الباحث القرآني

وما أحْسَنَ الأمْرَ بِالعِبادَةِ حالَ الِاسْتِدْلالِ عَلى اسْتِحْقاقِها بِخَلْقِ الأوَّلِينَ والآخَرِينَ وما بَعْدَهُ عَقِبَ إثْباتِ قُدْرَةِ الدّاعِي المُشِيرَةِ إلى التَّرْهِيبِ مِن سَطَواتِهِ ! ولَقَدْ بَدَعَ هَذا الِاسْتِدْلالُ عَلى التَّفَرُّدِ بِالِاسْتِحْقاقِ عَقِبَ أحْوالِ مَن قَرُبَ أنَّهم في غايَةِ الجُمُودِ بِأُمُورٍ مُشاهَدَةٍ يَصِلُ إلَيْها كُلُّ عاقِلٍ بِأوَّلِ وهْلَةٍ مِن دَحْوِ الأرْضِ وما بَعْدَهُ مِمّا بِهِ قَوامُ بَقائِهِمْ مِنَ السَّكَنِ والرِّزْقِ في سِياقٍ مُنَبِّهٍ عَلى النِّعْمَةِ مُحَذِّرٍ مِن سَلْبِها دالٍّ عَلى الإلَهِ بَعْدَ (p-١٤٥)الدَّلالَةِ بِالأنْفُسِ مِن حَيْثُ إنَّ كُلَّ أحَدٍ يَعْرِفُ ضَرُورَةً أنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ، فَلا بُدَّ لَهُ مِن مُوجِدٍ غَيْرَ النّاسِ، لِما يُشاهِدُ مِن أنَّ حالَ الكُلِّ كَحالِهِ بِالدَّلالَةِ بِالآفاقِ مِن حَيْثُ إنَّها مُتَغَيِّرَةٌ، فَهي مُفْتَقِرَةٌ إلى مُغَيِّرٍ هو الَّذِي أحْدَثَها لَيْسَ بِمُتَغَيِّرٍ، لِأنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا جُسْمانِيٍّ في سِياقٍ مُذَكِّرٍ بِالنِّعَمِ الجِسامِ المُوجِبَةِ لِمَحَبَّةِ المُنْعِمِ وتَرْكِ المُنازَعَةِ وحُصُولِ الِانْقِيادِ فَقالَ: ﴿الَّذِي جَعَلَ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: مِنَ الجَعْلِ وهو إظْهارُ أمْرٍ عَنْ سَبَبٍ وتَصْيِيرٍ ﴿لَكُمُ الأرْضَ﴾ أيِ المَحَلَّ الجامِعَ لِنَباتِ كُلِّ نابِتٍ ظاهِرٍ أوْ باطِنٍ، فالظّاهِرُ كالمَوالِدِ وكُلُّ ما الماءُ أصْلُهُ، والباطِنُ كالأعْمالِ والأخْلاقِ وكُلُّ ما أصْلُهُ ما الماءُ آيَتُهُ كالهُدى والعِلْمِ ونَحْوِ ذَلِكَ؛ ولِتَحَقُّقِ دَلالَةِ اسْمِها عَلى هَذا المَعْنى جاءَ وصْفُها بِذَلِكَ مِن لَفْظِ اسْمِها فَقِيلَ: أرْضٌ أرِيضَةٌ، لِلْكَرِيمَةِ المُنْبِتَةِ، وأصْلُ مَعْناها ما سَفَلَ في مُقابَلَةِ مَعْنى السَّماءِ الَّذِي (p-١٤٦)هُوَ ما عَلا عَلى سُفْلِ الأرْضِ كَأنَّها لَوْحُ قَلَمِهِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيها كِتابُهُ. انْتَهى. ﴿فِراشًا﴾ وهي بِساطٌ سَقْفُهُ السَّماءُ وهي مُسْتَقَرُّ الحَيَوانِ مِنَ الأحْياءِ والأمْواتِ، وأصْلُهُ كَما قالَ الحَرالِّيُّ: بِساطٌ يُضْطَجَعُ عَلَيْهِ لِلرّاحَةِ ونَحْوِ ذَلِكَ، ﴿والسَّماءَ بِناءً﴾ أيْ خَيْمَةً تُحِيطُ بِصَلاحِ مَوْضِعِ السَّكَنِ وهو لَعَمْرِي بِناءٌ جَلِيلُ القَدْرِ، مُحْكَمُ الأمْرِ، بَهِيُّ المَنظَرِ، عَظِيمُ المَخْبَرِ. ورُتِّبَتْ هَذِهِ النِّعَمُ الدّالَّةُ عَلى الخالِقِ الدّاعِيَةُ إلى شُكْرِهِ أحْكَمَ تَرْتِيبٍ، قَدَّمَ الإنْسانَ لِأنَّهُ أعْرَفُ بِنَفْسِهِ، والنِّعْمَةُ عَلَيْهِ أدْعى إلى الشُّكْرِ، وثَنّى (p-١٤٧)بِمَن قَبْلَهُ لِأنَّهُ أعْرَفُ بِنَوْعِهِ، وثَلَّثَ بِالأرْضِ لِأنَّها مَسْكَنُهُ الَّذِي لا بُدَّ لَهُ مِنهُ، ورَبَّعَ بِالسَّماءِ لِأنَّها سَقْفُهُ، وخَمَّسَ بِالماءِ لِأنَّهُ كالأثَرِ والمَنفَعَةِ الخارِجَةِ مِنها وما يَخْرُجُ بِسَبَبِهِ مِنَ الرِّزْقِ كالنَّسْلِ المُتَوَلِّدِ بَيْنَهُما فَقالَ: ﴿وأنْـزَلَ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: مِنَ الإنْزالِ وهو الإهْواءُ بِالأمْرِ مِن عُلُوٍّ إلى سُفْلٍ. انْتَهى. ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ أيْ بِإثارَتِها الرِّياحَ المُثِيرَةَ لِلسَّحابِ الحامِلِ لِلْماءِ ﴿ماءً﴾ أيْ جِسْمًا لَطِيفًا يُبْرِدُ غَلَّةَ العَطَشِ، بِهِ حَياةُ كُلِّ نامٍ. قالَ الحَرالِّيُّ: وهو أوَّلُ ظاهِرٍ لِلْعَيْنِ مِن أشْباحِ الخَلْقِ ﴿فَأخْرَجَ﴾ مِنَ الإخْراجِ وهو إظْهارٌ مِن حِجابٍ، وفي سَوْقِهِ بِالفاءِ تَحْقِيقٌ لِلتَّسْبِيبِ في الماءِ. انْتَهى. وأتى بِجَمْعِ القِلَّةِ في الثَّمَرِ ونَكَّرَ الرِّزْقَ مَعَ المُشاهَدَةِ لِأنَّهُما بالِغانِ في الكَثْرَةِ إلى حَدٍّ لا يُحْصى تَحْقِيرًا لَهُما في جَنْبِ قُدْرَتِهِ إجْلالًا لَهُ فَقالَ (p-١٤٨)﴿بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا﴾ وإخْراجُ الأشْياءِ في حِجابِ الأسْبابِ أوْفَقُ بِالتَّكْلِيفِ بِالإيمانِ بِالغَيْبِ، لِأنَّهُ كَما قِيلَ: لَوْلا الأسْبابُ لَما ارْتابَ المُرْتابُ، والثَّمَرُ كَما قالَ الحَرالِّيُّ: مَطْعُوماتُ النَّجْمِ والشَّجَرِ وهي عَلَيْها، وعَبَّرَ بِمِن لِأنَّ لَيْسَ كُلُّ الثَّمَراتِ رِزْقًا لِما يَكُونُ عَلَيْهِ وفِيهِ مِنَ العَصْفِ والقِشْرِ والنَّوى، ولَيْسَ أيْضًا مِن كُلِّ الثَّمَراتِ رِزْقٌ فَمِنهُ ما هو لِلْمُداواةِ ومِنهُ سُمُومٌ وغَيْرُ ذَلِكَ. وفي قَوْلِهِ: ﴿لَكُمُ﴾ إشْعارٌ بِأنَّ في الرِّزْقِ تَكْمِلَةً لِذَواتِهِمْ ومَصِيرًا إلى أنْ يَعُودَ بِالجَزاءِ مِنهم. وقَدْ وُصِفَ الرَّبُّ في هَذِهِ الآيَةِ بِمَوْصُولَيْنِ ذَكَرَ صِلَةَ الثّانِي بِلَفْظِ (p-١٤٩)الجَعْلِ، لِأنَّ حالَ القَوّامِ مُرَتَّبٌ عَلى حالِ الخَلْقِ، ومُصَيَّرٌ مِنهُ، فَلا يَشُكُّ ذُو عَقْلٍ في اسْتِحْقاقِ الِانْقِيادِ لِمَن تَوَلّى خَلْقَهُ وأقامَ تَرْكِيبَهُ؛ ولا يَشُكُّ ذُو حِسٍّ إذا تَيَقَّظَ مِن نَوْمٍ أوْ غَفْلَةٍ فَوَجَدَ بِساطًا قَدْ فُرِشَ لَهُ وخَيْمَةً قَدْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِ وعُولِجَ لَهُ طَعامٌ وشَرابٌ قُدِّمَ لَهُ أنَّ نَفْسَهُ تَنْبَعِثُ بِذاتِها لِتَعْظِيمِ مَن فَعَلَ ذَلِكَ بِها ولِتَقَلُّدِ نِعْمَتِهِ وإكْبارِهِ؛ فَلِتَنْزِيلِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ إلى هَذا البَيانِ الَّذِي يَضْطَرُّ النَّفْسَ إلى الإذْعانِ ويَدْخُلُ العِلْمُ بِمُقْتَضاها في رُتْبَةِ الضَّرُورَةِ والوِجْدانِ كانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ دَعْوَةً عَرَبِيَّةً جارِيَةً عَلى مُقْتَضى أحْوالِ العَرَبِ، لِأنَّ العَرَبَ لا تَعْدُو بِأنْفُسِها العِلْمَ الضَّرُورِيَّ ولَيْسَ مِن شَأْنِها تَكَلُّفُ الأفْكارِ والتَّسَبُّبُ إلى تَوانِي العُلُومِ النَّظَرِيَّةِ المَأْخُوذَةِ مِن مُقْتَضى الأماراتِ والأدِلَّةِ، فَعُومِلَتْ بِما جُبِلَتْ عَلَيْهِ فَتَنْزِلُ لَها لِتَكُونَ (p-١٥٠)نَقْلَتُها مِن فِطْرَةٍ إلى فِطْرَةٍ ومِن عِلْمٍ وِجْدانِيٍّ إلى عِلْمٍ وِجْدانِيٍّ عَلِيٍّ لِتُحْفَظَ عَلَيْها رُتْبَةُ الإعْرابِ والبَيانِ بِأنْ لا يَتَسَبَّبَ لَها إلى دُخُولِ رَيْبٍ في عُلُومِها، لِأنَّ كُلَّ عِلْمٍ مُكْتَسَبٍ يُتَكَلَّفُ التَّسَبُّبُ لَهُ بِآياتٍ وعَلاماتٍ ودَلائِلَ تَبْعُدُ مِنَ الحِسِّ وأوائِلِ هُجُومِ العَقْلِ تَتَعارَضُ عَلَيْهِ الأدِلَّةُ ويَعْتادُهُ الرَّيْبُ، فَحُفِظَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ العَرَبِيَّةُ عَنِ التَّكَلُّفِ وأُجْرِيَتْ عَلى ما أحْكَمَهُ صَدْرُ السُّورَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] واعْلَمْ أنَّ حالَ المَخْلُوقِ في رِزْقِهِ مُحاذًى بِهِ حالُهُ في كَوْنِهِ، فَيُعْلَمُ بِالِاعْتِبارِ والتَّناسُبِ الَّذِي شَأْنُهُ أنْ تَتَعَلَّمَ مِن جِهَتِهِ المَجْهُولاتُ أنَّ الماءَ بَزْرُ كَوْنِ الإنْسانِ كَما أنَّ الماءَ أصِلُ رِزْقِهِ، ولِذَلِكَ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِمَن سَألَهُ مِمَّنْ هو فَلَمْ يُرِدْ أنْ يُعَيِّنَ لَهُ نَفْسَهُ: «نَحْنُ مِن ماءٍ» . ويُعْلَمُ كَذَلِكَ (p-١٥١)أيْضًا أنَّ لِلْأرْضِ والسَّماءِ مَدْخَلًا في أمْشاجِ الإنْسانِ رُتِّبَ عَلَيْهِ مُدْخَلُها في كَوْنِ رِزْقِهِ، وفي ذِكْرِ الأرْضِ مَعْرِفَةً أخْذٌ لِلْأرْضِ إلى نِهايَتِها وكَمالِها، ولِذَلِكَ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «مَنِ اغْتَصَبَ شِبْرًا مِن أرْضٍ؛ طَوَّقَهُ مِن سَبْعِ أرَضِينَ» . وكَذَلِكَ ذِكْرُ السَّماءِ أخْذٌ لَها إلى نِهايَتِها وكَمالِها؛ وقَدَّمَ الأرْضَ لِأنَّ نَظَرَ النُّفُوسِ إلى ما تَحْتَها أسْبَقُ لَها مِن نَظَرِها إلى ما عَلا عَلَيْها. ثُمَّ قالَ: ولِوُضُوحِ آيَةِ الرُّبُوبِيَّةِ تَقَلَّدَها الأكْثَرُ وإنَّما تَوَقَّفُوا في الرِّسالَةِ ولِذَلِكَ وصَلَ ذِكْرُ الرِّسالَةِ بِالتَّهْدِيدِ. انْتَهى. ولَمّا أمَرَ بِعِبادَتِهِ وذَكَّرَهم سُبْحانَهُ بِما يَعْلَمُونَ أنَّهُ فاعِلُهُ وحْدَهُ؛ حَسُنَ النَّهْيُ عَنْ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ما لا أثَرَ لَهُ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، بِفاءِ التَّسَبُّبِ عَنِ الأمْرَيْنِ كِلَيْهِما، قالَ مُعَبِّرًا بِالجَلالَةِ عَلى ما هو الألْيَقُ بِالتَّوْبِيخِ عَلى تَألُّهِ الغَيْرِ: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ﴾ أيْ ما إحاطَتُهُ بِصِفاتِ الكَمالِ. ويَجُوزُ أنْ (p-١٥٢)يَكُونَ مُسَبَّبًا عَنِ التَّقْوى المُرْتَجاةِ فَتَكُونُ لا نافِيَةً والفِعْلُ مَنصُوبٌ ﴿أنْدادًا﴾ أيْ عَلى حَسَبِ زَعْمِكم أنَّها تَفْعَلُ ما تُرِيدُونَ. قالَ الحَرالِّيُّ: جَمْعُ نِدٍّ وهو المُقاوِمُ في صِفَةِ القِيامِ والدَّوامِ، وعَبَّرَ بِالجَعْلِ لِأنَّ بِالجَعْلِ والمَصِيرِ مِن حالٍ إلى حالٍ أدْنى مِنها تَرِيْنُ الغَفْلَةُ عَلى القُلُوبِ، حَتّى لا تَشْهَدَ في النِّعَمِ والنِّقَمِ إلّا الخَلْقَ مِن مَلِكٍ أوْ ذِي إمْرَةٍ أوْ مِن أيِّ ذِي يَدٍ عُلْيا كانَ، ولَمّا شَهِدُوا ذَلِكَ مِنهم تَعَلَّقَ بِهِمْ رَجاؤُهم وخَوْفُهم وعاقَبَهم رَبُّهم عَلى ذَلِكَ بِأيْدِيهِمْ فاشْتَدَّ داعِي رَجائِهِمْ لَهم وسائِقُ خَوْفِهِمْ مِنهم فَتَذَلَّلُوا لَهم وخَضَعُوا، فَصارُوا بِذَلِكَ عَبَدَةَ الطّاغُوتِ وجَعَلُوهم لِلَّهِ أنْدادًا. انْتَهى. وما أحْسَنَ قَوْلَهُ في تَأْنِيبِهِمْ وتَنْبِيهِهِمْ عَلى ما أزَرُوا بِأنْفُسِهِمْ: ﴿وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أيْ والحالُ أنَّكم ذَوُو عِلْمٍ عَلى ما تَزْعُمُونَ (p-١٥٣)فَإنَّهُ يُلَوِّحُ إلى أنَّ مَن أشْرَكَ بِهِ مَعَ قِيامِ هَذِهِ الأدِلَّةِ؛ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنهُ العِلْمُ، فَكانَ في عِدادِ البَهائِمِ. وفِيهِ كَما قالَ الحَرالِّيُّ: إعْلامٌ بِظُهُورِ آياتِ ما يَمْنَعُ جَعْلَ النِّدِّ لِما يُشاهِدُ أنَّ جَمِيعَ الخَلْقِ أدْناهم وأعْلاهم مُقامُونَ مِنَ السَّماءِ وفي الأرْضِ ومِنَ الماءِ، فَمَن جَعَلَ لِلَّهِ نِدًّا مِمّا حَوَتْهُ السَّماءُ والأرْضُ واسْتَمَدَّ مِنَ الماءِ فَقَدْ خالَفَ العِلْمَ الضَّرُورِيَّ الَّذِي بِهِ تَقَلَّدَ التَّذَلُّلَ لِلرُّبُوبِيَّةِ في نَفْسِهِ، فَإنْ يُحْكَمْ بِذَلِكَ عَلى غَيْرِهِ مِمّا حالُهُ كَحالِهِ أحَقُّ في العِلْمِ. انْتَهى. وفِي تَعْقِيبِها لِما قَبِلَها غايَةُ التَّبْكِيتِ عَلى (p-١٥٤)مَن تَرَكَ هَذا القادِرَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وعَبَدَ ما لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ. وهَذِهِ الآيَةُ مِنَ المُحْكَمِ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرائِعُ واجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الكُتُبُ، وهو عَمُودُ الخُشُوعِ، وعَلَيْهِ مَدارُ الذُّلِّ والخُضُوعِ. قالَ الإمامُ أبُو الحَسَنِ الحَرالِّيُّ في العُرْوَةِ: وجْهُ إنْزالِ هَذا الحَرْفِ: تَحْقِيقُ اتِّصافِ العَبْدِ بِما هو اللّائِقُ بِهِ في صِدْقِ وِجْهَتِهِ إلى الحَقِّ بِانْقِطاعِهِ عَنْ نَفْسِهِ وبَراءَتِهِ مِنها والتِجائِهِ إلى رَبِّهِ اسْتِسْلامًا، وجُهْدِهِ في خِدْمَتِهِ إكْبارًا واسْتِنادِهِ إلَيْهِ اتِّكالًا، وسُكُونِهِ لَهُ طُمَأْنِينَةً ﴿يا أيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ [الفجر: ٢٧] ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ [الفجر: ٢٨] ويَتَأكَّدُ تَحَلِّي العَبْدِ بِمُسْتَحِقِّ أوْصافِهِ لِقِراءَةِ هَذا الحَرْفِ والعَمَلِ بِهِ بِحَسَبَ بَراءَتِهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِنَظِيرِهِ المُتَشابِهِ، لِأنَّ اتِّباعَ المُتَشابِهِ زَيْغٌ لِقُصُورِ العَقْلِ والفَهْمِ عَنْ نَيْلِهِ، ووُجُوبِ الِاقْتِصارِ عَلى الإيمانِ بِهِ مِن غَيْرِ مُوازَنَةٍ بَيْنَ ما خاطَبَ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ لِلتَّعَرُّفِ وبَيْنَ ما جَعَلَهُ لِلْعَبْدِ لِلِاعْتِبارِ، سُبْحانَهُ مَن لَمْ يَجْعَلْ سَبِيلًا إلى مَعْرِفَتِهِ إلّا بِالعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ. وجامِعُ مُنَزَّلِ المُحْكَمِ: ما افْتَتَحَ بِهِ التَّنْزِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق: ١] الآياتِ، وما قَدَّمَ في التَّرْتِيبِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها النّاسُ (p-١٥٥)اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] إلى ما يَنْتَظِمُ بِذَلِكَ مِن ذِكْرِ عِبادَةِ القَلْبِ الَّتِي هي المَعْرِفَةُ ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] فَلْيَكُنْ أوَّلُ ما تَدْعُوهم إلَيْهِمْ عِبادَةَ اللَّهِ فَإذا عَرَفُوا اللَّهَ، ومَن ذَكَرَ عِبادَةَ النَّفْسِ الَّتِي هي الإجْمالُ في الصَّبْرِ وحُسْنِ الجَزاءِ ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ [الكهف: ٢٨] ﴿ويَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ [الرعد: ٢٢] ﴿الَّذِينَ هم في صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: ٢] «لَوْ خَشَعَ قَلَبُ هَذا؛ لَخَشَعَتْ جَوارِحُهُ» . . . إلى سائِرِ أحْوالِ العَبْدِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِها في حالِ الوُجْهَةِ إلى الرَّبِّ، وما تَقَدَّمَ مِن حَرْفَيِ الحَلالِ والحَرامِ لِإصْلاحِ الدُّنْيا، وحَرْفَيِ الأمْرِ والنَّهْيِ لِإصْلاحِ العُقْبى مُعامَلَةُ كِتابِهِ، والعَمَلُ بِهَذا الحَرْفِ اغْتِباطٌ بِالرِّقِّ وعِياذٌ مِنَ العِتْقِ، فَلِذَلِكَ هو أوَّلُ الِاخْتِصاصِ ومَبْدَأُ الِاصْطِفاءِ وإفْرادُ مُوالاةِ اللَّهِ وحْدَهُ مِن غَيْرِ شِرْكٍ في نَفْسٍ ولا غَيْرٍ، ولِذَلِكَ بُدِئَ بِتَنْزِيلِهِ النَّبِيُّ العَبْدُ ﷺ، وهو ثَمَرَةُ ما قَبْلَهُ وأساسُ (p-١٥٦)ما بَعْدَهُ، وهو لِلْعَبْدِ أحْوالٌ مُحَقِّقَةٌ لا يُشْرِكُهُ فِيها ذُو رِثاءٍ ولا نِفاقٍ، ويُشْرِكُهُ في الأرْبَعَةِ المُتَقَدِّمَةِ - يَعْنِي النَّهْيَ والأمْرَ والحَلالَ والحَرامَ، لِأنَّها أعْمالٌ ظاهِرَةٌ فَيَتَحَلّى بِها المُنافِقُ، ولَيْسَ يُمْكِنُهُ مَعَ نِفاقِهِ التَّحَلِّي بِالمَعْرِفَةِ، ولا بِالخُشُوعِ، ولا بِالخُضُوعِ، ولا بِالشَّوْقِ لِلِّقاءٍ، ولا بِالحُزْنِ في الإبْطاءِ، ولا بِالرِّضا بِالقَضاءِ، ولا بِالحُبِّ الجاذِبِ لِلْبَقاءِ في طَرِيقِ الفَناءِ، ولا بِشَيْءٍ مِمّا شَمِلَهُ آياتُ المُحْكَمِ المُنَزَّلَةُ في القُرْآنِ، وأحادِيثُهُ الوارِدَةُ لِلْبَيانِ، وإنَّما يَتَّصِفُ بِهَذا الحَرْفِ عِبادُ الرَّحْمَنِ ﴿وعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان: ٦٣] الَّذِينَ لَيْسَ لِلشَّيْطانِ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ﴾ [الحجر: ٤٢] ولَمّا كانَ حَرْفُ المُحْكَمِ مُسْتَحَقَّ العَبْدِ في حَقِّ الرَّبِّ في فِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَ عَلَيْها؛ كانَ ثابِتًا في كُلِّ مِلَّةٍ، وفي كُلِّ شِرْعَةٍ، فَكانَتْ آياتُهُ لِذَلِكَ هُنَّ أُمَّ الكِتابِ المُشْتَمِلِ عَلى الأحْرُفِ الأرْبَعَةِ، لِتَبَدُّلِها وتَناسُخِها وتَناسُبِها في الشَّرْعِ والمِلَلِ واخْتِلافِها عَلى مَذاهِبِ الأئِمَّةِ في المِلَّةِ الجامِعَةِ، مَعَ اتِّفاقِ المِلَلِ في الحَرْفِ المُحْكَمِ فَهو أُمُّها وقِيامُها الثّابِتُ حالَ تَبَدُّلِها وهو حَرْفُ الهُدى الَّذِي يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَن يَشاءُ، وقَرَأتُهُ العَمَلَةُ بِهِ هُمُ المُهْتَدُونَ أهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ، كَما أنَّ المُتَّبِعِينَ لِحِرَفِ المُتَشابِهِ هُمُ المُتَفَرِّقُونَ في المِلَلِ وهم أهْلُ البِدَعِ والأهْواءِ المُشْتَغِلُونَ بِما لا يَعْنِيهِمْ، (p-١٥٧)وبِهَذا الحَرْفِ المُتَشابِهِ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ؛ فَحَرْفُ المُحْكَمِ لِلِاجْتِماعِ والهُدى، وحَرْفُ المُتَشابِهِ لِلِافْتِراقِ والضَّلالِ ﴿واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهو يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب: ٤] ثُمَّ قالَ: اعْلَمْ أنَّ قِراءَةَ الأحْرُفِ الماضِيَةِ الأرْبَعَةِ هو حَظُّ العامَّةِ مِنَ الأُمَّةِ، العامِلِينَ لِرَبِّهِمْ عَلى الجَزاءِ، المُقارِضِينَ لَهُ عَلى المُضاعَفَةِ. وقِراءَةُ هَذا الحَرْفِ تَمامًا هو حَظُّ المُتَحَقِّقِينَ بِالعُبُودِيَّةِ، المُتَعَبِّدِينَ بِالأحْوالِ الصّادِقَةِ، المُشْفِقِينَ مِن وهْمِ المُعامَلَةِ؛ لِشُعُورِهِمْ أنَّ العَبْدَ لِسَيِّدِهِ مُصَرَّفٌ فِيما شاءَ وكَيْفَ شاءَ، لَيْسَ لَهُ في نَفْسِهِ حَقٌّ ولا حُكْمٌ، ولا حُجَّةَ لَهُ عَلى سَيِّدِهِ فِيما أقامَهُ فِيهِ مِن صُورَةِ سَعادَةٍ أوْ شَقاوَةٍ ﴿فِي أيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ﴾ [الإنفطار: ٨] ﴿عَلى أنْ نُبَدِّلَ أمْثالَكم ونُنْشِئَكم في ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [الواقعة: ٦١] والَّذِي تَحْصُلُ بِهِ قِراءَةُ هَذا الحَرْفِ إمّا مِن جِهَةِ القَلْبِ؛ فالمَعْرِفَةُ بِعُبُودِيَّةِ الخَلْقِ لِلْحَقِّ رِقُّ خَلْقٍ ورِزْقٍ وتَصْرِيفٍ فِيما شاءَ مِمّا بَيْنَهُ وبَيْنَ رَبِّهِ ومِمّا بَيْنَهُ وبَيْنَ نَفْسِهِ ومِمّا بَيْنَهُ وبَيْنَ أمْثالِهِ مِن سائِرِ العِبادِ، لا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا ولا نَفْعًا ولا مَوْتًا ولا حَياةً ولا نُشُورًا، ولا يَأْخُذُ إلّا ما أعْطاهُ سَيِّدُهُ، ولا يَتَّقِي (p-١٥٨)إلّا ما وقاهُ سَيِّدُهُ، ولا يَكْشِفُ السُّوءَ عَنْهُ إلّا هو، فَيُسَلِّمُ لَهُ مَقالِيدَ أمْرِهِ في ظاهِرِهِ وباطِنِهِ، وذَلِكَ هو الدِّينُ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِي لا يَقْبَلُ سِواهُ ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩] ﴿ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ﴾ [آل عمران: ٨٥] وهو دِينُ النَّبِيِّ العَبْدِ، وما يَتَحَقَّقُ لِلْعَبْدِ مِن ذَلِكَ عَنِ اعْتِبارِ العَقْلِ وخُلُوصِ اللُّبِّ هي المِلَّةُ الحَنِيفِيَّةُ مِلَّةُ النَّبِيِّ الخَلِيلِ، هَذا مِن جِهَةِ القَلْبِ؛ وأمّا مِن جِهَةِ حالِ النَّفْسِ؛ فَجَمِيعُ أحْوالِ العَبْدِ القِنِّ المُعْرِقِ في المِلْكِ: إنَّما أنا عَبْدٌ آكِلٌ مِثْلَ ما يَأْكُلُ العَبْدُ؛ وجِماعُ ذَلِكَ وأصْلُهُ: الذُّلُّ انْكِسارًا، والذُّلُّ عَطْفًا، والبَراءَةُ مِنَ التَّرَفُّعِ والفَخْرِ عَلى سائِرِ الخَلْقِ، والتَّحَقُّقُ بِالضَّعَةِ دُونَهم عَلى وصْفِ النَّفْسِ، بِذَلِكَ يَنْتَهِي حُسْنُ التَّخَلُّقِ مَعَ الخَلْقِ وصِدْقُ التَّعَبُّدِ لِلْحَقِّ؛ وإمّا مِن جِهَةِ العَمَلِ فَتُصْرَفُ الجَوارِحُ وإسْلامُها لِلَّهِ قَوْلًا وفِعْلًا وبَذْلًا، ومُسالَمَةُ الخَلْقِ لِسانًا ويَدًا، وهو تَمامُ الإسْلامِ وثَبَتُهُ، لا يُكْتَبُ أحَدُكم في المُسْلِمِينَ حَتّى يَسْلَمَ النّاسُ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ. ويَخُصُّ (p-١٥٩)الهَيْئَةَ مِن ذَلِكَ ما هو أوْلى بِهَيْئاتِ العَبِيدِ كالَّذِي بُنِيَتْ عَلَيْهِ هَيْئَةُ الصَّلاةِ مِنَ الإطْراقِ في القِيامِ ووَضْعِ اليُمْنى عَلى اليُسْرى بِحِذاءِ الصَّدْرِ هَيْئَةُ العَبْدِ المُتَأدِّبِ المُنْتَظِرِ لِما لا يَدْرِي خَبَرَهُ مِن أمْرِ سَيِّدِهِ وكَهَيْئَةِ الجُلُوسِ فِيها الَّذِي هو جُلُوسُ العَبِيدِ، كَذَلِكَ كانَ ﷺ يَجْلِسُ لِطَعامِهِ لِيَسْتَوِيَ حالُ تَعْبُّدِهِ في أمْرِ دُنْياهُ وأُخْراهُ ويَقُولُ: «إنَّما أنا عَبْدٌ آكِلٌ كَما يَأْكُلُ العَبْدُ» ويُؤَثِّرُ جَمِيعُ ما هو هَيْئَةُ العَبِيدِ في تَعَبُّدِهِ ومَطْعَمِهِ ومَشْرَبِهِ ومَلْبَسِهِ ومَرْكَبِهِ وظَعْنِهِ وإقامَتِهِ ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٣١] فَبِهَذِهِ الأُمُورِ مِن تَحَقُّقِ العُبُودِيَّةِ لِلْقَلْبِ وذُلِّ النَّفْسِ وانْكِسارِ الجَوارِحِ تَحْصُلُ قِراءَةُ حَرْفِ المُحْكَمِ واللَّهُ الوَلِيُّ الحَمِيدُ. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب