الباحث القرآني

﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكُمْ﴾ أخْرَجَ البُخارِيُّ وجَماعَةٌ عَنْ جابِرٍ قالَ: ”كانَتِ اليَهُودُ تَقُولُ إذا أتى الرَّجُلُ امْرَأتَهُ مِن خَلْفِها في قُبُلِها ثُمَّ حَمَلَتْ جاءَ الوَلَدُ أحْوَلَ، فَنَزَلَتْ“ والحَرْثُ إلْقاءُ البِذْرِ في الأرْضِ، وهو غَيْرُ الزَّرْعِ؛ لِأنَّهُ إنْباتُهُ يُرْشِدُكَ إلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَرَأيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ﴾ ﴿أأنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ﴾ وقالَ الجَوْهَرِيُّ: الحَرْثُ الزَّرْعُ والحارِثُ الزّارِعُ، وعَلى كُلٍّ تَقْدِيرٌ هو خَبَرٌ عَمّا قَبْلَهُ، إمّا بِحَذْفِ المُضافِ أيْ مَواضِعِ حَرْثٍ، أوِ التَّجَوُّزِ والتَّشْبِيهِ البَلِيغِ؛ أيْ كَمَواضِعَ ذَلِكَ، وتَشْبِيهُهُنَّ بِتِلْكَ المَواضِعِ مُتَفَرِّعٌ عَلى تَشْبِيهِ النُّطَفِ بِالبُذُورِ مِن حَيْثُ إنَّ كُلًّا مِنهُما مادَّةٌ لِما يَحْصُلُ مِنهُ ولا يَحْسُنُ بِدُونِهِ، فَهو تَشْبِيهٌ يُكَنّى بِهِ عَنْ تَشْبِيهٍ آخَرَ ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ أيْ: ما هو كالحَرْثِ، فَفِيهِ اسْتِعارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَبْقى الحَرْثُ عَلى حَقِيقَتِهِ، والكَلامُ تَمْثِيلٌ، شَبَّهَ حالَ إتْيانِهِمُ النِّساءَ في المَأْتِيِّ بِحالِ إتْيانِهِمُ المَحارِثَ في عَدَمِ الِاخْتِصاصِ بِجِهَةٍ دُونَ جِهَةٍ، ثُمَّ أطْلَقَ لَفْظَ المُشَبَّهِ بِهِ عَلى المُشَبَّهِ، والأوَّلُ أظْهَرُ وأوْفَقُ لِتَفْرِيعِ حُكْمِ الإتْيانِ عَلى تَشْبِيهِهِنَّ بِالحَرْثِ تَشْبِيهًا بَلِيغًا، وهَذِهِ الجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ لِما فِيهِ مِنَ الإجْمالِ مِن حَيْثُ المُتَعَلِّقِ، والفاءُ جَزائِيَّةٌ، وما قَبْلَها عِلَّةٌ لِما بَعْدَها، وقُدِّمَ عَلَيْهِ اهْتِمامًا بِشَأْنِ العِلَّةِ، ولِيَحْصُلَ الحُكْمُ مُعَلَّلًا فَيَكُونَ أوْقَعَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَجْمُوعُ كالبَيانِ لِما تَقَدَّمَ، والفاءَ لِلْعَطْفِ، وعَطْفُ الإنْشاءِ عَلى الإخْبارِ جائِزٌ بِعاطِفٍ سِوى الواوِ. ﴿أنّى شِئْتُمْ﴾ قالَ قَتادَةُ والرَّبِيعُ: مِن أيْنَ شِئْتُمْ، وقالَ مُجاهِدٌ: كَيْفَ شِئْتُمْ، وقالَ الضَّحّاكُ: مَتى شِئْتُمْ، ومَجِيءُ أنّى بِمَعْنى أيْنَ وكَيْفَ ومَتى مِمّا أثْبَتَهُ الجَمُّ الغَفِيرُ، وتَلْزَمُها عَلى الأوَّلِ (مَن) ظاهِرَةٌ أوْ مُقَدَّرَةٌ، وهي شَرْطِيَّةٌ حُذِفَ جَوابُها لِدَلالَةِ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ عَلَيْهِ، واخْتارَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ كَوْنَها هُنا بِمَعْزِلٍ بِمَعْنى مِن أيْنَ، أيْ: مِن أيِّ جِهَةٍ لِيَدْخُلَ فِيهِ بَيانُ النُّزُولِ، والقَوْلُ بِأنَّ الآيَةَ حِينَئِذٍ تَكُونُ دَلِيلًا عَلى جَوازِ الإتْيانِ مِنَ الإدْبارِ ناشِئٌ مِن عَدَمِ التَّدَبُّرِ في أنَّ (مَن) لازِمَةٌ إذْ ذاكَ، فَيَصِيرُ المَعْنى مِن أيِّ مَكانٍ لا في أيِّ مَكانٍ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُسْتَفادُ حِينَئِذٍ تَعْمِيمَ الجِهاتِ مِنَ القُدّامِ والخَلْفِ والفَوْقِ والتَّحْتِ واليَمِينِ والشَّمالِ لا تَعْمِيمَ مَواضِعِ الإتْيانِ، فَلا دَلِيلَ في الآيَةِ لِمَن جَوَّزَ إتْيانَ المَرْأةِ في دُبُرِها كابْنِ عُمَرَ، والأخْبارُ عَنْهُ في ذَلِكَ صَحِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ، والرِّواياتُ عَنْهُ بِخِلافِها عَلى خِلافِها، وكابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ وعَبْدِ اللهِ بْنِ القاسِمِ حَتّى قالَ فِيما أخْرَجَهُ الطَّحاوِيُّ عَنْهُ: ما أدْرَكْتُ أحَدًا أُفْتَدى بِهِ في دِينِي يَشُكُّ في أنَّهُ حَلالٌ، وكَمالِكِ بْنِ أنَسٍ، حَتّى أخْرَجَ الخَطِيبُ عَنْ أبِي سُلَيْمانَ الجَوْزَجانِيِّ، أنَّهُ سَألَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقالَ لَهُ: (p-125)السّاعَةَ غَسَلْتُ رَأْسَ ذَكَرِي مِنهُ، وكَبَعْضِ الإمامِيَّةِ: لا كُلُّهم كَما يَظُنُّهُ بَعْضُ النّاسِ مِمَّنْ لا خِبْرَةَ لَهُ بِمَذْهَبِهِمْ، وكَسُحْنُونٍ: مِنَ المالِكِيَّةِ، والباقِي مِن أصْحابِ مالِكٍ يُنْكِرُونَ رِوايَةَ الحِلِّ عَنْهُ ولا يَقُولُونَ بِهِ، ويا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِالآيَةِ عَلى الجَوازِ مَعَ ما ذَكَرْناهُ فِيها، ومَعَ قِيامِ الِاحْتِمالِ كَيْفَ يَنْتَهِضُ الِاسْتِدْلالُ لا سِيَّما، وقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ وُجُوبِ الِاعْتِزالِ في المَحِيضِ، وعَلَّلَ بِأنَّهُ أذًى مُسْتَقْذَرٌ تَنْفُرُ الطِّباعُ السَّلِيمَةُ عَنْهُ، وهو يَقْتَضِي وُجُوبَ الِاعْتِزالِ عَنِ الإتْيانِ في الإدْبارِ لِاشْتِراكِ العِلَّةِ، ولا يُقاسُ ما في المَحاشِ مِنَ الفُضْلَةِ بِدَمِ الِاسْتِحاضَةِ، ومَن قاسَ فَقَدْ أخْطَأتِ اسْتُهُ الحُفْرَةَ لِظُهُورٍ الِاسْتِقْذارِ، والنَّفْرَةُ مِمّا في المَحاشِ دُونَ دَمِ الِاسْتِحاضَةِ، وهو دَمُ انْفِجارِ العِرْقِ كَدَمِ الجُرْحِ، وعَلى فَرْضِ تَسْلِيمِ أنَّ أنّى تَدُلُّ عَلى تَعْمِيمِ مَواضِعِ الإتْيانِ - كَما هو الشّائِعُ - يُجابُ بِأنَّ التَّقْيِيدَ بِمَواضِعِ الحَرْثِ يَدْفَعُ ذَلِكَ، فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قالَ: بَيْنا أنا ومُجاهِدٌ جالِسانِ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما -؛ إذْ أتاهُ رَجُلٌ فَقالَ: ألا تَشْفِيَنِي مِن آيَةِ المَحِيضِ؟ قالَ: بَلى، فَقَرَأ ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ المَحِيضِ﴾ إلى ﴿فَأْتُوهُنَّ مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مِن حَيْثُ جاءَ الدَّمُ مِن ثَمَّ أُمِرْتَ أنْ تَأْتِيَ، فَقالَ: كَيْفَ بِالآيَةِ ﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكم فَأْتُوا حَرْثَكم أنّى شِئْتُمْ﴾ فَقالَ: ويْحُكَ، وفي الدُّبُرِ مِن حَرْثٍ؟ لَوْ كانَ ما تَقُولُ حَقًّا لَكانَ المَحِيضُ مَنسُوخًا إذا شُغِلَ مِن هَهُنا جِئْتَ مِن هَهُنا، ولَكِنْ أنّى شِئْتُمْ مِنَ اللَّيْلِ والنَّهارِ، وما قِيلَ: مِن أنَّهُ لَوْ كانَ في الآيَةِ تَعْيِينُ الفَرَجِ لِكَوْنِهِ مَوْضِعَ الحَرْثِ لَلَزِمَ تَحْرِيمُ الوَطْءِ بَيْنَ السّاقَيْنِ وفي الأعْكانِ؛ لِأنَّها لَيْسَتْ مَوْضِعَ حَرْثٍ كالمَحاشِ مَدْفُوعٌ بِأنَّ الأُمَناءَ فِيما عَدا الضِّمامَيْنِ لا يُعَدُّ في العُرْفِ جِماعًا ووَطْئًا، واللَّهُ - تَعالى - قَدْ حَرَّمَ الوَطْءَ والجِماعَ في غَيْرِ مَوْضِعِ الحَرْثِ لا الِاسْتِمْناءَ، فَحُرْمَةُ الِاسْتِمْناءِ بَيْنَ السّاقَيْنِ وفي الأعْكانِ لَمْ تُعْلَمْ مِنَ الآيَةِ إلّا أنْ يُعَدَّ ذَلِكَ إيتاءً وجِماعًا وأنّى بِهِ، ولا أظُنُّكَ في مِرْيَةٍ مِن هَذا، وبِهِ يُعْلَمُ ما في مُناظَرَةِ الإمامِ الشّافِعِيِّ والإمامِ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ، فَقَدْ أخْرَجَ الحاكِمُ عَنْ عَبْدِ الحَكَمِ: أنَّ الشّافِعِيَّ ناظَرَ مُحَمَّدًا في هَذِهِ المَسْألَةِ، فاحْتَجَّ عَلَيْهِ ابْنُ الحَسَنِ بِأنَّ الحَرْثَ إنَّما يَكُونُ في الفَرْجِ، فَقالَ لَهُ: أفَيَكُونُ ما سِوى الفَرَجِ مُحَرَّمًا فَألْتَزِمُهُ؟ فَقالَ: أرَأيْتَ لَوْ وطِئَها بَيْنَ ساقَيْها أوْ في أعْكانِها أوَفِي ذَلِكَ حَرْثٌ؟ قالَ: لا، قالَ: أفَيَحْرُمُ؟ قالَ: لا، قالَ: فَكَيْفَ تَحْتَجُّ بِما لا تَقُولُ بِهِ، وكَأنَّهُ مِن هُنا قالَ الشّافِعِيُّ، فِيما حَكاهُ عَنْهُ الطَّحاوِيُّ والحاكِمُ والخَطِيبُ، لَمّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ: ما صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في تَحْلِيلِهِ ولا تَحْرِيمِهِ شَيْءٌ، والقِياسُ أنَّهُ حَلالٌ، وهَذا خِلافُ ما نَعْرِفُ مِن مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ، فَإنَّ رِوايَةَ التَّحْرِيمِ عَنْهُ مَشْهُورَةٌ، فَلَعَلَّهُ كانَ يَقُولُ ذَلِكَ في القَدِيمِ، ورَجَعَ عَنْهُ في الجَدِيدِ لِما صَحَّ عِنْدَهُ مِنَ الإخْبارِ أوْ ظَهَرَ لَهُ مِنَ الآيَةِ ﴿وقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ﴾ ما يَصْلُحُ لِلتَّقْدِيمِ مِنَ العَمَلِ الصّالِحِ، ومِنهُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الجِماعِ وطَلَبِ الوَلَدِ المُؤْمِنِ، فَقَدْ أخْرَجَ الشَّيْخانِ وغَيْرُهُما عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما - قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: «”لَوْ أنَّ أحَدَكم إذا أتى أهْلَهُ قالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنا الشَّيْطانَ وجَنِّبِ الشَّيْطانَ ما رَزَقَتْنا، فَقَضى بَيْنَهُما ولَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطانُ أبَدًا“،» وصَحَّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قالَ: «”إذا ماتَ الإنْسانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلّا مِن ثَلاثٍ؛ صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، وعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، ووَلَدٍ صالِحٍ يَدْعُو لَهُ“،» وعَنْ عَطاءٍ: تَخْصِيصُ المَفْعُولِ بِالتَّسْمِيَةِ، وعَنْ مُجاهِدٍ: بِالدُّعاءِ عِنْدَ الجِماعِ، وعَنْ بَعْضِهِمْ: بِطَلَبِ الوَلَدِ، وعَنْ آخَرِينَ: بِتَزَوُّجِ العَفائِفِ، والتَّعْمِيمُ أوْلى. ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ فِيما أمَرَكم بِهِ ونَهاكم عَنْهُ. ﴿واعْلَمُوا أنَّكم مُلاقُوهُ﴾ بِالبَعْثِ فَيُجازِيكم بِأعْمالِكم فَتَزَوَّدُوا ما يَنْفَعُكُمْ، والضَّمِيرُ المَجْرُورُ راجِعٌ إلى اللَّهِ - تَعالى - بِحَذْفِ مُضافٍ أوْ بِدُونِهِ ورُجُوعُهُ إلى ما قَدَّمْتُمْ أوْ إلى الجَزاءِ المَفْهُومِ مِنهُ بَعِيدٌ، والأوامِرُ مَعْطُوفَةٌ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ وفائِدَتُها الإرْشادُ العامُّ بَعْدَ الإرْشادِ الخاصِّ، وكَوْنُ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ مَبْنِيَّةً لا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ (p-126)المَعْطُوفُ عَلَيْها كَذَلِكَ ﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ 223﴾ الَّذِينَ تَلَقَّوْا ما خُوطِبُوا بِهِ بِالقَبُولِ والِامْتِثالِ بِما لا تُحِيطُ بِهِ عِبارَةٌ مِنَ الكَرامَةِ والنَّعِيمِ، وحَمَلَ بَعْضُهُمُ المُؤْمِنِينَ عَلى الكامِلِينَ في الإيمانِ بِناءً عَلى أنَّ الخِطاباتِ السّابِقَةَ كانَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا، فَلَوْ كانَتْ هَذِهِ البِشارَةُ لَهم كانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ (وبَشِّرْهُمْ)، فَلَمّا وضَعَ المُظْهَرَ مَوْضِعَ المُضْمَرِ عُلِمَ أنَّ المُرادَ غَيْرُ السّابِقِينَ وهُمُ المُؤْمِنُونَ الكامِلُونَ، ولا يَخْفى أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ العُدُولُ إلى الظّاهِرِ لِلدَّلالَةِ عَلى العِلْيَةِ، ولِكَوْنِهِ فاصِلَةً، فَلا يَتِمُّ ما ذَكَرَهُ، والواوُ لِلْعَطْفِ، وبَشِّرِ عَطْفٌ عَلى (قُلْ) المَذْكُورُ سابِقًا أوْ عَلى ( قُلْ ) مُقَدَّرَةً قَبْلَ (قَدِّمُوا) وهي مَعْطُوفَةٌ عَلى المَذْكُورَةِ. ومِن بابِ الإشارَةِ: يَسْألُونَكَ عَنْ خَمْرِ الهَوى وحُبِّ الدُّنْيا ومَيْسِرِ احْتِيالِ النَّفْسِ بِواسِطَةِ قِداحِها الَّتِي هي حَواسُّها العَشَرَةُ المُودَعَةُ في رَبابَةِ البَدَنِ لِنَيْلِ شَيْءٍ مِن جَزُورِ اللَّذّاتِ والشَّهَواتِ، قُلْ فِيهِما إثْمُ الحِجابِ والبُعْدُ عَنِ الحَضْرَةِ ومَنافِعُ لِلنّاسِ في بابِ المَعاشِ وتَحْصِيلِ اللَّذَّةِ النَّفْسانِيَّةِ والفَرَحِ بِالذُّهُولِ عَنِ المَعايِبِ والخَطَراتِ المُشَوَّشَةِ والهُمُومِ المُكَدِّرَةِ، وإثْمُهُما أكْبَرُ مِن نَفْعِهِما؛ لِأنَّ فَواتَ الوِصالِ في حَضائِرِ الجَمالِ لا يُقابِلُهُ شَيْءٌ، ولا يَقُومُ مَقامَهُ ( وِصالُ سُعْدى ولا مَيٌّ ) ولَفَرْقٌ عِنْدَ الأبْرارِ بَيْنَ السُّكْرِ مِنَ المُدِيرِ والسُّكْرِ مِنَ المُدارِ: وأسْكَرَ القَوْمَ وُرُودُ كَأْسٍ وكانَ سَكْرى مِنَ المُدِيرِ وهَذا هو السُّكْرُ الحَلالُ لَكِنَّهُ فَوْقَ عالَمِ التَّكْلِيفِ، ووَراءَ هَذا العالَمِ الكَثِيفِ وهو سُكْرُ أرْواحٍ لا أشْباحٍ، وسُكْرُ رِضْوانٍ لا حَمِيّا دِنانٍ: وما مَلَّ ساقِيها ولا مَلَّ شارِبٌ عَقارَ لِحاظٍ كَأْسُها يُسْكِرُ اللُّبّا ﴿ويَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ﴾ وهو ما سِوى الحَقِّ مِنَ الكَوْنَيْنِ ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ﴾ المُنَزَّلَةِ مِن سَماءِ الأرْواحِ ﴿لَعَلَّكم تَتَفَكَّرُونَ﴾ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وتَقْطَعُونَ بِوادِيهِما بِأجْنِحَةِ السَّيْرِ والسُّلُوكِ إلى مَلِكِ المُلُوكِ ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ المَحِيضِ﴾ وهو غَلَبَةُ دَواعِي الصِّفاتِ البَشَرِيَّةِ والحاجاتِ الإنْسانِيَّةِ ﴿قُلْ هو أذًى﴾ تَنْفُرُ القُلُوبُ الصّافِيَةُ عَنْهُ، فاعْتَزِلُوا بِقُلُوبِكم نِساءَ النُّفُوسِ في مَحِيضِ غَلَباتِ الهَوى حَتّى يَطْهُرْنَ ويَفْرُغْنَ مِن قَضاءِ الحَوائِجِ الضَّرُورِيَّةِ، فَإذا تَطَهَّرْنَ بِماءِ الإنابَةِ ورَجَعْنَ إلى الحَضْرَةِ في طَلَبِ القُرْبَةِ، فَأْتُوهُنَّ مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ؛ أيْ عِنْدَ ظُهُورِ شَواهِدِ الحَقِّ لِزَهُوقِ باطِلِ النَّفْسِ واضْمِحْلالِ هَواها، ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ﴾ عَنْ أوْصافِ الوُجُودِ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ بِنُورِ المَعْرِفَةِ عَنْ غُبارِ الكائِناتِ، أوْ يُحِبُّ التَّوّابِينَ مِن سُؤالاتِهِمْ، ﴿ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾ مِن إرادَتِهِمْ نِساءَكُمْ، وهي النُّفُوسُ الَّتِي غَدَتْ لِباسًا لَكم وغَدَوْتُمْ لِباسًا لَهُنَّ مَوْضِعَ حَرْثِكم لِلْآخِرَةِ، ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ مَتى شِئْتُمُ الحِراثَةَ لِمَعادِكُمْ، ﴿وقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ﴾ ما يَنْفَعُها ويُكْمِلُ نَشْأتَها، ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ مِنَ النَّظَرِ إلى ما سِواهُ، ﴿واعْلَمُوا أنَّكم مُلاقُوهُ﴾ بِالفَناءِ فِيهِ إذا اتَّقَيْتُمْ، ﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ بِما لا عَيْنٌ رَأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب