الباحث القرآني

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكُنْتُمْ﴾ وتَرَكَ الحَرْفَ إمّا لِكَوْنِهِ كالنَّتِيجَةِ لَهُ، أوْ لِلتَّنْبِيهِ عَلى الِاسْتِقْلالِ في إفادَةِ ما أفادَهُ، وذَكَرَ أنَّهُ بَيانُ نِعْمَةٍ أُخْرى مُتَرَتِّبَةٍ عَلى الأُولى، وأُرِيدَ بِتَرَتُّبِها أنَّ الِانْتِفاعَ بِها يَتَوَقَّفُ عَلَيْها، فَإنَّ النِّعْمَةَ إنَّما تُسَمّى نِعْمَةً مِن حَيْثُ الِانْتِفاعُ بِها، (وهُوَ) لِغَيْرِ المُتَكَلِّمِ والمُخاطَبِ (p-215)وفِيهِ لُغاتٌ: تَخْفِيفُ الواوِ مَفْتُوحَةً وحَذْفُها في الشِّعْرِ، وتَشْدِيدُها لِهَمْدانَ، وتَسْكِينُها لِأسَدٍ وقَيْسٍ، (وهُوَ) عِنْدَ أهْلِ اللَّهِ تَعالى اسْمٌ مِن أسْمائِهِ تَعالى يُنْبِئُ عَنْ كُنْهِ حَقِيقَتِهِ المَخْصُوصَةِ المُبَرَّأةِ عَنْ جَمِيعِ جِهاتِ الكَثْرَةِ، وهو اسْمٌ مُرَكَّبٌ مِن حَرْفَيْنِ الهاءِ والواوِ، والهاءُ أصْلٌ، والواوُ زائِدَةٌ بِدَلِيلِ سُقُوطِها في التَّثْنِيَةِ والجَمْعِ، فَلَيْسَ في الحَقِيقَةِ إلّا حَرْفٌ واحِدٌ دالٌّ عَلى الواحِدِ الفَرْدِ الَّذِي لا مَوْجُودَ سِواهُ، وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ، ولِمَزِيدِ ما فِيهِ مِنَ الأسْرارِ اتَّخَذَهُ الأجِلَّةُ مَدارًا لِذِكْرِهِمْ، وسِراجًا لِسِرِّهِمْ، وهو جارٍ مَعَ الأنْفاسِ، ومُسَمّاهُ غائِبٌ عَنِ الحَدْسِ والقِياسِ، وفي جَعْلِ الضَّمِيرِ مُبْتَدَأً والمَوْصُولِ خَبَرًا مِنَ الدِّلالَةِ عَلى الجَلالَةِ ما لا يَخْفى، وتَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلى المَفْعُولِ الصَّرِيحِ لِتَعْجِيلِ المَسَرَّةِ، واللّامُ لِلتَّعْلِيلِ، والِانْتِفاعِ أيْ خَلَقَ لِأجْلِكم جَمِيعَ ما في الأرْضِ لِتَنْتَفِعُوا بِهِ في أُمُورِ دُنْياكم بِالذّاتِ أوْ بِالواسِطَةِ، وفي أُمُورِ دِينِكم بِالِاسْتِدْلالِ، والِاعْتِبارِ، واسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِن أهْلِ السُّنَّةِ الحَنَفِيَّةِ والشّافِعِيَّةِ بِالآيَةِ عَلى إباحَةِ الأشْياءِ النّافِعَةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وعَلَيْهِ أكْثَرُ المُعْتَزِلَةِ، واخْتارَهُ الإمامُ في المَحْصُولِ والبَيْضاوِيُّ في المِنهاجِ. واعْتُرِضَ بِأنَّ اللّامَ تَجِيءُ لِغَيْرِ النَّفْعِ، كَـ ﴿وإنْ أسَأْتُمْ فَلَها﴾ وأُجِيبَ بِأنَّها مَجازٌ لِاتِّفاقِ أئِمَّةِ اللُّغَةِ عَلى أنَّها لِلْمِلْكِ، ومَعْناهُ الِاخْتِصاصُ النّافِعُ وبِأنَّ المُرادَ النَّفْعُ بِالِاسْتِدْلالِ، وأُجِيبَ بِأنَّ التَّخْصِيصَ خِلافُ الظّاهِرِ مَعَ أنَّ ذَلِكَ حاصِلٌ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ مِن نَفْسِهِ، فَيُحْمَلُ عَلى غَيْرِهِ، وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ الأصْلَ في الأشْياءِ قَبْلَ الحَظْرِ، وقالَ قَوْمٌ بِالوَقْفِ لِتَعارُضِ الأدِلَّةِ عِنْدَهُمْ، واسْتَدَلَّتِ الإباحِيَّةُ بِالآيَةِ عَلى مُدَّعاهم قائِلِينَ: إنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّ ما في الأرْضِ جَمِيعًا خُلِقَ لِلْكُلِّ، فَلا يَكُونُ لِأحَدٍ اخْتِصاصٌ بِشَيْءٍ أصْلًا، ويَرُدُّهُ أنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّ الكُلَّ لِلْكُلِّ، ولا يُنافِي اخْتِصاصُ البَعْضِ بِالبَعْضِ لِمُوجِبٍ، فَهُناكَ شِبْهُ التَّوْزِيعِ، والتَّعْيِينُ يُسْتَفادُ مِن دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، ولا يَلْزَمُ اخْتِصاصُ كُلِّ شَخْصٍ بِشَيْءٍ واحِدٍ كَما ظَنَّهُ السّالِيكُوتِيُّ، وما تَعُمُّ جَمِيعَ ما في الأرْضِ لِأنْفُسِها، إذْ لا يَكُونُ الشَّيْءُ ظَرْفًا لِنَفْسِهِ إلّا أنْ يُرادَ بِها جِهَةُ السُّفْلِ، كَما يُرادُ بِالسَّماءِ جِهَةُ العُلُوِّ، ويَكْفِي في التَّحَدُّرِ العَرْشُ المُحِيطُ، أوْ تُجْعَلُ الجِهَةُ اعْتِبارِيَّةً، نَعَمْ قِيلَ: تَعُمُّ كُلَّ جُزْءٍ مِن أجْزاءِ الأرْضِ، فَإنَّهُ مِن جُمْلَةِ ضَرُوراتِها ما فِيها ضَرُورَةُ وُجُودِ الجُزْءِ في الكُلِّ، والمُغايَرَةُ اعْتِبارِيَّةٌ، والقَوْلُ بِأنَّ الكَلامَ عَلى تَقْدِيرِ مَعْطُوفٍ أيْ خَلَقَ ما في الأرْضِ، والأرْضَ، لا أرْضى بِهِ، وبَعْضُهم لَمْ يَتَكَلَّفْ شَيْئًا مِن ذَلِكَ، واسْتَغْنى بِتَقَدُّمِ الِامْتِنانِ بِالأرْضِ في قَوْلِهِ تَعالى: ”وجَعَلَ لَكم الأرْضَ فِراشًا“ (وجَمِيعًا) حالٌ مُؤَكِّدَةٌ مِن كَلِمَةِ (ما)، ولا دِلالَةَ لَهُما كَما ذَكَرَهُ البَعْضُ عَلى الِاجْتِماعِ الزَّمانِيِّ، وهَذا بِخِلافِ مَعًا، وجَعْلُهُ حالًا مِن ضَمِيرِ لَكم يُضْعِفُهُ السِّياقُ، لِأنَّهُ لِتِعْدادِ النِّعَمِ دُونَ المُنْعَمِ عَلَيْهِ، مَعَ أنَّ مَقامَ الِامْتِنانِ يُناسِبُهُ المُبالَغَةُ في كَثْرَةِ النِّعَمِ، ولِاعْتِبارِ المُبالَغَةِ لَمْ يَجْعَلُوهُ حالًا مِنَ الأرْضِ أيْضًا، ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ أيْ عَلا إلَيْها وارْتَفَعَ مِن غَيْرِ تَكْيِيفٍ ولا تَمْثِيلٍ ولا تَحْدِيدٍ، قالَهُ الرَّبِيعُ أوْ قَصَدَ إلَيْها بِإرادَتِهِ قَصْدًا سَوِيًّا بِلا صارِفٍ يَلْوِيهِ ولا عاطِفٍ يُثْنِيهِ مِن قَوْلِهِمُ: اسْتَوى إلَيْهِ كالسَّهْمِ المُرْسَلِ، إذا قَصَدَهُ قَصْدًا مُسْتَوِيًا مِن غَيْرِ أنْ يَلْوِي عَلى شَيْءٍ، قالَهُ الفَرّاءُ، وقِيلَ: اسْتَوْلى، ومَلَكَ كَما في قَوْلِهِ: ؎فَلَمّا عَلَوْنا واسْتَوَيْنا عَلَيْهِمْ تَرَكْناهم صَرْعى لِنَسْرٍ وكاسِرِ وهُوَ خِلافُ الظّاهِرِ لِاقْتِضائِهِ كَوْنَ إلى بِمَعْنى عَلى، وأيْضًا الِاسْتِيلاءُ مُؤَخَّرٌ عَنْ وُجُودِ المُسْتَوْلى عَلَيْهِ، فَيَحْتاجُ إلى القَوْلِ بِأنَّ المُرادَ اسْتَوْلى عَلى إيجادِ السَّماءِ، فَلا يَقْتَضِي تَقَدُّمَ الوُجُودِ ولا يَخْفى ما فِيهِ، والمُرادُ بِالسَّماءِ الأجْرامُ العُلْوِيَّةُ، أوْ جِهَةُ العُلُوِّ، وثُمَّ، قِيلَ: لِلتَّراخِي في الوَقْتِ، وقِيلَ: لِتَفاوُتِ ما بَيْنَ الخَلْقَيْنِ، وفُضِّلَ خَلْقُ السَّماءِ عَلى خَلْقِ الأرْضِ، والنّاسُ مُخْتَلِفُونَ في خَلْقِ السَّماءِ، وما فِيها، والأرْضِ وما فِيها، بِاعْتِبارِ التَّقَدُّمِ والتَّأخُّرِ، لِتَعارُضِ الظَّواهِرِ في ذَلِكَ، فَذَهَبَ بَعْضٌ إلى تَقَدُّمِ خَلْقِ السَّماواتِ لِقَوْلِهِ تَعالى: (p-216)﴿أمِ السَّماءُ بَناها﴾ ﴿رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها﴾ ﴿وأغْطَشَ لَيْلَها وأخْرَجَ ضُحاها﴾ ﴿والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحاها﴾ ﴿أخْرَجَ مِنها ماءَها ومَرْعاها﴾ ﴿والجِبالَ أرْساها﴾ وذَهَبَ آخَرُونَ إلى تَقَدُّمِ خَلْقِ الأرْضِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أإنَّكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِن فَوْقِها وبارَكَ فِيها وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها في أرْبَعَةِ أيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ﴾ ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ فَقالَ لَها ولِلأرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾ ﴿فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَيْنِ وأوْحى في كُلِّ سَماءٍ أمْرَها﴾ وجَمَعَ بَعْضُهم فَقالَ: إنَّ ﴿أخْرَجَ مِنها ماءَها﴾ بَدَلٌ أوْ عَطْفُ بَيانٍ لِدَحاها، أيْ بَسَطَها مُبَيِّنٌ لِلْمُرادِ مِنهُ، فَيَكُونُ تَأخُّرُها لَيْسَ بِمَعْنى تَأخُّرِ ذاتِها، بَلْ بِمَعْنى تَأخُّرِ خَلْقِ ما فِيها، وتَكْمِيلِهِ وتَرْتِيبِهِ بَلْ خَلْقِ التَّمَتُّعِ والِانْتِفاعِ بِهِ، فَإنَّ البَعْدِيَّةَ كَما تَكُونُ بِاعْتِبارِ نَفْسِ الشَّيْءِ تَكُونُ بِاعْتِبارِ جُزْئِهِ الأخِيرِ وقَيْدِهِ المَذْكُورِ، كَما لَوْ قُلْتَ: بَعَثْتُ إلَيْكَ رَسُولًا، ثُمَّ كُنْتَ بَعَثْتَ فُلانًا لِيَنْظُرَ ما يُبَلِّغُهُ، فَبَعْثُ الثّانِي وإنْ تَقَدَّمَ لَكِنْ ما بُعِثَ لِأجْلِهِ مُتَأخِّرٌ، فَجَعَلَ نَفْسَهُ مُتَأخِّرًا، وما رَواهُ الحاكِمُ والبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما في التَّوْفِيقِ بَيْنَ الآيَتَيْنِ يُشِيرُ إلى هَذا، ولا يُعارِضُهُ ما رَواهُ ابْنُ جَرِيرٍ وغَيْرُهُ وصَحَّحُوهُ عَنْهُ أيْضًا، «(إنَّ اليَهُودَ أتَتِ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَسَألَتْهُ عَنْ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ فَقالَ: خَلَقَ اللَّهُ تَعالى الأرْضَ يَوْمَ الأحَدِ والإثْنَيْنِ، وخَلَقَ الجِبالَ وما فِيهِنَّ مِنَ المَنافِعِ يَوْمَ الثُّلاثاءِ، وخَلَقَ يَوْمَ الأرْبِعاءِ الشَّجَرَ والماءَ والمَدائِنَ والعُمْرانَ والخَرابَ فَهَذِهِ أرْبَعَةٌ، فَقالَ تَعالى: ﴿أإنَّكم لَتَكْفُرُونَ﴾ إلى ﴿سَواءً لِلسّائِلِينَ﴾ وخَلَقَ يَوْمَ الخَمِيسِ السَّماءَ، وخَلَقَ يَوْمَ الجُمُعَةِ النُّجُومَ والشَّمْسَ والقَمَرَ والمَلائِكَةَ)،» لِجَوازِ أنْ يُحْمَلَ عَلى أنَّهُ خَلَقَ مادَّةَ ذَلِكَ، وأُصُولَهُ، إذْ لا يُتَصَوَّرُ المَدائِنُ والعُمْرانُ والخَرابُ قَبْلُ، فَعَطَفَهُ عَلَيْهِ قَرِينَةً لِذَلِكَ، واسْتِشْكالُ الإمامِ الرّازِيِّ تَأخُّرَ التَّدْحِيَةِ عَنْ خَلْقِ السَّماءِ بِأنَّ الأرْضَ جِسْمٌ عَظِيمٌ فامْتَنَعَ انْفِكاكُ خَلْقِها عَنِ التَّدْحِيَةِ، فَإذا كانَتِ التَّدْحِيَةُ مُتَأخِّرَةً كانَ خَلْقُها أيْضًا مُتَأخِّرًا، مَبْنِيٌّ كَما قِيلَ: عَلى الغَفْلَةِ لِأنَّ مَن يَقُولُ بِتَأخُّرِ دَحْوِها عَنْ خَلْقِها لا يَقُولُ بِعِظَمِها ابْتِداءً، بَلْ يَقُولُ: إنَّها في أوَّلِ الخَلْقِ كانَتْ كَهَيْئَةِ الفِهْرِ، ثُمَّ دُحِيَتْ، فَيَتَحَقَّقُ الِانْفِكاكُ، ويَصِحُّ تَأخُّرُ دَحْوِها عَنْ خَلْقِها، وقَوْلُهُ قُدِّسَ سِرُّهُ: إنَّ خَلْقَ الأشْياءِ في الأرْضِ لا يُمْكِنُ إلّا إذا كانَتْ مَدْحُوَّةً لا يَخْفى دَفْعُهُ، بِناءً عَلى أنَّ المُرادَ بِذَلِكَ خَلْقُ المَوادِّ، والأُصُولِ، لا خَلْقُ الأشْياءِ فِيها، كَما هو اليَوْمَ، وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في أنَّ خَلْقَ السَّماءِ مُقَدَّمٌ عَلى خَلْقِ الأرْضِ أوْ مُؤَخَّرٌ، نَقَلَ الإمامُ الواحِدِيُّ عَنْ مُقاتِلٍ الأوَّلَ، واخْتارَهُ المُحَقِّقُونَ، ولَمْ يَخْتَلِفُوا في أنَّ جَمِيعَ ما في الأرْضِ مِمّا تَرى مُؤَخَّرٌ عَنْ خَلْقِ السَّماواتِ السَّبْعِ، بَلِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ يُجْعَلُ الخَلْقُ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ بِمَعْنى التَّقْدِيرِ، لا الإيجادِ، أوْ بِمَعْناهُ، ويُقَدِّرُ الإرادَةَ، ويَكُونُ المَعْنى: أرادَ خَلْقَ ما في الأرْضِ جَمِيعًا لَكم عَلى حَدِّ ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ و﴿وإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ﴾ ولا يُخالِفُهُ، ﴿والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحاها﴾ فَإنَّ المُتَقَدِّمَ عَلى خَلْقِ السَّماءِ إنَّما هو تَقْدِيرُ الأرْضِ، وجَمِيعُ ما فِيها، أوْ إرادَةُ إيجادِها، والمُتَأخِّرُ عَنْ خَلْقِ السَّماءِ إيجادُ الأرْضِ، وجَمِيعُ ما فِيها، فَلا إشْكالَ، وأمّا قَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ﴾ فَعَلى تَقْدِيرِ الإرادَةِ، والمَعْنى: أرادَ خَلْقَ الأرْضِ، وكَذا ﴿وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ﴾ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ بِمَعْنى أرادَ أنْ يَجْعَلَ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقالَ لَها ولِلأرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾ فَإنَّ الظّاهِرَ أنَّ المُرادَ: ائْتِيا في الوُجُودِ، ولَوْ كانَتِ الأرْضُ مَوْجُودَةً سابِقَةً لَما صَحَّ هَذا، فَكَأنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ: أئِنَّكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي أرادَ إيجادَ الأرْضِ وما فِيها مِنَ الرَّواسِي والأقْواتِ في أرْبَعَةِ أيّامٍ، ثُمَّ قَصَدَ إلى السَّماءِ، فَتَعَلَّقَتْ إرادَتُهُ بِإيجادِ السَّماءِ والأرْضِ فَأطاعا بِأمْرِ التَّكْوِينِ، فَأوْجَدَ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَيْنِ، وأوْجَدَ الأرْضَ، وما فِيها في أرْبَعَةِ أيّامٍ. بَقِيَ ها هُنا بَيانُ النُّكْتَةِ في تَغْيِيرِ الأُسْلُوبِ، حَيْثُ قَدَّمَ في الظّاهِرِ ها هُنا، وفي (حم السَّجْدَةِ) خَلْقَ الأرْضِ وما فِيها (p-217)عَلى خَلْقِ السَّماواتِ، وعَكَسَ في النّازِعاتِ، ولَعَلَّ ذَلِكَ لِأنَّ المَقامَ في الأوَّلَيْنِ مَقامُ الِامْتِنانِ، فَمُقْتَضاهُ تَقْدِيمُ ما هو نِعْمَةٌ نَظَرًا إلى المُخاطَبِينَ، فَكَأنَّهُ قالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: هو الَّذِي دَبَّرَ أمْرَكم قَبْلَ خَلْقِ السَّماءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّماءَ، والمَقامُ في الثّالِثَةِ مَقامُ بَيانِ كَمالِ القُدْرَةِ، فَمُقْتَضاهُ تَقْدِيمُ ما هو أدَلُّ عَلى كَمالِها، هَذا والَّذِي يُفْهَمُ مِن بَعْضِ عِباراتِ القَوْمِ قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى أسْرارَهم أنَّ المُحَدَّدَ، ويُقالُ لَهُ سَماءٌ أيْضًا مَخْلُوقٌ قَبْلَ الأرْضِ وما فِيها، وأنَّ الأرْضَ نَفْسَها خُلِقَتْ بَعْدُ، ثُمَّ بَعْدَ خَلْقِها خُلِقَتِ السَّماواتُ السَّبْعُ، ثُمَّ بَعْدَ السَّبْعِ خُلِقَ ما في الأرْضِ مِن مَعادِنَ ونَباتٍ، ثُمَّ ظَهَرَ عالَمُ الحَيَوانِ، ثُمَّ عالَمُ الإنْسانِ، فَمَعْنى ﴿خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ﴾ حِينَئِذٍ قَدَّرَهُ، أوْ أرادَ إيجادَهُ، أوْ أوْجَدَ مَوادَّهُ، ومَعْنى ﴿وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ﴾ إلَخْ، في الآيَةِ الأُخْرى عَلى نَحْوِ هَذا، وخَلْقُ الأرْضِ فِيها عَلى ظاهِرِهِ، ولا يَأْباهُ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿فَقالَ لَها ولِلأرْضِ ائْتِيا﴾ إلَخْ، لِجَوازِ حَمْلِهِ عَلى مَعْنى ائْتِيا بِما خَلَقْتُ فِيكُما مِنَ التَّأْثِيرِ والتَّأثُّرِ وإبْرازِ ما أوْدَعْتُكُما مِنَ الأوْضاعِ المُخْتَلِفَةِ، والكائِناتِ المُتَنَوِّعَةِ، أوْ إتْيانُ السَّماءِ حُدُوثُها، وإتْيانُ الأرْضِ أنْ تَصِيرَ مَدْحُوَّةً، أوْ لِيَأْتِ كُلٌّ مِنكُما الأُخْرى في حُدُوثِ ما أُرِيدَ تَوْلِيدُهُ مِنكُما، وبَعْدَ هَذا كُلِّهِ لا يَخْلُو البَحْثُ مِن صُعُوبَةٍ، ولا زالَ النّاسُ يَسْتَصْعِبُونَهُ مِن عَهْدِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمُ إلى الآنَ، ولَنا فِيهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى عَوْدَةٌ بَعْدَ عَوْدَةٍ، ونَسْألُ اللَّهَ تَعالى التَّوْفِيقَ، ﴿فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ﴾ الضَّمِيرُ لِلسَّماءِ، إنْ فُسِّرَتْ بِالأجْرامِ، وجازَ أنْ يَرْجِعَ إلَيْها بِناءً عَلى أنَّها جَمْعٌ، أوْ مُؤَوَّلَةٌ بِهِ، وإلّا فَمُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ عَلى حَدِّ نِعْمَ رَجُلًا، وفِيهِ مِنَ التَّفْخِيمِ والتَّشْوِيقِ والتَّمْكِينِ في النَّفْسِ ما لا يَخْفى، وفي نَصْبِ ﴿سَبْعَ﴾ خَمْسَةُ أوْجُهٍ: البَدَلُ مِنَ المُبْهَمِ أوِ العائِدِ إلى السَّماءِ أوْ مَفْعُولٌ بِهِ أيْ سَوّى مِنهُنَّ، أوْ حالٌ مُقَدَّرَةٌ أوْ تَمْيِيزٌ أوْ مَفْعُولٌ ثانٍ لِسَوّى بِناءً عَلى أنَّها بِمَعْنى صَيَّرَ، ولَمْ يَثْبُتْ، والبَدَلِيَّةُ أرْجَحُ لِعَدَمِ الِاشْتِقاقِ، وبَعْدَها الحالِيَّةُ كَما في البَحْرِ، وأُرِيدَ بِسَوّاهُنَّ، أتَمَّهُنَّ وقَوَّمَهُنَّ، وخَلَقَهُنَّ ابْتِداءً مَصُوناتٍ عَنِ العِوَجِ، والفُطُورِ، لا أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى سَوّاهُنَّ بَعْدُ، إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهو عَلى حَدِّ قَوْلِهِمْ: ضَيِّقْ فَمَ البِئْرِ ووَسِّعِ الدّارَ، وفي مُقارَنَةِ التَّسْوِيَةِ والِاسْتِواءِ حُسْنٌ لا يَخْفى، لا يُقالُ: إنَّ أرْبابَ الأرْصادِ أثْبَتُوا تِسْعَةَ أفْلاكٍ وهَلْ هي إلّا سَماواتٌ، لِأنّا نَقُولُ: هم شاكُّونَ إلى الآنَ في النُّقْصانِ والزِّيادَةِ، فَإنَّ ما وجَدُوهُ مِنَ الحَرَكاتِ يُمْكِنُ ضَبْطُها بِثَمانِيَةٍ وسَبْعَةٍ، بَلْ بِواحِدٍ، وبَعْضُهم أثْبَتُوا بَيْنَ فَلَكِ الثَّوابِتِ والأطْلَسِ كُرَةً لِضَبْطِ المَيْلِ الكُلِّيِّ، وقالَ بَعْضُ مُحَقِّقِيهِمْ: لَمْ يَتَبَيَّنْ لِي إلى الآنَ أنَّ كُرَةَ الثَّوابِتِ كُرَةٌ واحِدَةٌ أوْ كُراتٌ مُنْطَوِيَةٌ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، وأطالَ الإمامُ الرّازِيُّ الكَلامَ في ذَلِكَ وأجادَ، عَلى أنَّهُ إنْ صَحَّ ما شاعَ، فَلَيْسَ في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى نَفْيِ الزَّوائِدِ بِناءً عَلى ما اخْتارَهُ الإمامُ مِن أنَّ مَفْهُومَ العَدَدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وكَلامُ البَيْضاوِيِّ في تَفْسِيرِهِ يُشِيرُ إلَيْهِ خِلافًا لِما في مِنهاجِهِ المُوافِقِ لِما عَلَيْهِ الإمامُ الشّافِعِيُّ، ونَقَلَهُ عَنْهُ الغَزالِيُّ في المَنخُولِ، وذَكَرَ السّالِيكُوتِيُّ أنَّ الحَقَّ أنَّ تَخْصِيصَ العَدَدِ بِالذِّكْرِ لا يَدُلُّ عَلى نَفْيِ الزّائِدِ، والخِلافُ في ذَلِكَ مَشْهُورٌ، وإذا قُلْنا بِكَرَوِيَّةِ العَرْشِ، والكُرْسِيِّ لَمْ يَبْقَ كَلامٌ. ﴿وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِما قَبْلَهُ مِن خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ وما فِيها، عَلى هَذا النَّمَطِ العَجِيبِ، والأُسْلُوبِ الغَرِيبِ، ﴿ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ فارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرى مِن فُطُورٍ﴾ ﴿ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرَ خاسِئًا وهو حَسِيرٌ﴾ وفي عَلِيمٍ مِنَ المُبالَغَةِ ما لَيْسَ في عالِمٍ، ولَيْسَ ذَلِكَ راجِعًا إلى نَفْسِ الصِّفَةِ، لِأنَّ عِلْمَهُ تَعالى واحِدٌ لا تَكَثُّرَ فِيهِ، لَكِنْ لَمّا تَعَلَّقَ بِالكُلِّيِّ والجُزْئِيِّ والمَوْجُودِ والمَعْدُومِ والمُتَناهِي وغَيْرِ المُتَناهِي وصَفَ نَفْسَهُ سُبْحانَهُ بِما دَلَّ عَلى المُبالَغَةِ، والشَّيْءُ هُنا عامٌّ باقٍ عَلى عُمُومِهِ، لا تَخْصِيصَ فِيهِ بِوَجْهٍ خِلافًا لِمَن ضَلَّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ، والجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ(عَلِيمٍ)، وإنَّما تَعَدّى بِالباءِ مَعَ أنَّهُ مِن عَلِمَ، وهو مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ، والتَّقْوِيَةُ تَكُونُ بِاللّامِ لِأنَّ أمْثِلَةَ المُبالَغَةِ (p-218)كَما قالُوا: خالَفَتْ أفْعالها، لِأنَّها أشْبَهَتْ أفْعَلَ التَّفْضِيلِ لِما فِيها مِنَ الدِّلالَةِ عَلى الزِّيادَةِ، فَأُعْطِيَتْ حُكْمَهُ في التَّعْدِيَةِ، وهو أنَّهُ إنْ كانَ فِعْلُهُ مُتَعَدِّيًا، فَإنْ أفْهَمَ عِلْمًا أوْ جَهْلًا تَعَدّى بِالباءِ، كَأعْلِمْ بِهِ، وأجْهِلْ بِهِ، وعَلِيمٍ بِهِ، وجَهُولٍ بِهِ، وأعْلَمَ مَن يَضِلُّ عَلى التَّأْوِيلِ، وإلّا تَعَدّى بِاللّامِ: كَأضْرَبَ لِزَيْدٍ، و﴿فَعّالٌ لِما يُرِيدُ﴾، وإلّا تَعَدّى بِما يَتَعَدّى بِهِ فِعْلُهُ: كَأصْبَرَ عَلى النّارِ، وصَبُورٍ عَلى كَذا، ولَعَلَّ ذَلِكَ أغْلَبِيٌّ، إذْ يُقالُ: رَحِيمٌ بِهِ، فافْهَمْ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب