الباحث القرآني

. اللّامُ في ﴿ولَئِنْ أذَقْنا الإنْسانَ﴾ هي المُوطِئَةُ لِلْقَسَمِ، والإنْسانُ الجِنْسُ، فَيَشْمَلُ المُؤْمِنَ والكافِرَ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ الِاسْتِثْناءُ بِقَوْلِهِ: ﴿إلّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ وقِيلَ المُرادُ جِنْسُ الكُفّارِ، ويُؤَيِّدُهُ أنَّ اليَأْسَ والكُفْرانَ والفَرَحَ والفَخْرَ هي أوْصافُ أهْلِ الكُفْرِ لا أهْلِ الإسْلامِ في الغالِبِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالإنْسانِ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، وقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ المَخْزُومِيُّ. والمُرادُ بِالرَّحْمَةِ هُنا: النِّعْمَةُ مِن تَوْفِيرِ الرِّزْقِ والصِّحَّةِ والسَّلامَةِ مِنَ المِحَنِ ﴿ثُمَّ نَزَعْناها مِنهُ﴾ أنْ سَلَبْناهُ إيّاها ﴿إنَّهُ لَيَئُوسٌ﴾ أيْ آيِسٌ مِنَ الرَّحْمَةِ شَدِيدُ القُنُوطِ مِن عَوْدِها وأمْثالِها، والكَفُورُ: عَظِيمُ الكُفْرانِ وهو الجُحُودُ بِها قالَهُ ابْنُ الأعْرابِيِّ، وفي إيرادِ صِيغَتَيِ المُبالَغَةِ في ﴿لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الإنْسانَ كَثِيرُ اليَأْسِ، وكَثِيرُ الجَحْدِ عِنْدَ أنْ يَسْلُبَهُ اللَّهُ بَعْضَ نِعَمِهِ فَلا يَرْجُو عَوْدَها، ولا يَشْكُرُ ما قَدْ سَلَفَ لَهُ مِنها. وفِي التَّعْبِيرِ بِالذَّوْقِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يَكُونُ مِنهُ ذَلِكَ عِنْدَ سَلْبِ أدْنى نِعْمَةٍ يُنْعِمُ اللَّهُ بِها عَلَيْهِ، لِأنَّ الإذاقَةَ والذَّوْقَ أقَلُّ ما يُوجَدُ بِهِ الطَّعْمُ. والنَّعْماءُ إنْعامٌ يَظْهَرُ أثَرُهُ عَلى صاحِبِهِ، والضَّرّاءُ ظُهُورُ أثَرِ الإضْرارِ عَلى مَن أُصِيبَ بِهِ. والمَعْنى: أنَّهُ إنْ أذاقَ اللَّهُ سُبْحانَهُ العَبْدَ نَعْماءَهُ مِنَ الصِّحَّةِ والسَّلامَةِ، والغِنى بَعْدَ أنْ كانَ في ضُرٍّ مِن فَقْرٍ أوْ مَرَضٍ أوْ خَوْفٍ، لَمْ يُقابِلْ ذَلِكَ بِما يَلِيقُ بِهِ مِنَ الشُّكْرِ لِلَّهِ سُبْحانَهُ، بَلْ يَقُولُ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ: أيْ المَصائِبُ الَّتِي ساءَتْهُ مِنَ الضُّرِّ والفَقْرِ والخَوْفِ والمَرَضِ عَنْهُ وزالَ أثَرُها غَيْرَ شاكِرٍ لِلَّهِ ولا مُثْنٍ عَلَيْهِ بِنِعَمِهِ ﴿إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ أيْ كَثِيرُ الفَرَحِ بَطَرًا وأشَرًا، كَثِيرُ الفَخْرِ عَلى النّاسِ والتَّطاوُلِ عَلَيْهِمْ بِما يَتَفَضَّلُ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ، وفي التَّعْبِيرِ عَنْ مُلابَسَةِ الضُّرِّ لَهُ بِالمَسِّ مُناسَبَةٌ لِلتَّعْبِيرِ في جانِبِ النَّعْماءِ بِالإذاقَةِ، فَإنَّ كِلاهُما لِأدْنى ما يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ المُلاقاةِ، كَما تَقَدَّمَ. ﴿إلّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ فَإنَّ عادَتَهم الصَّبْرُ عِنْدَ نُزُولِ المِحَنِ، والشُّكْرُ عِنْدَ حُصُولِ المِنَنِ. قالَ الأخْفَشُ: هو اسْتِثْناءٌ لَيْسَ مِنَ الأوَّلِ: أيْ ولَكِنِ الَّذِينَ صَبَرُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ في حالَتَيِ النِّعْمَةِ والمِحْنَةِ. وقالَ الفَرّاءُ: هو اسْتِثْناءٌ مِن لَئِنْ أذَقْناهُ: أيْ مِنَ الإنْسانِ، فَإنَّ الإنْسانَ بِمَعْنى النّاسِ، والنّاسُ يَشْمَلُ الكافِرَ والمُؤْمِنَ، فَهو اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ إلى المَوْصُولِ بِاعْتِبارِ اتِّصافِهِ بِالصَّبْرِ وعَمَلِ الصّالِحاتِ ﴿لَهم مَغْفِرَةٌ﴾ لِذُنُوبِهِمْ وأجْرٌ يُؤْجَرُونَ بِهِ لِأعْمالِهِمُ الحَسَنَةِ كَبِيرٌ مُتَناهٍ في الكِبَرِ. ثُمَّ سَلّى اللَّهُ سُبْحانَهُ رَسُولَهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، فَقالَ: ﴿فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إلَيْكَ﴾ (p-٦٥٠)أيْ فَلَعَلَّكَ لِعِظَمِ ما تَراهُ مِنهم مِنَ الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ، واقْتِراحِ الآياتِ الَّتِي يَقْتَرِحُونَها عَلَيْكَ عَلى حَسَبِ هَواهم وتَعَنُّتِهِمْ - تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إلَيْكَ مِمّا أنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ وأمَرَكَ بِتَبْلِيغِهِ، مِمّا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ سَماعُهُ أوْ يَسْتَشِقُّونَ العَمَلَ بِهِ، كَسَبِّ آلِهَتِهِمْ وأمْرِهِمْ بِالإيمانِ بِاللَّهِ وحْدَهُ. قِيلَ: وهَذا الكَلامُ خارِجٌ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهامِ: أيْ هَلْ أنْتَ تارِكٌ ؟ وقِيلَ: هو في مَعْنى النَّفْيِ مَعَ الِاسْتِبْعادِ: أيْ لا يَكُونُ مِنكَ ذَلِكَ، بَلْ تُبَلِّغُهم جَمِيعَ ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ، أحَبُّوا ذَلِكَ أمْ كَرِهُوهُ، شاءُوا أمْ أبَوْا ﴿وضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى تارِكٌ، والضَّمِيرُ في بِهِ راجِعٌ إلى ما، أوْ إلى بَعْضَ، وعَبَّرَ بِضائِقٍ دُونَ ضَيِّقٍ لِأنَّ اسْمَ الفاعِلِ فِيهِ مَعْنى الحُدُوثِ والعُرُوضِ والصِّفَةُ المُشَبَّهَةُ فِيها مَعْنى اللُّزُومِ أنْ يَقُولُوا أيْ كَراهَةَ أنْ يَقُولُوا، أوْ مَخافَةَ أنْ يَقُولُوا أوْ لِئَلّا يَقُولُوا: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ﴾ أيْ هَلّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ: أيْ مالٌ مَكْنُوزٌ مَخْزُونٌ يَنْتَفِعُ بِهِ ﴿أوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ﴾ يُصَدِّقُهُ ويُبَيِّنُ لَنا صِحَّةَ رِسالَتِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّ حالَهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مَقْصُورٌ عَلى النِّذارَةِ، فَقالَ: ﴿إنَّما أنْتَ نَذِيرٌ﴾ لَيْسَ عَلَيْكَ إلّا الإنْذارُ بِما أُوحِيَ إلَيْكَ، ولَيْسَ عَلَيْكَ حُصُولُ مَطْلُوبِهِمْ وإيجابُ مُقْتَرَحاتِهِمْ ﴿واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ﴾ يَحْفَظُ ما يَقُولُونَ وهو فاعِلٌ بِهِمْ ما يَجِبُ أنْ يُفْعَلَ. قَوْلُهُ: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ﴾ أمْ هي المُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنى بَلْ والهَمْزَةُ، وأضْرَبَ عَمّا تَقَدَّمَ مِن تَهاوُنِهِمْ بِالوَحْيِ، وعَدَمِ قُنُوعِهِمْ بِما جاءَ بِهِ مِنَ المُعْجِزاتِ الظّاهِرَةِ، وشَرَعَ في ذِكْرِ ارْتِكابِهِمْ لِما هو أشَدُّ مِن ذَلِكَ، وهو افْتِراؤُهم عَلَيْهِ بِأنَّهُ افْتَراهُ، والِاسْتِفْهامُ لِلتَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ، والضَّمِيرُ المُسْتَتِرُ في افْتَراهُ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ والبارِزُ إلى ما يُوحى. ثُمَّ أمَرَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ بِما يُقْطِعَهم ويُبَيِّنُ كَذِبَهم ويُظْهِرُ بِهِ عَجْزَهم فَقالَ: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾ أيْ مُماثَلَةٍ لَهُ في البَلاغَةِ وحُسْنِ النَّظْمِ وجَزالَةِ اللَّفْظِ وفَخامَةِ المَعانِي ووَصْفِ السُّوَرِ بِما يُوصَفُ بِهِ المُفْرَدُ، فَقالَ مِثْلَهُنَّ ولَمْ يَقُلْ أمْثالَهُ، لِأنَّ المُرادَ مُماثَلَةُ كُلِّ واحِدٍ مِنَ السُّوَرِ، أوْ لِقَصْدِ الإيماءِ إلى وجْهِ الشَّبَهِ، ومَدارُهُ المُماثَلَةُ في شَيْءٍ واحِدٍ، وهو البَلاغَةُ البالِغَةُ إلى حَدِّ الإعْجازِ وهَذا إنَّما هو عَلى القَوْلِ بِأنَّ المُطابَقَةَ في الجَمْعِ والتَّثْنِيَةِ والإفْرادِ شَرْطٌ، ثُمَّ وصَفَ السُّوَرَ بِصِفَةٍ أُخْرى، فَقالَ: ﴿مُفْتَرَياتٍ وادْعُوا﴾ لِلِاسْتِظْهارِ عَلى المُعارَضَةِ بِالعَشْرِ السُّوَرِ ﴿مَنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ دُعاءَهُ وقَدَرْتُمْ عَلى الِاسْتِعانَةِ بِهِ مِن هَذا النَّوْعِ الإنْسانِيِّ، ومِمَّنْ تَعْبُدُونَهُ وتَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا لِلَّهِ سُبْحانَهُ. وقَوْلُهُ: ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِادْعُوا: أيِ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مُتَجاوِزِينَ اللَّهَ تَعالى ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ فِيما تَزْعُمُونَ مِنِ افْتِرائِي لَهُ. ﴿فَإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ﴾ أيْ فَإنْ لَمْ يَفْعَلُوا ما طَلَبْتَهُ مِنهم وتَحَدَّيْتَهم بِهِ مِنَ الإتْيانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ولا اسْتَجابُوا إلى المُعارَضَةِ المَطْلُوبَةِ مِنهم ويَكُونُ الضَّمِيرُ في لَكم لِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ولِلْمُؤْمِنِينَ أوْ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وحْدَهُ وجَمَعَ تَعْظِيمًا وتَفْخِيمًا ﴿فاعْلَمُوا﴾ أمْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ولِلْمُؤْمِنِينَ أوْ لِلرَّسُولِ وحْدَهُ عَلى التَّأْوِيلِ الَّذِي سَلَفَ قَرِيبًا. ومَعْنى أمْرِهِمْ بِالعِلْمِ أمْرُهم بِالثَّباتِ عَلَيْهِ لِأنَّهم عالِمُونَ بِذَلِكَ مِن قَبْلِ عَجْزِ الكُفّارِ عَنِ الإتْيانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ، أوِ المُرادُ بِالأمْرِ بِالعِلْمِ الأمْرُ بِالِازْدِيادِ، مِنهُ إلى حَدٍّ لا يَشُوبُهُ شَكٌّ ولا تُخالِطُهُ شُبْهَةٌ وهو عِلْمُ اليَقِينِ، والأوَّلُ أوْلى. ومَعْنى ﴿أنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ﴾ أنَّهُ أُنْزِلَ مُتَلَبِّسًا بِعِلْمِ اللَّهِ المُخْتَصِّ بِهِ، الَّذِي لا تَطَّلِعُ عَلى كُنْهِهِ العُقُولُ ولا تَسْتَوْضِحُ مَعْناهُ الأفْهامُ، لِما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الإعْجازِ الخارِجِ عَنْ طَوْقِ البَشَرِ ﴿وأنْ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ أيْ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ هو المُتَفَرِّدُ بِالأُلُوهِيَّةِ لا شَرِيكَ لَهُ، ولا يَقْدِرُ غَيْرُهُ عَلى ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ. ثُمَّ خَتَمَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أيْ ثابِتُونَ عَلى الإسْلامِ مُخْلِصُونَ لَهُ مُزْدادُونَ مِنَ الطّاعاتِ، لِأنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَكم بِعَجْزِ الكُفّارِ عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِ عَشْرِ سُوَرٍ مِن هَذا الكِتابِ طُمَأْنِينَةٌ فَوْقَ ما كُنْتُمْ عَلَيْهِ وبَصِيرَةٌ زائِدَةٌ، وإنَّ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ مِن قَبْلِ هَذا، فَإنَّ الثُّبُوتَ عَلَيْهِ وزِيادَةَ البَصِيرَةِ فِيهِ والطُّمَأْنِينَةَ بِهِ مَطْلُوبٌ مِنكم. وقِيلَ إنَّ الضَّمِيرَ في ﴿فَإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا﴾ لِلْمَوْصُولِ في مَنِ اسْتَطَعْتُمْ، وضَمِيرُ لَكم لِلْكُفّارِ الَّذِينَ تَحَدّاهم رَسُولُ اللَّهِ، وكَذَلِكَ ضَمِيرُ فاعْلَمُوا. والمَعْنى: فَإنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لَكم مَن دَعَوْتُمُوهم لِلْمُعاضَدَةِ والمُناصَرَةِ عَلى الإتْيانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِن سائِرِ الكُفّارِ ومَن يَعْبُدُونَهم، ويَزْعُمُونَ أنَّهم يَضُرُّونَ ويَنْفَعُونَ، فاعْلَمُوا أنَّ هَذا القُرْآنَ الَّذِي أنْزَلَهُ اللَّهُ عَلى هَذا الرَّسُولِ خارِجٌ عَنْ قُدْرَةِ غَيْرِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، لِما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الإعْجازِ الَّذِي تَتَقاصَرُ دُونَهُ قُوَّةُ المَخْلُوقِينَ، وأنَّهُ أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ الَّذِي لا تُحِيطُ بِهِ العُقُولُ ولا تَبْلُغُهُ الأفْهامُ، واعْلَمُوا أنَّهُ المُنْفَرِدُ بِالأُلُوهِيَّةِ لا شَرِيكَ لَهُ، فَهَلْ أنْتُمْ بَعْدَ هَذا مُسْلِمُونَ ؟ أيْ داخِلُونَ في الإسْلامِ مُتَّبِعُونَ لِأحْكامِهِ مُقْتَدُونَ بِشَرائِعِهِ. وهَذا الوَجْهُ أقْوى مِنَ الوَجْهِ الأوَّلِ مِن جِهَةٍ وأضْعَفُ مِنهُ مِن جِهَةٍ، فَأمّا جِهَةُ قُوَّتِهِ فَلِاتِّساقِ الضَّمائِرِ وتَناسُبِها وعَدَمِ احْتِياجِ بَعْضِها إلى تَأْوِيلٍ، وأمّا ضَعْفُهُ فَلِما في تَرْتِيبِ الأمْرِ بِالعِلْمِ عَلى عَدَمِ الِاسْتِجابَةِ مِمَّنْ دَعَوْهم واسْتَعانُوا بِهِمْ مِنَ الخَفاءِ واحْتِياجِهِ إلى تَكَلُّفٍ، وهو أنْ يُقالَ: إنَّ عَدَمَ اسْتِجابَةِ مَن دَعَوْهم واسْتَعانُوا بِهِمْ مِنَ الكُفّارِ والآلِهَةِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلى نَصْرِهِمْ ومُعاضِدَتِهِمْ ومُبالَغَتِهِمْ في عَدَمِ إيمانِهِمْ واسْتِمْرارِهِمْ عَلى الكُفْرِ يُفِيدُ حُصُولَ العِلْمِ لِهَؤُلاءِ الكُفّارِ بِأنَّ هَذا القُرْآنَ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ هو الإلَهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وذَلِكَ يُوجِبُ دُخُولَهم في الإسْلامِ. واعْلَمْ أنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ التَّحَدِّي لِلْكُفّارِ بِمُعارَضَةِ القُرْآنِ، فَتارَةً وقَعَ بِمَجْمُوعِ القُرْآنِ كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ [الإسراء: ٨٨] وبِعَشْرِ سُوَرٍ كَما في هَذِهِ الآيَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ العَشَرَةَ أوَّلُ عَقْدٍ مِنَ العُقُودِ، وبِسُورَةٍ مِنهُ كَما تَقَدَّمَ وذَلِكَ لِأنَّ السُّورَةَ أقَلُّ طائِفَةٍ مِنهُ. ثُمَّ إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ تَوَعَّدَ مَن كانَ مَقْصُورَ الهِمَّةِ عَلى الدُّنْيا لا يَطْلُبُ غَيْرَها ولا يُرِيدُ سِواها فَقالَ: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها نُوَفِّ إلَيْهِمْ أعْمالَهم فِيها﴾ . قالَ الفَرّاءُ: إنَّ كانَ هَذِهِ زائِدَةٌ، ولِهَذا جُزِمَ الجَوابُ. وقالَ الزَّجّاجُ: (p-٦٥١)" مَن " كانَ في مَوْضِعِ جَزْمٍ بِالشَّرْطِ، وجَوابُهُ نُوَفِّ إلَيْهِمْ: أيْ مَن يَكُنْ يُرِيدُ. واخْتَلَفَ أهْلُ التَّفْسِيرِ في هَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ الضَّحّاكُ: نَزَلَتْ في الكُفّارِ واخْتارَهُ النَّحّاسُ بِدَلِيلِ الآيَةِ الَّتِي بَعْدَها ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهم في الآخِرَةِ إلّا النّارُ﴾، وقِيلَ: الآيَةُ وارِدَةٌ في النّاسِ عَلى العُمُومِ كافِرِهِمْ ومُسْلِمِهِمْ. والمَعْنى: أنَّ مَن كانَ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ حَظَّ الدُّنْيا يُكافَأُ بِذَلِكَ، والمُرادُ بِزِينَتِها: ما يُزَيِّنُها ويُحَسِّنُها مِنَ الصِّحَّةِ والأمْنِ والسِّعَةِ في الرِّزْقِ وارْتِفاعِ الحَظِّ ونَفاذِ القَوْلِ ونَحْوِ ذَلِكَ. وإدْخالُ كانَ في الآيَةِ يُفِيدُ أنَّهم مُسْتَمِرُّونَ عَلى إرادَةِ الدُّنْيا بِأعْمالِهِمْ لا يَكادُونَ يُرِيدُونَ الآخِرَةَ، ولِهَذا قِيلَ إنَّهم مَعَ إعْطائِهِمْ حُظُوظَ الدُّنْيا يُعَذَّبُونَ في الآخِرَةِ لِأنَّهم جَرَّدُوا قَصْدَهم إلى الدُّنْيا ولَمْ يَعْمَلُوا لِلْآخِرَةِ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿نُوَفِّ إلَيْهِمْ أعْمالَهم فِيها﴾ أنَّ مَن أرادَ بِعَمَلِهِ الدُّنْيا حَصَلَ لَهُ الجَزاءُ الدُّنْيَوِيُّ ولا مَحالَةَ، ولَكِنَّ الواقِعَ في الخارِجِ يُخالِفُ ذَلِكَ، فَلَيْسَ كُلُّ مُتَمَنٍّ يَنالُ مِنَ الدُّنْيا أُمْنِيَّتَهُ وإنْ عَمِلَ لَها وأرادَها، فَلا بُدَّ مِن تَقْيِيدِ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ. قالَ القُرْطُبِيُّ: ذَهَبَ أكْثَرُ العُلَماءِ إلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُطْلَقَةٌ، وكَذَلِكَ الآيَةُ الَّتِي في الشُّورى ﴿ومَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنها﴾ [الشورى: ٢٠]، وكَذَلِكَ ﴿مَن كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ﴾ [النساء: ١٣٤] قَيَّدَتْها وفَسَّرَتْها الَّتِي في سُبْحانَ ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَن نُرِيدُ﴾ [الإسراء: ١٨] قَوْلُهُ: ﴿وهم فِيها لا يُبْخَسُونَ﴾ أيْ وهَؤُلاءِ المُرِيدُونَ بِأعْمالِهِمُ الدُّنْيا هم فِيها: أيْ في الدُّنْيا لا يُبْخَسُونَ: أيْ لا يُنْقَصُونَ مِن جَزائِهِمْ فِيها بِحَسَبِ أعْمالِهِمْ لَها، وذَلِكَ في الغالِبِ ولَيْسَ بِمُطَّرِدٍ، بَلْ إنْ قَضَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ سُبْحانَهُ، ورَجَّحَتْهُ حِكْمَتُهُ البالِغَةُ. وقالَ القاضِي: مَعْنى الآيَةِ: مَن كانَ يُرِيدُ بِعَمَلِ الخَيْرِ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها نُوَفِّ إلَيْهِمْ أعْمالَهم وافِيَةً كامِلَةً مِن غَيْرِ بَخْسٍ في الدُّنْيا، وهو ما يَنالُونَ مِنَ الصِّحَّةِ والكَفافِ وسائِرِ اللَّذّاتِ والمَنافِعِ، فَخَصَّ الجَزاءَ بِمِثْلِ ما ذَكَرَهُ وهو حاصِلٌ لِكُلِّ عامِلٍ لِلدُّنْيا ولَوْ كانَ قَلِيلًا يَسِيرًا. قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهم في الآخِرَةِ إلّا النّارُ﴾ الإشارَةُ إلى المُرِيدِينَ المَذْكُورِينَ، ولا بُدَّ مِن تَقْيِيدِ هَذا بِأنَّهم لَمْ يُرِيدُوا الآخِرَةَ بِشَيْءٍ مِنَ الأعْمالِ المُعْتَدِّ بِها المُوجِبَةِ لِلْجَزاءِ الحَسَنِ في الدّارِ الآخِرَةِ، أوْ تَكُونُ الآيَةُ خاصَّةً بِالكُفّارِ كَما تَقَدَّمَ ﴿وحَبِطَ ما صَنَعُوا﴾ أيْ ظَهَرَ في الدّارِ الآخِرَةِ حُبُوطُ ما صَنَعُوهُ مِنَ الأعْمالِ الَّتِي كانَتْ صُورَتُها صُورَةَ الطّاعاتِ المُوجِبَةِ لِلْجَزاءِ الأُخْرَوِيِّ، لَوْلا أنَّهم أفْسَدُوها بِفَسادِ مَقاصِدِهِمْ، وعَدَمِ الخُلُوصِ، وإرادَةِ ما عِنْدَ اللَّهِ في دارِ الجَزاءِ، بَلْ قَصَرُوا ذَلِكَ عَلى الدُّنْيا وزِينَتِها، ثُمَّ حَكَمَ سُبْحانَهُ بِبُطْلانِ عَمَلِهِمْ فَقالَ: ﴿وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أيْ أنَّهُ كانَ عَمَلُهم في نَفْسِهِ باطِلًا غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ، لِأنَّهُ لَمْ يُعْمَلْ لِوَجْهٍ صَحِيحٍ يُوجِبُ الجَزاءَ، ويَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ما يَتَرَتَّبُ عَلى العَمَلِ الصَّحِيحِ. قَوْلُهُ: ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ﴾ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّ بَيْنَ مَن كانَ طالِبًا لِلدُّنْيا فَقَطْ، ومَن كانَ طالِبًا لِلْآخِرَةِ تَفاوُتًا عَظِيمًا، وتَبايُنًا بَعِيدًا، والمَعْنى: أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ في اتِّباعِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ والإيمانِ بِاللَّهِ كَغَيْرِهِ مِمَّنْ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتِها، وقِيلَ: المُرادُ بِمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: أيْ أفَمَن كانَ مَعَهُ بَيانٌ مِنَ اللَّهِ ومُعْجِزَةٌ كالقُرْآنِ ومَعَهُ شاهِدٌ كَجِبْرِيلَ، وقَدْ بَشَّرَتْ بِهِ الكُتُبُ السّالِفَةُ، كَمَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها. ومَعْنى البَيِّنَةِ: البُرْهانُ الَّذِي يَدُلُّ عَلى الحَقِّ، والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿ويَتْلُوهُ شاهِدٌ﴾ راجِعٌ إلى البَيِّنَةِ بِاعْتِبارِ تَأْوِيلِها بِالبُرْهانِ، والضَّمِيرُ في مِنهُ راجِعٌ إلى القُرْآنِ، لِأنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في قَوْلِهِ: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ﴾ أوْ راجَعٌ إلى اللَّهِ تَعالى. والمَعْنى: ويَتْلُو البُرْهانَ الَّذِي هو البَيِّنَةُ شاهِدٌ يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ مِنَ القُرْآنِ، أوْ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ. والشّاهِدُ: هو الإعْجازُ الكائِنُ في القُرْآنِ، أوِ المُعْجِزاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَإنَّ ذَلِكَ مِنَ الشَّواهِدِ التّابِعَةِ لِلْقُرْآنِ. وقالَ الفَرّاءُ: قالَ بَعْضُهم: ﴿ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنهُ﴾ الإنْجِيلُ، وإنْ كانَ قَبْلَهُ فَهو يَتْلُو القُرْآنَ في التَّصْدِيقِ، والهاءُ في مِنهُ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وقِيلَ: المُرادُ بِـ مَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ: هم مُؤْمِنُو أهْلِ الكِتابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وأضْرابِهِ. قَوْلُهُ: ﴿ومِن قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى﴾ مَعْطُوفٌ عَلى شاهِدٌ والتَّقْدِيرُ: ويَتْلُو الشّاهِدَ شاهِدٌ آخَرُ مِن قَبْلِهِ هو كِتابُ مُوسى، فَهو وإنْ كانَ مُتَقَدِّمًا في النُّزُولِ فَهو يَتْلُو الشّاهِدَ في الشَّهادَةِ، وإنَّما قَدَّمَ الشّاهِدَ عَلى كِتابِ مُوسى مَعَ كَوْنِهِ مُتَأخِّرًا في الوُجُودِ لِكَوْنِهِ وصْفًا لازِمًا غَيْرَ مُفارِقٍ، فَكانَ أغْرَقَ في الوَصْفِيَّةِ مِن كِتابِ مُوسى. ومَعْنى شَهادَةِ كِتابِ مُوسى، وهو التَّوْراةُ أنَّهُ بَشَّرَ بِمُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وأخْبَرَ بِأنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ. قالَ الزَّجّاجُ: والمَعْنى ويَتْلُوهُ مِن قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى، لِأنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مَوْصُوفٌ في كِتابِ مُوسى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهم في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ. وحَكى أبُو حاتِمٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّهُ قَرَأ: ومِن قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى بِالنَّصْبِ، وحَكاهُ الَمَهَدَوِيُّ عَنِ الكَلْبِيِّ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلى الهاءِ في يَتْلُوهُ. والمَعْنى: ويَتْلُو كِتابَ مُوسى جِبْرِيلُ، وانْتِصابُ إمامًا ورَحْمَةً عَلى الحالِ. والإمامُ: هو الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ في الدِّينِ ويُقْتَدى بِهِ، والرَّحْمَةُ: النِّعْمَةُ العَظِيمَةُ الَّتِي أنْعَمَ اللَّهُ بِها عَلى مَن أنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ وعَلى مَن بَعْدَهم بِاعْتِبارِ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ المُوافِقَةِ لِحُكْمِ القُرْآنِ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ إلى المُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الفاضِلَةِ، وهو الكَوْنُ عَلى البَيِّنَةِ مِنَ اللَّهِ، واسْمُ الإشارَةِ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ يُؤْمِنُونَ بِهِ أيْ يُصَدِّقُونَ بِالنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أوْ بِالقُرْآنِ ﴿ومَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزابِ﴾ أيْ بِالنَّبِيِّ أوْ بِالقُرْآنِ. والأحْزابُ المُتَحَزِّبُونَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مَن أهْلِ مَكَّةَ وغَيْرِهِمْ، أوِ المُتَحَزِّبُونَ مِن أهْلِ الأدْيانِ كُلِّها ﴿فالنّارُ مَوْعِدُهُ﴾ أيْ هو مِن أهْلِ النّارِ لا مَحالَةَ، وفي جَعْلِ النّارِ مَوْعِدًا إشْعارٌ بِأنَّ فِيها ما لا يُحِيطُ بِهِ الوَصْفُ مِن أفانِينِ العَذابِ، ومِثْلُهُ قَوْلُ حَسّانَ: ؎أوْرَدْتُمُوها حِياضَ المَوْتِ ضاحِيَةً فالنّارُ مَوْعِدُها والمَوْتُ لاقِيها ﴿فَلا تَكُ في مِرْيَةٍ مِنهُ﴾ أيْ لا تَكُ في شَكٍّ مِنَ القُرْآنِ، وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِغَيْرِهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ لِأنَّهُ مَعْصُومٌ عَنِ الشَّكِّ في القُرْآنِ، (p-٦٥٢)أوْ مِنَ المَوْعِدِ ﴿إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ﴾ فَلا مَدْخَلَ لِلشَّكِّ فِيهِ بِحالٍ مِنَ الأحْوالِ ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ بِذَلِكَ مَعَ وُجُوبِ الإيمانِ بِهِ، وظُهُورِ الدَّلائِلِ المُوجِبَةِ لَهُ، ولَكِنَّهم يُعانِدُونَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِكَوْنِهِ حَقًّا، أوْ قَدْ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يَفْهَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ أصْلًا. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ قالَ: لِأصْحابِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أنَسٍ في قَوْلِهِ: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها﴾ قالَ: نَزَلَتْ في اليَهُودِ والنَّصارى. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ قالَ: قامَ رَجُلٌ إلى عَلِيٍّ فَقالَ: أخْبِرْنا عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ قالَ: ويْحَكَ، ذاكَ مِن كانَ يُرِيدُ الدُّنْيا لا يُرِيدُ الآخِرَةَ. وأخْرَجَ النَّحّاسُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا﴾ أيْ ثَوابَها وزِينَتَها مالَها نُوَفِّ إلَيْهِمْ نُوَفِّرْ لَهم بِالصِّحَّةِ والسُّرُورِ في الأهْلِ والمالِ والوَلَدِ ﴿وهم فِيها لا يُبْخَسُونَ﴾ لا يُنْقَصُونَ ثُمَّ نَسَخَها ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ﴾ [الإسراء: ١٨] الآيَةَ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الآيَةِ قالَ: مَن عَمِلَ صالِحًا - التِماسَ الدُّنْيا - صَوْمًا أوْ صَلاةً أوْ تَهَجُّدًا بِاللَّيْلِ لا يَعْمَلُهُ إلّا التِماسَ الدُّنْيا، يَقُولُ اللَّهُ: أُوَ فِّيهِ الَّذِي التَمَسَ في الدُّنْيا وحَبِطَ عَمَلُهُ الَّذِي كانَ يَعْمَلُ، وهو في الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحّاكِ قالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أهْلِ الشِّرْكِ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنِ الحَسَنِ في قَوْلِهِ: ﴿نُوَفِّ إلَيْهِمْ أعْمالَهم﴾ قالَ: طَيِّباتِهم. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ في قَوْلِهِ: ﴿وحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها﴾ قالَ: حَبِطَ ما عَمِلُوا مِن خَيْرٍ وبَطَلَ في الآخِرَةِ لَيْسَ لَهم فِيها جَزاءٌ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجاهِدٍ في الآيَةِ قالَ: هم أهْلُ الرِّياءِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ وأبُو نُعَيْمٍ في المَعْرِفَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ قالَ: ما مِن رَجُلٍ مِن قُرَيْشٍ إلّا نَزَلَ فِيهِ طائِفَةٌ مِنَ القُرْآنِ، فَقالَ لَهُ رَجُلٌ: ما نَزَلْ فِيكَ ؟ قالَ: أمّا تَقْرَأُ سُورَةَ هُودٍ ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنهُ﴾ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بَيِّنَةٌ مِن رَبِّهِ وأنا شاهِدٌ مِنهُ. وأخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن وجْهٍ آخَرَ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ﴾: أنا، ﴿ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنهُ﴾: عَلِيٌّ» . وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ أبِي العالِيَةِ في قَوْلِهِ: ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ﴾ قالَ: ذاكَ مُحَمَّدٌ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ إبْراهِيمَ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ قالَ: قُلْتُ لِأبِي: إنَّ النّاسَ يَزْعُمُونَ في قَوْلِ اللَّهِ سُبْحانَهُ: ﴿ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنهُ﴾ أنَّكَ أنْتَ التّالِي، قالَ: ودِدْتُ أنِّي أنا هو، ولَكِنَّهُ لِسانُ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ الشّاهِدَ جِبْرِيلُ ووافَقَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: جِبْرِيلُ فَهو شاهِدٌ مِنَ اللَّهِ بِالَّذِي يَتْلُوهُ مِن كِتابِ اللَّهِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلى مُحَمَّدٍ ﴿ومِن قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى﴾ قالَ: ومِن قَبْلِهِ التَّوْراةُ عَلى لِسانِ مُوسى كَما تَلا القُرْآنَ عَلى لِسانِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ وابْنُ عَساكِرَ عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ في قَوْلِهِ: ﴿ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنهُ﴾ قالَ: مُحَمَّدٌ هو الشّاهِدُ مِنَ اللَّهِ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ إبْراهِيمَ ﴿ومِن قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى﴾ قالَ: ومِن قَبْلِهِ جاءَ الكِتابُ إلى مُوسى. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتادَةَ ﴿ومَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزابِ﴾ قالَ: الكُفّارُ أحْزابٌ كُلُّهم عَلى الكُفْرِ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتادَةَ قالَ: ﴿ومَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزابِ﴾ قالَ: مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب