُسِبَ إلى الشّافِعِيِّ. وذَهَبَ المالِكِيَّةُ وجُمْهُورُ الحَنَفِيَّةِ والمُعْتَزِلَةُ في نَقْلِ ابْنِ عَرَفَةَ - إلى أنَّ الأصْلَ في الأشْياءِ الوَقْفُ ولَمْ يَرَوُا الآيَةَ دَلِيلًا، قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في أحْكامِهِ: إنَّما ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ في مَعْرِضِ الدَّلالَةِ والتَّنْبِيهِ عَلى طَرِيقِ العِلْمِ والقُدْرَةِ وتَصْرِيفِ المَخْلُوقاتِ بِمُقْتَضى التَّقْدِيرِ والإتْقانِ بِالعِلْمِ إلَخْ. والحَقُّ أنَّ الآيَةَ مُجْمَلَةٌ قُصِدَ مِنها التَّنْبِيهُ عَلى قُدْرَةِ الخالِقِ بِخَلْقِ ما في الأرْضِ وأنَّهُ خُلِقَ لِأجْلِنا إلّا أنَّ خَلْقَهُ لِأجْلِنا لا يَسْتَلْزِمُ إباحَةَ اسْتِعْمالِهِ في كُلِّ ما يُقْصَدُ مِنهُ، بَلْ خُلِقَ لَنا في الجُمْلَةِ، عَلى أنَّ الِامْتِنانَ يَصْدُقُ إذا كانَ لِكُلٍّ مِنَ النّاسِ بَعْضٌ مِمّا في العالَمِ، بِمَعْنى أنَّ الآيَةَ ذَكَرَتْ أنَّ المَجْمُوعَ لِلْمَجْمُوعِ لا كُلُّ واحِدٍ لِكُلِّ واحِدٍ كَما أشارَ إلَيْهِ البَيْضاوِيُّ لاسِيَّما وقَدْ خاطَبَ اللَّهُ بِها قَوْمًا كافِرِينَ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ كُفْرَهم فَكَيْفَ يَعْلَمُونَ إباحَةً أوْ مَنعًا، وإنَّما مَحَلُّ المَوْعِظَةِ هو ما خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي لَمْ يَزَلِ النّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِها مِن وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وذَهَبَ جَماعَةٌ إلى أنَّ أصْلَ الأشْياءِ الحَظْرُ ونُقِلَ عَنْ بَعْضِ أهْلِ الحَدِيثِ وبَعْضِ المُعْتَزِلَةِ، فَلِلْمُعْتَزِلَةِ الأقْوالُ الثَّلاثَةُ كَما قالَ القُرْطُبِيُّ. قالَ الحَمَوِيُّ في شَرْحِ كِتابِ الأشْباهِ لِابْنِ نُجَيْمٍ نَقْلًا عَنِ الإمامِ الرّازِيِّ وإنَّما تَظْهَرُ ثَمَرَةُ المَسْألَةِ في (p-٣٨٢)حُكْمِ الأشْياءِ أيّامَ الفَتْرَةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ أيْ فِيما ارْتَكَبَهُ النّاسُ مِن تَناوُلِ الشَّهَواتِ ونَحْوِها ولِذَلِكَ كانَ الأصَحُّ أنَّ الأمْرَ مَوْقُوفٌ وأنَّهُ لا وصْفَ لِلْأشْياءِ يَتَرَتَّبُ مِن أجْلِهِ عَلَيْها الثَّوابُ والعِقابُ. وعِنْدِي أنَّ هَذا لا يَحْتاجُ العُلَماءُ إلى فَرْضِهِ لِأنَّ أهْلَ الفَتْرَةِ لا شَرْعَ لَهم ولَيْسَ لِأفْعالِهِمْ أحْكامٌ إلّا في وُجُوبِ التَّوْحِيدِ عِنْدَ قَوْمٍ. وأمّا بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَقَدْ أغْنى الشَّرْعُ عَنْ ذَلِكَ، فَإنْ وُجِدَ فِعْلٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِن نَصٍّ أوْ قِياسٍ أوِ اسْتِدْلالٍ صَحِيحٍ فالصَّحِيحُ أنَّ أصْلَ المَضارِّ التَّحْرِيمُ والمَنافِعِ الحِلُّ، وهَذا الَّذِي اخْتارَهُ الإمامُ في المَحْصُولِ، فَتَصِيرُ لِلْمَسْألَةِ ثَمَرَةٌ بِاعْتِبارِ هَذا النَّوْعِ مِنَ الحَوادِثِ في الإسْلامِ. * * * ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وهْوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ انْتِقالٌ مِنَ الِاسْتِدْلالِ بِخَلْقِ الأرْضِ وما فِيها - وهو مِمّا عِلْمُهُ ضَرُورِيٌّ لِلنّاسِ - إلى الِاسْتِدْلالِ بِخَلْقِ ما هو أعْظَمُ مِن خَلْقِ الأرْضِ وهو أيْضًا قَدْ يُغْفَلُ عَنِ النَّظَرِ في الِاسْتِدْلالِ بِهِ عَلى وُجُودِ اللَّهِ، وذَلِكَ خَلْقُ السَّماواتِ، ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ هَذا الِانْتِقالُ اسْتِطْرادًا لِإكْمالِ تَنْبِيهِ النّاسِ إلى عَظِيمِ القُدْرَةِ. وعَطَفَتْ ثُمَّ جُمْلَةَ اسْتَوى عَلى جُمْلَةِ خَلَقَ لَكم. ولِدَلالَةِ ثُمَّ عَلى التَّرْتِيبِ والمُهْلَةِ في عَطْفِ المُفْرَدِ عَلى المُفْرَدِ كانَتْ في عَطْفِ الجُمْلَةِ عَلى الجُمْلَةِ لِلْمُهْلَةِ في الرُّتْبَةِ، وهي مُهْلَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ في الأصْلِ تُشِيرُ إلى أنَّ المَعْطُوفَ بِثُمَّ أعْرَقُ في المَعْنى الَّذِي تَتَضَمَّنُهُ الجُمْلَةُ المَعْطُوفُ عَلَيْها حَتّى كَأنَّ العَقْلَ يَتَمَهَّلُ في الوُصُولِ إلَيْهِ بَعْدَ الكَلامِ الأوَّلِ فَيَنْتَبِهُ السّامِعُ لِذَلِكَ كَيْ لا يَغْفُلَ عَنْهُ بِما سَمِعَ مِنَ الكَلامِ السّابِقِ، وشاعَ هَذا الِاسْتِعْمالُ حَتّى صارَ كالحَقِيقَةِ، ويُسَمّى ذَلِكَ بِالتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ وبِتَرْتِيبِ الإخْبارِ - بِكَسْرِ الهَمْزَةِ - كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾ [البلد: ١١] ﴿وما أدْراكَ ما العَقَبَةُ﴾ [البلد: ١٢] ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ [البلد: ١٣] إلى أنْ قالَ ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: ١٧] فَإنَّ قَوْلَهُ ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ [البلد: ١٣] خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، ولَمّا كانَ ذِكْرُ هاتِهِ الأُمُورِ الَّتِي يَعِزُّ إيفاؤُها حَقَّها مِمّا يُغْفِلُ السّامِعَ عَنْ أمْرٍ آخَرَ عَظِيمٍ نُبِّهَ عَلَيْهِ بِالعَطْفِ بِثُمَّ لِلْإشارَةِ إلى أنَّهُ آكَدُ وأهَمُّ، ومِنهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ العَبْدِ يَصِفُ راحِلَتَهُ: ؎جَنُوحٌ دِفاقٌ عَنْدَلٌ ثُمَّ أُفْرِعَتْ لَها كَتِفاها في مُعالًى مُصَعَّدِ فَإنَّهُ (p-٣٨٣)لَمّا ذَكَرَ مِن مَحاسِنِها جُمْلَةً نَبَّهَ عَلى وصْفٍ آخَرَ أهَمَّ في صِفاتِ عُنُقِها وهو طُولُ قامَتِها. قالَ المَرْزُوقِيُّ في شَرْحِ الحَماسَةِ في شَرْحِ قَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ الحارِثِيِّ: ؎لا يَكْشِفُ الغَمّاءَ إلّا ابْنُ حَرَّةَ ∗∗∗ يَرى غَمَراتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورُها إنَّ ثُمَّ وإنْ كانَ في عَطْفِهِ المُفْرَدَ عَلى المُفْرَدِ يَدُلُّ عَلى التَّراخِي فَإنَّهُ في عَطْفِهِ الجُمْلَةَ عَلى الجُمْلَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وذَكَرَ قَوْلَهُ تَعالى ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: ١٧] اهـ. وإفادَةُ التَّراخِي الرُّتْبِيِّ هو المُعْتَبَرُ في عَطْفِ ثُمَّ لِلْجُمَلِ سَواءٌ وافَقَتِ التَّرْتِيبَ الوُجُودِيَّ مَعَ ذَلِكَ أوْ كانَ مَعْطُوفُها مُتَقَدِّمًا في الوُجُودِ، وقَدْ جاءَ في الكَلامِ الفَصِيحِ ما يَدُلُّ عَلى مَعْنى البَعْدِيَّةِ مُرادًا مِنهُ البَعْدِيَّةُ في الرُّتْبَةِ وإنْ كانَ عَكْسَ التَّرْتِيبِ الوُجُودِيِّ فَتَكُونُ البَعْدِيَّةُ مَجازِيَّةً مَبْنِيَّةً عَلى تَشْبِيهِ البَوْنِ المَعْنَوِيِّ بِالبُعْدِ المَكانِيِّ أوِ الزَّمانِيِّ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿هَمّازٍ مَشّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [القلم: ١١] ﴿مَنّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أثِيمٍ﴾ [القلم: ١٢] ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ [القلم: ١٣] فَإنَّ كَوْنَهُ عُتُلًّا وزَنِيمًا أسَبَقُ في الوُجُودِ مِن كَوْنِهِ هَمّازًا مَشّاءً بِنَمِيمٍ لِأنَّهُما صِفَتانِ ذاتِيَّتانِ بِخِلافِ ﴿هَمّازٍ مَشّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [القلم: ١١]، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَإنَّ اللَّهَ هو مَوْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ المُؤْمِنِينَ والمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم: ٤] فَإذا تَمَحَّضَتْ (ثُمَّ) لِلتَّراخِي الرُّتْبِيِّ حُمِلَتْ عَلَيْهِ، وإنِ احْتَمَلَتْهُ مَعَ التَّراخِي الزَّمَنِيِّ فَظاهِرُ قَوْلِ المَرْزُوقِيِّ فَإنَّهُ في عَطْفِ الجُمْلَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ إنَّهُ لا يَحْتَمِلُ حِينَئِذٍ التَّراخِيَ الزَّمَنِيَّ. ولَكِنْ يَظْهَرُ جَوازُ الِاحْتِمالَيْنِ وذَلِكَ حَيْثُ يَكُونُ المَعْطُوفُ بِها مُتَأخِّرًا في الحُصُولِ عَلى ما قَبْلَها وهو مَعَ ذَلِكَ كَما في بَيْتِ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ. قُلْتُ وهو إمّا مَجازٌ مُرْسَلٌ أوْ كِنايَةٌ، فَإنْ أُطْلِقَتْ ثُمَّ وأُرِيدَ مِنها لازِمُ التَّراخِي وهو البُعْدُ التَّعْظِيمِيُّ كَما أُرِيدَ التَّعْظِيمُ مِنِ اسْمِ الإشارَةِ المَوْضُوعِ لِلْبَعِيدِ، والعَلاقَةُ وإنْ كانَتْ بَعِيدَةً إلّا أنَّها لِشُهْرَتِها في كَلامِهِمْ واسْتِعْمالِهِمْ ومَعَ القَرائِنِ لَمْ يَكُنْ هَذا الِاسْتِعْمالُ مَرْدُودًا. واعْلَمْ أنِّي تَتَبَّعْتُ هَذا الِاسْتِعْمالَ في مَواضِعِهِ فَرَأيْتُهُ أكْثَرَ ما يَرِدُ فِيما إذا كانَتِ الجُمَلُ إخْبارًا عَنْ مُخْبَرٍ عَنْهُ واحِدٍ، بِخِلافِ ما إذا اخْتَلَفَ المُخْبَرُ عَنْهُ فَإنَّ ثُمَّ تَتَعَيَّنُ لِلْمُهْلَةِ الزَّمَنِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَكم لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] إلى قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] (p-٣٨٤)أيْ بَعْدَ أنْ أخَذْنا المِيثاقَ بِأزْمانٍ صِرْتُمْ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكم، ونَحْوَ قَوْلِكَ: مَرَّتْ كَتِيبَةُ الأنْصارِ ثُمَّ مَرَّتْ كَتِيبَةُ المُهاجِرِينَ. فَأمّا هَذِهِ الآيَةُ فَإنَّهُ إذا كانَتِ السَّماواتُ مُتَأخِّرًا خَلْقُها عَنْ خَلْقِ الأرْضِ فَثُمَّ لِلتَّراخِي الرُّتْبِيِّ لا مَحالَةَ مَعَ التَّراخِي الزَّمَنِيِّ، وإنْ كانَ خَلْقُ السَّماواتِ سابِقًا فَثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لا غَيْرَ. والظّاهِرُ هو الثّانِي. وقَدْ جَرى اخْتِلافٌ بَيْنَ عُلَماءِ السَّلَفِ في مُقْتَضى الأخْبارِ الوارِدَةِ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ فَقالَ الجُمْهُورُ مِنهم مُجاهِدٌ والحَسَنُ ونُسِبَ إلى ابْنِ عَبّاسٍ إنَّ خَلْقَ الأرْضِ مُتَقَدِّمٌ عَلى خَلْقِ السَّماءِ لِقَوْلِهِ تَعالى هُنا ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ وقَوْلِهِ في سُورَةِ حم السَّجْدَةِ ﴿قُلْ أئِنَّكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت: ٩] إلى أنْ قالَ ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ﴾ [فصلت: ١١] وقالَ قَتادَةُ والسُّدِّيُّ ومُقاتِلٌ: إنْ خَلْقَ السَّماءَ مُتَقَدِّمٌ واحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿بَناها﴾ [النازعات: ٢٧] ﴿رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها﴾ [النازعات: ٢٨] إلى قَوْلِهِ ﴿والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحاها﴾ [النازعات: ٣٠] وقَدْ أُجِيبَ بِأنَّ الأرْضَ خُلِقَتْ أوَّلًا ثُمَّ خُلِقَتِ السَّماءُ ثُمَّ دُحِيَتِ الأرْضُ، فالمُتَأخِّرُ عَنْ خَلْقِ السَّماءِ هو دَحْوُ الأرْضِ، عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ عُلَماءُ طَبَقاتِ الأرْضِ مِن أنَّ الأرْضَ كانَتْ في غايَةِ الحَرارَةِ ثُمَّ أخَذَتْ تَبْرُدُ حَتّى جَمَدَتْ وتَكَوَّنَتْ مِنها قِشْرَةٌ جامِدَةٌ ثُمَّ تَشَقَّقَتْ وتَفَجَّرَتْ وهَبَطَتْ مِنها أقْسامٌ وعَلَتْ أقْسامٌ بِالضَّغْطِ، إلّا أنَّ عُلَماءَ طَبَقاتِ الأرْضِ يُقَدِّرُونَ لِحُصُولِ ذَلِكَ أزْمِنَةً مُتَناهِيَةَ الطُّولِ، وقُدْرَةُ اللَّهِ صالِحَةٌ لِإحْداثِ ما يَحْصُلُ بِهِ ذَلِكَ التَّقَلُّبُ في أمَدٍ قَلِيلٍ بِمُقارَنَةِ حَوادِثِ تَعَجُّلِ انْقِلابِ المَخْلُوقاتِ عَمّا هي عَلَيْهِ. وأرْجَحُ القَوْلَيْنِ هو أنَّ السَّماءَ خُلِقَتْ قَبْلَ الأرْضِ لِأنَّ لَفْظَ بَعْدَ ذَلِكَ أظْهَرُ في إفادَةِ التَّأخُّرِ مِن قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ ولِأنَّ أنْظارَ عُلَماءِ الهَيْئَةِ تَرى أنَّ الأرْضَ كُرَةٌ انْفَصَلَتْ عَنِ الشَّمْسِ كَبَقِيَّةِ الكَواكِبِ السَّيّارَةِ مِنَ النِّظامِ الشَّمْسِيِّ، وظاهِرُ سِفْرِ التَّكْوِينِ يَقْتَضِي أنَّ خَلْقَ السَّماواتِ مُتَقَدَّمٌ عَلى الأرْضِ. وأحْسَبُ أنَّ سُلُوكَ القُرْآنِ في هَذِهِ الآياتِ أُسْلُوبَ الإجْمالِ في هَذا الغَرَضِ لِقَطْعِ الخُصُومَةِ بَيْنَ أصْحابِ النَّظَرِيَّتَيْنِ. والسَّماءُ إنْ أُرِيدَ بِها الجَوُّ المُحِيطُ بِالكُرَةِ الأرْضِيَّةِ فَهو تابِعٌ لَها مُتَأخِّرٌ عَنْ خَلْقِها. وإنْ أُرِيدَ بِها الكَواكِبُ العُلْوِيَّةُ وذَلِكَ هو المُناسِبُ لِقَوْلِهِ ﴿فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ﴾ فالكَواكِبُ أعْظَمُ مِنَ الأرْضِ فَتَكُونُ أسْبَقَ خَلْقًا. وقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الِاحْتِمالَيْنِ مُلاحَظًا في مَواضِعَ مِنَ القُرْآنِ غَيْرِ المُلاحَظِ فِيها الِاحْتِمالُ الآخَرُ. (p-٣٨٥)والِاسْتِواءُ أصْلُهُ الِاسْتِقامَةُ وعَدَمُ الِاعْوِجاجِ، يُقالُ صِراطٌ مُسْتَوٍ، واسْتَوى فُلانٌ وفُلانٌ، واسْتَوى الشَّيْءُ مُطاوِعَ سِواهُ، ويُطْلَقُ مَجازًا عَلى القَصْدِ إلى الشَّيْءِ بِعَزْمٍ وسُرْعَةٍ كَأنَّهُ يَسِيرُ إلَيْهِ مُسْتَوِيًا لا يَلْوِي عَلى شَيْءٍ فَيُعَدّى بِإلى فَتَكُونُ إلى قَرِينَةَ المَجازِ وهو تَمْثِيلٌ، فَمَعْنى اسْتِواءِ اللَّهِ تَعالى إلى السَّماءِ تَعَلُّقُ إرادَتِهِ التَّنْجِيزِيِّ بِإيجادِها تَعَلُّقًا يُشْبِهُ الِاسْتِواءَ في التَّهَيُّؤِ لِلْعَمَلِ العَظِيمِ المُتْقَنِ. ووَزْنُ اسْتَوى افْتَعَلَ لِأنَّ السِّينَ فِيهِ حَرْفٌ أصْلِيٌّ وهو افْتِعالٌ مَجازِيٌّ وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ لَمّا ابْتَدَأ خَلْقَ المَخْلُوقاتِ خَلَقَ السَّماواتِ ومَن فِيها لِيَكُونَ تَوْطِئَةً لِخَلْقِ الأرْضِ ثُمَّ خَلَقَ الإنْسانَ وهو الَّذِي سِيقَتِ القِصَّةُ لِأجْلِهِ. و(سَوّاهُنَّ) أيْ خَلَقَهُنَّ في اسْتِقامَةٍ، واسْتِقامَةُ الخَلْقِ هي انْتِظامُهُ عَلى وجْهٍ لا خَلَلَ فِيهِ ولا ثَلْمَ. وبَيْنَ اسْتَوى وسَوّاهُنَّ الجِناسُ المُحَرَّفُ. والسَّماءُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّمُوِّ وهو العُلُوُّ، واسْمُ السَّماءِ يُطْلَقُ عَلى الواحِدِ وعَلى الجِنْسِ مِنَ العَوالِمِ العُلْيا الَّتِي هي فَوْقَ العالَمِ الأرْضِيِّ والمُرادُ بِهِ هُنا الجِنْسُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ ﴿فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ﴾ إذْ جَعَلَها سَبْعًا، والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ ﴿فَسَوّاهُنَّ﴾ عائِدٌ إلى السَّماءِ بِاعْتِبارِ إرادَةِ الجِنْسِ لِأنَّهُ في مَعْنى الجَمْعِ. وجَوَّزَ صاحِبُ الكَشّافِ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ السَّماءِ هُنا جِهَةُ العُلُوِّ وهو وإنْ صَحَّ لَكِنَّهُ لا داعِيَ إلَيْهِ كَما قالَهُ التَّفْتَزانِيُّ. وقَدْ عَدَّ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ وغَيْرِها السَّماواتِ سَبْعًا وهو أعْلَمُ بِها وبِالمُرادِ مِنها إلّا أنَّ الظّاهِرَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ القَواعِدُ العِلْمِيَّةُ أنَّ المُرادَ مِنَ السَّماواتِ الأجْرامُ العُلْوِيَّةُ العَظِيمَةُ وهي الكَواكِبُ السَّيّارَةُ المُنْتَظِمَةُ مَعَ الأرْضِ في النِّظامِ الشَّمْسِيِّ، ويَدُلُّ لِذَلِكَ أُمُورٌ: أحَدُها: أنَّ السَّماواتِ ذُكِرَتْ في غالِبِ مَواضِعِ القُرْآنِ مَعَ ذِكْرِ الأرْضِ وذُكِرَ خَلْقُها هُنا مَعَ ذِكْرِ خَلْقِ الأرْضِ فَدَلَّ عَلى أنَّها عَوالِمُ كالعالَمِ الأرْضِيِّ، وهَذا ثابِتٌ لِلسَّيّاراتِ. ثانِيها: أنَّها ذُكِرَتْ مَعَ الأرْضِ مِن حَيْثُ إنَّها أدِلَّةٌ عَلى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعالى، فَناسَبَ أنْ يَكُونَ تَفْسِيرُها تِلْكَ الأجْرامَ المُشاهَدَةَ لِلنّاسِ المَعْرُوفَةَ لِلْأُمَمِ الدّالَّ نِظامُ سَيْرِها وباهِرُ نُورِها عَلى عَظَمَةِ خالِقِها. ثالِثُها: أنَّها وْصِفَتْ بِالسَّبْعِ وقَدْ كانَ عُلَماءُ الهَيْئَةِ يَعْرِفُونَ السَّيّاراتِ السَّبْعَ مِن عَهْدِ الكِلْدانِ، وتَعاقَبَ عُلَماءُ الهَيْئَةِ مِن ذَلِكَ العَهْدِ إلى العَهْدِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ القُرْآنُ فَما اخْتَلَفُوا في أنَّها سَبْعٌ. رابِعُها: أنَّ هاتِهِ السَّيّاراتِ هي الكَواكِبُ المُنْضَبِطُ سَيْرُها بِنِظامٍ مُرْتَبِطٍ مَعَ نِظامِ سَيْرِ الشَّمْسِ والأرْضِ، ولِذَلِكَ يُعَبِّرُ عَنْها عُلَماءُ الهَيْئَةِ المُتَأخِّرُونَ بِالنِّظامِ الشَّمْسِيِّ، فَناسَبَ أنْ تَكُونَ هي (p-٣٨٦)الَّتِي قُرِنَ خَلْقُها بِخَلْقِ الأرْضِ. وبَعْضُهم يُفَسِّرُ السَّماواتِ بِالأفْلاكِ وهو تَفْسِيرٌ لا يَصِحُّ لِأنَّ الأفْلاكَ هي الطُّرُقُ الَّتِي تَسْلُكُها الكَواكِبُ السَّيّارَةُ في الفَضاءِ، وهي خُطُوطٌ فَرْضِيَّةٌ لا ذَواتَ لَها في الخارِجِ. هَذا وقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى السَّماواتِ سَبْعًا هُنا وفي غَيْرِ آيَةٍ، وقَدْ ذَكَرَ العَرْشَ والكُرْسِيَّ بِما يَدُلُّ عَلى أنَّهُما مُحِيطانِ بِالسَّماواتِ وجَعَلَ السَّماواتِ كُلَّها في مُقابَلَةِ الأرْضِ، وذَلِكَ يُؤَيِّدُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ عُلَماءُ الهَيْئَةِ مِن عَدِّ الكَواكِبِ السَّيّارَةِ تِسْعَةً، وهَذِهِ أسْماؤُها عَلى التَّرْتِيبِ في بُعْدِها مِنَ الأرْضِ: نِبْتُونْ، أُورانُوسُ، زُحَلُ، المُشْتَرِي، المِرِّيخُ، الشَّمْسُ، الزُّهَرَةُ، عُطارِدُ، بِلْكانُ. والأرْضُ في اصْطِلاحِهِمْ كَوْكَبٌ سَيّارٌ، وفي اصْطِلاحِ القُرْآنِ لَمْ تُعَدَّ مَعَها لِأنَّها الَّتِي مِنها تُنْظَرُ الكَواكِبُ وعُدَّ عِوَضًا عَنْها القَمَرُ وهو مِن تَوابِعِ الأرْضِ فَعَدُّهُ مِنها عِوَضٌ عَنْ عَدِّ الأرْضِ تَقْرِيبًا لِأفْهامِ السّامِعِينَ. وأمّا الثَّوابِتُ فَهي عِنْدَ عُلَماءِ الهَيْئَةِ شُمُوسٌ سابِحَةٌ في شاسِعِ الأبْعادِ عَنِ الأرْضِ وفي ذَلِكَ شُكُوكٌ. ولَعَلَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْها سَماواتٍ ذاتَ نِظامٍ كَنِظامِ السَّيّاراتِ السَّبْعِ فَلَمْ يَعُدَّها في السَّماواتِ أوْ أنَّ اللَّهَ إنَّما عَدَّ لَنا السَّماواتِ الَّتِي هي مُرْتَبِطَةٌ بِنِظامِ أرْضِنا. وقَوْلُهُ ﴿وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ نَتِيجَةٌ لِما ذَكَرَهُ مِن دَلائِلِ القُدْرَةِ الَّتِي لا تَصْدُرُ إلّا مِن عَلِيمٍ، فَلِذَلِكَ قالَ المُتَكَلِّمُونَ: إنَّ القُدْرَةَ يَجْرِي تَعَلُّقُها عَلى وفْقِ الإرادَةِ. والإرادَةُ عَلى وفْقِ العِلْمِ. وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالإنْكارِ عَلى كُفْرِهِمْ والتَّعْجِيبِ مِنهُ، فَإنَّ العَلِيمَ بِكُلِّ شَيْءٍ يُقَبِّحُ الكُفْرَ بِهِ. وهَذِهِ الآيَةُ دَلِيلٌ عَلى عُمُومِ العِلْمِ، وقَدْ قالَ بِذَلِكَ جَمِيعُ المِلِّيِّينَ كَما نَقَلَهُ المُحَقِّقُ السَّلَكُوتِيُّ في الرِّسالَةِ الخاقانِيَّةِ، وأنْكَرَ الفَلاسِفَةُ عِلْمَهُ بِالجُزَيْئاتِ وزَعَمُوا أنَّ تَعَلُّقَ العِلْمِ بِالجُزَيْئاتِ لا يَلِيقُ بِالعِلْمِ الإلَهِيِّ، وهو تَوَهُّمٌ لا داعِيَ إلَيْهِ. (p-٣٨٧)وقَرَأ الجُمْهُورُ هاءَ (وهو) بِالضَّمِّ عَلى الأصْلِ، وقَرَأها قالُونُ وأبُو عَمْرٍو والكِسائِيُّ وأبُو جَعْفَرٍ بِالسُّكُونِ لِلتَّخْفِيفِ عِنْدَ دُخُولِ حَرْفِ العَطْفِ عَلَيْهِ، والسُّكُونُ أكْثَرُ مِنَ الضَّمِّ في كَلامِهِمْ، وذَلِكَ مَعَ الواوِ والفاءِ ولامِ الِابْتِداءِ، ووَجْهُهُ أنَّ الحُرُوفَ الَّتِي هي عَلى حَرْفٍ واحِدٍ إذا دَخَلَتْ عَلى الكَلِمَةِ تَنَزَّلَتْ مَنزِلَةَ الجُزْءِ مِنها فَصارَتِ الكَلِمَةُ ثَقِيلَةً بِدُخُولِ ذَلِكَ الحَرْفِ فِيها فَخُفِّفَتْ بِالسُّكُونِ كَما فَعَلُوا ذَلِكَ في حَرَكَةِ لامِ الأمْرِ مَعَ الواوِ والفاءِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ أفْصَحَ لُغاتِ العَرَبِ إسْكانُ الهاءِ مِن (هو) إذا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفٌ أنَّكَ تَجِدُهُ في الشِّعْرِ فَلا يَتَّزِنُ البَيْتُ إلّا بِقِراءَةِ الهاءِ ساكِنَةً ولا تَكادُ تَجِدُ غَيْرَ ذَلِكَ بِحَيْثُ لا يُمْكِنُ دَعْوى أنَّهُ ضَرُورَةٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب