الباحث القرآني

(p-٣٣١)﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشًا والسَّماءَ بِناءً وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ يَتَعَيَّنُ أنَّ قَوْلَهُ ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشًا﴾ صِفَةٌ ثانِيَةٌ لِلرَّبِّ لِأنَّ مَساقَها مَساقُ قَوْلِهِ ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] والمَقْصُودُ الإيماءُ إلى سَبَبٍ آخَرَ لِاسْتِحْقاقِهِ العِبادَةَ وإفْرادِهِ بِها، فَإنَّهُ لَمّا أوْجَبَ عِبادَتَهُ أنَّهُ خالِقُ النّاسِ كُلِّهِمْ أُتْبِعَ ذَلِكَ بِصِفَةٍ أُخْرى تَقْتَضِي عِبادَتَهم إيّاهُ وحْدَهُ، وهي نِعَمُهُ المُسْتَمِرَّةُ عَلَيْهِمْ مَعَ ما فِيها مِن دَلائِلِ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ فَإنَّهُ مَكَّنَ لَهم سُبُلَ العَيْشِ وأوَّلُها المَكانُ الصّالِحُ لِلِاسْتِقْرارِ عَلَيْهِ بِدُونِ لُغُوبٍ فَجَعَلَهُ كالفِراشِ لَهم، ومِن إحاطَةِ هَذا القَرارِ بِالهَواءِ النّافِعِ لِحَياتِهِمْ والَّذِي هو غِذاءُ الرُّوحِ الحَيَوانِيِّ، وذَلِكَ ما أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ﴿والسَّماءَ بِناءً﴾ وبِكَوْنِ تِلْكَ الكُرَةِ الهَوائِيَّةِ واقِيَةَ النّاسِ مِن إضْرارِ طَبَقاتٍ فَوْقَها مُتَناهِيَةٍ في العُلُوِّ، مِن زَمْهَرِيرٍ أوْ عَناصِرَ غَرِيبَةٍ قاتِلَةٍ خانِقَةٍ، فالكُرَةُ الهَوائِيَّةُ جُعِلَتْ فَوْقَ هَذا العالَمِ فَهي كالبِناءِ لَهُ ونَفْعُها كَنَفْعِ البِناءِ فَشُبِّهَتْ بِهِ عَلى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ البَلِيغِ وبِأنْ أخْرَجَ لِلنّاسِ ما فِيهِ إقامَةُ أوَدِ حَياتِهِمْ بِاجْتِماعِ ماءِ السَّماءِ مَعَ قُوَّةِ الأرْضِ وهو الثِّمارُ. والمُرادُ بِالسَّماءِ هُنا إطْلاقُها العُرْفِيُّ عِنْدَ العَرَبِ وهو ما يَبْدُو لِلنّاظِرِ كالقُبَّةِ الزَّرْقاءِ وهو كُرَةُ الهَواءِ المُحِيطِ بِالأرْضِ كَما هو المُرادُ في قَوْلِهِ ﴿أوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾ [البقرة: ١٩] وهَذا هو المُرادُ الغالِبُ إذا أُطْلِقَ السَّماءُ بِالإفْرادِ دُونَ الجَمْعِ. ومَعْنى جَعَلَ الأرْضَ فِراشًا أنَّها كالفِراشِ في التَّمَكُّنِ مِنَ الِاسْتِقْرارِ والِاضْطِجاعِ عَلَيْها، وهو أخَصُّ أحْوالِ الِاسْتِقْرارِ. والمَعْنى أنَّهُ جَعَلَها مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ شِدَّةِ الصُّخُورِ بِحَيْثُ تُؤْلِمُ جِلْدَ الإنْسانِ وبَيْنَ رَخاوَةِ الحَمْأةِ بِحَيْثُ يَتَزَحْزَحُ الكائِنُ فَوْقَها ويَسُوخُ فِيها، وتِلْكَ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ. وأمّا وجْهُ شَبَهِ السَّماءِ بِالبِناءِ فَهو أنَّ الكُرَةَ الهَوائِيَّةَ جَعَلَها اللَّهُ حاجِزَةً بَيْنَ الكُرَةِ الأرْضِيَّةِ وبَيْنَ الكُرَةِ الأثِيرِيَّةِ. فَهي كالبِناءِ فِيما يُرادُ لَهُ البِناءُ وهو الوِقايَةُ مِنَ الأضْرارِ النّازِلَةِ، فَإنَّ لِلْكُرَةِ الهَوائِيَّةِ دَفْعًا لِأضْرارٍ أظْهَرُها دَفْعُ ضَرَرِ طُغْيانِ مِياهِ البِحارِ عَلى الأرْضِ، ودَفْعُ أضْرارِ بُلُوغِ أهْوِيَةٍ تَنْدَفِعُ عَنْ بَعْضِ الكَواكِبِ إلَيْنا وتَلْطِيفُها حَتّى تَخْتَلِطَ بِالهَواءِ أوْ صَدُّ الهَواءِ إيّاها عَنّا مَعَ ما في مُشابَهَةِ الكُرَةِ الهَوائِيَّةِ لِهَيْئَةِ القُبَّةِ، والقُبَّةُ بَيْتٌ مَن أدَمٍ مُقَبَّبٍ وتُسَمّى بِناءً (p-٣٣٢)والبِناءُ في كَلامِ العَرَبِ ما يُرْفَعُ سُمْكُهُ عَلى الأرْضِ لِلْوِقايَةِ سَواءً كانَ مِن حَجَرٍ أوْ مِن أدَمٍ أوْ مِن شَعْرٍ، ومِنهُ قَوْلُهم: بَنى عَلى امْرَأتِهِ، إذا تَزَوَّجَ، لِأنَّ المُتَزَوِّجَ يَجْعَلُ بَيْتًا يَسْكُنُ فِيهِ مَعَ امْرَأتِهِ وقَدِ اشْتَهَرَ إطْلاقُ البِناءِ مَن أدَمٍ ولِذَلِكَ سَمُّوا الأدَمَ الَّذِي تُبْنى مِنهُ القِبابُ مَبْناةً بِفَتْحِ المِيمِ وكَسْرِها، وهَذا كَقَوْلِهِ في سُورَةِ الأنْبِياءِ ﴿وجَعَلْنا السَّماءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾ [الأنبياء: ٣٢] فَإنْ قُلْتَ يَقْتَضِي كَلامُكَ هَذا أنَّ الِامْتِنانَ بِجَعْلِ السَّماءِ كالبِناءِ لِوِقايَةِ النّاسِ مِن قَبِيلِ المُعْجِزاتِ العِلْمِيَّةِ الَّتِي أشَرْتَ إلَيْها في المُقَدِّمَةِ العاشِرَةِ وذَلِكَ لا يُدْرِكُهُ إلّا الأجْيالُ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ زَمانِ النُّزُولِ فَماذا يَكُونُ حَظُّ المُسْلِمِينَ وغَيْرِهِمُ الَّذِينَ نَزَلَتْ بَيْنَهُمُ الآيَةُ ﴿والَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ [الحشر: ١٠] في عِدَّةِ أجْيالٍ، فَإنَّ أهْلَ الجاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَشْعُرُونَ بِأنَّ لِلسَّماءِ خاصِّيَّةَ البِناءِ في الوِقايَةِ، وغايَةُ ما كانُوا يَتَخَيَّلُونَهُ أنَّ السَّماءَ تُشْبِهُ سَقْفَ القُبَّةِ كَما قالَتِ الأعْرابِيَّةُ حِينَ سُئِلَتْ عَنْ مَعْرِفَةِ النُّجُومِ: أيَجْهَلُ أحَدٌ خَرَزاتٍ مُعَلَّقَةً في سَقْفِهِ. فَتَتَمَخَّضُ الآيَةُ لِإفادَةِ العِبْرَةِ بِذَلِكَ الخَلْقِ البَدِيعِ؛ إلّا أنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَظٌّ مِنَ الِامْتِنانِ الَّذِي أفادَهُ قَوْلُهُ: لَكم، فَهَلْ نَخُصُّ تَعَلُّقَهُ بِفِعْلِ ”جَعَلَ“ المُصَرَّحِ بِهِ دُونَ تَعَلُّقِهِ بِالفِعْلِ المَطْوِيِّ تَحْتَ واوِ العَطْفِ، أوْ بِجَعْلِهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فِراشًا فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿والسَّماءَ بِناءً﴾ مَعْطُوفًا عَلى مَعْمُولِ فِعْلِ الجَعْلِ المُجَرَّدِ عَنِ التَّقْيِيدِ بِالمُتَعَلِّقِ. قُلْتُ: هَذا يُفْضِي إلى التَّحَكُّمِ في تَعَلُّقِ قَوْلِهِ: لَكم تَحَكُّمًا لا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ لِلسّامِعِ بَلِ الوَجْهُ أنْ يُجْعَلَ ”لَكم“ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ (جَعَلَ) ويَكْفِي في الِامْتِنانِ بِخَلْقِ السَّماءِ إشْعارُ السّامِعِينَ لِهَذِهِ الآيَةِ بِأنَّ في خَلْقِ السَّماءِ عَلى تِلْكَ الصِّفَةِ ما في إقامَةِ البِناءِ مِنَ الفَوائِدِ عَلى الإجْمالِ لِيَفْرِضَهُ السّامِعُونَ عَلى مِقْدارِ قَرائِحِهِمْ وأفْهامِهِمْ ثُمَّ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ في قابِلِ الأجْيالِ. وحُذِفَ ”لَكم“ عِنْدَ ذِكْرِ السَّماءِ إيجازًا لِأنَّ ذِكْرَهُ في قَوْلِهِ ﴿جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشًا﴾ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. و(جَعَلَ) إنْ كانَتْ بِمَعْنى أوْجَدَ فَحَمْلُ الِامْتِنانِ هو إنْ كانَتا عَلى هَذِهِ الحالَةِ، وإنْ كانَتْ بِمَعْنى صَيَّرَ فَهي دالَّةٌ عَلى أنَّ الأرْضَ والسَّماءَ قَدِ انْتَقَلَتا مِن حالٍ إلى حالٍ حَتّى صارَتا كَما هُما. وصارَ أظْهَرَ في مَعْنى الِانْتِقالِ مِن صِفَةٍ إلى صِفَةٍ، وقَواعِدُ عِلْمِ طَبَقاتِ الأرْضِ ”الجِيُولُوجْيا“ تُؤْذِنُ بِهَذا الوَجْهِ الثّانِي فَيَكُونُ في الآيَةِ مِنَّتانِ وعِبْرَتانِ في جَعْلِهِما عَلى ما رَأيْنا، وفي الأطْوارِ الَّتِي انْتَقَلَتا فِيهِما بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وإذْنِهِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿أوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّ السَّماواتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقًا فَفَتَقْناهُما﴾ [الأنبياء: ٣٠] إلى قَوْلِهِ ﴿وجَعَلْنا السَّماءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وهم عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٢] (p-٣٣٣)وقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ وضَرَبَ العِبْرَةَ بِأقْرَبِ الأشْياءِ وأظْهَرِها لِسائِرِ النّاسِ حاضِرِهِمْ وبادِيهِمْ وبِأوَّلِ الأشْياءِ في شُرُوطِ هَذِهِ الحَياةِ. وفِيهِما أنْفَعُ الأشْياءِ وهُما الهَواءُ والماءُ النّابِعُ مِنَ الأرْضِ، وفِيهِما كانَتْ أوَّلُ مَنافِعِ البَشَرِ، وفي تَخْصِيصِ الأرْضِ والسَّماءِ بِالذِّكْرِ نُكْتَةٌ أُخْرى وهي التَّمْهِيدُ لِما سَيَأْتِي مِن قَوْلِهِ ﴿وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ إلَخْ. وابْتَدَأ بِالأرْضِ لِأنَّها أوَّلُ ما يَخْطُرُ بِبالِ المُعْتَبِرِ ثُمَّ بِالسَّماءِ لِأنَّهُ بَعْدَ أنْ يَنْظُرَ لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَنْظُرُ إلى ما يُحِيطُ بِهِ. وقَوْلُهُ ﴿وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجَ بِهِ﴾ إلَخْ هَذا امْتِنانٌ بِما يَلْحَقُ الإيجادَ مِمّا يَحْفَظُهُ مِنَ الِاخْتِلالِ وهو خِلْفَةٌ لِما تُتْلِفُهُ الحَرارَةُ الغَرِيزِيَّةُ والعَمَلُ العَصَبِيُّ والدِّماغِيُّ مِنَ القُوَّةِ البَدَنِيَّةِ لِيَدُومَ قِوامُ البَدَنِ بِالغِذاءِ، وأصْلُ الغِذاءِ هو ما يَخْرُجُ مِنَ الأرْضِ، وإنَّما تُخْرِجُ الأرْضُ النَّباتَ بِنُزُولِ الماءِ عَلَيْها مِنَ السَّماءِ أيْ مِنَ السَّحابِ والطَّبَقاتِ العُلْيا. واعْلَمْ أنَّ كَوْنَ الماءِ نازِلًا مِنَ السَّماءِ هو أنَّ تَكَوُّنَهُ يَكُونُ في طَبَقاتِ الجَوِّ مِن آثارِ البُخارِ الَّذِي في الجَوِّ، فَإنَّ الجَوَّ مُمْتَلِئٌ دائِمًا بِالأبْخِرَةِ الصّاعِدَةِ إلَيْهِ بِواسِطَةِ حَرارَةِ الشَّمْسِ مِن مِياهِ البِحارِ والأنْهارِ ومِن نَداوَةِ الأرْضِ ومِنَ النَّباتِ، ولِهَذا نَجِدُ الإناءَ المَمْلُوءَ ماءً فارِغًا بَعْدَ أيّامٍ إذا تُرِكَ مَكْشُوفًا لِلْهَواءِ فَإذا بَلَغَ البُخارُ أقْطارَ الجَوِّ العالِيَةَ بَرَدَ بِبُرُودَتِها وخاصَّةً في فَصْلِ الشِّتاءِ، فَإذا بَرَدَ مالَ إلى التَّمَيُّعِ، فَيَصِيرُ سَحابًا ثُمَّ يَمْكُثُ قَلِيلًا أوْ كَثِيرًا بِحَسَبِ التَّناسُبِ بَيْنَ بُرُودَةِ الطَّبَقاتِ الجَوِّيَّةِ والحَرارَةِ البُخارِيَّةِ فَإذا زادَتِ البُرُودَةُ عَلَيْهِ انْقَبَضَ السَّحابُ وثَقُلَ وتَمَيَّعَ فَتَجْتَمِعُ فِيهِ الفَقاقِيعُ المائِيَّةُ وتَثْقُلُ عَلَيْهِ فَتُنْزِلُ مَطَرًا وهو ما أشارَ لَهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ويُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ﴾ [الرعد: ١٢] وكَذَلِكَ إذا تَعَرَّضَ السَّحابُ لِلرِّيحِ الآتِيَةِ مِن جِهَةِ البَحْرِ وهي رِيحٌ نَدِيَّةٌ ارْتَفَعَ الهَواءُ إلى أعْلى الجَوِّ فَبَرَدَ فَصارَ مائِعًا، ورُبَّما كانَ السَّحابُ قَلِيلًا فَساقَتْ إلَيْهِ الرِّيحُ سَحابًا آخَرَ فانْضَمَّ أحَدُهُما لِلْآخَرِ ونَزَّلا مَطَرًا، ولِهَذا غَلَبَ المَطَرُ بَعْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ البَحْرِيَّةِ، وفي الحَدِيثِ «إذا أنْشَأتْ بِحْرِيَّةً ثُمَّ تَشاءَمَتْ فَتِلْكَ عَيْنٌ غُدَيْقَةٌ» . ومِنَ القَواعِدِ أنَّ الحَرارَةَ وقِلَّةَ الضَّغْطِ يَزِيدانِ في صُعُودِ البُخارِ وفي انْبِساطِهِ، والبُرُودَةَ وكَثْرَةَ الضَّغْطِ يُصَيِّرانِ البُخارَ مائِعًا وقَدْ جُرِّبَ أنَّ صُعُودَ البُخارِ يَزْدادُ بِقَدْرِ قُرْبِ الجِهَةِ مِن خَطِّ الِاسْتِواءِ ويَنْقُصُ بِقَدْرِ بُعْدِهِ عَنْهُ، وإلى بَعْضِ هَذا يُشِيرُ ما ورَدَ في الحَدِيثِ «أنَّ المَطَرَ يَنْزِلُ مِن صَخْرَةٍ تَحْتَ العَرْشِ» فَإنَّ العَرْشَ هو اسْمٌ لِسَماءٍ مِنَ السَّماواتِ، والصَّخْرَةُ تَقْرِيبٌ لِمَكانٍ ذِي بُرُودَةٍ، وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ المَطَرَ تُنْشِئُهُ البُرُودَةُ فَيَتَمَيَّعُ السَّحابُ فَكانَتِ البُرُودَةُ هي لِقاحُ المَطَرِ. (p-٣٣٤)و(مِنَ) الَّتِي في قَوْلِهِ ﴿مِنَ الثَّمَراتِ﴾ لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ إذْ لَيْسَ التَّبْعِيضُ مُناسِبًا لِمَقامِ الِامْتِنانِ، بَلْ إمّا لِبَيانِ الرِّزْقِ المُخْرَجِ - وتَقْدِيمُ البَيانِ عَلى المُبَيَّنِ شائِعٌ في كَلامِ العَرَبِ - وإمّا زائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ تَعَلُّقِ الإخْراجِ بِالثَّمَراتِ. * * * ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أتَتِ الفاءُ لِتَرْتِيبِ هاتِهِ الجُمْلَةِ عَلى الكَلامِ السّابِقِ وهو مُتَرَتِّبٌ عَلى الأمْرِ بِالعِبادَةِ، و”لا“ ناهِيَةٌ، والفِعْلُ مَجْزُومٌ، ولَيْسَتْ نافِيَةً حَتّى يَكُونَ الفِعْلُ مَنصُوبًا في جَوابِ الأمْرِ مِن قَوْلِهِ ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] والمُرادُ هُنا تَسَبُّبُهُ الخاصُّ وهو حُصُولُهُ عَنْ دَلِيلٍ يُوجِبُهُ وهو أنَّ الَّذِي أمَرَكم بِعِبادَتِهِ هو المُسْتَحِقُّ لِلْإفْرادِ بِها فَهو أخَصُّ مِن مُطْلَقِ ضِدِّ العِبادَةِ؛ لِأنَّ ضِدَّ العِبادَةَ عَدَمُ العِبادَةِ. ولَكِنْ لَمّا كانَ الإشْراكُ لِلْمَعْبُودِ في العِبادَةِ يُشْبِهُ تَرْكَ العِبادَةِ جُعِلَ تَرْكُ الإشْراكِ مُساوِيًا لِنَقِيضِ العِبادَةِ لِأنَّ الإشْراكَ ما هو إلّا تَرْكٌ لِعِبادَةِ اللَّهِ في أوْقاتِ تَعْظِيمِ شُرَكائِهِمْ. والنِّدُّ بِكَسْرِ النُّونِ المُساوِي والمُماثِلُ في أمْرٍ مِن مَجْدٍ أوْ حَرْبٍ، وزادَ بَعْضُ أهْلِ اللُّغَةِ أنْ يَكُونَ مُناوِئًا أيْ مُعادِيًا، وكَأنَّهم نَظَرُوا إلى اشْتِقاقِهِ مِن نَدَّ إذا نَفَرَ وعانَدَ. ولَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ لِجَوازِ كَوْنِهِ اسْمًا جامِدًا، وأظُنُّ أنَّ وجْهَ دَلالَةِ النِّدِّ عَلى المُناوَأةِ والمُضادَّةِ أنَّها مِن لَوازِمِ المُماثَلَةِ عُرْفًا عِنْدَ العَرَبِ، شَأْنُ المِثْلِ عِنْدَهم أنْ يُنافِسَ مُماثِلَهُ ويُزاحِمَهُ في مُرادِهِ فَتَحْصُلُ المُضادَّةُ. ونَظِيرُهُ في عَكْسِهِ تَسْمِيَتُهُمُ المُماثِلَ قَرِيعًا، فَإنَّ القَرِيعَ هو الَّذِي يُقارِعُ ويُضارِبُ. ولَمّا كانَ أحَدٌ لا يَتَصَدّى لِمُقارَعَةِ مَن هو فَوْقَهُ لِخَشْيَتِهِ ولا مَن هو دُونَهُ لِاحْتِقارِهِ كانَتِ المُقارَعَةُ مُسْتَلْزِمَةً لِلْمُماثِلَةِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهم قِرْنٌ لِلْمُحارِبِ المُكافِئِ في الشَّجاعَةِ. ويُقالُ جَعَلَ لَهُ نِدًّا، إذا سَوّى غَيْرَهُ بِهِ. والمَعْنى: لا تُثْبِتُوا لِلَّهِ أنْدادًا تَجْعَلُونَها جَعْلًا وهي لَيْسَتْ أنْدادًا؛ وسَمّاها أنْدادًا تَعْرِيضًا بِزَعْمِهِمْ لِأنَّ حالَ العَرَبِ في عِبادَتِهِمْ لَها كَحالِ مَن يُسَوِّي بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَها وإنْ كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: إنَّ الآلِهَةَ شُفَعاءُ، ويَقُولُونَ: ما نَعْبُدُهم إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ، وجَعَلُوا اللَّهَ خالِقَ الآلِهَةِ فَقالُوا في التَّلْبِيَةِ: لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ إلّا شَرِيكًا هو لَكَ تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ، لَكِنَّهم لَمّا عَبَدُوها، ونَسُوا بِعِبادَتِها والسَّعْيِ إلَيْها والنُّذُورِ عِنْدَها وإقامَةِ المَواسِمِ حَوْلَها عِبادَةَ اللَّهِ، أصْبَحَ عَمَلُهم (p-٣٣٥)عَمَلَ مَن يَعْتَقِدُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَها وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى لِأنَّ العِبْرَةَ بِالفِعْلِ لا بِالقَوْلِ. وفي ذَلِكَ مَعْنًى مِنَ التَّعْرِيضِ بِهِمْ ورَمْيِهِمْ بِاضْطِرابِ الحالِ ومُناقِضَةِ الأقْوالِ لِلْأفْعالِ. وقَوْلُهُ ﴿وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، ومَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَتْرُوكٌ لِأنَّ الفِعْلَ لَمْ يُقْصَدْ تَعْلِيقُهُ بِمَفْعُولٍ، بَلْ قُصِدَ إثْباتُهُ لِفاعِلِهِ فَقَطْ فَنُزِّلَ الفِعْلُ مَنزِلَةَ اللّازِمِ، والمَعْنى: وأنْتُمْ ذَوُوا عِلْمٍ. والمُرادُ بِالعِلْمِ هُنا العَقْلُ التّامُّ، وهو رُجْحانُ الرَّأْيِ المُقابَلُ عِنْدَهم بِالجَهْلِ عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩] وقَدْ جَعَلَتْ هاتِهِ الحالُ مَحَطَّ النَّهْيِ والنَّفْيِ تَمْلِيحًا في الكَلامِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ التَّوْبِيخِ وإثارَةِ الهِمَّةِ، فَإنَّهُ أثْبَتَ لَهم عِلْمًا ورَجاحَةَ الرَّأْيِ لِيُثِيرَ هِمَّتَهم ويَلْفِتَ بَصائِرَهم إلى دَلائِلِ الوَحْدانِيَّةِ، ونَهاهم عَنِ اتِّخاذِ الآلِهَةِ أوْ نَفى ذَلِكَ مَعَ تَلَبُّسِهِمْ بِهِ وجَعَلَهُ لا يَجْتَمِعُ مَعَ العِلْمِ تَوْبِيخًا لَهم عَلى ما أهْمَلُوا مِن مَواهِبِ عُقُولِهِمْ وأضاعُوا مِن سَلامَةِ مَدارِكِهِمْ. وهَذا مَنزَعٌ تَهْذِيبِيٌّ عَظِيمٌ: أنْ يَعْمِدَ المُرَبِّي فَيَجْمَعَ لِمَن يُرَبِّيهِ بَيْنَ ما يَدُلُّ عَلى بَقِيَّةِ كَمالٍ فِيهِ حَتّى لا يَقْتُلَ هِمَّتَهُ بِاليَأْسِ مِن كَمالِهِ فَإنَّهُ إذا ساءَتْ ظُنُونُهُ في نَفْسِهِ خارَتْ عَزِيمَتُهُ وذَهَبَتْ مَواهِبُهُ، ويَأْتِي بِما يَدُلُّ عَلى نَقائِضَ فِيهِ لِيَطْلُبَ الكَمالَ فَلا يَسْتَرِيحُ مِنَ الكَدِّ في طَلَبِ العُلا والكَمالِ. وقَدْ أوْمَأ قَوْلُهُ ﴿وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ إلى أنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ لا نِدَّ لَهُ ولَكِنَّهم تَعامَوْا وتَناسَوْا فَقالُوا: ؎إلّا شَرِيكًا هو لَكَ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب