الباحث القرآني

قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَها﴾؛ فِيهِ نَصٌّ عَلى أنَّ اللَّهَ (تَعالى) لا يُكَلِّفُ أحَدًا ما لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ولا يُطِيقُهُ؛ ولَوْ كَلَّفَ أحَدًا ما لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ولا يَسْتَطِيعُهُ لَكانَ مُكَلِّفًا لَهُ ما لَيْسَ في وُسْعِهِ؛ ألا تَرى قَوْلَ القائِلِ: "لَيْسَ في وُسْعِي كَيْتُ؛ وكَيْتُ"؛ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: "لا أقْدِرُ عَلَيْهِ؛ ولا أُطِيقُهُ"؟ بَلِ الوُسْعُ دُونَ الطّاقَةِ؛ ولَمْ تَخْتَلِفِ الأُمَّةُ في أنَّ اللَّهَ (تَعالى) لا يَجُوزُ أنْ يُكَلِّفَ الزَّمِنَ المَشْيَ؛ والأعْمى البَصَرَ؛ والأقْطَعَ اليَدَيْنِ البَطْشَ؛ لِأنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ ولا يَسْتَطِيعُ فِعْلَهُ؛ ولا خِلافَ في ذَلِكَ بَيْنَ الأُمَّةِ. وقَدْ ورَدَتِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّ مَن لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّلاةَ قائِمًا فَغَيْرُ مُكَلَّفٍ لِلْقِيامِ فِيها؛ ومَن لَمْ يَسْتَطِعْها قاعِدًا فَغَيْرُ مُكَلَّفٍ لِلْقُعُودِ؛ بَلْ يُصَلِّيها عَلى جَنْبٍ؛ يُومِئُ إيماءً؛ لِأنَّهُ غَيْرُ قادِرٍ عَلَيْها إلّا عَلى هَذا الوَجْهِ؛ ونَصُّ التَّنْزِيلِ قَدْ أسْقَطَ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ لا يَقْدِرُ عَلى الفِعْلِ؛ ولا يُطِيقُهُ؛ وزَعَمَ قَوْمٌ جُهّالٌ نَسَبَتْ إلى اللَّهِ فِعْلَ السَّفَهِ والعَبَثِ؛ فَزَعَمُوا أنَّ كُلَّ ما أُمِرَ بِهِ أحَدٌ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ؛ أوْ نُهِيَ عَنْهُ؛ فالمَأْمُورُ بِهِ مِنهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلى فِعْلِهِ؛ والمَنهِيُّ عَنْهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلى تَرْكِهِ؛ وقَدْ أكْذَبَ اللَّهُ قِيلَهم بِما نَصَّ عَلَيْهِ مِن أنَّهُ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَها﴾؛ مَعَ ما قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ العُقُولُ مِن قُبْحِ تَكْلِيفِ ما لا يُطاقُ؛ وأنَّ العالِمَ بِالقَبِيحِ؛ المُسْتَغْنِيَ عَنْ فِعْلِهِ؛ لا يَقَعُ مِنهُ فِعْلُ القَبِيحِ؛ ومِمّا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ الأحْكامِ سُقُوطُ الفَرْضِ عَنِ المُكَلَّفِينَ فِيما لا تَتَّسِعُ لَهُ قُواهم؛ لِأنَّ الوُسْعَ هو دُونَ الطّاقَةِ؛ وأنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمُ اسْتِفْراغُ المَجْهُودِ في أداءِ الفَرْضِ؛ نَحْوَ الشَّيْخِ الكَبِيرِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ؛ ويُؤَدِّي إلى ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ في جِسْمِهِ؛ وإنْ لَمْ يَخْشَ المَوْتَ بِفِعْلِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمُهُ؛ لِأنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ إلّا ما يَتَّسِعُ لِفِعْلِهِ؛ ولا يَبْلُغُ بِهِ حالَ المَوْتِ؛ وكَذَلِكَ المَرِيضُ الَّذِي يَخْشى ضَرَرَ الصَّوْمِ؛ وضَرَرَ اسْتِعْمالِ الماءِ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) قَدْ أخْبَرَ أنَّهُ لا يُكَلِّفُ أحَدًا إلّا ما اتَّسَعَتْ لَهُ قُدْرَتُهُ وإمْكانُهُ؛ دُونَ ما يُضَيِّقُ عَلَيْهِ ويُعَنِّتُهُ؛ وقالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠]؛ وقالَ في صِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ﴾ [التوبة: ١٢٨]؛ فَهَذا حُكْمٌ مُسْتَمِرٌّ في سائِرِ أوامِرِ اللَّهِ (تَعالى) وزَواجِرِهِ؛ ولُزُومُ التَّكْلِيفِ فِيها عَلى ما يَتَّسِعُ لَهُ؛ ويَقْدِرُ (p-٢٧٨)عَلَيْهِ. * * * قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا﴾؛ قالَ أبُو بَكْرٍ: اَلنِّسْيانُ عَلى وجْهَيْنِ؛ أحَدُهُما أنَّهُ قَدْ يَتَعَرَّضُ الإنْسانُ لِلْفِعْلِ الَّذِي يَقَعُ مَعَهُ النِّسْيانُ؛ فَيَحْسُنُ الِاعْتِذارَ بِهِ إذا وقَعَتْ مِنهُ جِنايَةٌ عَلى وجْهِ السَّهْوِ؛ والثّانِي: أنْ يَكُونَ النِّسْيانُ بِمَعْنى تَرْكِ المَأْمُورِ بِهِ لِشُبْهَةٍ تَدْخُلُ عَلَيْهِ؛ أوْ سُوءِ تَأْوِيلٍ؛ وإنْ لَمْ يَكُنِ الفِعْلُ نَفْسُهُ واقِعًا عَلى وجْهِ السَّهْوِ؛ فَيَحْسُنُ أنْ يَسْألَ اللَّهَ (تَعالى) مَغْفِرَةَ الأفْعالِ الواقِعَةِ عَلى هَذا الوَجْهِ؛ والنِّسْيانُ بِمَعْنى التَّرْكِ مَشْهُورٌ في اللُّغَةِ؛ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧]؛ يَعْنِي تَرَكُوا أمْرَ اللَّهِ (تَعالى)؛ فَلَمْ يَسْتَحِقُّوا ثَوابَهُ؛ فَأطْلَقَ اسْمَ النِّسْيانِ عَلى اللَّهِ (تَعالى)؛ عَلى وجْهِ مُقابَلَةِ الِاسْمِ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٍ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠]؛ وقَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤] . قالَ أبُو بَكْرٍ: اَلنِّسْيانُ الَّذِي هو ضِدُّ الذِّكْرِ؛ فَإنَّ حُكْمَهُ مَرْفُوعٌ فِيما بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ اللَّهِ (تَعالى)؛ في اسْتِحْقاقِ العِقابِ؛ والتَّكْلِيفُ في مِثْلِهِ ساقِطٌ عَنْهُ؛ والمُؤاخَذَةُ بِهِ في الآخِرَةِ غَيْرُ جائِزَةٍ؛ لِأنَّهُ لا حُكْمَ لَهُ فِيما يُكَلِّفُهُ مِنَ العِباداتِ؛ فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ نَصَّ عَلى لُزُومِ حُكْمِ كَثِيرٍ مِنها مَعَ النِّسْيانِ؛ واتَّفَقَتِ الأُمَّةُ أيْضًا عَلى حُكْمِها؛ مِن ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: «" مَن نامَ عَنْ صَلاةٍ؛ أوْ نَسِيَها؛ فَلْيُصَلِّها إذا ذَكَرَها"؛ وتَلا عِنْدَ ذَلِكَ ﴿وأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: ١٤] "؛» فَدَلَّ عَلى أنَّ مُرادَ اللَّهِ (تَعالى) بِقَوْلِهِ: ﴿وأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: ١٤]؛ فِعْلُ المَنسِيَّةِ مِنها عِنْدَ الذِّكْرِ؛ وقالَ (تَعالى): ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسِيتَ﴾ [الكهف: ٢٤]؛ وذَلِكَ عُمُومٌ في لُزُومِهِ قَضاءَ كُلِّ مَنسِيٍّ عِنْدَ ذِكْرِهِ؛ ولا خِلافَ بَيْنَ الفُقَهاءِ في أنَّ ناسِيَ الصَّوْمِ؛ والزَّكاةِ؛ وسائِرِ الفُرُوضِ؛ بِمَنزِلَةِ ناسِي الصَّلاةِ؛ في لُزُومِ قَضائِها عِنْدَ ذِكْرِها؛ وكَذَلِكَ قالَ أصْحابُنا في المُتَكَلِّمِ في الصَّلاةِ ناسِيًا: "إنَّهُ بِمَنزِلَةِ العامِدِ"؛ لِأنَّ الأصْلَ أنَّ العامِدَ والنّاسِيَ في حُكْمِ الفُرُوضِ سَواءٌ؛ وأنَّهُ لا تَأْثِيرَ لِلنِّسْيانِ في إسْقاطِ شَيْءٍ مِنها؛ إلّا ما ورَدَ بِهِ التَّوْقِيفُ؛ ولا خِلافَ أنَّ تارِكَ الطَّهارَةِ ناسِيًا كَتارِكِها عامِدًا؛ في بُطْلانِ حُكْمِ صَلاتِهِ؛ وكَذَلِكَ قالُوا في الآكِلِ في نَهارِ شَهْرِ رَمَضانَ ناسِيًا: "إنَّ القِياسَ فِيهِ إيجابُ القَضاءِ"؛ وإنَّهم إنَّما تَرَكُوا القِياسَ فِيهِ لِلْأثَرِ؛ ومَعَ ما ذَكَرْنا فَإنَّ النّاسِيَ مُؤَدٍّ لِفَرْضِهِ عَلى أيِّ وجْهٍ فَعَلَهُ؛ إذْ لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ (تَعالى) في تِلْكَ الحالِ غَيْرَهُ؛ وإنَّما القَضاءُ فَرْضٌ آخَرُ؛ ألْزَمَهُ اللَّهُ (تَعالى) بِالدَّلائِلِ الَّتِي ذَكَرْنا؛ فَكانَ تَأْثِيرُ النِّسْيانِ في سُقُوطِ المَأْثَمِ فَحَسْبُ؛ فَأمّا في لُزُومِ فَرْضٍ فَلا. وقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «"رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيانُ"؛» مَقْصُورٌ عَلى المَأْثَمِ أيْضًا؛ دُونَ رَفْعِ الحُكْمِ؛ ألا تَرى أنَّ اللَّهَ (تَعالى) قَدْ نَصَّ عَلى لُزُومِ حُكْمِ قَتْلِ الخَطَإ في إيجابِ الدِّيَةِ؛ والكَفّارَةِ؟ فَلِذَلِكَ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ النِّسْيانَ مَعَ الخَطَإ؛ وهو عَلى هَذا المَعْنى. فَإنْ قالَ قائِلٌ: (p-٢٧٩)مِن أصْلِكم إيجابُ فَرْضِ التَّسْمِيَةِ عَلى الذَّبِيحَةِ؛ ولَوْ تَرَكَها عامِدًا كانَتْ مَيْتَةً؛ وإذا تَرَكَها ناسِيًا حَلَّتْ؛ وكانَتْ مُذَكّاةً؛ ولَمْ تَجْعَلُوها بِمَنزِلَةِ تارِكِ الطَّهارَةِ ناسِيًا حَتّى صَلّى؛ فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِإعادَتِها بِالطَّهارَةِ قَطْعًا؛ وكَذَلِكَ الكَلامُ في الصَّلاةِ ناسِيًا؛ قِيلَ لَهُ: لِما بَيَّنّا مِن أنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ في الحالِ غَيْرَ ما فَعَلَ عَلى وجْهِ النِّسْيانِ؛ والَّذِي لَزِمَهُ بَعْدَ الذِّكْرِ فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ آخَرُ؛ وكَذَلِكَ نُجِيزُ في هَذِهِ القَضِيَّةِ ألّا يَكُونَ مُكَلَّفًا في حالِ النِّسْيانِ لِلتَّسْمِيَةِ؛ فَصَحَّتِ الذَّكاةُ؛ ولا تَتَأتّى بَعْدَ الذَّكاةِ فِيهِ ذَبِيحَةٌ أُخْرى؛ فَيَكُونُ مُكَلَّفًا لَها؛ كَما كُلِّفَ إعادَةَ الصَّلاةِ؛ والصَّوْمِ؛ ونَحْوِهِ. * * * قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ هو مِثْلُ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلا عَلَيْها﴾ [الأنعام: ١٦٤]؛ وقَوْلِهِ: ﴿وأنْ لَيْسَ لِلإنْسانِ إلا ما سَعى﴾ [النجم: ٣٩] ﴿وأنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى﴾ [النجم: ٤٠]؛ وفِيهِ الدَّلالَةُ عَلى أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ المُكَلَّفِينَ فَأحْكامُ أفْعالِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ؛ دُونَ غَيْرِهِ؛ وأنَّ أحَدًا لا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ عَلى غَيْرِهِ؛ ولا يُؤاخَذُ بِجَرِيرَةِ سِواهُ؛ وكَذَلِكَ «قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأبِي رِمْثَةَ - حِينَ رَآهُ مَعَ ابْنِهِ - فَقالَ: "هَذا ابْنُكَ؟"؛ قالَ: نَعَمْ؛ قالَ: "إنَّكَ لا تَجْنِي عَلَيْهِ؛ ولا يَجْنِي عَلَيْكَ"؛» وقالَ ﷺ: «"لا يُؤاخَذُ أحَدٌ بِجَرِيرَةِ أبِيهِ؛ ولا بِجَرِيرَةِ أخِيهِ"؛» فَهَذا هو العَدْلُ الَّذِي لا يَجُوزُ في العُقُولِ غَيْرُهُ. وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾؛ يُحْتَجُّ بِهِ في نَفْيِ الحَجْرِ؛ وامْتِناعِ تَصَرُّفِ أحَدٍ؛ مِن قاضٍ أوْ غَيْرِهِ؛ عَلى سِواهُ؛ بِبَيْعِ مالٍ؛ أوْ مَنعِهِ مِنهُ؛ إلّا ما قامَتِ الدَّلالَةُ عَلى خُصُوصِهِ؛ ويُحْتَجُّ بِهِ في بُطْلانِ مَذْهَبِ مالِكِ بْنِ أنَسٍ؛ في أنَّ مَن أدّى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أمْرِهِ أنَّ لَهُ أنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) إنَّما جَعَلَ كَسْبَهُ لَهُ وعَلَيْهِ؛ ومَنَعَ لُزُومَهُ غَيْرَهُ. * * * قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا﴾؛ قَدْ قِيلَ في مَعْنى الإصْرِ: إنَّهُ الثِّقْلُ؛ وأصْلُهُ في اللُّغَةِ يُقالُ: إنَّهُ العَطْفُ؛ ومِنهُ أواصِرُ الرَّحِمِ؛ لِأنَّها تَعْطِفُهُ عَلَيْهِ؛ والواحِدُ آصِرَةٌ؛ والمَأْصِرُ يُقالُ: إنَّهُ حَبْلٌ يُمَدُّ عَلى طَرِيقٍ؛ أوْ نَهْرٍ؛ تُحْبَسُ بِهِ المارَّةُ؛ ويَعْطِفُونَ بِهِ عَنِ النُّفُوذِ لِيُؤْخَذَ مِنهُمُ العُشُورُ؛ والمَكْسُ؛ والمَعْنى في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا﴾؛ يُرِيدُ بِهِ عَهْدًا؛ وهو الأمْرُ الَّذِي يَثْقُلُ؛ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ ومُجاهِدٍ؛ وقَتادَةَ؛ وهو في مَعْنى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]؛ يَعْنِي مِن ضِيقٍ؛ وقَوْلِهِ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥]؛ اَلْآيَةَ؛ وقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكم مِن حَرَجٍ﴾ [المائدة: ٦]؛ وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «"جِئْتُكم بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ"؛» ورُوِيَ عَنْهُ «أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ شَدَّدُوا عَلى أنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» . فَقَوْلُهُ: ﴿ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا﴾؛ يَعْنِي: مِن ثِقَلِ الأمْرِ والنَّهْيِ؛ ﴿كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا﴾؛ وهو كَقَوْلِهِ: ﴿ويَضَعُ عَنْهم إصْرَهم (p-٢٨٠)والأغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: ١٥٧]؛ وهَذِهِ الآيَةُ ونَظائِرُها يُحْتَجُّ بِها عَلى نَفْيِ الحَرَجِ؛ والضِّيقِ؛ والثِّقَلِ؛ في كُلِّ أمْرٍ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ فِيهِ؛ وسَوَّغُوا فِيهِ الِاجْتِهادَ؛ فالمُوجِبُ لِلثِّقَلِ؛ والضِّيقِ؛ والحَرَجِ؛ مَحْجُوجٌ بِالآيَةِ؛ نَحْوَ إيجابِ النِّيَّةِ في الطَّهارَةِ؛ وإيجابِ التَّرْتِيبِ فِيها؛ وما جَرى مُجْرى ذَلِكَ في نَفْيِ الضِّيقِ؛ والحَرَجِ؛ يُجَوِّزُ لَنا الِاحْتِجاجَ بِالظَّواهِرِ الَّتِي ذَكَرْناها. * * * قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ قِيلَ: فِيهِ وجْهانِ؛ أحَدُهُما ما يَشْتَدُّ ويَثْقُلُ مِنَ التَّكْلِيفِ؛ كَنَحْوِ ما كُلِّفَ بَنُو إسْرائِيلَ أنْ يَقْتُلُوا أنْفُسَهُمْ؛ وجائِزٌ أنْ يُعَبِّرَ بِما يَثْقُلُ أنَّهُ لا يُطِيقُهُ؛ كَقَوْلِكَ: "ما أُطِيقُ كَلامَ فُلانٍ؛ ولا أقْدِرُ أنْ أراهُ"؛ ولا يُرادُ بِهِ نَفْيُ القُدْرَةِ؛ وإنَّما يُرِيدُونَ أنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ؛ فَيَكُونُ بِمَنزِلَةِ العاجِزِ الَّذِي لا يَقْدِرُ عَلى كَلامِهِ؛ ورُؤْيَتِهِ؛ لِبُعْدِهِ مِن قَلْبِهِ؛ وكَراهَتِهِ لِرُؤْيَتِهِ؛ وكَلامِهِ؛ وهو كَما قالَ (تَعالى): ﴿وكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا﴾ [الكهف: ١٠١]؛ وقَدْ كانَتْ لَهم أسْماعٌ صَحِيحَةٌ؛ إلّا أنَّ المُرادَ أنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا اسْتِماعَهُ؛ فَأعْرَضُوا عَنْهُ؛ وكانُوا بِمَنزِلَةِ مَن لَمْ يَسْمَعْ؛ والوَجْهُ الثّانِي ألّا يُحَمِّلَنا مِنَ العَذابِ ما لا نُطِيقُهُ؛ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ المُرادُ الأمْرَيْنِ جَمِيعًا؛ واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب