الباحث القرآني

﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكم فَأْتُوا حَرْثَكم أنّى شِئْتُمْ﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ ثانٍ لِجُمْلَةِ ﴿فَأْتُوهُنَّ مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٢٢] قُصِدَ بِهِ الِارْتِفاقُ بِالمُخاطَبِينَ والتَّأنُّسُ لَهم لِإشْعارِهِمْ بِأنَّ مَنعَهم مِن قِرْبانِ النِّساءِ في مُدَّةِ المَحِيضِ مَنعٌ مُؤَقَّتٌ لِفائِدَتِهِمْ وأنَّ اللَّهَ (p-٣٧١)يَعْلَمُ أنَّ نِساءَهم مَحَلُّ تَعَهُّدِهِمْ ومُلابَسَتِهِمْ لَيْسَ مَنعُهم مِنهُنَّ في بَعْضِ الأحْوالِ بِأمْرٍ هَيِّنٍ عَلَيْهِمْ لَوْلا إرادَةُ حِفْظِهِمْ مِنَ الأذى، كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ لَمّا حَمى الحِمى: لَوْلا المالُ الَّذِي أحْمِلُ عَلَيْهِ في سَبِيلِ اللَّهِ ما حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِن بِلادِهِمْ شِبْرًا إنَّها لَبِلادُهم. وتُعْتَبَرُ جُمْلَةُ ﴿نِساؤُكم حَرْثٌ﴾ مُقَدِّمَةً لِجُمْلَةِ ﴿فَأْتُوا حَرْثَكم أنّى شِئْتُمْ﴾ وفِيها مَعْنى التَّعْلِيلِ لِلْإذْنِ بِإتْيانِهِنَّ أنّى شاءُوا، والعِلَّةُ قَدْ تُجْعَلُ مُقَدِّمَةً فَلَوْ أُوثِرَ مَعْنى التَّعْلِيلِ لَأُخِّرَتْ عَنْ جُمْلَةِ ﴿فَأْتُوا حَرْثَكم أنّى شِئْتُمْ﴾ ولَكِنْ أُوثِرَ أنْ تَكُونَ مُقَدِّمَةً لِلَّتِي بَعْدَها لِأنَّهُ أحْكَمُ نَسِيجٍ نُظِمَ ولِتَتَأتّى عَقِبَهُ الفاءُ الفَصِيحَةُ. والحَرْثُ مَصْدَرُ حَرَثَ الأرْضَ إذا شَقَّها بِآلَةٍ تَشُقُّ التُّرابَ لِيُزْرَعَ في شُقُوقِهِ زَرِيعَةٌ أوْ تُغْرَسَ أشْجارٌ. وهو هَنا مُطْلَقٌ عَلى مَعْنى اسْمِ المَفْعُولِ. وإطْلاقُ الحَرْثِ عَلى المَحْرُوثِ وأنْواعِهِ إطْلاقٌ مُتَعَدِّدٌ فَيُطْلَقُ عَلى الأرْضِ المَجْعُولَةِ لِلزَّرْعِ أوِ الغَرْسِ، كَما قالَ تَعالى ﴿وقالُوا هَذِهِ أنْعامٌ وحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ [الأنعام: ١٣٨] أيْ أرْضُ زَرْعٍ مَحْجُورَةٌ عَلى النّاسِ أنْ يَزْرَعُوها. وقالَ ﴿والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأنْعامِ والحَرْثِ﴾ [آل عمران: ١٤] أيِ الجَنّاتِ والحَوائِطِ والحُقُولِ. وقالَ ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أنْفُسَهم فَأهْلَكَتْهُ﴾ [آل عمران: ١١٧] أيْ أهْلَكَتْ زَرْعَهم. وقالَ ﴿فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكم إنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ﴾ [القلم: ٢١] يَعْنُونَ بِهِ جَنَّتَهم أيْ صارِمِينَ عَراجِينَ التَّمْرِ. والحَرْثُ في هَذِهِ الآيَةِ مُرادٌ بِهِ المَحْرُوثُ بِقَرِينَةِ كَوْنِهِ مَفْعُولًا لِفِعْلِ ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ ولَيْسَ المُرادُ بِهِ المَصْدَرَ لِأنَّ المَقامَ يَنْبُو عَنْهُ، وتَشْبِيهُ النِّساءِ بِالحَرْثِ تَشْبِيهٌ لَطِيفٌ كَما شُبِّهَ النَّسْلُ بِالزَّرْعِ في قَوْلِ أبِي طالِبٍ في خِطْبَتِهِ خَدِيجَةَ لِلنَّبِيءِ ﷺ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنا مِن ذُرِّيَّةِ إبْراهِيمَ وزَرْعِ إسْماعِيلَ. والفاءُ في ﴿فَأْتُوا حَرْثَكم أنّى شِئْتُمْ﴾ فاءٌ فَصِيحَةٌ لِابْتِناءِ ما بَعْدَها عَلى تَقَرُّرِ أنَّ النِّساءَ حَرْثٌ لَهم، لا سِيَّما إذا كانُوا قَدْ سَألُوا عَنْ ذَلِكَ بِلِسانِ المَقالِ أوْ بِلِسانِ الحالِ. وكَلِمَةُ أنّى اسْمٌ لِمَكانٍ مُبْهَمٍ تُبَيِّنُهُ جُمْلَةٌ مُضافٌ هو إلَيْها، وقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمالُهُ مَجازًا في مَعْنى كَيْفَ بِتَشْبِيهِ حالِ الشَّيْءِ بِمَكانِهِ، لِأنَّ كَيْفَ اسْمٌ لِلْحالِ المُبْهَمَةِ يُبَيِّنُها عامِلُها نَحْوَ كَيْفَ (p-٣٧٢)يَشاءُ وقالَ في لِسانِ العَرَبِ: إنَّ (أنّى) تَكُونُ بِمَعْنى (مَتى)، وقَدْ أُضِيفَ (أنّى) في هَذِهِ الآيَةِ إلى جُمْلَةِ شِئْتُمْ والمَشِيئاتُ شَتّى فَتَأوَّلَهُ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ عَلى حَمْلِ (أنّى) عَلى المَعْنى المَجازِيِّ وفَسَّرُوهُ بِكَيْفَ شِئْتُمْ وهو تَأْوِيلُ الجُمْهُورِ الَّذِي عَضَّدُوهُ بِما رَوَوْهُ في سَبَبِ نُزُولِ الآيَةِ وفِيها رِوايَتانِ. إحْداهُما عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ والأُخْرى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وتَأوَّلَهُ الضَّحّاكُ عَلى مَعْنى: مَتى شِئْتُمْ وتَأوَّلَهُ جَمْعٌ عَلى مَعْناهُ الحَقِيقِيِّ مِن كَوْنِهِ اسْمَ مَكانٍ مُبْهَمٍ، فَمِنهم مَن جَعَلُوهُ ظَرْفًا لِأنَّهُ الأصْلُ في أسْماءِ المَكانِ إذا لَمْ يُصَرَّحُ فِيها بِما يَصْرِفُ عَنْ مَعْنى الظَّرْفِيَّةِ وفَسَّرُوهُ بِمَعْنى: في أيِّ مَكانٍ مِنَ المَرْأةِ شِئْتُمْ وهو المَرْوِيُّ في صَحِيحِ البُخارِيِّ تَفْسِيرًا مِنِ ابْنِ عُمَرَ، ومِنهم مَن جَعَلُوهُ اسْمَ مَكانٍ غَيْرَ ظَرْفٍ وقَدَّرُوا أنَّهُ مَجْرُورٌ بِـ (مِن) فَفَسَّرُوهُ مِن أيِّ مَكانٍ أوْ جِهَةٍ شِئْتُمْ وهو يَئُولُ إلى تَفْسِيرِهِ بِمَعْنى كَيْفَ، ونَسَبَ القُرْطُبِيُّ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ إلى سِيبَوَيْهِ. فالَّذِي يَتَبادَرُ مِن مَوْقِعِ الآيَةِ وتُساعِدُ عَلَيْهِ مَعانِي ألْفاظِها أنَّها تَذْيِيلٌ وارِدٌ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ قِرْبانِ النِّساءِ في حالِ الحَيْضِ. فَتُحْمَلُ (أنّى) عَلى مَعْنى ”مَتى“ ويَكُونُ المَعْنى: فَأْتُوا نِساءَكم مَتى شِئْتُمْ إذا تَطَهَّرْنَ فَوِزانُها وِزانُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا﴾ [المائدة: ٢] بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: ١] . ولا مُناسَبَةَ تَبْعَثُ لِصَرْفِ الآيَةِ عَنْ هَذا المَعْنى إلّا أنَّ ما طارَ بَيْنَ عُلَماءِ السَّلَفِ ومَن بَعْدَهم مِنَ الخَوْضِ في مَحامِلَ أُخْرى لِهَذِهِ الآيَةِ، وما رَوَوْهُ مِن آثارٍ في أسْبابِ النُّزُولِ يَضْطَرُّنا إلى اسْتِفْصالِ البَيانِ في مُخْتَلَفِ الأقْوالِ والمَحامِلِ مُقْتَنِعِينَ بِذَلِكَ، لِما فِيهِ مِن إشارَةٍ إلى اخْتِلافِ الفُقَهاءِ في مَعانِي الآيَةِ، وإنَّها لَمَسْألَةٌ جَدِيرَةٌ بِالِاهْتِمامِ، عَلى ثِقَلٍ في جَرَيانِها، عَلى الألْسِنَةِ والأقْلامِ. رَوى البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ في صَحِيحَيْهِما عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أنَّ اليَهُودَ قالُوا إذا أتى الرَّجُلُ امْرَأتَهُ مُجْبِيَةً جاءَ الوَلَدُ أُحْوَلَ، فَسَألَ المُسْلِمُونَ عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ ﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكُمْ﴾ الآيَةَ، وأخْرَجَ أبُو داوُدَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَ هَذا الحَيُّ مِنَ الأنْصارِ وهم أهْلُ وثَنٍ مَعَ هَذا الحَيِّ مِنَ اليَهُودِ وهم أهْلُ كِتابٍ وكانُوا يَرَوْنَ لَهم فَضْلًا عَلَيْهِمْ في العِلْمِ فَكانُوا يَقْتَدُونَ بِكَثِيرٍ مِن فِعْلِهِمْ، وكانَ مِن أمْرِ أهْلِ الكِتابِ ألّا يَأْتُوا النِّساءَ إلّا عَلى حَرْفٍ وذَلِكَ أسْتَرُ ما تَكُونُ المَرْأةُ، فَكانَ هَذا الحَيُّ مِنَ الأنْصارِ قَدْ أخَذُوا بِذَلِكَ، وكانَ هَذا الحَيُّ مِن قُرَيْشٍ (p-٣٧٣)يَشْرَحُونَ النِّساءَ شَرْحًا أيْ يَطَئُونَهُنَّ وهُنَّ مُسْتَلْقِياتٍ عَنْ أقَفِيَتِهِنَّ، ومُقْبِلاتٍ ومُدْبِراتٍ ومُسْتَلْقِياتٍ، فَلَمّا قَدِمَ المُهاجِرُونَ المَدِينَةَ تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنهُمُ امْرَأةً مِنَ الأنْصارِ فَذَهَبَ يَصْنَعُ بِها ذَلِكَ فَأنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ، وقالَتْ: إنَّما كُنّا نُؤْتى عَلى حَرْفٍ فاصْنَعْ ذَلِكَ وإلّا فاجْتَنِبْنِي حَتّى شَرى أمْرُهُما أيْ تَفاقَمَ اللَّجاجُ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيءَ فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿فَأْتُوا حَرْثَكم أنّى شِئْتُمْ﴾ أيْ مُقْبِلاتٍ كُنَّ أوْ مُدْبِراتٍ أوْ مُسْتَلْقِياتٍ يَعْنِي بِذَلِكَ في مَوْضِعِ الوَلَدِ، ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيءِ ﷺ في التِّرْمِذِيِّ، وما أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: جاءَ عُمَرُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ قالَ، وما أهْلَكَكَ ؟ قالَ: حَوَّلْتُ رَحْلِي اللَّيْلَةَ يُرِيدُ أنَّهُ أتى امْرَأتَهُ وهي مُسْتَدْبِرَةٌ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ شَيْئًا فَأوْحى اللَّهُ إلى رَسُولِهِ هَذِهِ الآيَةَ ﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكُمْ﴾ الآيَةَ. ورَوى البُخارِيُّ عَنْ نافِعٍ قالَ: كانَ ابْنُ عُمَرَ إذا قَرَأ القُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتّى يَفْرُغَ مِنهُ فَأخَذْتُ عَلَيْهِ المُصْحَفَ يَوْمًا فَقَرَأ سُورَةَ البَقَرَةِ حَتّى انْتَهى إلى ﴿فَأْتُوا حَرْثَكم أنّى شِئْتُمْ﴾ قالَ: تَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ ؟ قُلْتُ: لا قالَ: أُنْزِلَتْ في كَذا وكَذا وفي رِوايَةٍ عَنْ نافِعٍ في البُخارِيِّ: يَأْتِيها في. . .، ولَمْ يَزِدْ وهو يَعْنِي في كِلْتا الرِّوايَتَيْنِ عَنْهُ إتْيانَ النِّساءِ في أدْبارِهِنَّ كَما صَرَّحَ بِذَلِكَ في رِوايَةِ الطَّبَرِيِّ وإسْحاقَ بْنِ راهَوَيْهِ: أُنْزِلَتْ إتْيانَ النِّساءِ في أدْبارِهِنَّ، ورَوى الدّارَقُطْنِيُّ في غَرائِبَ مالِكٍ والطَّبَرِيِّ عَنْ نافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أنَّ رَجُلًا أتى امْرَأتَهُ في دُبُرِها فَوَجَدَ في نَفْسِهِ مِن ذَلِكَ فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكم فَأْتُوا حَرْثَكم أنّى شِئْتُمْ﴾ وقَدْ رُوِيَ أنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ هو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وعَنْ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ أنَّ رَجُلًا أصابَ امْرَأتَهُ في دُبُرِها عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . فَأنْكَرَ النّاسُ عَلَيْهِ وقالُوا: أثْفَرَها فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى ﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكُمْ﴾، فَعَلى تَأْوِيلِ هَؤُلاءِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكم فَأْتُوا حَرْثَكم أنّى شِئْتُمْ﴾ تَشْبِيهًا لِلْمَرْأةِ بِالحَرْثِ أيْ بِأرْضِ الحَرْثِ وأطْلَقَ ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ عَلى مَعْنى: فاحْرُثُوا في أيِّ مَكانٍ شِئْتُمْ. أقُولُ: قَدْ أُجْمِلَ كَلامُ اللَّهِ تَعالى هُنا، وأُبْهِمَ وبَيَّنَ المُبْهَماتِ بِمُبْهَماتٍ مِن جِهَةٍ أُخْرى لِاحْتِمالِ (أمَرَكُمُ اللَّهُ) مَعانِيَ لَيْسَ مَعْنى الإيجابِ والتَّشْرِيعِ مِنها، إذْ لَمْ يُعْهَدْ سَبْقُ تَشْرِيعٍ مِنَ اللَّهِ في هَذا كَما قَدَّمْناهُ، ثُمَّ أُتْبِعَ بِقَوْلِهِ ﴿يُحِبُّ التَّوّابِينَ﴾ [البقرة: ٢٢٢] فَرُبَّما أشْعَرَ بِأنَّ فِعْلًا في هَذا البَيانِ كانَ يُرْتَكَبُ واللَّهُ يَدْعُو إلى الِانْكِفافِ عَنْهُ وأُتْبِعَ بِقَوْلِهِ ﴿ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: ٢٢٢] فَأشْعَرَ بِأنَّ فِعْلًا (p-٣٧٤)فِي هَذا الشَّأْنِ قَدْ يَلْتَبِسُ بِغَيْرِ التَّنَزُّهِ واللَّهُ يُحِبُّ التَّنَزُّهَ عَنْهُ، مَعَ احْتِمالِ المَحَبَّةِ عَنْهُ لِمَعْنى التَّفْضِيلِ والتَّكْرِمَةِ مِثْلَ ﴿يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: ١٠٨]، واحْتِمالُها لِمَعْنى: ويُبْغِضُ غَيْرَ ذَلِكَ، ثُمَّ جاءَ ما هو كالدَّلِيلِ وهو قَوْلُهُ ﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكُمْ﴾ فَجُعِلْنَ حَرْثًا عَلى احْتِمالِ وُجُوهٍ في الشَّبَهِ؛ فَقَدْ قالَ: إنَّهُ وُكِّلَ لِلْمَعْرُوفِ، وقَدْ يُقالُ: إنَّهُ جُعِلَ شائِعًا في المَرْأةِ، فَلِذَلِكَ نِيطَ الحُكْمُ بِذاتِ النِّساءِ كُلِّها، ثُمَّ قالَ ﴿فَأْتُوا حَرْثَكم أنّى شِئْتُمْ﴾ فَجاءَ بِأنّى المُحْتَمِلَةِ لِلْكَيْفِيّاتِ ولِلْأمْكِنَةِ وهي أصْلٌ في الأمْكِنَةِ ووَرَدَتْ في الكَيْفِيّاتِ، وقَدْ قِيلَ: إنَّها تَرِدُ لِلْأزْمِنَةِ فاحْتُمِلَ كَوْنُها أمْكِنَةَ الوُصُولِ مِن هَذا الإتْيانِ، أوْ أمْكِنَةَ الوُرُودِ إلى مَكانٍ آخَرَ مَقْصُودٍ فَهي أمْكِنَةُ ابْتِداءِ الإتْيانِ أوْ أمْكِنَةُ الِاسْتِقْرارِ فَأُجْمِلَ في هَذا كُلِّهِ إجْمالٌ بَدِيعٌ وأُثْنِيَ ثَناءٌ حَسَنٌ. واخْتِلافُ مَحامِلِ الآيَةِ في أنْظارِ المُفَسِّرِينَ والفُقَهاءِ طَوْعُ عِلْمِ المُتَأمِّلِ، وفِيها أقْوالٌ كَثِيرَةٌ ومَذاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ لِفُقَهاءِ الأمْصارِ مُسْتَقْصاةٌ في كُتُبِ أحْكامِ القُرْآنِ، وكُتُبِ السُّنَّةِ، وفي دَواوِينِ الفِقْهِ، وقَدِ اقْتَصَرْنا عَلى الآثارِ الَّتِي تَمَّتْ إلى الآيَةِ بِسَبَبِ نُزُولٍ، وتَرَكْنا ما عَداهُ إلى أفْهامِ العُقُولِ. * * * ﴿وقَدِّمُوا لِأنْفُسِكم واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أنَّكم مُلاقُوهُ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾، أوْ عَلى جُمْلَةِ ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: ٢٢٢] . عَطْفَ الإنْشاءِ عَلى الخَبَرِ، عَلى أنَّ الجُمْلَةَ المَعْطُوفَ عَلَيْها وإنْ كانَتْ خَبَرًا فالمَقْصُودُ مِنها الأمْرُ بِالتَّوْبَةِ والتَّطَهُّرِ؛ فَكُرِّرَ ذَلِكَ اهْتِمامًا بِالحِرْصِ عَلى الأعْمالِ الصّالِحَةِ بَعْدَ الكَلامِ عَلى اللَّذائِذِ العاجِلَةِ. وحُذِفَ مَفْعُولُ قَدِّمُوا اخْتِصارًا لِظُهُورِهِ؛ لِأنَّ التَّقْدِيمَ هُنا إعْدادُ الحَسَناتِ فَإنَّها بِمَنزِلَةِ الثَّقَلِ الَّذِي يُقَدِّمُهُ المُسافِرُ. وقَوْلُهُ لِأنْفُسِكم مُتَعَلِّقٌ بِـ (قَدِّمُوا)، واللّامُ لِلْعِلَّةِ أيْ لِأجْلِ أنْفُسِكم أيْ لِنَفْعِها، وقَوْلُهُ ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ تَحْرِيضٌ عَلى امْتِثالِ الشَّرْعِ بِتَجَنُّبِ المُخالَفَةِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ التَّخَلِّي عَنِ السَّيِّئاتِ والتَّحَلِّي بِالواجِباتِ والقُرُباتِ، فَمَضْمُونُها أعَمُّ مِن مَضْمُونِ جُمْلَةِ ﴿وقَدِّمُوا لِأنْفُسِكُمْ﴾ فَلِذَلِكَ كانَتْ هَذِهِ تَذْيِيلًا. (p-٣٧٥)وقَوْلُهُ ﴿واعْلَمُوا أنَّكم مُلاقُوهُ﴾ يَجْمَعُ التَّحْذِيرَ والتَّرْغِيبَ، أيْ فَلاقُوهُ بِما يَرْضى بِهِ عَنْكم كَقَوْلِهِ: ووَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ، وهو عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ . والمُلاقاةُ: مُفاعَلَةٌ مِنَ اللِّقاءِ وهو الحُضُورُ لَدى الغَيْرِ بِقَصْدٍ أوْ مُصادَفَةٍ. وأصْلُ مادَّةِ لَقِيَ تَقْتَضِي الوُقُوعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَكانَتْ مُفِيدَةً مَعْنى المُفاعَلَةِ بِمُجَرَّدِها، فَلِذَلِكَ كانَ لَقِيَ ولاقى بِمَعْنًى واحِدٍ، وإنَّما أمَرَهُمُ اللَّهُ بِعِلْمِ أنَّهم مُلاقُوهُ مَعَ أنَّ المُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ تَنْزِيلًا لِعِلْمِهِمْ مَنزِلَةَ العَدَمِ في هَذا الشَّأْنِ، لِيُزادَ مِن تَعْلِيمِهِمُ اهْتِمامًا بِهَذا المَعْلُومِ وتَنافُسًا فِيهِ عَلى أنَّنا رَأيْنا أنَّ في افْتِتاحِ الجُمْلَةِ بِكَلِمَةِ: ”اعْلَمُوا“ اهْتِمامًا بِالخَبَرِ واسْتِنْصاتًا لَهُ وهي نُقْطَةٌ عَظِيمَةٌ سَيَأْتِي الكَلامُ عَلَيْها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: ٢٤] في سُورَةِ الأنْفالِ. وقَدْ رُتِّبَتِ الجُمَلُ الثَّلاثُ الأُوَلُ عَلى عَكْسِ تَرْتِيبِ حُصُولِ مَضامِينِها في الخارِجِ؛ فَإنَّ الظّاهِرَ أنْ يَكُونَ الإعْلامُ بِمُلاقاةِ اللَّهِ هو الحاصِلَ أوَّلًا ثُمَّ يَعْقُبُهُ الأمْرُ بِالتَّقْوى، ثُمَّ الأمْرُ بِأنْ يُقَدِّمُوا لِأنْفُسِهِمْ، فَخُولِفَ الظّاهِرُ لِلْمُبادَرَةِ بِالأمْرِ بِالِاسْتِعْدادِ لِيَوْمِ الجَزاءِ، وأُعْقِبَ بِالأمْرِ بِالتَّقْوى إشْعارًا بِأنَّها هي الِاسْتِعْدادُ، ثُمَّ ذُكِّرُوا بِأنَّهم مُلاقُو اللَّهِ فَجاءَ ذَلِكَ بِمَنزِلَةِ التَّعْلِيلِ. وقَوْلُهُ ﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ تَعْقِيبٌ لِلتَّحْذِيرِ بِالبِشارَةِ، والمُرادُ: المُؤْمِنُونَ الكامِلُونَ وهُمُ الَّذِينَ يُسَرُّونَ بِلِقاءِ اللَّهِ كَما جاءَ: «مَن أحَبِّ لِقاءَ اللَّهِ أحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ»، وذِكْرُ هَذِهِ البِشارَةِ عَقِبَ ما تَقَدَّمَ إشارَةٌ إلى أنَّ امْتِثالَ الأحْكامِ المُتَقَدِّمَةِ مِن كَمالِ الإيمانِ، وجُمْلَةُ: ﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾، مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ: ﴿واعْلَمُوا أنَّكم مُلاقُوهُ﴾، عَلى الأظْهَرِ مِن جَعْلِ جُمْلَةِ: ﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكُمْ﴾، اسْتِئْنافًا غَيْرَ مَعْمُولَةٍ لِـ ﴿قُلْ هو أذًى﴾ [البقرة: ٢٢٢]، وإذا جَعَلْتَ جُمْلَةَ (نِساؤُكم) مِن مَعْمُولِ القَوْلِ كانَتْ جُمْلَةُ (وبَشِّرْ) مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةِ ﴿قُلْ هو أذًى﴾ [البقرة: ٢٢٢]؛ إذْ لا يَصِحُّ وُقُوعُها مَقُولًا لِلْقَوْلِ كَما اخْتارَهُ التَّفْتازانِيُّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب