الباحث القرآني

ولَمّا اتَّضَحَتِ الحُجَجُ وانْتَهَضَتِ الدَّلائِلُ فَأغْرَقَتْهم عَوالِي اللُّجَجِ، كانَ ذَلِكَ مَوْضِعَ الإنْكارِ عَلى مَن يُسَوِّي بَيْنَ المُهْتَدِي والمُعْتَدِي، فَكَيْفَ يُفَضَّلُ إمّا بِاعْتِبارِ النَّظَرِ إلى الرِّئاسَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ غَفْلَةً مِن حَقائِقِ الأُمُورِ أوْ عِنادًا كَمَن قالَ مِنَ اليَهُودِ \ لِلْمُشْرِكِينَ: أنْتُمْ أهْدى مِنهُمْ، فَقالَ: ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ﴾ أيْ: بُرْهانٍ وحُجَّةٍ ﴿مِن رَبِّهِ﴾ بِما آتاهُ مِن نُورِ البَصِيرَةِ وصَفاءِ العَقْلِ فَهو يُرِيدُ الآخِرَةَ ويَبْنِي أفْعالَهُ عَلى أساسٍ ثابِتٍ ﴿ويَتْلُوهُ﴾ أيْ: ويَتَّبِعُ هَذِهِ البَيِّنَةَ ﴿شاهِدٌ﴾ هو القُرْآنُ ﴿مِنهُ﴾ أيْ: مِن رَبِّهِ، أوْ تَأيَّدَ ذَلِكَ البُرْهانُ بِرِسالَةِ رَسُولٍ عَرَبِيٍّ بِكَلامٍ مُعْجِزٍ وكانَ ”مِن قَبْلِهِ“ أيْ: هَذا الشّاهِدِ مُؤَيِّدًا لَهُ ﴿كِتابُ مُوسى﴾ أيْ: شاهِدٌ [أيْضًا] وهو التَّوْراةُ حالَ كَوْنِهِ ﴿إمامًا﴾ يَحِقُّ الِاقْتِداءُ بِهِ ﴿ورَحْمَةً﴾ أيْ: لِكُلِّ مَنِ اتَّبَعَهُ. (p-٢٥٣)ولَمّا كانَ الجَوابُ ظاهِرًا حَذَفَهُ، وتَقْدِيرُهُ - واللَّهُ أعْلَمُ: كَمَن هو عَلى الضَّلالَةِ فَهو يُرِيدُ الدُّنْيا فَهو يَفْعَلُ مِنَ المَكارِمِ ما لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلى أساسٍ صَحِيحٍ، فَيَكُونُ في دارِ البَقاءِ والسَّعادَةِ هَباءً مَنثُورًا؛ ولَمّا كانَ هَذا الَّذِي عَلى البَيِّنَةِ عَظِيمًا، ولَمْ يَكُنْ يُرادُ بِهِ واحِدًا بِعَيْنِهِ، اسْتَأْنَفَ البَيانَ لِعُلُوِّ مَقامِهِ بِأداةِ الجَمْعِ بِشارَةً لِهَذا النَّبِيِّ الكَرِيمِ بِكَثْرَةِ أُمَّتِهِ فَقالَ: ﴿أُولَئِكَ﴾ أيِ العالُو الرُّتْبَةِ بِكَوْنِهِمْ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ وتَأيَّدَ هُداهم بِشاهِدٍ مِن قَبْلِهِ وشاهِدٍ مِن بَعْدِهِ مُصَدِّقٍ لَهُ ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أيْ: بِهَذا القُرْآنِ الَّذِي هو الشّاهِدُ ولا يَنْسُبُونَ الآتِيَ بِهِ إلى أنَّهُ افْتَراهُ ﴿ومَن يَكْفُرْ بِهِ﴾ أيْ: بِهَذا الشّاهِدِ ﴿مِنَ الأحْزابِ﴾ مِن جَمِيعِ الفِرَقِ وأهْلِ المِلَلِ سَواءً، سَوّى بَيْنِ الفَرِيقَيْنِ جَهْلًا أوْ عِنادًا ﴿فالنّارُ مَوْعِدُهُ﴾ أيْ: وعِيدُهُ ومَوْضِعُ وعِيدِهِ يَصْلى سَعِيرَها ويُقاسِي زَمْهَرِيرَها. ولَمّا عَمَّ بِوَعِيدِ النّارِ، اشْتَدَّ تَشَوُّفُ النَّفْسِ لِما سُبِّبَ عَنْهُ فَقَرُبَ إزالَةُ ما حَمَلَتْ مِن ذَلِكَ بِالإيجازِ، فاقْتَضى الأمْرُ حَذْفَ نُونِ ”تَكُنْ“ فَقِيلَ: ﴿فَلا تَكُ﴾ أيْ: أيُّها المُخاطَبُ الأعْظَمُ ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾ أيْ: شَكٍّ عَظِيمٍ [ووَهْمٍ] ﴿مِنهُ﴾ أيْ: مِنَ القُرْآنِ ولا يَضِيقُ صَدْرُكَ عَنْ إبْلاغِهِ، أوْ مِنَ الوَعْدِ الَّذِي هو النّارُ والخَيْبَةُ وإنْ أنْعَمْنا عَلى المُتَوَعَّدِ بِذَلِكَ ونَعَّمْناهُ في الدُّنْيا؛ ثُمَّ عَلَّلَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ﴾ القُرْآنَ (p-٢٥٤)أوِ المَوْعِدَ ﴿الحَقُّ﴾ أيِ الكامِلُ، وزادَ في التَّرْغِيبِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن رَبِّكَ﴾ أيِ المُحْسِنِ إلَيْكَ بِإنْزالِهِ عَلَيْكَ. ولَمّا كانَ كَوْنُهُ حَقًّا سَبَبًا يَعْلَقُ الأمَلُ بِإيمانِ كُلِّ مَن سَمِعَهُ، قالَ: ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ﴾ أيِ الَّذِينَ هم في حَيِّزِ الِاضْطِرابِ ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ بِأنَّهُ حَقٌّ لا لِكَوْنِ الرَّيْبِ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ بَلْ لِما عَلى قُلُوبِهِمْ مِنَ الرَّيْنِ ويَؤُولُونَ إلَيْهِ مِنَ العَذابِ المُعَدِّ لَهم مِمَّنْ لا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيْهِ ولا يُنْسَبُ الظُّلْمُ إلَيْهِ، والقَصْدُ بِهَذا الِاسْتِفْهامِ الحَثُّ عَلى ما حَثَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهامُ في قَوْلِهِ: ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [هود: ١٤] مِنَ الإقْبالِ عَلى الدِّينِ الحَقِّ عَلى وجْهٍ مُبَيِّنٍ لِسَخافَةِ عُقُولِ المُمْتَرِينَ ورَكاكَةِ آرائِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب