الباحث القرآني

﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشًا والسَّماءَ بِناءً﴾ المَوْصُولُ إمّا مَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ نَعْتُ (رَبَّكُمْ)، أوْ بَدَلٌ مِنهُ، أوْ مَقْطُوعٌ بِتَقْدِيرِ أخُصُّ أوْ أمْدَحُ، وكَوْنُهُ مَفْعُولَ (تَتَّقُونَ) كَما قالَهُ أبُو البَقاءِ، إعْرابٌ غَثٌّ يُنَزَّهُ القُرْآنُ عَنْهُ، وكَوْنُهُ نَعْتَ الأوَّلِ يَرُدُّ عَلَيْهِ أنَّ النَّعْتَ لا يَنْعَتُ عِنْدَ الجُمْهُورِ إلّا في مِثْلِ يا أيُّها الفارِسُ ذُو الجُمَّةِ، وفِيهِ أيْضًا غَيْرُ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، وإمّا مَرْفُوعٌ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ، أوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ جُمْلَةٌ، (فَلا تَجْعَلُوا) والفاءُ قَدْ تَدْخُلُ في خَبَرِ المَوْصُولِ بِالماضِي، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ﴾ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَهم عَذابُ جَهَنَّمَ﴾ والِاسْمُ الظّاهِرُ يَقُومُ مَقامَ الرّابِطِ عِنْدَ الأخْفَشِ، والإنْشاءُ يَقَعُ خَبَرًا بِالتَّأْوِيلِ المَشْهُورِ، ومَعَ هَذا كُلِّهِ الأوْلى تَرْكُ ما أوْجَبَهُ، وأبْرَدُ مِن يَخِ قَوْلُ مَن زَعَمَ أنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ: ﴿رِزْقًا لَكُمْ﴾ بِتَقْدِيرِ: يَرْزُقُ، وجُعِلَ بِمَعْنى صَيَّرَ، والمَنصُوبانِ بَعْدَهُ مَفْعُولاهُ، وقِيلَ: بِمَعْنى أوْجِدْ وانْتِصابُ الثّانِي عَلى الحالِيَّةِ، أيْ أوْجِدِ الأرْضَ حالَةَ كَوْنِها مُفْتَرَشَةً لَكُمْ، فَلا تَحْتاجُونَ لِلسَّعْيِ في جَعْلِها كَذَلِكَ، ومَعْنى تَصْيِيرِها فِراشًا أيْ كالفِراشِ، في صِحَّةِ القُعُودِ والنَّوْمِ عَلَيْها، أنَّهُ سُبْحانَهُ جَعَلَ بَعْضَها بارِزًا عَنِ الماءِ مَعَ أنَّ مُقْتَضى طَبْعِها أنْ يَكُونَ الماءُ بِأعْلاها لِثِقَلِها، وجَعَلَها مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الصَّلابَةِ، واللِّينِ، لِيَتَيَسَّرَ التَّمَكُّنَ عَلَيْها بِلا مَزِيدِ كُلْفَةٍ، فالتَّصَيُّرُ بِاعْتِبارِ أنَّهُ لَمّا كانَتْ قابِلَةً لِما عَدا ذَلِكَ، فَكَأنَّهُ نُقِلَتْ مِنهُ، وإنْ صَحَّ ما نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ الأرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ خَلْقِ السَّماءِ غَيْرَ مَدْحُوَّةٍ، فَدُحِيَتْ بَعْدَ خَلْقِها، ومُدَّتْ، فَأمْرُ التَّصْيِيرِ حِينَئِذٍ ظاهِرٌ، إلّا أنَّ كُلَّ النّاسِ غَيْرُ عالِمِينَ بِهِ، والصِّفَةُ يَجِبُ أنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلْمُخاطَبِ، والذَّهابُ إلى الطُّوفانِ، واعْتِبارُ التَّصْيِيرِ بِالقِياسِ إلَيْهِ مِنِ اضْطِرابِ أمْواجِ الجَهْلِ، ولا يُنافِي كَرَوِيَّتَها كَوْنُها فِراشًا، لِأنَّ الكُرَةَ إذا عَظُمَتْ كانَ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنها كالسَّطْحِ في افْتِراشِهِ كَما لا يَخْفى، وعَبَّرَ سُبْحانَهُ هُنا (بِجَعَلَ)، وفِيما تَقَدَّمَ (بِخَلَقَ) لِاخْتِلافِ المَقامِ أوْ تَفَنُّنًا في التَّعْبِيرِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ﴾ وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ الغَيْرِ الصَّرِيحِ (p-188)لِتَعْجِيلِ المَسَرَّةِ بِبَيانِ كَوْنِ ما يَعْقُبُهُ مِن مَنافِعِ المُخاطَبِينَ، أوْ لِلتَّشْوِيقِ إلى ما يَأْتِي بَعْدَهُ، لا سِيَّما بَعْدَ الإشْعارِ بِمَنفَعَتِهِ، فَيَتَمَكَّنُ عِنْدَ وُرُودِهِ فَضَلَ تَمَكُّنٍ، أوْ لِما في المُؤَخَّرِ وما عُطِفَ عَلَيْهِ مِن نَوْعِ طُولٍ، فَلَوْ قُدِّمَ لَفاتَ تَجاوُبُ الأطْرافِ، واخْتارَ سُبْحانَهُ لَفَظَ السَّماءِ عَلى السَّماواتِ مُوافَقَةً لِلَفْظِ الأرْضِ، ولَيْسَ في التَّصْرِيحِ بِتَعَدُّدِها هَنا كَثِيرُ نَفْعٍ، ومَعَ هَذا يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِها مَجْمُوعُ السَّماواتِ، وكُلُّ طَبَقَةٍ وجِهَةٍ مِنها، والبِناءُ في الأصْلِ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلى المَبْنِيِّ بَيْتًا كانَ، أوْ قُبَّةً، أوْ خِباءً، أوْ طَرَفًا، ومِنهُ بَنى بِأهْلِهِ أوْ عَلى أهْلِهِ، خِلافًا لِلْحَرِيرِيِّ، لِأنَّهم كانُوا إذا تَزَوَّجُوا ضَرَبُوا خِباءً جَدِيدًا لِيَدْخُلُوا عَلى العَرُوسِ فِيهِ، والمُرادُ بِكَوْنِ السَّماءِ بِناءً أنَّها كالقُبَّةِ المَضْرُوبَةِ، أوْ أنَّها كالسَّقْفِ لِلْأرْضِ، ويُقالُ لِسَقْفِ البَيْتِ بِناءٌ، ورُوِيَ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وقَدَّمَ سُبْحانَهُ حالَ الأرْضِ لِما أنَّ احْتِياجَهم إلَيْها، وانْتِفاعَهم بِها أكْثَرُ وأظْهَرُ أوْ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ خَلْقَهم ناسَبَ أنْ يُعْقِبَهُ بِذِكْرِ أوَّلِ ما يَحْتاجُونَهُ بَعْدَهُ، وهو المُسْتَقِرُّ، أوْ لِيَحْصُلَ العُرُوجُ مِنَ الأدْنى إلى الأعْلى، أوْ لِأنَّ خَلْقَ الأرْضِ مُتَقَدِّمٌ عَلى خَلْقِ السَّماءِ، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَواهِرُ كَثِيرٍ مِنَ الآياتِ، أوْ لِأنَّ الأرْضَ لِكَوْنِها مَسْكَنَ النَّبِيِّينَ ومِنها خُلِقُوا أفْضَلُ مِنَ السَّماءِ، وفي ذَلِكَ خِلافٌ مَشْهُورٌ، وقَرَأ يَزِيدُ الشّامِيُّ (بِساطًا) وطَلْحَةُ (مِهادًا)، وهي نَظائِرُ، وأدْغَمَ أبُو عَمْرٍو لامَ (جَعَلَ) في لامِ (لَكُمْ)، ﴿وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ عَطْفٌ عَلى (جَعَلَ)، و(مِنَ) الأُولى لِلِابْتِداءِ مُتَعَلِّقَةٌ (بِأنْزَلَ)، أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِنَ المَفْعُولِ، وقُدِّمَ عَلَيْهِ لِلتَّشْوِيقِ عَلى الأوَّلِ مَعَ ما فِيهِ مِن مَزِيدِ الِانْتِظامِ، مَعَ ما بَعْدُ، أوْ لِأنَّ السَّماءَ أصْلُهُ، ومَبْدَؤُهُ، ولِتَتَأتّى الحالِيَّةُ عَلى الثّانِي، إذْ لَوْ قُدِّمَ المَفْعُولُ وهو نَكِرَةٌ صارَ الظَّرْفُ صِفَةً، وذُكِرَ في البَحْرِ، أنَّ (مِن) عَلى هَذا لِلتَّبْعِيضِ، أيْ مِن مِياهِ السَّماءِ، وهو كَما تَرى، والمُرادُ مِنَ السَّماءِ جِهَةُ العُلُوِّ، أوِ السَّحابُ، وإرادَةُ الفَلَكِ المَخْصُوصِ بِناءً عَلى الظَّواهِرِ غَيْرُ بَعِيدَةٍ، نَظَرًا إلى قُدْرَةِ المَلِكِ القادِرِ جَلَّ جَلالُهُ، وسَمَتْ عَنْ مَدارِكِ العَقْلِ أفْعالُهُ، إلّا أنَّ الشّائِعَ أنَّ الشَّمْسَ إذا سامَتَتْ بَعْضَ البِحارِ والبَرارِي، أثارَتْ مِنَ البِحارِ بُخارًا رَطْبًا، ومِنَ البَرارِي يابِسًا، فَإذا صَعِدَ البُخارُ إلى طَبَقَةِ الهَواءِ الثّالِثَةِ، تَكاثَفَ، فَإنْ لَمْ يَكُنِ البَرْدُ قَوِيًّا اجْتَمَعَ وتَقاطَرَ لِثِقَلِهِ بِالتَّكاثُفِ، فالمُجْتَمِعُ سَحابٌ، والمُتَقاطِرٌ مَطَرٌ، وإنْ كانَ قَوِيًّا كانَ ثَلْجًا وبَرَدًا، وقَدْ لا يَنْعَقِدُ ويُسَمّى ضَبابًا. ؎وفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ واحِدُ وعَلى هَذا يُرادُ بِالنُّزُولِ مِنَ السَّماءِ نُشُؤُوهُ مِن أسْبابٍ سَماوِيَّةٍ، وتَأْثِيراتٍ أثِيرِيَّةٍ، فَهي مَبْدَأٌ مَجازِيٌّ لَهُ، عَلى أنَّ مَنِ انْجابَ عَنْ عَيْنِ بَصِيرَتِهِ سَحابُ الجَهْلِ، رَأى أنَّ كُلَّ ما في هَذا العالَمِ السُّفْلِيِّ نازِلٌ مِن عَرْشِ الإرادَةِ، وسَماءِ القُدْرَةِ حَسْبَما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ، بِواسِطَةٍ، أوْ بِغَيْرِ واسِطَةٍ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وما نُنَزِّلُهُ إلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ بَلْ مَن عَلِمَ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ في السَّماءِ عَلى المَعْنى الَّذِي أرادَهُ، وبِالوَصْفِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، مَعَ التَّنْزِيهِ اللّائِقِ بِجَلالِ ذاتِهِ تَعالى صَحَّ لَهُ أنْ يَقُولَ: إنَّ ما في العالَمِينَ مِن تِلْكَ السَّماءِ، ونِسْبَةُ نُزُولِهِ إلى غَيْرِها أحْيانًا لِاعْتِباراتٍ ظاهِرَةٍ، وهي راجِعَةٌ إلَيْهِ في الآخِرَةِ، والماءُ مَعْرُوفٌ وعَرَّفَهُ بَعْضُهم بِأنَّهُ جَوْهَرٌ سَيّالٌ بِهِ قِوامُ الحَيَوانِ، ووَزْنُهُ فَعْلٌ، وألِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ واوٍ، وهَمْزَتُهُ بَدَلٌ مِن هاءٍ، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ مُوَيْهٌ، ومِياهٌ، وأمْواهٌ، وتَنْوِينُهُ لِلْبَعْضِيَّةِ، وخَصَّهُ سُبْحانَهُ بِالنُّزُولِ مِنَ السَّماءِ في كَثِيرٍ مِنَ الآياتِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ لِكَثْرَةِ مَنفَعَتِهِ، ومَزِيدِ بَرَكَتِهِ، (ومِنِ) الثّانِيَةُ، إمّا لِلتَّبْعِيضِ، إذْ كَمْ مِن ثَمَرَةٍ لَمْ تَخْرُجْ بَعْدُ، (فَرِزْقًا) حِينَئِذٍ بِالمَعْنى المَصْدَرِيِّ مَفْعُولٌ لَهُ، (لِـأخْرَجَ)، (ولَكُمْ) ظَرْفُ لَغْوٍ، مَفْعُولٌ بِهِ (p-189)(لِرِزْقٍ) أيْ أخْرَجَ شَيْئًا مِنَ الثَّمَراتِ أيْ بَعْضِها، لِأجْلِ أنَّهُ رَزَقَكُمْ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ بَعْضُ الثَّمَراتِ مَفْعُولَ (أخْرَجَ)، (ورِزْقًا) بِمَعْنى مَرْزُوقًا حالًا مِنَ المَفْعُولِ، أوْ نُصِبا عَلى المَصْدَرِ لِأخْرَجَ، وإمّا لِلتَّبْيِينِ، فَرِزْقٌ بِمَعْنى مَرْزُوقٍ مَفْعُولٌ (لِـأخْرَجَ)، (ولَكُمْ) صِفَتُهُ، وقَدْ كانَ مِنَ الثَّمَراتِ صِفَتَهُ أيْضًا، إلّا أنَّهُ لَمّا قُدِّمَ صارَ حالًا عَلى القاعِدَةِ في أمْثالِهِ، وفي تَقْدِيمِ البَيانِ عَلى المُبَيَّنِ خِلافٌ، فَجَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، والكَثِيرُونَ، ومَنَعَهُ صاحِبُ الدُّرِّ المَصُونِ وغَيْرُهُ، واحْتِمالُ جَعْلِها ابْتِدائِيَّةً بِتَقْدِيرِ: مِن ذِكْرِ الثَّمَراتِ، أوْ تَفْسِيرُ الثَّمَراتِ بِالبَذْرِ تَعَسُّفٌ لا ثَمَرَةَ فِيهِ، وألْ في الثَّمَراتِ إمّا لِلْجِنْسِ أوْ لِلِاسْتِغْراقِ، وجَعَلَها لَهُ، (ومِن) زائِدَةٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأنَّ زِيادَةَ (مِن) في الإيجابِ، وقَبْلَ مَعْرِفَةٍ مِمّا لَمْ يَقُلْ بِهِ إلّا الأخْفَشُ، ويَلْزَمُ مِن ذَلِكَ أيْضًا أنْ يَكُونَ جَمِيعُ الثَّمَراتِ الَّتِي أُخْرِجَتْ رِزْقًا لَنا، وكَمْ شَجَرَةٍ أثْمَرَتْ ما لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ رِزْقًا، وأتى بِجَمْعِ القِلَّةِ مَعَ أنَّ المَوْضِعَ مَوْضِعُ الكَثْرَةِ، فَكانَ المُناسِبُ لِذَلِكَ مِنَ الثِّمارِ لِلْإيماءِ إلى أنَّ ما بَرَزَ في رِياضِ الوُجُودِ بِفَيْضِ مِياهِ الجُودِ كالقَلِيلِ، بَلْ أقَلُّ بِقَلِيلٍ بِالنِّسْبَةِ لِثِمارِ الجَنَّةِ، ولِما ادُّخِرَ في مَمالِكِ الغَيْبِ، أوْ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ أجْناسَها مِن حَيْثُ إنَّ بَعْضَها يُؤْكَلُ كُلُّهُ وبَعْضَها ظاهِرُهُ فَقَطْ، وبَعْضَها باطِنُهُ فَقَطِ، المُشِيرُ ذَلِكَ إلى ما يُشِيرُ قَلِيلَةٌ لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الكَثْرَةِ، وما ذَكَرَ الإمامُ البَيْضاوِيُّ وغَيْرُهُ مِن أنَّهُ ساغَ هَذا الجَمْعُ هُنا، لِأنَّهُ أرادَ بِالثَّمَراتِ جَمْعَ ثَمَرَةٍ، أُرِيدَ بِها الكَثْرَةُ كالثِّمارِ مِثْلِها في قَوْلِكَ: أدْرَكَتْ ثَمَرَةُ بُسْتانِكَ، ولَيْسَتِ التّاءُ لِلْوَحْدَةِ الحَقِيقِيَّةِ، بَلْ لِلْوَحْدَةِ الِاعْتِبارِيَّةِ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ ابْنِ السَّمَيْقَعِ (مِنَ الثَّمَرَةِ) أوْ لِأنَّ الجُمُوعَ يَتَعاوَرُ بَعْضُها مَوْقِعَ بَعْضٍ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِن جَنّاتٍ﴾ و﴿ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ أوْ لِأنَّها لَمّا كانَتْ مُحَلّاةً بِاللّامِ، خَرَجَتْ عَنْ حَدِّ القِلَّةِ، لا يَخْلُو صَفاؤُهُ عَنْ كَدَرٍ، كَما يُسْفِرُ عَنْهُ كَلامُ الشِّهابِ، وإذا قِيلَ: بِأنَّ جَمْعَ السَّلامَةِ المُؤَنَّثَ والمُذَكَّرَ مَوْضُوعٌ لِلْكَثْرَةِ، أوْ مُشْتَرَكٌ والمَقامُ يُخَصِّصُهُ بِها، انْدَفَعَ السُّؤالُ وارْتَفَعَ المَقالُ، إلّا أنَّ ذَلِكَ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ مِنَ النّاسِ إلّا قَلِيلٌ، والباءُ مِن (بِهِ) لِلسَّبَبِيَّةِ، والمَشْهُورُ عِنْدَ الأشاعِرَةِ أنَّها سَبَبِيَّةٌ عادِيَّةٌ في أمْثالِ هَذا المَوْضِعِ، فَلا تَأْثِيرَ لِلْماءِ عِنْدَهم أصْلًا في الإخْراجِ، بَلْ ولا في غَيْرِهِ، وإنَّما المُؤَثِّرُ هو اللَّهُ تَعالى عِنْدَ الأسْبابِ لا بِها، لِحَدِيثِ الِاسْتِكْمالِ بِالغَيْرِ قالُوا: ومَنِ اعْتَقَدَ أنَّ اللَّهَ تَعالى أوْدَعَ قُوَّةَ الرَّيِّ في الماءِ مَثَلًا فَهو فاسِقٌ، وفي كُفْرِهِ قَوْلانِ، وجُمِعَ عَلى كُفْرِهِ كَمَن قالَ: إنَّهُ مُؤَثِّرٌ بِنَفْسِهِ فَيَجِبُ عِنْدَهم أنْ يَعْتَقِدَ المُكَلَّفُ أنَّ الرَّيَّ جاءَ مِن جانِبِ المَبْدَإ الفَيّاضِ بِلا واسِطَةٍ، وصادَفَ مَجِيئُهُ شُرْبَ الماءِ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ لِلْماءِ دَخْلٌ في ذَلِكَ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ سِوى المُوافَقَةِ الصُّورِيَّةِ، والفَقِيرُ لا أقُولُ بِذَلِكَ، ولَكِنِّي أقُولُ: إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ رَبَطَ الأسْبابَ بِمُسَبَّباتِها شَرْعًا، وقَدَرًا، وجَعَلَ الأسْبابَ مَحَلَّ حِكْمَتِهِ في أمْرِهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ، وأمْرِهِ الكَوْنِيِّ القَدَرِيِّ، ومَحَلَّ مُلْكِهِ وتَصَرُّفِهِ، فَإنْكارُ الأسْبابِ والقُوى جَحْدٌ لِلضَّرُورِيّاتِ، وقَدْحٌ في العُقُولِ والفِطَرِ، ومُكابَرَةٌ لِلْحِسِّ، وجَحْدٌ لِلشَّرْعِ والجَزاءِ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعالى شَأْنُهُ مَصالِحَ العِبادِ في مَعاشِهِمْ، ومَعادِهِمْ، والثَّوابِ، والعِقابِ، والحُدُودِ، والكَفّاراتِ، والأوامِرِ، والنَّواهِي، والحِلِّ، والحُرْمَةِ، كُلُّ ذَلِكَ مُرْتَبِطًا بِالأسْبابِ، قائِمًا بِها، بَلِ العَبْدُ نَفْسُهُ وصِفاتُهُ، وأفْعالُهُ، سَبَبٌ لِما يَصْدُرُ عَنْهُ، والقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِن إثْباتِ الأسْبابِ، ولَوْ تَتَبَّعْنا ما يُفِيدُ ذَلِكَ مِنَ القُرْآنِ والسُّنَّةِ لَزادَ عَلى عَشَرَةِ آلافِ مَوْضِعٍ حَقِيقَةً، لا مُبالَغَةً، ويالِلَّهِ تَعالى العَجَبُ، إذا كانَ اللَّهُ خالِقَ السَّبَبِ، والمُسَبَّبِ، وهو الَّذِي جَعَلَ هَذا سَبَبًا لِهَذا، والأسْبابُ والمُسَبَّباتُ طَوْعُ مَشِيئَتِهِ وقُدْرَتِهِ مُنْقادَةٌ، فَأيُّ قَدْحٍ يُوجِبُ (p-190)ذَلِكَ في التَّوْحِيدِ، وأيُّ شِرْكٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ؟ ! نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعالى مِمّا يَقُولُونَ، فاللَّهُ عَزَّ وجَلَّ يَفْعَلُ بِالأسْبابِ الَّتِي اقْتَضَتْها الحِكْمَةُ مَعَ غِناهُ عَنْها، كَما صَحَّ أنْ يَفْعَلَ عِنْدَها لا بِها، وحَدِيثُ الِاسْتِكْمالِ يَرُدُّهُ أنَّ الِاسْتِكْمالَ إنَّما يَلْزَمُ لَوْ تَوَقَّفَ الفِعْلُ عَلى ذَلِكَ السَّبَبِ حَقِيقَةً، واللّازِمُ باطِلٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما أمْرُهُ إذا أرادَ شَيْئًا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فالأسْبابُ مُؤَثِّرَةٌ بِقُوى أوْدَعَها اللَّهُ تَعالى فِيها، ولَكِنْ بِإذْنِهِ، وإذا لَمْ يَأْذَنْ وحالَ بَيْنَها وبَيْنَ التَّأْثِيرِ لَمْ تُؤَثِّرْ، كَما يُرْشِدُكَ إلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما هم بِضارِّينَ بِهِ مِن أحَدٍ إلا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ ولَوْ لَمْ يَكُنْ في هَذِهِ الأسْبابِ قُوًى أوْدَعَها العَزِيزُ الحَكِيمُ لَما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿يا نارُ كُونِي بَرْدًا وسَلامًا عَلى إبْراهِيمَ﴾ إذْ ما الفائِدَةُ في القَوْلِ، وهي لَيْسَ فِيها قُوَّةُ الإحْراقِ، وإنَّما الإحْراقُ مِنهُ تَعالى بِلا واسِطَةٍ، ولَوْ كانَ الأمْرُ كَما ذَكَرُوا لَكانَ لِلنّارِ أنْ تَقُولَ: إلَهِي، ما أوْدَعَتَنِي شَيْئًا ولا مَنَحْتَنِي قُوَّةً، وما أنا إلّا كَيَدٍ شَلّاءَ صَحِبَتْها يَدٌ صَحِيحَةٌ تَعْمَلُ الأعْمالَ، وتَصُولُ وتَجُولُ في مَيْدانِ الأفْعالِ، أفَيُقالُ لِلْيَدِ الشَّلّاءِ لا تَفْعَلِي، وفي ذَلِكَ المَيْدانِ لا تَنْزِلِي، ولا يُقالُ ذَلِكَ لِلْيَدِ الفَعّالَةِ، وهي الحَرِيَّةُ بِتِلْكَ المَقالَةِ، ولا أظُنُّ الأشاعِرَةَ يَسْتَطِيعُونَ لِذَلِكَ جَوابًا، ولا أُراهم يُبْدُونَ فِيهِ خِطابًا، وهَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ هو ما ذَهَبَ إلَيْهِ السَّلَفُ الصّالِحُ وتَلَقّاهُ أهْلُ اللَّهِ تَعالى بِالقَبُولِ، ولا يُوقِعَنَّكَ في شَكٍّ مِنهُ نِسْبَتُهُ لِلْمُعْتَزِلَةِ، فَإنَّهم يَقُولُونَ أيْضًا لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، أفَتَشُكُّ فِيها، لِأنَّهم قالُوها مَعاذَ اللَّهِ تَعالى مِنَ التَّعَصُّبِ، فالحِكْمَةُ ضالَّةُ المُؤْمِنِ، والحَقُّ أحَقُّ بِالِاتِّباعِ، واللَّهُ تَعالى يَقُولُ الحَقَّ وهو يَهْدِي السَّبِيلَ. ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا﴾ نَهْيٌ مَعْطُوفٌ عَلى ﴿اعْبُدُوا﴾ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: إذا وجَبَ عَلَيْكم عِبادَةُ رَبِّكُمْ، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا، وأفْرِدُوهُ بِالعِبادَةِ، إذْ لا رَبَّ لَكم سِواهُ، وإيقاعُ الِاسْمِ الجَلِيلِ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ لِتَعْيِينِ المَعْبُودِ بِالذّاتِ، بَعْدَ تَعْيِينِهِ بِالصِّفاتِ، وتَعْلِيلِ الحُكْمِ بِوَصْفِ الأُلُوهِيَّةِ الَّتِي عَلَيْها يَدُورُ أمْرُ الواحِدانِيَّةِ، واسْتِحالَةِ الشَّرِكَةِ والإيذانِ بِاسْتِتْباعِها لِسائِرِ الصِّفاتِ، وقِيلَ: لَفْظُ الرَّبِّ مُسْتَعْمَلٌ في المَفْهُومِ الكُلِّيِّ، واللَّهُ عَلَمٌ لِلْجُزْئِيِّ الحَقِيقِيِّ الواجِبِ الوُجُودِ تَعالى شَأْنُهُ، فَلا يَكُونُ مِن وضْعِ المُظْهَرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ، وحِينَئِذٍ يَظْهَرُ الفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ حَيْثُ عَلَّقَ العِبادَةَ بِصِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، فالمُناسِبُ الفاءُ، وبَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ حَيْثُ عَلَّقَ العِبادَةَ وعَدَمَ الشِّرْكِ بِذاتِهِ تَعالى، فالمُناسِبُ الواوُ، فَلا يَرُدُّ أنَّ المُناسِبَ عَلى هَذا الواوُ، كَما في الآيَةِ الثّانِيَةِ، أوْ نَفْيُ مَنصُوبٍ بِإضْمارِ أنَّ، جَوابٌ لِلْأمْرِ كَما قالَهُ مَوْلانا البَيْضاوِيُّ: واعْتُرِضَ بِأنَّهُ يَأْباهُ، إنَّ ذَلِكَ فِيما يَكُونُ الأوَّلُ سَبَبًا لِلثّانِي، ولا رَيْبَ في أنَّ العِبادَةَ لا تَكُونُ سَبَبًا لِلتَّوْحِيدِ الَّذِي هو أصْلُها ومَنشَؤُها، وأُجِيبَ بِأنَّ عِبادَتَهُ تَعالى أساسُها التَّوْحِيدُ وعَدَمُ الإشْراكِ بِهِ، وأمّا عِبادَةُ الرَّبِّ، فَلَيْسَ أصْلُها عَدَمَ الإشْراكِ بِذاتِهِ تَعالى، بَلْ مِن مُتَفَرِّعاتِهِ، والحَقُّ أنَّ الآيَةَ تَضَمَّنَتْ عِبادَةَ رَبٍّ مَوْصُوفٍ بِما يَجْعَلُهُ كالمُشاهِدِ مِن خَلْقِهِ لَهُمْ، ولِأُصُولِهِمْ، وإبْداعُ الكائِناتِ العَظِيمَةِ، والتَّفَضُّلُ بِإفاضَةِ النِّعَمِ الجَسِيمَةِ فَدَلَّتْ عَلَيْهِ دِلالَةً عَرَّفَتْهم بِهِ، فَمُحَصَّلُها اعْبُدُوا اللَّهَ تَعالى الَّذِي عَرَفْتُمُوهُ مَعْرِفَةً لا مِرْيَةَ فِيها، ولا شَكَّ في أنَّ العِبادَةَ والمَعْرِفَةَ سَبَبٌ لِعَدَمِ الإشْراكِ، إذْ مَن عَرَفَ اللَّهَ تَعالى لا يُسَوِّي بِهِ سِواهُ، فالَّذِي سَوَّلَ لِلْمُعْتَرِضِ النَّظَرُ لِلْعِبادَةِ وقَطْعُ النَّظَرِ عَنِ المَعْرِفَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِلَعَلَّ، فَيُنْصَبُ الفِعْلُ نَصْبَ (فَأطَّلِعَ) عَلى قِراءَةِ جَعْفَرٍ مِن ﴿لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ﴾ إلَخْ، عَلى رَأْيٍ إلْحاقًا بِالأشْياءِ السِّتَّةِ، لِأنَّها غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِحُصُولِ ما يَتَضَمَّنُها، فَتَكُونُ كالشَّرْطِ في عَدَمِ التَّحَقُّقِ، والقَوْلُ بِالإلْحاقِ لَها بَلَيْتَ تَنْزِيلًا لِلْمَرْجُوِّ مَنزِلَةَ المُتَمَنّى في عَدَمِ الوُقُوعِ، يَؤُولُ إلى هَذا، إنْ أُرِيدَ بِعَدَمِ الوُقُوعِ عَدَمُهُ في حالِ الحُكْمِ لا اسْتِحالَتِهِ، والمَعْنى خَلَقَكم لِتَتَّقُوا وتَخافُوا عِقابَهُ (p-191)فَلا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ، فافْهَمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الفاءُ زائِدَةً مُشْعِرَةً بِالسَّبَبِيَّةِ، وجُمْلَةُ النَّهِي، بِتَأْوِيلِ القَوْلِ خَبَرٌ عَنِ الَّذِي عَلى جَعْلِهِ مُبْتَدَأً، وقِيلَ: الجُمْلَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالَّذِي، والفاءُ جَزاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، والمَعْنى: هو الَّذِي جَعَلَ لَكم ما ذَكَرَ مِنَ النِّعَمِ المُتَكاثِرَةِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَلا تَجْعَلُوا إلَخْ، والجَعْلُ هُنا بِمَعْنى التَّصْيِيرِ، وهو كَما يَكُونُ بِالفِعْلِ نَحْوَ صَيَّرْتُ الحَدِيدَ سَيْفًا، ومِنهُ ما تَقَدَّمَ عَلى وجْهٍ يَكُونُ بِالقَوْلِ والعَقْدِ، والأنْدادُ جَمْعُ نِدٍّ كَعِدْلٍ وأعْدالٍ، أوْ نَدِيدٍ كَيَتِيمٍ وأيْتامٍ، والنِّدُّ مِثْلُ الشَّيْءِ الَّذِي يُضادُّهُ، ويُخالِفُهُ في أُمُورِهِ، ويُنافِرُهُ ويَتَباعَدُ عَنْهُ، ولَيْسَ مِنَ الأضْدادِ عَلى الأصَحِّ، وأصْلُهُ مِن نَدَّ نُدُودًا، إذا نَفَرَ، وقِيلَ: النِّدُّ المُشارِكُ في الجَوْهَرِيَّةِ فَقَطْ، والشَّكْلُ المُشارِكُ في القَدْرِ والمِساحَةِ، والشَّبَهُ المُشارِكُ في الكَيْفِيَّةِ فَقَطْ، والمُساوِي في الكِمِّيَّةِ فَقَطْ، والمِثْلُ عامٌّ في جَمِيعِ ذَلِكَ، وفي تَسْمِيَةِ ما يَعْبُدُهُ المُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أنْدادًا، والحالُ أنَّهم ما زَعَمُوا أنَّها تُماثِلُهُ في ذاتِهِ تَعالى وصَفاتِهِ ولا تُخالِفُهُ في أفْعالِهِ، وإنَّما عَبَدُوها لِتُقَرِّبَهم إلَيْهِ سُبْحانَهُ زُلْفى، إشارَةٌ إلى اسْتِعارَةٍ تَهَكُّمِيَّةٍ حَيْثُ اسْتُعِيرَ النَّظِيرُ المُصادِرُ لِلْمُناسِبِ المُقَرَّبِ كَما اسْتُعِيرَ التَّبْشِيرُ لِلْإنْذارِ، والأسَدُ لِلْجَبانِ، وإنْ أُرِيدَ بِالنِّدِّ النَّظِيرُ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ هُناكَ تَضادٌّ، وإنَّما هو مِنِ اسْتِعارَةِ أحَدِ المُتَشابِهَيْنِ لِلْآخَرِ، فَإنَّ المُشْرِكِينَ جَعَلُوا الأصْنامَ بِحَسَبِ أفْعالِهِمْ وأحْوالِهِمْ مُماثِلَةً لَهُ تَعالى في العِبادَةِ، وهي خُطَّةٌ شَنْعاءُ، وصِفَةٌ حَمْقاءُ، في ذِكْرِها ما يَسْتَلْزِمُ تَحْمِيقَهم والتَّهَكُّمَ بِهِمْ، ولَعَلَّ الأوَّلَ أوْلى، وفي الإتْيانِ بِالجَمْعِ تَشْنِيعٌ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ جَعَلُوا أنْدادًا لِمَن يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ لَهُ نِدٌّ واحِدٌ، ولِلَّهِ دَرُّ مُوَحِّدِ الفَتْرَةِ زَيْدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ نُفَيْلٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ حَيْثُ يَقُولُ في ذَلِكَ: ؎أرَبًّا واحِدًا أمْ ألْفَ رَبٍّ ∗∗∗ أدِينُ إذا تَقَسَّمَتِ الأُمُورُ ؎تَرَكْتُ اللّاتَ والعُزّى جَمِيعًا ∗∗∗ كَذَلِكَ يَفْعَلُ الرَّجُلُ البَصِيرُ ﴿وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ حالٌ مِن ضَمِيرِ (لا تَجْعَلُوا) والمَفْعُولُ مَطْرُوحٌ أيْ وحالُكم أنَّكم مِن أهْلِ العِلْمِ والمَعْرِفَةِ والنَّظَرِ وإصابَةِ الرَّأْيِ، فَإذا تَأمَّلْتُمْ أدْنى تَأمُّلٍ عَلِمْتُمْ وُجُودَ صانِعٍ يَجِبُ تَوْحِيدُهُ في ذاتِهِ وصِفاتِهِ لا يَلِيقُ أنْ يُعْبَدَ سِواهُ، أوْ مُقَدَّرٌ حَسْبَما يَقْتَضِيهِ المَقامُ، ويَسُدُّ مَسَدَّ مَفْعُولَيِ العِلْمِ أيْ تَعْلَمُونَ أنَّهُ سُبْحانَهُ لا يُماثِلُهُ شَيْءٌ، أوْ أنَّها لا تُماثِلُهُ، ولا تَقْدِرُ عَلى مِثْلِ ما يَفْعَلُهُ، والحالُ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ، لِلتَّوْبِيخِ، أوِ التَّقْيِيدِ، إذِ العِلْمُ مَناطُ التَّكْلِيفِ، ولا تَكْلِيفَ عِنْدَ عَدَمِ الأهْلِيَّةِ، وعَلى الوَجْهِ الثّانِي لِلتَّوْبِيخِ لا غَيْرُ، لِأنَّ قَيْدَ الحُكْمِ تَعْلِيقُ العِلْمِ بِالمَفْعُولِ، ومَناطُ التَّكْلِيفِ العِلْمُ فَقَطْ، والتَّوْبِيخُ بِاعْتِبارِ بَعْضِ أفْرادِ المُخاطَبِينَ بِالنَّهْيِ بِناءً عَلى عُمُومِ الخِطابِ حَسْبَما مَرَّ في الأمْرِ، فَلا يَسْتَدْعِي تَخْصِيصَ الخِطابِ بِالكَفَرَةِ، عَلى أنَّهُ لا بَأْسَ بِالتَّخْصِيصِ بِهِمْ أمْرًا ونَهْيًا، بَلْ قِيلَ: إنَّهُ أوْلى لِلْخَلاصِ مِنَ التَّكَلُّفِ وحُسْنِ الِانْتِظامِ، إذْ لا مَحِيصَ في ظاهِرِ آيَةِ التَّحَدِّي مِن تَجْرِيدِ الخِطابِ، وتَخْصِيصِهِ بِالكَفَرَةِ مَعَ ما فِيهِ مِن رِباءِ مَحَلِّ المُؤْمِنِينَ، ورَفْعِ شَأْنِهِمْ عَنْ حِينِ الِانْتِظامِ في سِلْكِ الكَفَرَةِ اللِّئامِ، والإيذانِ بِأنَّهم مُسْتَمِرُّونَ عَلى الطّاعَةِ والعِبادَةِ مُسْتَغْنُونَ في ذَلِكَ عَنِ الأمْرِ والنَّهْيِ فَتَأمَّلْ. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ مِن بَدائِعِ الصَّنْعَةِ ودَقائِقِ الحِكْمَةِ، وظُهُورِ البَراهِينِ ما اقْتَضى أنَّهُ تَعالى المُنْفَرِدُ بِالإيجادِ، المُسْتَحِقُّ لِلْعِبادَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الأنْدادِ الَّتِي لا تَخْلُقُ، ولا تَرْزُقُ، ولَيْسَ لَها نَفْعٌ ولا ضُرٌّ، ”ألّا لِلَّهِ الخُلُق والأمْر“ * * * ومِن بابِ الإشارَةِ أنَّهُ تَعالى مَثَّلَ البَدَنَ بِالأرْضِ، والنَّفْسَ بِالسَّماءِ، والعَقْلَ بِالماءِ، وما أفاضَ عَلى القَوابِلِ مِنَ الفَضائِلِ العِلْمِيَّةِ والعَمَلِيَّةِ المُحَصَّلَةِ بِواسِطَةِ اسْتِعْمالِ العَقْلِ والحِسِّ وازْدِواجِ القُوى النَّفْسانِيَّةِ والبَدَنِيَّةِ بِالثَّمَراتِ المُتَوَلِّدَةِ مِنِ ازْدِواجِ القُوى السَّماوِيَّةِ الفاعِلَةِ والأرْضِيَّةِ المُنْفَعِلَةِ بِإذْنِ الفاعِلِ المُخْتارِ، وقَدْ يُقالُ: إنَّهُ تَعالى لَمّا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِأنَّهُ سُبْحانَهُ خَلَقَهُمْ، والَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ذَكَرَ ما يُرْشِدُهم إلى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ خَلْقِهِمْ، فَجَعَلَ الأرْضَ الَّتِي هي فِراشٌ مِثْلَ الأُمِّ الَّتِي يَفْتَرِشُها الرَّجُلُ، وهي أيْضًا تُسَمّى فِراشًا، وشَبَّهَ السَّماءَ الَّتِي عَلَتْ عَلى الأرْضِ بِالأبِ الَّذِي يَعْلُو عَلى الأُمِّ، ويَغْشاها، وضَرَبَ (p-192)الماءَ النّازِلَ مِنَ السَّماءِ مَثَلًا لِلنُّطْفَةِ الَّتِي تَنْزِلُ مِن صُلْبِ الأبِ، وضَرَبَ ما يَخْرُجُ مِنَ الأرْضِ مِنَ الثَّمَراتِ مَثَلًا لِلْوَلَدِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الأُمِّ، كُلُّ ذَلِكَ لِيُؤْنِسَ عُقُولَهُمْ، ويُرْشِدَها إلى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ التَّخْلِيقِ، ويُعَرِّفَها أنَّهُ الخالِقُ لِهَذا الوَلَدِ، والمُخْرِجُ لَهُ مِن بَطْنِ أُمِّهِ، كَما أنَّهُ الخالِقُ لِلثَّمَراتِ ومُخْرِجُها مِن بُطُونِ أشْجارِها، ومُخْرِجُ أشْجارِها مِن بَطْنِ الأرْضِ، فَإذا وضَحَ ذَلِكَ لَهُمْ، أفْرَدُوهُ بِالأُلُوهِيَّةِ، وخَصُّوهُ بِالعِبادَةِ، وحَصَلَتْ لَهُمُ الهِدايَةُ: ؎تَأمَّلْ في رِياضِ الأرْضِ وانْظُرْ إلى آثارِ ما صَنَعَ المَلِيكُ ؎عُيُونٌ مِن لُجَيْنٍ شاخِصاتٌ ∗∗∗ عَلى أهْدابِها ذَهَبٌ سَبِيكُ ؎عَلى قُضْبِ الزَّبَرْجَدِ شاهِداتٌ ∗∗∗ بِأنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب