الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ قال أبو جعفر: اختلفوا في تأويل قوله:"ثم استوى إلى السَّماء". فقال بعضهم: معنى استوى إلى السماء، أقبل عليها، كما تقول: كان فلان مقبلا على فلان، ثم استوَى عليّ يشاتمني - واستوَى إليّ يشاتمني. بمعنى: أقبل عليّ وإليّ يشاتمني. واستُشْهِد على أنّ الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر: أَقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنَا شَرَوْرَى ... سَوَامِدَ، وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضَّجُوعِ [[البيت لتميم بن أبي بن مقبل (معجم ما استعجم: ٧٩٥، ٨٥٧) ، وروايته"ثواني" مكان"سوامد". وشرورى: جبل بين بني أسد وبني عامر، في طريق مكة إلى الكوفة. والضجوع -بفتح الضاد المعجمة-: موضع أيضًا بين بلاد هذيل وبني سليم. وقوله: "سوامد" جمع سامد. سمدت الإبل في سيرها: جدت وسارت سيرًا دائمًا، ولم تعرف الإعياء. وسوامد: دوائب لا يلحقهن كلال. والنون في"قطعن" للإبل.]] فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع، وكان ذلك عنده بمعنى: أقبلن. وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ، وإنما معنى قوله:"واستوين من الضجوع"، استوين على الطريق من الضجوع خارجات، بمعنى استقمن عليه. وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوُّل، ولكنه بمعنى فعله، كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم، ثم تحوَّل إلى الشام. إنما يريد: تحوّل فِعله. [وقال بعضهم: قوله:"ثم استوى إلى السماء" يعني به: استوت] [[هذه الجملة بين القوسين، ليست في المخطوطة، وكأنها مقحمة.]] . كما قال الشاعر: أَقُولُ لَهُ لَمَّا اسْتَوَى فِي تُرَابِهِ ... عَلَى أَيِّ دِينٍ قَتَّلَ النَّاسَ مُصْعَبُ [[لم أجد هذا البيت. وفي المطبوعة: "قبل الرأس مصعب"، وهو خطأ لا شك فيه. وفي المخطوطة: "في ثراته"، ولا معنى لها، ولعلها"في تراثه". وأنا في شك من كل ذلك. بيد أن مصعبًا الذي ذكر في الشعر، هو فيما أرجح مصعب بن الزبير.]] وقال بعضهم:"ثم استوى إلى السماء"، عمدَ لها [[في المطبوعة: "عمد إليها".]] . وقال: بل كلُّ تارك عملا كان فيه إلى آخر، فهو مستو لما عمد له، ومستوٍ إليه. وقال بعضهم: الاستواء هو العلو، والعلوّ هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس. ٥٨٨- حُدِّثت بذلك عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"ثم استوى إلى السماء". يقول: ارتفع إلى السماء [[الأثر: ٥٨٨- في الدر المنثور ١: ٤٣، والأثر التالي: ٥٨٩، من تمامه.]] . ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع، في الذي استوى إلى السّماء. فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها، هو خالقُها ومنشئها. وقال بعضهم: بل العالي عليها: الدُّخَانُ الذي جعله الله للأرض سماء [[في المطبوعة: "العالى إليها".]] . قال أبو جعفر: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها انتهاءُ شباب الرجل وقوّته، فيقال، إذا صار كذلك: قد استوى الرّجُل. ومنها استقامة ما كان فيه أوَدٌ من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمرُه. إذا استقام بعد أوَدٍ، ومنه قول الطِّرِمَّاح بن حَكيم: طَالَ عَلَى رَسْمِ مَهْدَدٍ أبَدُهْ ... وَعَفَا وَاسْتَوَى بِهِ بَلَدُه [[ديوانه: ١١٠، واللسان (سوى) قال: "وهذا البيت مختلف الوزن، فالمصراع الأول من المنسرح، والثاني من الخفيف". والرسم: آثار الديار اللاصقة بالأرض. ومهدد اسم امرأة. والأبد: الدهر الطويل، والهاء في"أبده" راجع إلى الرسم. وعفا: درس وذهب أثره. والبلد: الأثر يقول: انمحى رسمها حتى استوى بلا أثر.]] يعني: استقام به. ومنها: الإقبال على الشيء يقال استوى فلانٌ على فلان بما يكرهه ويسوءه بَعد الإحسان إليه. ومنها. الاحتياز والاستيلاء [[في المخطوطة: "الاستيلاء والاحتواء".]] ، كقولهم: استوى فلان على المملكة. بمعنى احتوى عليها وحازَها. ومنها: العلوّ والارتفاع، كقول القائل، استوى فلان على سريره. يعني به علوَّه عليه. وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه:"ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن"، علا عليهن وارتفع، فدبرهنّ بقدرته، وخلقهنّ سبع سموات. والعجبُ ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله:"ثم استوى إلى السماء"، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هربًا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه -إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك- أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم يَنْجُ مما هرَب منه! فيقال له: زعمت أن تأويل قوله"استوى" أقبلَ، أفكان مُدْبِرًا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقُلْ: علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان، لا علوّ انتقال وزَوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه، لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفًا. وفيما بينا منه ما يُشرِف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى. قال أبو جعفر: وإن قال لنا قائل [[في المطبوعة: "وإن قال. . . ".]] أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء، كان قبل خلق السماء أم بعده؟ قيل: بعده، وقبل أن يسويهن سبعَ سموات، كما قال جل ثناؤه: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ [سورة فصلت: ١١] . والاستواء كان بعد أن خلقها دُخانًا، وقبل أن يسوِّيَها سبعَ سموات. وقال بعضهم: إنما قال:"استوى إلى السّماء"، ولا سماء، كقول الرجل لآخر:"اعمل هذا الثوب"، وإنما معه غزلٌ. وأما قوله"فسواهن" فإنه يعني هيأهن وخلقهن ودبَّرهن وقوَّمهن. والتسوية في كلام العرب، التقويم والإصلاح والتوطئة، كما يقال: سوَّى فلان لفلان هذا الأمر. إذا قوّمه وأصلحه وَوَطَّأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته: تقويمه إياهن على مشيئته، وتدبيره لهنّ على إرادته، وتفتيقهنّ بعد ارتتاقهنّ [[في المطبوعة: "بعد إرتاقهن" وليست بشيء، وفي المخطوطة: "بعد أن تتاقهن"، وظاهر أنها تحريف لما أثبتناه. وارتتق الشيء: التأم والتحم حتى ليس به صدع. وهذا من تأويل ما في سورة الأنبياء: ٣٠ من قول الله سبحانه: ﴿أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ والفتق: الشق.]] . ٥٨٩- كما: حُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"فسوَّاهن سبع سموات" يقول: سوّى خلقهن،" وهو بكل شيء عليم [[الأثر: ٥٨٩- في الدر المنثور ١: ٤٣، وهو من تمام الأثر السالف: ٥٨٨.]] . وقال جل ذكره:"فسواهن"، فأخرج مكنِيَّهن مخرج مكنيِّ الجميع [[المكني: هو الضمير، فيما اصطلح عليه النحويون، لأنه كناية عن الذي أخفيت ذكره. وفي المطبوعة: "الجمع" مكان"الجميع" حيث ذكرت في المواضع الآتية في هذه العبارة.]] ، وقد قال قبلُ:"ثم استوى إلى السماء" فأخرجها على تقدير الواحد. وإنما أخرج مكنيَّهن مخرج مكنيِّ الجمع، لأن السماء جمع واحدها سماوة، فتقدير واحدتها وجميعها إذا تقدير بقرة وبقر ونخلة ونخل، وما أشبه ذلك. ولذلك أنِّثت مرة فقيل: هذه سماءٌ، وذُكِّرت أخرى [[في المطبوعة: "أنث السماء. . . وذكر" بطرح التاء.]] فقيل: ﴿السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾ [سورة المزمل: ١٨] ، كما يُفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحده غير دخول الهاء وخروجها، فيقال: هذا بقر وهذه بقر، وهذا نخل وهذه نخل، وما أشبه ذلك. وكان بعض أهل العربية يزعم أنّ السماء واحدة، غير أنها تدلّ على السموات، فقيل:"فسواهن"، يراد بذلك التي ذُكِرت وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تُذْكر معها [["بعض أهل العربية" هو الفراء، وإن لم يكن اللفظ لفظه، في كتابه معاني القرآن ١: ٢٥، ولكنه ذهب هذا المذهب، في كتابه أيضًا ص: ١٢٦ - ١٣١.]] . قال: وإنما تُذكر إذا ذُكِّرت وهي مؤنثة، فيقال:"السماء منفطر به"، كما يذكر المؤنث [[هكذا في الأصول"كما يذكر المؤنث"، وأخشى أن يكون صواب هذه العبارة: "كما تذكر الأرض، كما قال الشاعر:. . . " وقد ذكر الفراء في معاني القرآن ذلك فقال: ". . فإن السماء في معنى جمع فقال: (فسواهن) للمعنى المعروف أنهن سبع سموات. وكذلك الأرض يقع عليها -وهي واحدة- الجمع. ويقع عليهما التوحيد وهما مجموعتان، قال الله عز وجل: (رب السموات والأرض) ثم قال: (وما بينهما) ، ولم يقل: بينهن. فهذا دليل على ما قلت لك". معاني القرآن. ١: ٢٥، وانظر أيضًا ص: ١٢٦ - ١٣١.]] ، وكما قال الشاعر: فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلا أَرْضَ أَبْقَل إِبْقَالَهَا [[البيت من شعر عامر بن جوين الطائي، في سيبويه ١: ٢٤٠، ومعاني القرآن ١: ١٢٧ والخزانة ١: ٢١ - ٢٦، وشرح شواهد المغني: ٣١٩، والكامل ١: ٤٠٦، ٢: ٦٨، وقبله، يصف جيشًا: وَجَارِيَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُو ... كِ قَعْقَعْتُ بِالْخَيْلِ خَلْخَالَهَا كَكِرْ فِئَةِ الْغَيْثِ ذَاتِ الصَّبِيرِ ... تَرْمِي السَّحَابَ وَيَرْمِي لَهَا تَوَاعَدْتُهَا بَعْدَ مَرِّ النُّجُومِ، ... كَلْفَاءَ تُكْثِرُ تَهْطَالَهَا فلا مزنة. . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .]] وكما قال أعشى بني ثعلبة: فَإِمَّا تَرَيْ لِمَّتِي بُدِّلَتْ ... فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَزْرَى بِهَا [[أعشى بني ثعلبة، وأعشى بني قيس، والأعشى، كلها واحد، ديوانه ١: ١٢٠، وفي سيبويه ١: ٢٣٩، ومعاني القرآن للفراء ١: ١٢٨، والخزانة ٤: ٥٧٨، ورواية الديوان: فَإِنْ تَعْهَدِينِي وَلِي لِمَّةٌ ... فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَلْوَى بِهَا ورواية سيبويه كما في الطبري، إلا أنه روى"أودى بها". وألوى به: ذهب به وأهلكه. وأودى به: أهلكه، أيضًا. وأما"أزرى بها": أي حقرها وأنزل بها الهوان، من الزرارية وهي التحقير. وكلها جيد.]] وقال بعضهم: السماء وإن كانت سماء فوق سماء وأرضًا فوق أرض، فهي في التأويل واحدةٌ إن شئت، ثم تكون تلك الواحدة جماعًا، كما يقال: ثوبٌ أخلاقٌ وأسمالٌ، وبُرْمة أعشار، للمتكسرة، وبُرْمة أكسار وأجبار. وأخلاق، أي أنّ نواحيه أخلاق [[أخلاق، جمع خلق (بفتحتين) : وهو البالي. وأسمال جمع سمل (بفتحتين) : وهو الرقيق المتمزق البالي. وبرمة أجبار، ضد قولهم برمة أكسار، كأنه جمع برمة جبر (بفتح فسكون) وإن لم يقولوه مفردًا، كما لم يقولوا برمة كسر، مفردًا. وأصله من جبر العظم، وهو لأمه بعد كسره.]] . فإن قال لنا قائل: فإنك قد قلت إن الله جل ثناؤه استوَى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسويها سبع سموات، ثم سواها سبعًا بعد استوائه إليها، فكيف زعمت أنها جِماع؟ قيل: إنهن كنّ سبعًا غيرَ مستويات، فلذلك قال جل ذكره: فسوَّاهن سبعًا. كما:- ٥٩٠- حدثني محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: قال محمد بن إسحاق: كان أوّلَ ما خلق الله تبارك وتعالى النورُ والظلمةُ، ثم ميَّز بينهما، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلمًا، وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا، ثم سمك السموات السبع من دخان - يقال، والله أعلم، من دخان الماء - حتى استقللن ولم يحبُكْهن [[في المخطوطة: "ولم يحبكن".]] . وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها، وأخرج ضُحاها، فجرى فيها الليل والنهار، وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم. ثم دحا الأرض وأرْساها بالجبال، وقدر فيها الأقوات، وبث فيها ما أراد من الخلق، ففرَغ من الأرض وما قدر فيها من أقواتها في أربعة أيام. ثم استوى إلى السماء وهي دخان -كما قال- فحبكهن، وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها، وأوحى في كل سماء أمرها، فأكمل خلقهن في يومين، ففرغ من خلق السموات والأرض في ستة أيام. ثم استوى في اليوم السابع فوق سمواته، ثم قال للسموات والأرض: ائتيا طوعًا أو كرهًا لما أردت بكما، فاطمئنا عليه طوعًا أو كرهًا، قالتا: أتينا طائعين [[الأثر: ٥٩٠- هذا الأثر في الحقيقة تفسير للآيات ٩ - ١٢ من سورة فصلت. ولم يذكره الطبري في موضعه عند تفسيرها (٢٤: ٦٠ - ٦٥ طبعة بولاق) . وكذلك لم يذكره ابن كثير والسيوطي والشوكاني- في هذا الموضع، ولا في موضعه من تفسير سورة فصلت. وهو من كلام ابن إسحاق، ولا بأس عليهم في الإعراض عن إخراجه. وقد صرح الطبري -بعد- أنه إنما ذكره استشهادًا، لا استدلالا، إذ وجده أوضح بيانا، وأحسن شرحًا.]] . فقد أخبر ابن إسحاق أنّ الله جل ثناؤه استوى إلى السماء - بعد خلق الأرض [[في المطبوعة: "بعد خلقه الأرض".]] وما فيها - وهن سبع من دخان، فسواهن كما وَصف. وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق، لأنه أوضح بيانًا - عن خلق السموات [[في المطبوعة: "عن خبر السموات".]] ، أنهن كُنّ سبعًا من دخان قبل استواء ربنا إليها لتسويتها - من غيره [[في المطبوعة: "بتسويتها"، وسياق كلامه: "أوضح بيانًا. . . من غيره"، وما بينهما فصل.]] ، وأحسنُ شرحًا لما أردنا الاستدلال به، من أن معنى السماء التي قال الله تعالى ذكره فيها:"ثم استوى إلى السماء" بمعنى الجميع [[في المطبوعة"بمعنى الجمع"، وفي التي تليها، وقد مضى مثل ذلك آنفًا.]] ، على ما وصفنا. وأنه إنما قال جل ثناؤه:"فسوَّاهن"، إذ كانت السماء بمعنى الجميع، على ما بينا. قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التي ذكرها في قوله"فسواهن"، إذ كن قد خُلِقن سبعًا قبل تسويته إياهن؟ وما وجه ذِكْر خَلْقهن بعد ذِكْر خَلْق الأرض؟ ألأنها خلقت قبلها، أم بمعنى غير ذلك [[في المطبوعة: "أم بمعنى"، وهذه أجود.]] ؟ قيل: قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق، ونؤكد ذلك تأكيدًا بما نضم إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم [[في المطبوعة: "ونزيد ذلك توكيدًا".]] . ٥٩١- فحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ:"هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات". قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانًا، فارتفع فوق الماء فسما عليه، فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة، ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين - في الأحد والاثنين، فخلق الأرض على حوت، والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن:"ن والقلم"، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاةُ على ظهر ملَك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض: فتحرك الحوت فاضطرب، فتزلزت الأرض، فأرسى عليها الجبال فقرّت، فالجبال تخر على الأرض، فذلك قوله: ﴿وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [[في الأصول: "وجعل لها رواسي أن تميد بكم"، وهو وهم سبق إليه القلم من النساخ فيما أرجح، والآية كما ذكرتها في سورة النحل، ومثلها في سورة لقمان: ١٠]] [سورة النحل: ١٥] . وخلق الجبالَ فيها، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا﴾ يقول: أنبت شجرها ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا﴾ يقول: أقواتها لأهلها ﴿فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ يقول: قل لمن يسألك: هكذا الأمر [[في المخطوطة: "يقول: من سأل، فهكذا الأمر".]] ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [سورة فصلت: ٩-١١] ، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين - في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض -"وأوحى في كل سماء أمْرها" قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها، من البحار وجبال البَرَد وما لا يُعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينةً وحِفظًا، تُحفظُ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحبّ، استوى على العرش. فذلك حين يقول: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ [سورة الأعراف: ٥٤] . ويقول: ﴿كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [[الخبر: ٥٩١- في ابن كثير ١: ١٢٣، والدر المنثور ١: ٤٢ - ٤٣، والشوكاني ١: ٤٨. وقد مضى الكلام في هذا الإسناد، واستوعب أخي السيد أحمد شاكر تحقيقه في موضعه (انظر الخبر: ١٦٨) ، وقد مضى أيضًا قول الطبري، حين عرض لهذا الإسناد في الأثر رقم: ٤٦٥ ص: ٣٥٣: "فإن كان ذلك صحيحًا، ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مرتابًا. . ". وقد مضى الطبري في تفسيره على رواية ما لم يصح عنده إسناده، لعلمه أن أهل العلم كانوا يومئذ يقومون بأمر الإسناد والبصر به، ولا يتلقون شيئًا بالقبول إلا بعد تمحيص إسناده. فلئن سألت: فيم يسوق الطبري مثل هذا الخبر الذي يرتاب في إسناده؟ وجواب ذلك: أنه لم يسقه ليحتج بما فيه، بل ساقه للاعتبار بمعنى واحد، وهو أن الله سبحانه سمك السموات السبع من دخان، ثم دحا الأرض وأرساها بالجبال، ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فحبكهن سبعًا، وأوحى في كل سماء أمرها. وليس في الاعتبار بمثل هذا الأثر ضرر، لأن المعنى الذي أراده هو ظاهر القرآن وصريحه. وإن كان الخبر نفسه مما تلقاه بعض الصحابة عن بني إسرائيل، لا عن رسول الله ﷺ. ولا حجة إلا فيما أنزل الله في كتابه، أو في الذي أوحى إلى نبيه مما صح عنه إسناده إليه. وكل ما صح عن رسول الله ﷺ، قبلناه لا نحكم فيه أحدًا، فإن قوله هو المهيمن بالحق على أقوال الرجال.]] [سورة الأنبياء: ٣٠] . ٥٩٢- وحدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:"هوَ الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء". قال: خلق الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرضَ ثار منها دخان، فذلك حين يقول:"ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات". قال: بعضُهن فوق بعض، وسبعَ أرضين، بعضُهن تحت بعض [[الأثر: ٥٩٢- في ابن كثير ١: ١٢٤، والدر المنثور ١: ٤٢، والشوكاني ١: ٤٨.]] . ٥٩٣- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فسواهنّ سبعَ سموات" قال: بعضُهن فوق بعض، بين كل سماءين مسيرة خمسمئة عام. ٥٩٤- حدثنا المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:- حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء، ثم ذكر السماء قبل الأرض، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء -"ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سموات"، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله: ﴿وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [سورة النازعات: ٣٠] . ٥٩٥- حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام أنه قال: إنّ الله بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرَضِين في الأحد والاثنين، وخلق الأقواتَ والرواسيَ في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات في الخميس والجمعة، وفرَغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم على عجل. فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة. قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: هو الذي أنعم عليكم، فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخَّره لكم تفضُّلا منه بذلك عليكم، ليكون لكم بلاغًا في دنياكم ومتاعًا إلى موافاة آجالكم، ودليلا لكم على وَحدانية ربكم. ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان، فسوَّاهنَّ وحبَكهن، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه، وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلقه [[الآثار: ٥٩٣ - ٥٩٥، لم نجدها في شيء من تلك المراجع.]] . * * * القول في تأويل قوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩) ﴾ يعني بقوله جل جلاله:"وهو" نفسَه، وبقوله:"بكل شيء عليم" أن الذي خلقكم، وخلق لكم ما في الأرض جميعًا، وسوّى السموات السبع بما فيهن فأحكمهن من دخان الماء، وأتقن صُنعهنّ، لا يخفى عليه - أيها المنافقون والملحدون الكافرون به من أهل الكتاب [[في المخطوطة: "وأهل الكتاب" عطفًا.]] - ما تُبدون وما تكتمون في أنفسكم، وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم على التكذيب به منطوون. وكذّبتْ أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور، وهم بصحته عارفون. وجحدوه وكتموا ما قد أخذتُ عليهم -ببيانه لخلقي من أمر محمد ونُبوّته- المواثيق وهم به عالمون. بل أنا عالم بذلك من أمركم وغيره من أموركم. وأمور غيركم [[في المطبوعة: "بل أنا عالم بذلك وغيره من أموركم. . ".]] ، إني بكل شيء عليم. وقوله:"عليم" بمعنى عالم. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول: هو الذي قد كمَل في علمه. ٥٩٦- حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، قال: حدثني علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: العالم الذي قد كمَل في علمه [[الخبر: ٥٩٦- ليس في مراجعنا.]] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب