الباحث القرآني
﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ الأظْهَرُ أنَّهُ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى، لا مِن حِكايَةِ كَلامِ الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ اعْتِراضًا بَيْنَ الجُمَلِ المَحْكِيَّةِ بِالقَوْلِ، وفائِدَتُهُ إظْهارُ ثَمَرَةِ الإيمانِ، والتَّسْلِيمِ، والطّاعَةِ، فَأعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِأنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ في هَذا الدِّينِ التَّكْلِيفَ بِما فِيهِ مَشَقَّةٌ، وهو مَعَ ذَلِكَ تَبْشِيرٌ بِاسْتِجابَةِ دَعْوَتِهِمُ المُلَقَّنَةِ، أوِ الَّتِي أُلْهِمُوها: وهي ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ قَبْلَ أنْ يَحْكِيَ دَعَواتِهِمْ تِلْكَ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ، كَأنَّهُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِمْ ﴿سَمِعْنا وأطَعْنا﴾ [البقرة: ٢٨٥]، أيْ: عَلِمْنا تَأْوِيلَ قَوْلِ رَبِّنا ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ﴾ [البقرة: ٢٨٤] بِأنَّهُ يَدْخُلُها المُؤاخَذَةُ بِما في الوُسْعِ، مِمّا أُبْدِيَ وما أُخْفِيَ، وهو ما يَظْهَرُ لَهُ أثَرٌ في الخارِجِ اخْتِيارًا، أوْ يُعْقَدُ عَلَيْهِ القَلْبُ ويَطَمْئِنُّ بِهِ، إلّا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَها ما كَسَبَتْ﴾ إلخ، يُبْعِدُ هَذا، إذْ لا قِبَلَ لَهم بِإثْباتِ ذَلِكَ.
(p-١٣٥)فَعَلى أنَّهُ مِن كَلامِ اللَّهِ فَهو نَسْخٌ لِقَوْلِهِ ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ﴾ [البقرة: ٢٨٤] وهَذا مَرْوِيٌّ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ وابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٤] اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلى أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ فَأتَوْهُ وقالُوا لا نُطِيقُها، فَقالَ النَّبِيءُ: قُولُوا: سَمِعْنا وأطَعْنا وسَلَّمْنا، فَألْقى اللَّهُ الإيمانَ في قُلُوبِهِمْ، فَلَمّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَها اللَّهُ تَعالى فَأنْزَلَ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها»﴾ وإطْلاقُ النَّسْخِ عَلى هَذا اصْطِلاحٌ لِلْمُتَقَدِّمِينَ، والمُرادُ البَيانُ والتَّخْصِيصُ؛ لِأنَّ الَّذِي تَطْمَئِنُّ لَهُ النَّفْسُ: أنَّ هَذِهِ الآياتِ مُتَتابِعَةُ النَّظْمِ، ومَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ نَزَلَتْ مُنَجَّمَةً، فَحَدَثَ بَيْنَ فَتْرَةِ نُزُولِها ما ظَنَّهُ بَعْضُ المُسْلِمِينَ حَرَجًا.
و”الوُسْعُ“ في القُرْآنِ بِضَمِّ الواوِ، وهو في كَلامِ العَرَبِ مُثَلَّثُ الواوِ، وهو الطّاقَةُ والِاسْتِطاعَةُ، والمُرادُ بِهِ هُنا ما يُطاقُ ويُسْتَطاعُ، فَهو مِن إطْلاقِ المَصْدَرِ وإرادَةِ المَفْعُولِ، والمُسْتَطاعُ هو ما اعْتادَ النّاسُ قُدْرَتُهم عَلى أنْ يَفْعَلُوهُ إنْ تَوَجَّهَتْ إرادَتُهم لِفِعْلِهِ مَعَ السَّلامَةِ وانْتِفاءِ المَوانِعِ.
وهَذا دَلِيلٌ عَلى عَدَمِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِما فَوْقَ الطّاقَةِ في أدْيانِ اللَّهِ تَعالى لِعُمُومِ (نَفْسًا) في سِياقِ النَّفْيِ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى ما شَرَعَ التَّكْلِيفَ إلّا لِلْعَمَلِ واسْتِقامَةِ أحْوالِ الخَلْقِ، فَلا يُكَلِّفُهم ما لا يُطِيقُونَ فِعْلَهُ، وما ورَدَ مِن ذَلِكَ فَهو في سِياقِ العُقُوباتِ، وهَذا حُكْمٌ عامٌّ في الشَّرائِعِ كُلِّها.
وامْتازَتْ شَرِيعَةُ الإسْلامِ بِاليُسْرِ والرِّفْقِ، بِشَهادَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨] وقَوْلِهِ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] ولِذَلِكَ كانَ مِن قَواعِدِ الفِقْهِ العامَّةِ: المَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ، وكانَتِ المَشَقَّةُ مَظِنَّةَ الرُّخْصَةِ، وضَبْطُ المَشاقِّ المُسْقِطَةِ لِلْعِبادَةِ مَذْكُورٌ في الأُصُولِ، وقَدْ أشْبَعْتُ القَوْلَ فِيهِ في كِتابِي المُسَمّى (مَقاصِدُ الشَّرِيعَةِ) وما ورَدَ مِنَ التَّكالِيفِ الشّاقَّةِ فَأمْرٌ نادِرٌ، في أوْقاتِ الضَّرُورَةِ، كَتَكْلِيفِ الواحِدِ مِنَ المُسْلِمِينَ بِالثَّباتِ لِلْعَشْرَةِ مِنَ المُشْرِكِينَ في أوَّلِ الإسْلامِ وقِلَّةِ المُسْلِمِينَ.
وهَذِهِ المَسْألَةُ هي المُعَنْوَنَةُ في كُتُبِ الأصْلَيْنِ بِمَسْألَةِ التَّكْلِيفِ بِالمُحالِ، والتَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ، وهي مَسْألَةٌ أرَنَّتْ بِها كُتُبُ الأشاعِرَةِ والمُعْتَزِلَةِ، واخْتَلَفُوا فِيها اخْتِلافًا (p-١٣٦)شَهِيرًا دَعا إلَيْهِ التِزامُ الفَرِيقَيْنِ لِلَوازِمِ أُصُولِهِمْ وقَواعِدِهِمْ، فَقالَتِ الأشاعِرَةُ: يَجُوزُ عَلى اللَّهِ تَكْلِيفُ ما لا يُطاقُ بِناءً عَلى قاعِدَتِهِمْ في نَفْيِ وُجُوبِ الصَّلاحِ عَلى اللَّهِ، وأنَّ ما يَصْدُرُ مِنهُ تَعالى كُلُّهُ عَدْلٌ لِأنَّهُ مالِكُ العِبادِ، وقاعِدَتُهم في أنَّهُ تَعالى يَخْلُقُ ما يَشاءُ وعَلى قاعِدَتِهِمْ في أنَّ ثَمَرَةَ التَّكْلِيفِ لا تَخْتَصُّ بِقَصْدِ الِامْتِثالِ بَلْ قَدْ تَكُونُ لِقَصْدِ التَّعْجِيزِ والِابْتِلاءِ وجَعْلِ الِامْتِثالِ عَلامَةً عَلى السَّعادَةِ، وانْتِفائِهِ عَلامَةً عَلى الشَّقاوَةِ وتَرَتُّبِ الإثْمِ لِأنَّ لِلَّهِ تَعالى إثابَةَ العاصِي، وتَعْذِيبَ المُطِيعِ، فَبِالأوْلى تَعْذِيبُ مَن يَأْمُرُهُ بِفِعْلٍ مُسْتَحِيلٍ أوْ مُتَعَذَّرٍ، واسْتَدَلُّوا عَلى ذَلِكَ بِحَدِيثِ تَكْلِيفِ المُصَوِّرِ بِنَفْخِ الرُّوحِ في الصُّورَةِ وما هو بِنافِخٍ، وتَكْلِيفِ الكاذِبِ في الرُّؤْيا بِالعَقْدِ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وما هو بِفاعِلٍ، ولا دَلِيلَ فِيهِ لِأنَّ هَذا في أُمُورِ الآخِرَةِ، ولِأنَّهُما خَبَرا آحادٍ لا تَثْبُتُ بِمِثْلِها أُصُولُ الدِّينِ. وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِما لا يُطاقُ بِناءً عَلى قاعِدَتِهِمْ في أنَّهُ يَجِبُ لِلَّهِ فِعْلُ الصَّلاحِ ونَفْيُ الظُّلْمِ عَنْهُ، وقاعِدَتِهِمْ في أنَّهُ تَعالى لا يَخْلُقُ المُنْكَراتِ مِنَ الأفْعالِ، وقاعِدَتِهِمْ في أنَّ ثَمَرَةَ التَّكْلِيفِ هو الِامْتِثالُ، وإلّا لَصارَ عَبَثًا وهو مُسْتَحِيلٌ عَلى اللَّهِ، وأنَّ اللَّهَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَعْذِيبُ المُطِيعِ وإثابَةُ العاصِي.
واسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ وبِالآياتِ الدّالَّةِ عَلى أُصُولِها، مِثْلِ ﴿ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أحَدًا﴾ [الكهف: ٤٩] ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] ﴿قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ﴾ [الأعراف: ٢٨] إلخ.
والتَّحْقِيقُ أنَّ الَّذِي جَرَّ إلى الخَوْضِ في المَسْألَةِ هو المُناظَرَةُ في خَلْقِ أفْعالِ العِبادِ، فَإنَّ الأشْعَرِيَّ لَمّا نَفى قُدْرَةَ العَبْدِ، وقالَ بِالكَسْبِ، وفَسَّرَهُ بِمُقارَنَةِ قُدْرَةِ العَبْدِ لِحُصُولِ المَقْدُورِ دُونَ أنْ تَكُونَ قُدْرَتُهُ مُؤَثِّرَةً فِيهِ، ألْزَمَهُمُ المُعْتَزِلَةُ القَوْلَ بِأنَّ اللَّهَ كَلَّفَ العِبادَ بِما لَيْسَ في مَقْدُورِهِمْ، وذَلِكَ تَكْلِيفٌ بِما لا يُطاقُ، فالتَزَمَ الأشْعَرِيُّ ذَلِكَ، وخالَفَ إمامُ الحَرَمَيْنِ والغَزالِيُّ والأشْعَرِيُّ في جَوازِ تَكْلِيفِ ما لا يُطاقُ، والآيَةُ لا تَنْهَضُ حُجَّةً عَلى كَلامِ الفَرِيقَيْنِ في حُكْمِ إمْكانِ ذَلِكَ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ المُجَوِّزُونَ: هَلْ هو واقِعٌ، وقَدْ حَكى القُرْطُبِيُّ الإجْماعَ عَلى عَدَمِ الوُقُوعِ وهو الصَّوابُ في الحِكايَةِ، وقالَ إمامُ الحَرَمَيْنِ في البُرْهانِ: والتَّكالِيفُ كُلُّها عِنْدَ الأشْعَرِيِّ مِنَ التَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ؛ لِأنَّ المَأْمُوراتِ كُلَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِأفْعالٍ هي عِنْدَ الأشْعَرِيِّ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ لِلْمُكَلَّفِ، فَهو مَأْمُورٌ بِالصَّلاةِ وهو لا يَقْدِرُ عَلَيْها، وإنَّما (p-١٣٧)يُقْدِرُهُ اللَّهُ تَعالى عِنْدَ إرادَةِ الفِعْلِ مَعَ سَلامَةِ الأسْبابِ والآلاتِ.
وما ألْزَمَهُ إمامُ الحَرَمَيْنِ الأشْعَرِيَّ إلْزامٌ باطِلٌ؛ لِأنَّ المُرادَ بِما لا يُطاقُ ما لا تَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَةُ العَبْدِ الظّاهِرَةُ، المُعَبَّرُ عَنْها بِالكَسْبِ، لِلْفَرْقِ البَيِّنِ بَيْنَ الأحْوالِ الظّاهِرَةِ، وبَيْنَ الحَقائِقِ المَسْتُورَةِ في نَفْسِ الأمْرِ، وكَذَلِكَ لا مَعْنًى لِإدْخالِ ما عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ وُقُوعِهِ، كَأمْرِ أبِي جَهْلٍ بِالإيمانِ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِأنَّهُ لا يُؤْمِنُ، في مَسْألَةِ التَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ، أوْ بِالمُحالِ، لِأنَّ عِلْمَ اللَّهِ ذَلِكَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أحَدٌ، وأُورِدَ عَلَيْهِ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ دَعا أبا لَهَبٍ إلى الإسْلامِ وقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أنَّهُ لا يُسْلِمُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ وتَبَّ﴾ [المسد: ١] إلى قَوْلِهِ: ﴿سَيَصْلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ﴾ [المسد: ٣] فَقَدْ يُقالُ: إنَّهُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ لَمْ يُخاطَبْ بِطَلَبِ الإيمانِ وإنَّما خُوطِبَ قَبْلَ ذَلِكَ وبِذَلِكَ نَسْلَمُ مِن أنْ نَقُولَ: إنَّهُ خارِجٌ عَنِ الدَّعْوَةِ ومِن أنْ نَقُولَ: إنَّهُ مُخاطَبٌ بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ.
وهَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ في الشَّرِيعَةِ، بِحَسَبِ المُتَعارَفِ في إرادَةِ البَشَرِ وقُدَرِهِمْ، دُونَ ما هو بِحَسَبِ سِرِّ القَدَرِ والبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ القُدْرَةِ الحادِثَةِ، نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنها الرَّدُّ عَلى الجَبْرِيَّةِ.
وقَوْلُهُ: ﴿لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ حالٌ مِن ”نَفْسًا“ لِبَيانِ كَيْفِيَّةِ الوُسْعِ الَّذِي كُلِّفَتْ بِهِ النَّفْسُ: وهو أنَّهُ إنْ جاءَتْ بِخَيْرٍ كانَ نَفْعُهُ لَها وإنْ جاءَتْ بِشَرٍّ كانَ ضَرُّهُ عَلَيْها، وهَذا التَّقْسِيمُ حاصِلٌ مِنَ التَّعْلِيقِ بِواسِطَةِ (اللّامِ) مَرَّةً وبِواسِطَةٍ (عَلى) أُخْرى، وأمّا (كَسَبَتْ واكْتَسَبَتْ) فَبِمَعْنًى واحِدٍ في كَلامِ العَرَبِ، لِأنَّ المُطاوَعَةَ في (اكْتَسَبَ) لَيْسَتْ عَلى بابِها، وإنَّما عَبَّرَ هُنا مَرَّةً بِـ (كَسَبَ) وأُخْرى بِـ (اكْتَسَبَ) تَفَنُّنًا وكَراهِيَةَ إعادَةِ الكَلِمَةِ بِعَيْنِها، كَما فَعَلَ ذُو الرُّمَّةِ في قَوْلِهِ:
؎ومُطْعَمِ الصَّيْدِ هَبّالٍ لِبُغْيَتِهِ ألْفى أباهُ بِذاكَ الكَسْبِ مُكْتَسِبا
وقَوْلُ النّابِغَةِ:
؎فَحَمَلْتُ بَرَّةَ واحْتَمَلْتَ فَجارِ
وابْتُدِئَ أوَّلًا بِالمَشْهُورِ الكَثِيرِ، ثُمَّ أُعِيدَ بِمُطاوِعِهِ، وقَدْ تَكُونُ في اخْتِيارِ الفِعْلِ الَّذِي أصْلُهُ دالٌّ عَلى المُطاوَعَةِ، إشارَةٌ إلى أنَّ الشُّرُورَ يَأْمُرُ بِها الشَّيْطانُ، فَتَأْتَمِرُ (p-١٣٨)النَّفْسُ وتُطاوِعُهُ وذَلِكَ تَبْغِيضٌ مِنَ اللَّهِ لِلنّاسِ في الذُّنُوبِ، واخْتِيرَ الفِعْلُ الدّالُّ عَلى اخْتِيارِ النَّفْسِ لِلْحَسَناتِ، إشارَةً إلى أنَّ اللَّهَ يَسُوقُ إلَيْها النّاسَ بِالفِطْرَةِ، ووَقَعَ في الكَشّافِ أنَّ فِعْلَ المُطاوَعَةِ لِدَلالَتِهِ عَلى الِاعْتِمالِ، وكانَ الشَّرُّ مُشْتَهًى لِلنَّفْسِ، فَهي تَجِدُّ في تَحْصِيلِهِ، فَعَبَّرَ عَنْ فِعْلِها ذَلِكَ بِالِاكْتِسابِ.
والمُرادُ بِـ (ما اكْتَسَبَتْ) الشُّرُورُ، فَمِن أجْلِ ذَلِكَ ظَنَّ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أنَّ الكَسْبَ هو اجْتِناءُ الخَيْرِ، والِاكْتِسابُ هو اجْتِناءُ الشَّرِّ، وهو خِلافُ التَّحْقِيقِ؛ فَفي القُرْآنِ ﴿ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلّا عَلَيْها﴾ [الأنعام: ١٦٤] - ﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إلّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ [يونس: ٥٢] - وقَدْ قِيلَ: إنَّ (اكْتَسَبَ) إذا اجْتَمَعَ مَعَ (كَسَبَ) خُصَّ بِالعَمَلِ الَّذِي فِيهِ تَكَلُّفٌ، لَكِنْ لَمْ يَرِدِ التَّعْبِيرُ بِـ (اكْتَسَبَ) في جانِبِ فِعْلِ الخَيْرِ.
وفِي هَذِهِ الآيَةِ مَأْخَذٌ حَسَنٌ لِأبِي الحَسَنِ الأشْعَرِيِّ في تَسْمِيَتِهِ اسْتِطاعَةَ العَبْدِ كَسْبًا واكْتِسابًا؛ فَإنَّ اللَّهَ وصَفَ نَفْسَهُ بِالقُدْرَةِ ولَمْ يَصِفِ العِبادَ بِالقُدْرَةِ، ولا أسْنَدَ إلَيْهِمْ فِعْلَ ”قَدَرَ“ وإنَّما أسْنَدَ إلَيْهِمُ الكَسْبَ، وهو قَوْلٌ يَجْمَعُ بَيْنَ المُتَعارِضاتِ ويَفِي بِتَحْقِيقِ إضافَةِ الأفْعالِ إلى العِبادِ، مَعَ الأدَبِ في عَدَمِ إثْباتِ صِفَةِ القُدْرَةِ لِلْعِبادِ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ أوَّلَ مَنِ اسْتَعْمَلَ كَلِمَةَ الكَسْبِ هو الحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّجّارُ، رَأْسُ الفِرْقَةِ النَّجّارِيَّةِ، مِنَ الجَبْرِيَّةِ، وكانَ مُعاصِرًا لِلنَّظّامِ في القَرْنِ الثّالِثِ، ولَكِنِ اشْتُهِرَ بِها أبُو الحَسَنِ الأشْعَرِيُّ حَتّى قالَ الطَّلَبَةُ في وصْفِ الأمْرِ الخَفِيِّ: أدَقُّ مِن كَسْبِ الأشْعَرِيِّ.
وتَعْرِيفُ الكَسْبِ عِنْدَ الأشْعَرِيِّ: هو حالَةُ العَبْدِ يُقارِنُها خَلْقُ اللَّهِ فِعْلًا مُتَعَلِّقًا بِها، وعَرَّفَهُ الإمامُ الرّازِيُّ بِأنَّهُ صِفَةٌ تَحْصُلُ بِقُدْرَةِ العَبْدِ لِفِعْلِهِ الحاصِلِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ ولِلْكَسْبِ تَعارِيفُ أُخَرُ.
وحاصِلُ مَعْنى الكَسْبِ وما دَعا إلى إثْباتِهِ هو أنَّهُ لَمّا تَقَرَّرَ أنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى جَمِيعِ الكائِناتِ الخارِجَةِ عَنِ اخْتِيارِ العَبْدِ، وجَبَ أنْ يُقَرِّرَ عُمُومَ قُدْرَتِهِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ لِئَلّا تَكُونَ قُدْرَةُ اللَّهِ غَيْرَ مُتَسَلِّطَةٍ عَلى بَعْضِ الكائِناتِ، إعْمالًا لِلْأدِلَّةِ الدّالَّةِ عَلى أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأنَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، ولَيْسَ لِعُمُومِ هَذِهِ الأدِلَّةِ دَلِيلٌ يُخَصِّصُهُ، فَوَجَبَ إعْمالُ هَذا العُمُومِ، ثُمَّ إنَّهُ لَمّا لَمْ يَجُزْ أنْ يُدَّعى كَوْنُ العَبْدِ مَجْبُورًا عَلى أفْعالِهِ لِلْفَرْقِ الضَّرُورِيِّ بَيْنَ الأفْعالِ الِاضْطِرارِيَّةِ كَحَرَكَةِ المُرْتَعِشِ، والأفْعالِ الِاخْتِيارِيَّةِ، (p-١٣٩)كَحَرَكَةِ الماشِي والقاتِلِ، ورَعْيًا لِحَقِيقَةِ التَّكالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْعِبادِ لِئَلّا يَكُونَ التَّكْلِيفُ عَبَثًا ولِحَقِّيَّةِ الوَعْدِ والوَعِيدِ لِئَلّا يَكُونا باطِلًا، تَعَيَّنَ أنْ تَكُونَ لِلْعَبْدِ حالَةٌ تُمَكِّنُهِ مِن فِعْلِ ما يُرِيدُ فِعْلَهُ، وتَرْكِ ما يُرِيدُ تَرْكَهُ، وهي مَيْلُهُ إلى الفِعْلِ أوِ التَّرْكِ، فَهَذِهِ الحالَةُ سَمّاها الأشْعَرِيُّ الِاسْتِطاعَةَ، وسَمّاها كَسْبًا، وقالَ: إنَّها تَتَعَلَّقُ بِالفِعْلِ فَإذا تَعَلَّقَتْ بِهِ خَلَقَ اللَّهُ الفِعْلَ الَّذِي مالَ إلَيْهِ عَلى الصُّورَةِ الَّتِي اسْتَحْضَرَها ومالَ إلَيْها.
وتَقْدِيمُ المَجْرُورَيْنِ في الآيَةِ: لِقَصْدِ الِاخْتِصاصِ. أيْ لا يَلْحَقُ غَيْرَها شَيْءٌ ولا يَلْحَقُها شَيْءٌ مِن فِعْلِ غَيْرِها، وكَأنَّ هَذا إبْطالٌ لِما كانُوا عَلَيْهِ في الجاهِلِيَّةِ: مِنِ اعْتِقادِ شَفاعَةِ الآلِهَةِ لَهم عِنْدَ اللَّهِ.
وتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الآيَةِ مَن رَأى أنَّ الأعْمالَ لا تَقْبَلُ النِّيابَةَ في الثَّوابِ والعِقابِ، إلّا إذا كانَ لِلْفاعِلِ أثَرٌ في عَمَلِ غَيْرِهِ، فَفي الحَدِيثِ «إذا ماتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلّا مِن ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، وعِلْمٍ بَثَّهُ في صُدُورِ الرِّجالِ، ووَلَدٍ صالِحٍ يَدْعُو لَهُ»، وفي الحَدِيثِ «ما مِن نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إلّا كانَ عَلى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِن دَمِها، ذَلِكَ لِأنَّهُ أوَّلُ مَن سَنَّ القَتْلَ» وفي الحَدِيثِ «مَن سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أجْرُها وأجْرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ، ومَن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ» .
* * *
﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ واعْفُ عَنّا واغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ .
يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا الدُّعاءُ مَحْكِيًّا مِن قَوْلِ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قالُوا: ﴿سَمِعْنا وأطَعْنا﴾ [البقرة: ٢٨٥] بِأنِ اتَّبَعُوا القَبُولَ والرِّضا، فَتَوَجَّهُوا إلى طَلَبِ الجَزاءِ ومُناجاةِ اللَّهِ تَعالى، واخْتِيارُ حِكايَةِ هَذا عَنْهم في آخِرِ السُّورَةِ تَكْمِلَةٌ لِلْإيذانِ بِانْتِهائِها، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَلْقِينًا مِن جانِبِ اللَّهِ تَعالى إيّاهم بِأنْ يَقُولُوا هَذا الدُّعاءَ، مِثْلَ ما لُقِّنُوا التَّحْمِيدَ في سُورَةِ الفاتِحَةِ، فَيَكُونُ (p-١٤٠)التَّقْدِيرُ: قُولُوا: ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا﴾ إلى آخِرِ السُّورَةِ، إنَّ اللَّهَ بَعْدَ أنْ قَرَّرَ لَهم أنَّهُ لا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها، لَقَّنَهم مُناجاةً بِدَعَواتٍ هي مِن آثارِ انْتِفاءِ التَّكْلِيفِ بِما لَيْسَ في الوُسْعِ، والمُرادُ مِنَ الدُّعاءِ بِهِ طَلَبُ الدَّوامِ عَلى ذَلِكَ لِئَلّا يُنْسَخَ ذَلِكَ مِن جَرّاءِ غَضَبِ اللَّهِ كَما غَضِبَ عَلى الَّذِينَ قالَ فِيهِمْ: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠] .
والمُؤاخَذَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الأخْذِ بِمَعْنى العُقُوبَةِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وكَذَلِكَ أخْذُ رَبِّكَ إذا أخَذَ القُرى وهي ظالِمَةٌ﴾ [هود: ١٠٢] والمُفاعَلَةُ فِيهِ لِلْمُبالَغَةِ أيْ: لا تَأْخُذْنا بِالنِّسْيانِ والخَطَأِ.
والمُرادُ ما يَتَرَتَّبُ عَلى النِّسْيانِ والخَطَأِ مِن فِعْلٍ أوْ تَرْكٍ لا يُرْضِيانِ اللَّهَ تَعالى.
فَهَذِهِ دَعْوَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ دَعَوْها قَبْلَ أنْ يَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ رَفَعَ عَنْهم ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ وقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيانُ وما اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وفي رِوايَةٍ ”وُضِعَ“، رَواهُ ابْنُ ماجَهْ وتَكَلَّمَ العُلَماءُ في صِحَّتِهِ، وقَدْ حَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ، وأنْكَرَهُ أحْمَدُ، ومَعْناهُ صَحِيحٌ في غَيْرِ ما يَرْجِعُ إلى خِطابِ الوَضْعِ، فالمَعْنى رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ المُؤاخَذَةَ فَبَقِيَتِ المُؤاخَذَةُ بِالإتْلافِ والغَراماتِ، ولِذَلِكَ جاءَ في هَذِهِ الدَّعْوَةِ ﴿لا تُؤاخِذْنا﴾ أيْ: لا تُؤاخِذْنا بِالعِقابِ عَلى فِعْلٍ: نِسْيانٍ أوْ خَطَأٍ، فَلا يَرِدُ إشْكالُ الدُّعاءِ بِما عُلِمَ حُصُولُهُ، حَتّى نَحْتاجَ إلى تَأْوِيلِ الآيَةِ بِأنَّ المُرادَ بِالنِّسْيانِ والخَطَأِ سَبَبُهُما وهو التَّفْرِيطُ والإغْفالُ كَما في الكَشّافِ.
وقَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا﴾ إلخ، فَصْلٌ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ المُتَعاطِفَتَيْنِ بِإعادَةِ النِّداءِ، مَعَ أنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لِأنَّ مُخاطَبَةَ المُنادى مُغْنِيَةٌ عَنْ إعادَةِ النِّداءِ لَكِنْ قُصِدَ مِن إعادَتِهِ إظْهارُ التَّذَلُّلِ، والحَمْلُ مَجازٌ في التَّكْلِيفِ بِأمْرٍ شَدِيدٍ يَثْقُلُ عَلى النَّفْسِ، وهو مُناسِبٌ لِاسْتِعارَةِ الإصْرِ.
وأصْلُ مَعْنى الإصْرِ ما يُؤْصَرُ بِهِ أيْ يُرْبَطُ، وتُعْقَدُ بِهِ الأشْياءُ، ويُقالُ لَهُ: الإصارُ - بِكَسْرِ الهَمْزَةِ - ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجازًا في العَهْدِ والمِيثاقِ المُؤَكَّدِ فِيما يَصْعُبُ الوَفاءُ بِهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ في آلِ عِمْرانَ: (﴿قالَ آقْرَرْتُمْ وأخَذْتُمْ عَلى ذَلِكم إصْرِي﴾ [آل عمران: ٨١]) وأُطْلِقَ أيْضًا عَلى ما يَثْقُلُ عَمَلُهُ، والِامْتِثالُ فِيهِ، وبَذَلِكَ فَسَّرَهُ الزَّجّاجُ والزَّمَخْشَرِيُّ هُنا وفي قَوْلِهِ، في (p-١٤١)سُورَةِ الأعْرافِ: ﴿ويَضَعُ عَنْهم إصْرَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٥٧] وهو المَقْصُودُ هُنا، ومِن ثَمَّ حَسُنَتِ اسْتِعارَةُ الحَمْلِ لِلتَّكْلِيفِ؛ لِأنَّ الحَمْلَ يُناسِبُ الثِّقَلَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿ولا تَحْمِلْ﴾ تَرْشِيحًا مُسْتَعارًا لِمُلائِمِ المُشَبَّهِ بِهِ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا﴾ عَهْدًا لا نَفِي بِهِ، ونُعَذَّبُ بِتَرْكِهِ ونَقْضِهِ.
وقَوْلُهُ: ﴿كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا﴾ صِفَةٌ لِـ ”إصْرًا“ أيْ: عَهْدًا مِنَ الدِّينِ كالعَهْدِ الَّذِي كُلِّفَ بِهِ مَن قَبْلَنا في المَشَقَّةِ، مِثْلَ ما كُلِّفَ بِهِ بَعْضُ الأُمَمِ الماضِيَةِ مِنَ الأحْكامِ الشّاقَّةِ مِثْلِ أمْرِ بَنِي إسْرائِيلَ بِتِيهِ أرْبَعِينَ سَنَةً، وبِصِفاتٍ في البَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِها نادِرَةٍ ونَحْوِ ذَلِكَ، وكُلُّ ذَلِكَ تَأْدِيبٌ لَهم عَلى مُخالَفاتٍ، وعَلى قِلَّةِ اهْتِبالٍ بِأوامِرِ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلَيْهِمْ، قالَ تَعالى في صِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ﴿ويَضَعُ عَنْهم إصْرَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٥٧] .
وقَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ أيْ: ما لا نَسْتَطِيعُ حَمْلَهُ مِنَ العُقُوباتِ، والتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ، وقِيلَ: هَذا دُعاءٌ بِمُعافاتِهِمْ مِنَ التَّكالِيفِ الشَّدِيدَةِ، والَّذِي قَبْلَهُ دُعاءٌ بِمُعافاتِهِمْ مِنَ العُقُوباتِ الَّتِي عُوقِبَتْ بِها الأُمَمُ، والطّاقَةُ في الأصْلِ الإطاقَةُ خُفِّفَتْ بِحَذْفِ الهَمْزَةِ كَما قالُوا: جابَةٌ وإجابَةٌ، وطاعَةٌ وإطاعَةٌ.
والقَوْلُ في هَذَيْنِ الدُّعاءَيْنِ كالقَوْلِ في قَوْلِهِ ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا﴾ .
وقَوْلُهُ: ﴿واعْفُ عَنّا واغْفِرْ لَنا﴾ لَمْ يُؤْتِ مَعَ هَذِهِ الدَّعَواتِ بِقَوْلِهِ ”رَبَّنا“، إمّا لِأنَّهُ تَكَرَّرَ ثَلاثَ مَرّاتٍ، والعَرَبُ تَكْرَهُ تَكْرِيرَ اللَّفْظِ أكْثَرَ مِن ثَلاثِ مَرّاتٍ إلّا في مَقامِ التَّهْوِيلِ، وإمّا لِأنَّ تِلْكَ الدَّعَواتِ المُقْتَرِنَةَ بِقَوْلِهِ ”رَبَّنا“ فُرُوعٌ لِهَذِهِ الدَّعَواتِ الثَّلاثِ، فَإنِ اسْتُجِيبَتْ تِلْكَ حَصَلَتْ إجابَةُ هَذِهِ بِالأوْلى، فَإنَّ العَفْوَ أصْلٌ لِعَدَمِ المُؤاخَذَةِ، والمَغْفِرَةَ أصْلٌ لِرَفْعِ المَشَقَّةِ، والرَّحْمَةَ أصْلٌ لِعَدَمِ العُقُوبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ والأُخْرَوِيَّةِ، فَلَمّا كانَ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ كانَ كَأنَّهُ دُعاءٌ واحِدٌ.
وقَوْلُهُ: ﴿أنْتَ مَوْلانا﴾ فَصَلَهُ لِأنَّهُ كالعِلَّةِ لِلدَّعَواتِ الماضِيَةِ، أيْ: دَعَوْناكَ ورَجَوْنا مِنكَ ذَلِكَ لِأنَّكَ مَوْلانا، ومِن شَأْنِ المَوْلى الرِّفْقُ بِالمَمْلُوكِ، ولِيَكُونَ هَذا أيْضًا كالمُقَدَّمَةِ لِلدَّعْوَةِ الآتِيَةِ.
(p-١٤٢)وقَوْلُهُ: ﴿فانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ جِيءَ فِيهِ بِالفاءِ لِلتَّفْرِيعِ عَنْ كَوْنِهِ مَوْلًى، لِأنَّ شَأْنَ المَوْلى أنْ يَنْصُرَ مَوْلاهُ، ومِن هُنا يَظْهَرُ مَوْقِعُ التَّعْجِيبِ والتَّحْسِيرِ في قَوْلِ مُرَّةَ بْنِ عَدّاءٍ الفَقْعَسِيِّ:
؎رَأيْتُ مَوالِي الأُلى يَخْذُلُونَنِي عَلى حَدَثانِ الدَّهْرِ إذْ يَتَقَلَّبُ
وفِي التَّفْرِيعِ بِالفاءِ إيذانٌ بِتَأْكِيدِ طَلَبِ إجابَةِ الدُّعاءِ بِالنَّصْرِ، لِأنَّهم جَعَلُوهُ مُرَتَّبًا عَلى وصْفٍ مُحَقَّقٍ، وهو وِلايَةُ اللَّهِ تَعالى المُؤْمِنِينَ، قالَ تَعالى: ﴿اللَّهُ ولِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٢٥٧] وفي حَدِيثِ «يَوْمِ أُحُدٍ لَمّا قالَ أبُو سُفْيانَ: لَنا العُزّى ولا عُزّى لَكم. قالَ النَّبِيءُ ﷺ أجِيبُوهُ: اللَّهُ مَوْلانا ولا مَوْلى لَكم» ووَجْهُ الِاهْتِمامِ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ أنَّها دَعْوَةٌ جامِعَةٌ لِخَيْرَيِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، لِأنَّهم إذا نُصِرُوا عَلى العَدُوِّ، فَقَدْ طابَ عَيْشُهم وظَهَرَ دِينُهم، وسَلِمُوا مِنَ الفِتْنَةِ، ودَخَلَ النّاسُ فِيهِ أفْواجًا.
فِي الصَّحِيحِ، عَنْ أبِي مَسْعُودٍ الأنْصارِيِّ البَدْرِيِّ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «مَن قَرَأ الآيَتَيْنِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيْلَةٍ كَفَتاهُ» وهُما مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥] إلى آخِرِ السُّورَةِ، قِيلَ: مَعْناهُ كَفَتاهُ عَنْ قِيامِ اللَّيْلِ، فَيَكُونُ مَعْنى مَن قَرَأ مَن صَلّى بِهِما، وقِيلَ: مَعْناهُ كَفَتاهُ بَرَكَةً وتَعَوُّذًا مِنَ الشَّياطِينِ والمَضارِّ، ولَعَلَّ كَلا الِاحْتِمالَيْنِ مُرادٌ.
* * *
(p-١٤٣)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ آلِ عِمْرانَ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، في كَلامِ النَّبِيءِ ﷺ وكَلامِ الصَّحابَةِ: سُورَةَ آلِ عِمْرانَ، فَفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أبِي أُمامَةَ: قالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ «اقْرَءُوا الزَّهْراوَيْنِ: البَقَرَةَ وآلَ عِمْرانَ» وفِيهِ عَنِ النَّوّاسِ بْنِ سَمْعانَ: قالَ سَمِعْتُ النَّبِيءَ يَقُولُ «يُؤْتى بِالقُرْآنِ يَوْمَ القِيامَةِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ البَقَرَةِ وآلِ عِمْرانَ» ورَوى الدّارِمِيُّ في مُسْنَدِهِ: أنْ عُثْمانَ بْنَ عَفّانَ قالَ: مَن قَرَأ سُورَةَ آلِ عِمْرانَ في لَيْلَةٍ كُتِبَ لَهُ قِيامُ لَيْلَةٍ، وسَمّاها ابْنُ عَبّاسٍ، في حَدِيثِهِ في الصَّحِيحِ، قالَ: «بِتُّ في بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ فَنامَ رَسُولُ اللَّهِ حَتّى إذا كانَ نِصْفُ اللَّيْلِ أوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَرَأ الآياتِ مِن آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ» . ووَجْهُ تَسْمِيَتِها بِسُورَةِ آلِ عِمْرانَ أنَّها ذُكِرَتْ فِيها فَضائِلُ آلِ عِمْرانَ، وهو عِمْرانُ بْنُ ماتانَ أبُو مَرْيَمَ وآلُهُ هم زَوْجُهُ حَنَّةُ، وأُخْتُها زَوْجَةُ زَكَرِيّاءَ النَّبِيءِ، وزَكَرِيّاءُ كافِلُ مَرْيَمَ إذْ كانَ أبُوها عِمْرانُ تُوُفِّيَ وتَرَكَها حَمْلًا فَكَفَلَها زَوْجُ خالَتِها.
ووَصَفَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالزَّهْراءِ في حَدِيثِ أبِي أُمامَةَ المُتَقَدِّمِ.
وذَكَرَ الألُوسِيُّ أنَّها تُسَمّى الأمانَ، والكَنْزَ والمُجادِلَةَ، وسُورَةَ الِاسْتِغْفارِ. ولَمْ أرَهُ لِغَيْرِهِ، ولَعَلَّهُ اقْتَبَسَ ذَلِكَ مِن أوْصافٍ وُصِفَتْ بِها هَذِهِ السُّورَةُ مِمّا ساقَهُ القُرْطُبِيُّ، في المَسْألَةِ الثّالِثَةِ والرّابِعَةِ، مِن تَفْسِيرِ أوَّلِ السُّورَةِ.
وهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ بِالِاتِّفاقِ، بَعْدَ سُورَةِ البَقَرَةِ، فَقِيلَ أنَّها ثانِيَةٌ لِسُورَةِ البَقَرَةِ عَلى أنَّ البَقَرَةَ أوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ، وقِيلَ: نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ سُورَةُ المُطَفِّفِينَ أوَّلًا، ثُمَّ البَقَرَةُ، ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ آلِ عِمْرانَ، ثُمَّ نَزَلَتِ الأنْفالُ في وقْعَةِ بَدْرٍ، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ سُورَةَ آلِ عِمْرانَ نَزَلَتْ قَبْلَ وقْعَةِ بَدْرٍ، لِلِاتِّفاقِ عَلى أنَّ الأنْفالَ نَزَلَتْ في (p-١٤٤)وقْعَةِ بَدْرٍ، ويُبْعِدُ ذَلِكَ أنَّ سُورَةَ آلِ عِمْرانَ اشْتَمَلَتْ عَلى التَّذْكِيرِ بِنَصْرِ المُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وأنَّ فِيها ذِكْرَ يَوْمِ أُحُدٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَعْضُها نَزَلَ مُتَأخِّرًا. وذَكَرَ الواحِدِيُّ في أسْبابِ النُّزُولِ، عَنِ المُفَسِّرِينَ أنَّ أوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ إلى قَوْلِهِ ﴿ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٦] نَزَلَ بِسَبَبِ وفْدِ نَجْرانَ، وهو وفْدُ السَّيِّدِ والعاقِبِ، أيْ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الهِجْرَةِ، ومِنَ العُلَماءِ مَن قالُوا: نَزَلَتْ سُورَةُ آلِ عِمْرانَ بَعْدَ سُورَةِ الأنْفالِ، وكانَ نُزُولُها في وقْعَةِ أُحُدٍ، أيْ شَوّالٍ سَنَةَ ثَلاثٍ، وهَذا أقْرَبُ، فَقَدِ اتَّفَقَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿وإذْ غَدَوْتَ مِن أهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ﴾ [آل عمران: ١٢١] أنَّهُ قِتالُ يَوْمِ أُحُدٍ. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿وما مُحَمَّدٌ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أعْقابِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٤٤] فَإنَّهُ مُشِيرٌ إلى الإرْجافِ يَوْمَ أُحُدٍ بِقَتْلِ النَّبِيءِ ﷺ .
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أوَّلُها نَزَلَ بَعْدَ البَقَرَةِ إلى نِهايَةِ ما يُشِيرُ إلَيْهِ حَدِيثِ وفْدِ نَجْرانَ، وذَلِكَ مِقْدارُ ثَمانِينَ آيَةً مِن أوَّلِها إلى قَوْلِهِ ﴿وإذْ غَدَوْتَ مِن أهْلِكَ﴾ [آل عمران: ١٢١] قالَهُ القُرْطُبِيُّ في أوَّلِ السُّورَةِ، وفي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ ﴿ما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتابَ﴾ [آل عمران: ٧٩] الآيَةَ. وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في صَدْرِ سُورَةِ الفاتِحَةِ: إنَّنا بَيَّنّا إمْكانَ تَقارُنِ نُزُولِ سُوَرٍ عِدَّةٍ في مُدَّةٍ واحِدَةٍ، فَلَيْسَ مَعْنى قَوْلِهِمْ: نَزَلَتْ سُورَةُ كَذا بَعْدَ سُورَةِ كَذا، مُرادًا مِنهُ أنَّ المَعْدُودَةَ نازِلَةً بَعْدَ أُخْرى أنَّها ابْتُدِئَ نُزُولُها بَعْدَ نُزُولِ الأُخْرى، بَلِ المُرادُ أنَّها ابْتُدِئَ نُزُولُها بَعْدَ ابْتِداءِ نُزُولِ الَّتِي سَبَقَتْها.
وقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ الثّامِنَةَ والأرْبَعِينَ في عِدادِ سُوَرِ القُرْآنِ.
وعَدَدُ آيِها مِائَتانِ في عَدِّ الجُمْهُورِ وعَدَدُها عِنْدَ أهْلِ العَدَدِ بِالشّامِ مِائَةٌ وتِسْعٌ وتِسْعُونَ.
واشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، مِنَ الأغْراضِ: عَلى الِابْتِداءِ بِالتَّنْوِيهِ بِالقُرْآنِ، ومُحَمَّدٍ ﷺ، وتَقْسِيمِ آياتِ القُرْآنِ، ومَراتِبِ الأفْهامِ في تَلَقِّيها، والتَّنْوِيهِ بِفَضِيلَةِ الإسْلامِ وأنَّهُ لا يَعْدِلُهُ دِينٌ، وأنَّهُ لا يُقْبَلُ دِينٌ عِنْدَ اللَّهِ، بَعْدَ ظُهُورِ الإسْلامِ، غَيْرَ الإسْلامِ، والتَّنْوِيهِ بِالتَّوْراةِ والإنْجِيلِ، والإيماءِ إلى أنَّهُما أُنْزِلا قَبْلَ القُرْآنِ تَمْهِيدًا لِهَذا الدِّينِ فَلا يَحِقُّ لِلنّاسِ أنْ يَكْفُرُوا بِهِ، وعَلى التَّعْرِيفِ بِدَلائِلِ إلَهِيَّةِ اللَّهِ تَعالى، وانْفِرادِهِ، وإبْطالِ ضَلالَةِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِن دُونِ اللَّهِ: مَن جَعَلُوا لَهُ (p-١٤٥)شُرَكاءَ، أوِ اتَّخَذُوا لَهُ أبْناءَ، وتَهْدِيدِ المُشْرِكِينَ بِأنَّ أمْرَهم إلى زَوالٍ، وألّا يَغُرَّهم ما هم فِيهِ مِنَ البَذَخِ، وأنَّ ما أُعِدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِن ذَلِكَ، وتَهْدِيدِهِمْ بِزَوالِ سُلْطانِهِمْ، ثُمَّ الثَّناءِ عَلى عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ وآلِ بَيْتِهِ، وذِكْرِ مُعْجِزَةِ ظُهُورِهِ، وأنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ، وذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ حَقًّا، وإبْطالِ إلَهِيَّةِ عِيسى، ومِن ثَمَّ أفْضى إلى قَضِيَّةِ وفْدِ نَجْرانَ ولَجاجَتِهِمْ، ثُمَّ مُحاجَّةِ أهِلَ الكِتابَيْنِ في حَقِيقَةِ الحَنِيفِيَّةِ وأنَّهم بُعَداءُ عَنْها، وما أخَذَ اللَّهُ مِنَ العَهْدِ عَلى الرُّسُلِ كُلِّهِمْ: أنْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ الخاتَمِ، وأنَّ اللَّهَ جَعَلَ الكَعْبَةَ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ، وقَدْ أعادَ إلَيْهِ الدِّينَ الحَنِيفَ كَما ابْتَدَأهُ فِيهِ، وأوْجَبَ حَجَّهُ عَلى المُؤْمِنِينَ، وأظْهَرَ ضَلالاتِ اليَهُودِ، وسُوءَ مَقالَتِهِمْ، وافْتِرائِهِمْ في دِينِهِمْ وكِتْمانِهِمْ ما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ. وذَكَّرَ المُسْلِمِينَ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِدِينِ الإسْلامِ، وأمَرَهم بِالِاتِّحادِ والوِفاقِ، وذَكَّرَهم بِسابِقِ سُوءِ حالِهِمْ في الجاهِلِيَّةِ، وهَوَّنَ عَلَيْهِمْ تَظاهُرَ مُعانِدِيهِمْ مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ، وذَكَّرَهم بِالحَذَرِ مِن كَيْدِهِمْ وكَيْدِ الَّذِينَ أظْهَرُوا الإسْلامَ ثُمَّ عادُوا إلى الكُفْرِ فَكانُوا مَثَلًا لِتَمْيِيزِ الخَبِيثِ مِنَ الطِّيبِ، وأمَرَهم بِالِاعْتِزازِ بِأنْفُسِهِمْ، والصَّبْرِ عَلى تَلَقِّي الشَّدائِدِ، والبَلاءِ، وأذى العَدُوِّ، ووَعَدَهم عَلى ذَلِكَ بِالنَّصْرِ والتَّأْيِيدِ وإلْقاءِ الرُّعْبِ مِنهم في نُفُوسِ عَدُوِّهِمْ، ثُمَّ ذَكَّرَهم بِيَوْمِأُحُدٍ، ويَوْمِ بَدْرٍ، وضَرَبَ لَهُمُ الأمْثالَ بِما حَصَلَ فِيهِما، ونَوَّهَ، بِشَأْنِ الشُّهَداءِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وأمَرَ المُسْلِمِينَ بِفَضائِلِ الأعْمالِ: مِن بَذْلِ المالِ في مُواساةِ الأُمَّةِ، والإحْسانِ، وفَضائِلِ الأعْمالِ، وتَرْكِ البُخْلِ، ومَذَمَّةِ الرِّبا وخُتِمَتِ السُّورَةُ بِآياتِ التَّفْكِيرِ في مَلَكُوتِ اللَّهِ.
وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ قَضِيَّةُ وفْدِ نَجْرانَ مِن بِلادِ اليَمَنِ.
ووَفْدُ نَجْرانَ هم قَوْمٌ مِن نَجْرانَ بَلَغَهم مَبْعَثُ النَّبِيءِ ﷺ، وكانَ أهْلُ نَجْرانَ مُتَدَيِّنِينَ بِالنَّصْرانِيَّةِ، وهم مِن أصْدَقِ العَرَبِ تَمَسُّكًا بِدِينِ المَسِيحِ، وفِيهِمْ رُهْبانٌ مَشاهِيرُ، وقَدْ أقامُوا لِلْمَسِيحِيَّةِ كَعْبَةً بِبِلادِهِمْ هي الَّتِي أشارَ إلَيْها الأعْشى حِينَ مَدَحَهم بِقَوْلِهِ:
؎فَكَعْبَةُ نَجْرانَ حَتْمٌ عَلَيْـ ـكَ حَتّى تُناخِي بِأبْوابِها
فاجْتَمَعَ وفْدٌ مِنهم يَرْأسُهُ العاقِبُ - فِيهِ سِتُّونَ رَجُلًا - واسْمُهُ عَبْدُ المَسِيحِ، وهو أمِيرُ الوَفْدِ، ومَعَهُ السَّيِّدُ واسْمُهُ الأيْهَمُ، وهو ثِمالُ القَوْمِ ووَلِيُّ تَدْبِيرِ الوَفْدِ، ومُشِيرُهُ وذُو (p-١٤٦)الرَّأْيِ فِيهِ، وفِيهِمْ أبُو حارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ البَكْرِيُّ وهو أُسْقُفُهم وصاحِبُ مِدْراسِهِمْ ووَلِيُّ دِينِهِمْ، وفِيهِمْ أخُو أبِي حارِثَةَ، ولَمْ يَكُنْ مِن أهْلِ نَجْرانَ، ولَكِنَّهُ كانَ ذا رُتْبَةٍ: شَرَّفَهُ مُلُوكُ الرُّومِ ومَوَّلُوهُ. فَلَقُوا النَّبِيءَ ﷺ وجادَلَهم في دِينِهِمْ، وفي شَأْنِ أُلُوهِيَّةِ المَسِيحِ، فَلَمّا قامَتِ الحُجَّةُ عَلَيْهِمْ أصَرُّوا عَلى كُفْرِهِمْ وكابَرُوا، فَدَعاهُمُ النَّبِيءُ ﷺ إلى المُباهَلَةِ، فَأجابُوا ثُمَّ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ، وتَخَلَّصُوا مِنهُ، ورَجَعُوا إلى أوْطانِهِمْ، ونَزَلَتْ بِضْعٌ وثَمانُونَ آيَةً مِن أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ في شَأْنِهِمْ كَما في سِيرَةِ ابْنِ هِشامٍ عَنِ ابْنِ إسْحاقَ. وذَكَرَ ذَلِكَ الواحِدِيُّ والفَخْرُ، فَمَن ظَنَّ مِن أهْلِ السِّيَرِ أنَّ وفْدَ نَجْرانَ وفَدُوا في سَنَةِ تِسْعٍ فَقَدْ وهِمَ وهْمًا انْجَرَّ إلَيْهِ مِنِ اشْتِهارِ سَنَةِ تِسْعٍ بِأنَّها سَنَةُ الوُفُودِ. والإجْماعُ عَلى أنَّ سُورَةَ آلِ عِمْرانَ مِن أوائِلِ المَدَنِيّاتِ، وتَرْجِيحُ أنَّها نَزَلَتْ في وفْدِ نَجْرانَ يُعَيِّنانِ أنَّ وفْدَ نَجْرانَ كانَ قَبْلَ سَنَةِ الوُفُودِ.
{"ayah":"لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَاۤ إِن نَّسِینَاۤ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَیۡنَاۤ إِصۡرࣰا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۤۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق