الباحث القرآني

﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشًا﴾؛ وهو في مَحَلِّ النَّصْبِ؛ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ ثانِيَةٌ لِـ "رَبَّكُمْ"؛ مُوَضِّحَةٌ؛ أوْ مادِحَةٌ؛ أوْ عَلى تَقْدِيرِ "أخُصُّ"؛ أوْ "أمْدَحُ"؛ أوْ في مَحَلِّ الرَّفْعِ (p-61)عَلى المَدْحِ والتَّعْظِيمِ؛ بِتَقْدِيرِ المُبْتَدَإ؛ قالَ ابْنُ مالِكٍ: التُزِمَ حَذْفُ الفِعْلِ في المَنصُوبِ عَلى المَدْحِ؛ إشْعارًا بِأنَّهُ إنْشاءٌ؛ كَما في المُنادى؛ وحَذْفُ المُبْتَدَإ في المَرْفُوعِ إجْراءً لِلْوَجْهَيْنِ عَلى سَنَنٍ واحِدٍ؛ وأمّا كَوْنُهُ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ "فَلا تَجْعَلُوا"؛ كَما قِيلَ؛ فَيَسْتَدْعِي أنْ يَكُونَ مَناطُ النَّهْيِ ما في حَيِّزِ الصِّلَةِ فَقَطْ؛ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ لِما سَلَفَ مِن خَلْقِهِمْ وخَلْقِ مَن قَبْلَهم مُدْخَلٌ في ذَلِكَ؛ مَعَ كَوْنِهِ أعْظَمَ شَأْنًا. و"جَعَلَ" بِمَعْنى "صَيَّرَ"؛ والمَنصُوبانِ بَعْدَهُ مَفْعُولاهُ؛ وقِيلَ: هو بِمَعْنى "خَلَقَ"؛ وانْتِصابُ الثّانِي عَلى الحالِيَّةِ؛ والظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ عَلى التَّقْدِيرَيْنِ؛ وتَقْدِيمُهُ عَلى المَفْعُولِ الصَّرِيحِ لِتَعْجِيلِ المَسَرَّةِ؛ بِبَيانِ كَوْنِ ما يَعْقُبُهُ مِن مَنافِعِ المُخاطَبِينَ؛ ولِلتَّشْوِيقِ إلَيْهِ؛ لِأنَّ النَّفْسَ عِنْدَ تَأْخِيرِ ما حَقُّهُ التَّقْدِيمُ - لا سِيَّما بَعْدَ الإشْعارِ بِمَنفَعَتِهِ - مُتَرَقِّبَةٌ لَهُ؛ فَيَتَمَكَّنُ لَدَيْها عِنْدَ وُرُودِهِ عَلَيْها أفْضَلَ تَمَكُّنٍ؛ أوْ لِما في المُؤَخَّرِ؛ وما عُطِفَ عَلَيْهِ؛ مِن نَوْعِ طُولٍ؛ فَلَوْ قُدِّمَ لَفاتَ تَجاوُبُ أطْرافِ النَّظْمِ الكَرِيمِ؛ ومَعْنى جَعَلَها فِراشًا: جَعَلَ بَعْضَها بارِزًا مِنَ الماءِ - مَعَ اقْتِضاءِ طَبْعِها الرُّسُوبَ -؛ وجَعَلَها مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الصَّلابَةِ واللِّينِ؛ صالِحَةً لِلْقُعُودِ عَلَيْها؛ والنَّوْمِ فِيها؛ كالبِساطِ المَفْرُوشِ؛ ولَيْسَ مِن ضَرُورَةِ ذَلِكَ كَوْنُها سَطْحًا حَقِيقِيًّا؛ فَإنَّ كُرِّيَّةَ شَكْلِها - مَعَ عِظَمِ جِرْمِها - مُصَحِّحَةٌ لِافْتِراشِها؛ وقُرِئَ: "بِساطًا"؛ و"مِهادًا"؛ ﴿والسَّماءَ بِناءً﴾: عَطْفٌ عَلى المَفْعُولَيْنِ السّابِقَيْنِ؛ وتَقْدِيمُ حالِ الأرْضِ لِما أنَّ احْتِياجَهم إلَيْها وانْتِفاعَهم بِها أكْثَرُ؛ وأظْهَرُ؛ أيْ جَعْلَها قُبَّةً مَضْرُوبَةً عَلَيْكُمْ؛ و"السَّماءُ" اسْمُ جِنْسٍ؛ يُطْلَقُ عَلى الواحِدِ؛ والمُتَعَدِّدِ؛ أوْ جَمْعُ "سَماوَةٌ"؛ أوْ "سِماءَةٌ"؛ و"البِناءُ" في الأصْلِ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ المَبْنِيُّ؛ بَيْتًا كانَ أوْ قُبَّةً أوْ خِباءً؛ ومِنهُ قَوْلُهُمْ: "بَنى عَلى امْرَأتِهِ"؛ لِما أنَّهم كانُوا إذا تَزَوَّجُوا امْرَأةً ضَرَبُوا عَلَيْها خِباءً جَدِيدًا. ﴿وَأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾: عَطْفٌ عَلى "جَعَلَ"؛ أيْ: أنْزَلَ مِن جِهَتِها؛ أوْ مِنها؛ إلى السَّحابِ؛ ومِنَ السَّحابِ إلى الأرْضِ؛ كَما رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ أوِ المُرادُ بِـ "السَّماءِ" جِهَةُ العُلُوِّ؛ كَما يُنْبِئُ عَنْهُ الإظْهارُ في مَوْضِعِ الإضْمارِ؛ وهو عَلى الأوَّلَيْنِ لِزِيادَةِ التَّقْرِيرِ؛ و"مِن" لِابْتِداءِ الغايَةِ؛ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "أنْزَلَ"؛ أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِنَ المَفْعُولِ؛ أيْ كائِنًا مِنَ السَّماءِ؛ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ نَكِرَةً؛ وأمّا تَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ - مَعَ أنَّ حَقَّهُ التَّأْخِيرُ عَنِ المَفْعُولِ الصَّرِيحِ - فَإمّا لِأنَّ السَّماءَ أصْلُهُ ومَبْدَؤُهُ؛ وإمّا لِما مَرَّ مِنَ التَّشْوِيقِ إلَيْهِ؛ مَعَ ما فِيهِ مِن مَزِيدِ انْتِظامٍ بَيْنَهُ وبَيْنَ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَأخْرَجَ بِهِ﴾؛ أيْ بِسَبَبِ الماءِ؛ ﴿مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾؛ وذَلِكَ بِأنْ أوْدَعَ في الماءِ قُوَّةً فاعِلَةً؛ وفي الأرْضِ قُوَّةً مُنْفَعِلَةً؛ فَتَوَلَّدَ مِن تَفاعُلِهِما أصْنافُ الثِّمارِ؛ أوْ بِأنْ أجْرى عادَتَهُ بِإفاضَةِ صُوَرِ الثِّمارِ؛ وكَيْفِيَّتِها المُتَخالِفَةِ عَلى المادَّةِ المُمْتَزِجَةِ مِنهُما؛ وإنْ كانَ المُؤَثِّرُ - في الحَقِيقَةِ - قدرته (تَعالى)؛ ومَشِيئَتَهُ؛ فَإنَّهُ (تَعالى) قادِرٌ عَلى أنْ يُوجِدَ جَمِيعَ الأشْياءِ بِلا مَبادٍ؛ ومَوادَّ؛ كَما أبْدَعَ نُفُوسَ المَبادِي؛ والأسْبابَ؛ لَكِنْ لَهُ - عَزَّ وجَلَّ - في إنْشائِها مُتَقَلِّبَةً في الأحْوالِ؛ ومُتَبَدِّلَةً في الأطْوارِ؛ مِن بَدائِعِ حِكَمٍ باهِرَةٍ؛ تُجَدِّدُ لِأُولِي الأبْصارِ عِبَرًا؛ ومَزِيدَ طُمَأْنِينَةٍ إلى عَظِيمِ قدرته؛ ولَطِيفِ حِكْمَتِهِ؛ ما لَيْسَ في إبْداعِها بَغْتَةً؛ و"مِن" لِلتَّبْعِيضِ؛ لِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَأخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ﴾؛ ولِوُقُوعِها بَيْنَ مُنَكَّرَيْنِ؛ أعْنِي: "ماءً"؛ و"رِزْقًا"؛ كَأنَّهُ قِيلَ: وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ بَعْضَ الماءِ؛ فَأخْرَجَ بِهِ بَعْضَ الثَّمَراتِ؛ لِيَكُونَ بَعْضَ رِزْقِكُمْ؛ وهَكَذا الواقِعُ؛ إذْ لَمْ يُنَزِّلْ مِنَ السَّماءِ كُلَّ الماءِ؛ ولا أخْرَجَ مِنَ الأرْضِ كُلَّ الثَّمَراتِ؛ ولا جَعَلَ كُلَّ المَرْزُوقِ ثِمارًا؛ أوْ لِلتَّبْيِينِ؛ و"رِزْقًا" مَفْعُولٌ؛ بِمَعْنى "المَرْزُوقُ"؛ و"مِنَ الثَّمَراتِ" بَيانٌ لَهُ؛ أوْ حالٌ مِنهُ؛ كَقَوْلِكَ: أنْفَقْتُ مِنَ الدَّراهِمِ ألْفًا؛ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ "مِنَ الثَّمَراتِ" مَفْعُولًا؛ و"رِزْقًا" حالًا مِنهُ؛ أوْ مَصْدَرًا مِن "أخْرَجَ"؛ لِأنَّهُ بِمَعْنى "رَزَقَ"؛ وإنَّما شاعَ وُرُودُ الثَّمَراتِ؛ دُونَ الثِّمارِ؛ مَعَ أنَّ المَوْضِعَ مَوْضِعُ (p-62)كَثْرَةٍ؛ لِأنَّهُ أُرِيدَ بِالثَّمَراتِ جَماعَةُ الثَّمَرَةِ؛ في قَوْلِكَ: أدْرَكْتُ ثَمَرَةَ بُسْتانِهِ؛ ويُؤَيِّدُهُ القِراءَةُ عَلى التَّوْحِيدِ؛ أوْ لِأنَّ الجُمُوعَ يَقَعُ بَعْضُها مَوْقِعَ بَعْضٍ؛ كَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿كَمْ تَرَكُوا مِن جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾؛ وقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾؛ أوْ لِأنَّها مُحَلّاةٌ بِاللّامِ؛ خارِجَةٌ عَنْ حَدِّ القِلَّةِ؛ واللّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ؛ وقَعَ صِفَةً لِـ "رِزْقًا"؛ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ المَرْزُوقَ؛ أيْ: رِزْقًا كائِنًا لَكُمْ؛ أوْ دِعامَةٌ لِتَقْوِيَةِ عَمَلِ "رِزْقًا"؛ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَصْدَرًا؛ كَأنَّهُ قِيلَ: رِزْقًا إيّاكم. ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا﴾: إمّا مُتَعَلِّقٌ بِالأمْرِ السّابِقِ؛ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: إذا أُمِرْتُمْ بِعِبادَةِ مَن هَذا شَأْنُهُ مِنَ التَّفَرُّدِ بِهَذِهِ النُّعُوتِ الجَلِيلَةِ؛ والأفْعالِ الجَمِيلَةِ؛ فَلا تَجْعَلُوا لَهُ شَرِيكًا؛ وإنَّما قِيلَ: "أنْدادًا" بِاعْتِبارِ الواقِعِ؛ لا لِأنَّ مَدارَ النَّهْيِ هو الجَمْعِيَّةُ؛ وقُرِئَ: "نِدًّا"؛ وإيقاعُ الِاسْمِ الجَلِيلِ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ لِتَعْيِينِ المَعْبُودِ بِالذّاتِ؛ إثْرَ تَعْيِينِهِ بِالصِّفاتِ؛ وتَعْلِيلِ الحُكْمِ بِوَصْفِ الأُلُوهِيَّةِ؛ الَّتِي عَلْيَها يَدُورُ أمْرُ الوَحْدانِيَّةِ؛ واسْتِحالَةِ الشَّرِكَةِ؛ والإيذانِ بِاسْتِتْباعِها لِسائِرِ الصِّفاتِ؛ وإمّا مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ؛ كَما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿واعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾؛ والفاءُ لِلْإشْعارِ بِعِلِّيَّةِ ما قَبْلَها مِنَ الصِّفاتِ المُجْراةِ عَلَيْهِ (تَعالى)؛ لِلنَّهْيِ؛ أوْ الِانْتِهاءِ؛ أوْ لِأنَّ مَآلَ النَّهْيِ هو الأمْرُ بِتَخْصِيصِ العِبادَةِ بِهِ (تَعالى)؛ المُتَرَتِّبُ عَلى أصْلِها؛ كَأنَّهُ قِيلَ: اعْبُدُوهُ فَخُصُّوها بِهِ؛ والإظْهارُ في مَوْضِعِ الإضْمارِ لِما مَرَّ آنِفًا؛ وقِيلَ: هو نَفْيٌ مَنصُوبٌ بِإضْمارِ "أنْ" جَوابًا لِلْأمْرِ؛ ويَأْباهُ أنَّ ذَلِكَ فِيما يَكُونُ الأوَّلُ سَبَبًا لِلثّانِي؛ ولا رَيْبَ في أنَّ العِبادَةَ لا تَكُونُ سَبَبًا لِلتَّوْحِيدِ؛ الَّذِي هو أصْلُها ومَبْناها؛ وقِيلَ: هو مَنصُوبٌ بِـ "لَعَلَّ" نَصْبَ "فَأطَّلِعَ" في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ﴾ ﴿أسْبابَ السَّماواتِ فَأطَّلِعَ إلى إلَهِ مُوسى﴾؛ أيْ: خَلَقَكم لِتَتَّقُوا وتَخافُوا عِقابَهُ؛ فَلا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ؛ وحَيْثُ كانَ مَدارُ هَذا النَّصْبِ تَشْبِيهَ "لَعَلَّ" في بُعْدِ المَرْجُوِّ بِـ "لَيْتَ" كانَ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى تَقْصِيرِهِمْ؛ بِجَعْلِهِمُ المَرْجُوَّ القَرِيبَ بِمَنزِلَةِ المُتَمَنّى البَعِيدِ؛ وقِيلَ: هو مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿الَّذِي جَعَلَ﴾ "؛ إلَخْ.. عَلى تَقْدِيرِ رَفْعِهِ عَلى المَدْحِ؛ أيْ: هو الَّذِي حَفَّكم بِهَذِهِ الآياتِ العِظامِ؛ والدَّلائِلِ النَّيِّرَةِ؛ فَلا تَتَّخِذُوا لَهُ شُرَكاءَ؛ وفِيهِ ما مَرَّ مِن لُزُومِ كَوْنِ خَلْقِهِمْ وخَلْقِ أسْلافِهِمْ بِمَعْزِلٍ مِن مَناطِيَةِ النَّهْيِ؛ مَعَ عَراقَتِهِما فِيها؛ وقِيلَ: هو خَبَرٌ لِلْمَوْصُولِ؛ بِتَأْوِيلِ مَقُولٍ في حَقِّهِ؛ وقَدْ عَرَفْتَ ما فِيهِ؛ مَعَ لُزُومِ المَصِيرِ إلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ في تَنْزِيلِ الِاسْمِ الظّاهِرِ مَنزِلَةَ الضَّمِيرِ؛ كَما في قَوْلِكَ: زَيْدٌ قامَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ؛ إذا كانَ ذَلِكَ كُنْيَتَهُ. و"النِّدُّ": المِثْلُ المُساوِي؛ مِن "نَدَّ؛ نُدُودًا"؛ إذا نَفَرَ؛ و"نادَدْتُهُ": خالَفْتُهُ؛ خُصَّ بِالمُخالِفِ المُماثِلِ بِالذّاتِ؛ كَما خُصَّ المُساوِي بِالمُماثِلِ في المِقْدارِ؛ وتَسْمِيَةُ ما يَعْبُدُهُ المُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ "أنْدادًا" - والحالُ أنَّهم ما زَعَمُوا أنَّها تُماثِلُهُ (تَعالى) في صِفاتِهِ؛ ولا أنَّها تُخالِفُهُ في أفْعالِهِ - لِما أنَّهم لَمّا تَرَكُوا عِبادَتَهُ (تَعالى) إلى عِبادَتِها؛ وسَمَّوْها آلِهَةً؛ شابَهَتْ حالُهم حالَ مَن يَعْتَقِدُ أنَّها ذَواتٌ واجِبَةٌ بِالذّاتِ؛ قادِرَةٌ عَلى أنْ تَدْفَعَ عَنْهم بَأْسَ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - وتَمْنَحَهم ما لَمْ يُرِدِ اللَّهُ (تَعالى) بِهِمْ مِن خَيْرٍ؛ فَتَهَكَّمَ بِهِمْ؛ وشَنَّعَ عَلَيْهِمْ أنْ جَعَلُوا أنْدادًا لِمَن يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ لَهُ نِدٌّ واحِدٌ؛ وفي ذَلِكَ قالَ مُوَحِّدُ الجاهِلِيَّةِ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: ؎ أرَبًّا واحِدًا أمْ ألْفَ رَبٍّ ∗∗∗ أدِينُ إذا تَقَسَّمَتِ الأُمُورُ ؎ تَرَكْتُ اللّاتَ والعُزّى جَمِيعًا ∗∗∗ كَذَلِكَ يَفْعَلُ الرَّجُلُ البَصِيرُ وَقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وَأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾: حالٌ مِن ضَمِيرِ "لا تَجْعَلُوا"؛ بِصَرْفِ التَّقْيِيدِ إلى ما أفادَهُ النَّهْيُ مِن قُبْحِ المَنهِيِّ عَنْهُ؛ ووُجُوبِ الِاجْتِنابِ عَنْهُ؛ ومَفْعُولُ "تَعْلَمُونَ" مَطْرُوحٌ بِالكُلِّيَّةِ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: لا تَجْعَلُوا ذَلِكَ؛ فَإنَّهُ قَبِيحٌ؛ واجِبُ الِاجْتِنابِ عَنْهُ؛ والحالُ أنَّكم مِن أهْلِ العِلْمِ بِدَقائِقِ الأُمُورِ؛ وإصابَةِ الرَّأْيِ؛ أوْ مُقَدَّرٌ حَسْبَما يَقْتَضِيهِ المَقامُ؛ نَحْوَ: وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ بُطْلانَ ذَلِكَ؛ أوْ تَعْلَمُونَ أنَّهُ لا يُماثِلُهُ شَيْءٌ؛ أوْ تَعْلَمُونَ ما بَيْنَهُ وبَيْنَها مِنَ التَّفاوُتِ؛ أوْ (p-63) تَعْلَمُونَ أنَّها لا تَفْعَلُ مِثْلَ أفْعالِهِ؛ كَما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿هَلْ مِن شُرَكائِكم مِن يَفْعَلُ مِن ذَلِكم مِن شَيْءٍ﴾؛ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ وحاصِلُهُ تَنْشِيطُ المُخاطَبِينَ؛ وحَثُّهم عَلى الِانْتِهاءِ عَمّا نُهُوا عَنْهُ؛ هَذا الَّذِي يَسْتَدْعِيهِ عُمُومُ الخِطابِ في النَّهْيِ؛ بِجَعْلِ المَنهِيِّ عَنْهُ القَدْرَ المُشْتَرَكَ المُنْتَظِمَ لِإنْشاءِ الِانْتِهاءِ؛ كَما هو المَطْلُوبُ مِنَ الكَفَرَةِ؛ ولِلثَّباتِ عَلَيْهِ؛ كَما هو شَأْنُ المُؤْمِنِينَ؛ حَسْبَما مَرَّ مِثْلُهُ في الأمْرِ؛ وأمّا صَرْفُ التَّقْيِيدِ إلى نَفْسِ النَّهْيِ فَيَسْتَدْعِي تَخْصِيصَ الخِطابِ بِالكَفَرَةِ لا مَحالَةَ؛ إذْ لا يَتَسَنّى ذَلِكَ بِطَرِيقِ قَصْرِ النَّهْيِ عَلى حالَةِ العِلْمِ؛ ضَرُورَةَ شُمُولِ التَّكْلِيفِ لِلْعالِمِ والجاهِلِ المُتَمَكِّنِ مِنَ العِلْمِ؛ بَلْ إنَّما يَتَأتّى بِطَرِيقِ المُبالَغَةِ في التَّوْبِيخِ؛ والتَّقْرِيعِ؛ بِناءً عَلى أنَّ تَعاطِيَ القَبائِحِ مِنَ العالِمِينَ بِقُبْحِها أقْبَحُ؛ وذَلِكَ إنَّما يُتَصَوَّرُ في حَقِّ الكَفَرَةِ؛ فَمَن صَرَفَ التَّقْيِيدَ إلى نَفْسِ النَّهْيِ مَعَ تَعْمِيمِ الخِطابِ لِلْمُؤْمِنِينَ أيْضًا فَقَدْ نَأى عَنِ التَّحْقِيقِ؛ إنْ قُلْتَ: ألَيْسَ في تَخْصِيصِهِ بِالكَفَرَةِ في الأمْرِ والنَّهْيِ خَلاصٌ مِن أمْثالِ ما مَرَّ مِنَ التَّكَلُّفاتِ؛ وحُسْنُ انْتِظامٍ بَيْنَ السِّباقِ والسِّياقِ - إذْ لا مَحِيدَ في آيَةِ التَّحَدِّي مِن تَجْرِيدِ الخِطابِ؛ وتَخْصِيصِهِ بِالكَفَرَةِ لا مَحالَةَ؛ مَعَ ما فِيهِ مِن رِباءٍ؛ مَحَلَّ المُؤْمِنِينَ؛ ورَفْعِ شَأْنِهِمْ عَنْ جَبْرِ الِانْتِظامِ في سِلْكِ الكَفَرَةِ؛ والإيذانِ بِأنَّهم مُسْتَمِرُّونَ عَلى الطّاعَةِ والعِبادَةِ؛ حَسْبَما مَرَّ في صَدْرِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ؛ مُسْتَغْنُونَ في ذَلِكَ عَنِ الأمْرِ والنَّهْيِ - قُلْتُ: بَلى؛ إنَّهُ وجْهٌ سَرِيٌّ؛ ونَهْجٌ سَوِيٌّ؛ لا يَضِلُّ مَن ذَهَبَ إلَيْهِ؛ ولا يَزِلُّ مَن ثَبَّتَ قَدَمَهُ عَلَيْهِ؛ فَتَأمَّلْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب