الباحث القرآني

﴿وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، وفِيها مِنَ التَّحْرِيكِ إلى تَرْكِ الأنْدادِ وإفْرادِ اللَّهِ بِالوَحْدانِيَّةِ ما لا يَخْفى، أيْ أنْتُمْ مِن ذَوِي العِلْمِ والتَّمْيِيزِ بَيْنَ الحَقائِقِ والإدْراكِ لِلَطائِفِ الأشْياءِ والِاسْتِخْراجِ لِغَوامِضِ الدَّلائِلِ في الرُّتْبَةِ الَّتِي لا تَلِيقُ لِمَن تَحَلّى بِها أنْ يَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَهُ. إذْ ذاكَ فِعْلَ مَن كانَ أجْهَلَ العالَمِ وأبْعَدَهم عَنِ الفِطْنَةِ وأكْثَرَهم تَجْوِيزًا لِلْمُسْتَحِيلاتِ، ومَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَتْرُوكٌ لِأنَّ المَقْصُودَ إثْباتُ أنَّهم مِن أهْلِ العِلْمِ والمَعْرِفَةِ. والتَّمْيِيزُ تَخْصِيصُ العِلْمِ بِشَيْءٍ، قالَ مَعْناهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ؛ لِأنَّهُ فَسَّرَ تَعْلَمُونَ بِمَعْنى تَعْقِلُونَ، وقِيلَ: هو مَحْذُوفٌ اخْتِصارًا، تَقْدِيرُهُ: وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّهُ خَلَقَ السَّماواتِ وأنْزَلَ الماءَ، وفَعَلَ ما شَرَحَهُ في هَذِهِ الآياتِ. ومَعْنى هَذا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ ومُقاتِلٍ، أوْ أنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ في كِتابَيْكُمُ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ. ورُوِيَ ذَلِكَ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أوْ أنَّهُ لا نِدَّ لَهُ، قالَهُ مُجاهِدٌ، أوْ أنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى فِعْلِ ما ذَكَرَهُ أحَدٌ سِواهُ، ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أوْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّها حِجارَةٌ، قالَهُ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ الخَشّابِ، أوْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما بَيْنَهُ وبَيْنَها مِنَ التَّفاوُتِ، أوْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّها لا تَفْعَلُ مِثْلَ أفْعالِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿هَلْ مِن شُرَكائِكم مَن يَفْعَلُ مِن ذَلِكم مِن شَيْءٍ﴾ [الروم: ٤٠]، قالَهُما الزَّمَخْشَرِيُّ، والمُخاطَبُ بِقَوْلِهِ: ”فَلا تَجْعَلُوا“ ظاهِرُهُ أنَّهُ لِلنّاسِ المَأْمُورِينَ بِاعْبُدُوا رَبَّكم، وقَدْ تَقَدَّمَتْ أقاوِيلُ السَّلَفِ في ذَلِكَ. قالَ ابْنُ فُورَكَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، المَعْنى: فَلا تَرْتَدُوا أيُّها المُؤْمِنُونَ وتَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا بَعْدَ عِلْمِكم أنَّ العِلْمَ هو نَفْيُ الجَهْلِ بِأنَّ اللَّهَ واحِدٌ. قالَ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الآيَةُ تُعْطِي أنَّ اللَّهَ - تَعالى - أغْنى الإنْسانَ بِنِعَمِهِ هَذِهِ عَنْ كُلِّ مَخْلُوقٍ، فَمَن أحْوَجَ نَفْسَهُ إلى بِشَرٍ مِثْلِهِ بِسَبَبِ الحِرْصِ والأمَلِ والرَّغْبَةِ في زُخْرُفِ الدُّنْيا، فَقَدْ أخَذَ بِطَرَفِ مَن جَعَلَ نِدًّا، انْتَهى. وقَوْلُ أبِي مُحَمَّدٍ يُعْطِي أنَّ اللَّهَ أغْنى الإنْسانَ، خَطَأٌ في التَّرْكِيبِ؛ لِأنَّ أعْطى لا تَنُوبُ أنَّ ومَعْمُولاها مَنابَ مَفْعُولَيْها، بِخِلافِ ظَنَّ، فَإنَّها تَنُوبُ مَنابَ مَفْعُولَيْها، ولِذَلِكَ سِرٌّ ذُكِرَ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ. قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: اخْتَصَّ تَعالى بِهَذِهِ المَخْلُوقاتِ وهي: الخِلْقَةُ البَشَرِيَّةُ، والبِنْيَتانِ الأرْضِيَّةُ والسَّماوِيَّةُ؛ لِأنَّها مَحَلُّ الِاعْتِبارِ ومَسْرَحُ الإبْصارِ ومَواطِنُ المَنافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ والأُخْرَوِيَّةِ، وبِها يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ وقُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ وحَياتِهِ وإرادَتِهِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِن صِفاتِهِ الذّاتِيَّةِ والفِعْلِيَّةِ، وانْفِرادِهِ بِخَلْقِها وأحْكامِها، وقَدَّمَ الخِلْقَةَ البَشَرِيَّةَ، وإنْ كانَتْ لِلْعالَمِ الأصْغَرِ، لِما فِيها مِن بَدائِعِ الصَّنْعَةِ ما لا يُعَبِّرُ عَنْهُ وصْفُ لِسانٍ ولا يُحِيطُ بِكُنْهِهِ فِكْرُ جَنانٍ، وظُهُورُ حُسْنِ الصَّنْعَةِ في الأشْياءِ اللَّطِيفَةِ الجِرْمِ أعْظَمُ مِنهُ في الأجْرامِ العِظامِ، ولِأنَّ اعْتِبارَ الإنْسانِ بِنَفْسِهِ في تَقَلُّبِ أحْوالِهِ أقْرَبُ إلى ذِهْنِهِ. قالَ تَعالى: ﴿وفِي أنْفُسِكم أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١]، أوْ لِأنَّ العَرَبَ عادَتُها تَقْدِيمُ الأهَمِّ عِنْدَها والمُعْتَنى بِهِ، قالَ: وهو تَعالى بِإصْلاحِ حالِ البِنْيَةِ البَشَرِيَّةِ أكْثَرُ اهْتِمامًا مِن غَيْرِها مِنَ المَخْلُوقاتِ؛ لِأنَّها أشْرَفُ مَخْلُوقاتِهِ وأكْرَمُها عَلَيْهِ. قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: ٧٠] الآيَةَ، ولِأنَّهُ تَعالى خَلَقَ هَذِهِ الأشْياءَ مَنافِعَ لِبَنِي آدَمَ وأعَدَّها نِعَمًا يَمْتَنُّ بِها عَلَيْهِمْ، وذِكْرُ المُنْعَمِ عَلَيْهِ يَتَقَدَّمُ عَلى ذِكْرِ النِّعْمَةِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا عَرَّفَهم أنَّهُ خالِقُهم أخْبَرَهم أنَّهُ جَعَلَ لَهم مَكانًا يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ، إذْ كانَتْ حِكْمَتُهُ اقْتَضَتْ ذَلِكَ، فَيَسْتَقِرُّونَ فِيهِ جُلُوسًا ونَوْمًا وتَصَرُّفًا في مَعايِشِهِمْ، وجَعَلَ مِنهُ سَهْلا لِلْقَرارِ والزَّرْعِ، ووَعْرًا لِلِاعْتِصامِ، وجِبالًا لِسُكُونِ الأرْضِ مِنَ الِاضْطِرابِ. ثُمَّ لَمّا مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالمُسْتَقَرِّ أخْبَرَهم بِجَعْلِ ما يَقِيهِمْ ويُظِلُّهم، وجَعَلَهُ كالخَيْمَةِ المَضْرُوبَةِ عَلَيْهِمْ، وأشْهَدَهم فِيها مِن غَرائِبِ الحِكْمَةِ بِأنْ أمْسَكَها فَوْقَهم بِلا عَمَدٍ ولا طَنَبٍ لِتَهْتَدِيَ عُقُولُهم، أنَّها لَيْسَتْ مِمّا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدُورِ البَشَرِ، ثُمَّ نَبَّهْهم عَلى النِّعْمَةِ العُظْمى، وهي إنْزالُ المَطَرِ الَّذِي هو (p-١٠١)مادَّةُ الحَياةِ وسَبَبُ اهْتِزازِ الأرْضِ بِالنَّباتِ، وأجْناسِ الثَّمَراتِ. وقَدَّمَ ذِكْرَ الأرْضِ عَلى السَّماءِ، وإنْ كانَتْ أعْظَمُ في القُدْرَةِ وأمْكَنُ في الحِكْمَةِ وأتَمُّ في النِّعْمَةِ وأكْبَرُ في المِقْدارِ؛ لِأنَّ السَّقْفَ والبُنْيانَ، فِيما يُعْهَدُ، لا بُدَّ لَهُ مِن أساسٍ وعَمَدٍ مُسْتَقِرٍّ عَلى الأرْضِ، فَبَدَأ بِذِكْرِها، إذْ عَلى مَتْنِها يُوضَعُ الأساسُ وتَسْتَقِرُّ القَواعِدُ، إذْ لا يَنْبَغِي ذِكْرُ السَّقْفِ أوَّلًا قَبْلَ ذِكْرِ الأرْضِ الَّتِي تَسْتَقِرُّ عَلَيْها قَواعِدُهُ، أوْ لِأنَّ الأرْضَ خَلْقَها مُتَقَدِّمٌ عَلى خَلْقِ السَّماءِ، فَإنَّهُ تَعالى خَلَقَ الأرْضَ ومَهَّدَ رَواسِيها قَبْلَ خَلْقِ السَّماءِ. قالَ تَعالى: ﴿قُلْ أئِنَّكم لَتَكْفُرُونَ﴾ [فصلت: ٩] إلى آخِرِ الآياتِ، أوْ لِأنَّ ذَلِكَ مِن بابِ التَّرَقِّي بِذِكْرِ الأدْنى إلى ذِكْرِ الأعْلى. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هاتانِ الآيَتانِ مِن بَدائِعِ الصَّنْعَةِ، ودَقائِقِ الحِكْمَةِ، وظُهُورِ البَراهِينِ، ما اقْتَضى تَعالى أنَّهُ المُنْفَرِدُ بِالإيجادِ، المُتَكَفِّلُ لِلْعِبادِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الأنْدادِ الَّتِي لا تَخْلُقُ ولا تَرْزُقُ ولا لَها نَفْعٌ ولا ضَرٌّ، ألا لِلَّهِ الخَلْقُ والأمْرُ. قالَ بَعْضُ أصْحابِ الإشاراتِ: لَمّا امْتَنَّ تَعالى عَلَيْهِمْ بِأنَّهُ خَلَقَهم والَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، ضَرَبَ لَهم مَثَلًا يُرْشِدُهم إلى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ خَلْقِهِمْ، وأنَّهم وإنْ كانُوا مُتَوالِدِينَ بَيْنَ ذَكَرٍ وأُنْثى، مَخْلُوقِينَ ﴿مِن نُطْفَةٍ إذا تُمْنى﴾ [النجم: ٤٦]، هو تَعالى خالِقُهم عَلى الحَقِيقَةِ، ومُصَوِّرُهم في الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ، ومُخْرِجُهم طِفْلًا، ومُرَبِّيهِمْ بِما يُصْلِحُهم مِن غِذاءٍ وشَرابٍ ولِباسٍ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَنافِعِ الَّتِي تَدْعُو حاجَتَهم إلَيْها فَجَعَلَ الأرْضَ الَّتِي هي فِراشٌ مِثْلَ الأُمِّ الَّتِي يَفْتَرِشُها الزَّوْجُ، وهي أيْضًا تُسَمّى فِراشًا، وشَبَّهَ السَّماءَ الَّتِي عَلَتْ عَلى الأرْضِ بِالأبِ الَّذِي يَعْلُو عَلى الأُمِّ ويَغْشاها، وضَرَبَ الماءَ النّازِلَ مِنَ السَّماءِ مَثَلًا لِلنُّطْفَةِ الَّتِي تَنْزِلُ مَن صُلْبِ الأبِ، وضَرَبَ ما يَخْرُجُ مِنَ الأرْضِ مِنَ الثَّمَراتِ بِالوَلَدِ الَّذِي يَخْرُجُ مِن بَطْنِ الأُمِّ، يُؤْنِسُ تَعالى بِذَلِكَ عُقُولَهم ويُرْشِدُها إلى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ التَّخْلِيقِ، ويُعَرِّفُها أنَّهُ الخالِقُ لِهَذا الوَلَدِ والمُخْرِجُ لَهُ مِن بَطْنِ أُمِّهِ، كَما أنَّهُ الخالِقُ لِلثَّمَراتِ ومُخْرِجُها مِن بُطُونِ أشْجارِها، ومُخْرِجُ أشْجارِها مِن بَطْنِ الأرْضِ، فَإذا أوْضَحَ ذَلِكَ لَهم أفْرَدُوهُ بِالإلَهِيَّةِ، وخَصُّوهُ بِالعِبادَةِ، وحَصَلَتْ لَهُمُ الهِدايَةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب