الباحث القرآني

﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ﴾ تَدُلُّ عَلى الحَقِّ والصَّوابِ فِيما يَأْتِيهِ ويَذْرُهُ، ويَدْخُلُ في ذَلِكَ الإسْلامُ دُخُولًا أوَّلِيًّا، واقْتَصَرَ عَلَيْهِ بَعْضُهم بِناءً عَلى أنَّهُ المُناسِبُ لِما بَعْدُ، وأصْلُ –البَيِّنَةِ- كَما قِيلَ: الدَّلالَةُ الواضِحَةُ عَقْلِيَّةً كانَتْ أوْ مَحْسُوسَةً، وتُطْلَقُ عَلى الدَّلِيلِ مُطْلَقًا، وهاؤُها لِلْمُبالَغَةِ أوِ النَّقْلِ، وهي وإنْ قِيلَ: إنَّها مِن بانَ بِمَعْنى تَبَيَّنَ واتَّضَحَ لَكِنَّهُ اعْتُبِرَ فِيها دَلالَةُ الغَيْرِ والبَيانُ لَهُ، وأخَذَها بَعْضُهم مِن صِيغَةِ المُبالَغَةِ، والتَّنْوِينُ فِيها (p-27)هُنا لِلتَّعْظِيمِ أيْ بَيِّنَةٌ عَظِيمَةُ الشَّأْنِ، والمُرادُ بِها القُرْآنُ وبِاعْتِبارِ ذَلِكَ أوِ البُرْهانِ ذُكِرَ الضَّمِيرُ الرّاجِعُ إلَيْها في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ويَتْلُوهُ﴾ أيْ يَتْبَعُهُ ﴿شاهِدٌ﴾ عَظِيمٌ يَشْهَدُ بِكَوْنِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى شَأْنُهُ، وهو كَما قالَ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ، الإعْجازُ في نَظْمِهِ، ومَعْنى كَوْنِ ذَلِكَ تابِعًا لَهُ أنَّهُ وصْفٌ لَهُ لا يَنْفَكُّ عَنْهُ حَتّى يَرِثَ اللَّهُ تَعالى الأرْضَ ومَن عَلَيْها فَلا يَسْتَطِيعُ أحَدٌ مِنَ الخَلْقِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ مُعارَضَتَهُ ولَوْ كانَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ ظَهِيرًا. وكَذا الضَّمِيرُ في (مِنهُ) وهو مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِ(شاهِدٌ)، ومَعْنى كَوْنِهِ مِنهُ أنَّهُ غَيْرُ خارِجٍ عَنْهُ. وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ هَذا الضَّمِيرُ راجِعًا إلى الرَّبِّ سُبْحانَهُ، ومَعْنى كَوْنِهِ مِنهُ تَعالى أنَّهُ وارِدٌ مِن جِهَتِهِ سُبْحانَهُ لِلشَّهادَةِ، وعَلى هَذا يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالشّاهِدِ المُعْجِزاتُ الظّاهِرَةُ عَلى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَإنَّها مِنَ الشَّواهِدِ التّابِعَةِ لِلْقُرْآنِ الوارِدَةِ مِن قِبَلِهِ عَزَّ وجَلَّ، وأمْرُ التَّبَعِيَّةِ فِيها ظاهِرٌ، والمُرادُ بِالمَوْصُولِ كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الكَيْنُونَةِ مِنَ المُؤْمِنِينَ. وعَنْ أبِي العالِيَةِ أنَّهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ولا يَخْفى أنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ الآتِي: (أُولَئِكَ) إلَخْ لا يُلائِمُهُ إلّا أنْ يُحْمَلَ عَلى التَّعْظِيمِ، وأيْضًا إنَّ السِّياقَ كَما سَتَعْلَمُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى لِلْفَرْقِ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ المُؤْمِنِينَ ومَن يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا لا بَيْنَهم وبَيْنَ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وفَسَّرَ أبُو مُسْلِمٍ وغَيْرُهُ البَيِّنَةَ بِالدَّلِيلِ العَقْلِيِّ، والشّاهِدَ بِالقُرْآنِ، وضَمِيرَ مِنهُ لِلَّهِ تَعالى، ومِنِ ابْتِدائِيَّةٌ، أوْ لِلْقُرْآنِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، ومِن حِينِئِذٍ إمّا بَيانِيَّةً وإمّا تَبْعِيضِيَّةً بِناءً عَلى أنَّ القُرْآنَ لَيْسَ كُلُّهُ شاهِدًا ولَيْسَ مِنَ التَّجْرِيدِ عَلى ما تَوَهَّمَ الطِّيبِيُّ، فَيَكُونُ في الآيَةِ إشارَةٌ إلى الدَّلِيلَيْنِ العَقْلِيِّ والسَّمْعِيِّ، ومَعْنى كَوْنِ الثّانِي تابِعًا لِلْأوَّلِ عَلى ما قِيلَ: إنَّهُ مُوافِقٌ لَهُ لا يُخالِفُهُ أصْلًا، ومِن هُنا قالُوا: إنَّ النَّقْلَ الصَّحِيحَ لا يُخالِفُ العَقْلَ الصَّرِيحَ، ولِذا أوْلَوُا الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ إذا خالَفَ ظاهِرُهُ الدَّلِيلَ العَقْلِيَّ، ولَعَلَّ في التَّعْبِيرِ عَنِ الأوَّلِ بِالبَيِّنَةِ الَّتِي جاءَ إطْلاقُها في كَلامِ الشّارِعِ عَلى شاهِدَيْنِ، وعَنِ الثّانِي بِالشّاهِدِ الإيماءُ إلى أنَّ الدَّلِيلَ العَقْلِيَّ أقْوى دَلالَةً مِنَ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ لِأنَّ دَلالَةَ الأوَّلِ قَطْعِيَّةٌ ودَلالَةَ الثّانِي ظَنِّيَّةٌ غالِبًا لِلِاحْتِمالاتِ الشَّهِيرَةِ الَّتِي لا يُمْكِنُ القَطْعُ مَعَها، وقَدْ يُقالُ: إنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ الثّانِي بِالشّاهِدِ لِمَكانِ التِّلْوِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ، والنَّخَعِيِّ، والضَّحّاكِ، وعِكْرِمَةَ، وأبِي صالِحٍ، وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّ البَيِّنَةَ القُرْآنَ، والشّاهِدُ هو جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ –ويَتْلُو- مِنَ التِّلاوَةِ لا التِّلْوُ، وضَمِيرُ (مِنهُ) لِلَّهِ تَعالى، وفي رِوايَةٍ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّ الشّاهِدَ مَلَكٌ يَحْفَظُ القُرْآنَ ولَيْسَ المُرادُ لِحِفْظِ المُتَعارَفِ لِأنَّهُ -كَما قالَ ابْنُ حَجَرٍ- خاصٌّ بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وضَمِيرُ (مِنهُ) كَما في سابِقِهِ إلّا أنْ يَتْلُوَ مِنَ التِّلْوِ والضَّمِيرُ المَنصُوبُ لِلْبَيِّنَةِ، وقِيلَ: لِمَن كانَ عَلَيْها، وعَنِ الفَرّاءِ أنَّ الشّاهِدَ هو الإنْجِيلُ، (ويَتْلُوهُ) وضَمِيرُ (مِنهُ) عَلى طَرْزِ ما رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ سِوى أنْ ضَمِيرَ يَتْلُوهُ لِلْقُرْآنِ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحَنَفِيَّةِ أنَّ الشّاهِدَ لِسانُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وقَدْ ذَكَرَ أهْلُ اللُّغَةِ ذَلِكَ؛ وكَذا المَلَكُ مِن مَعانِيهِ، و–يَتْلُو- حِينَئِذٍ مِنَ التِّلاوَةِ، والإسْنادُ مَجازِيٌّ ومَفْعُولُهُ لِلْبَيِّنَةِ، وضَمِيرُ (مِنهُ) لِلرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِناءً عَلى أنَّهُ المُرادُ بِالمَوْصُولِ، ومِن تَبْعِيضِيَّةٌ، وقِيلَ: الشّاهِدُ صَوْرَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ومَخايِلُهُ لِأنَّ كُلَّ عاقِلٍ يَراهُ يَعْلَمُ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ رَسُولُ اللَّهِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ قالَ: ”ما مِن رَجُلٍ مِن قُرَيْشٍ إلّا نَزَلَ (p-28)فِيهِ طائِفَةٌ مِنَ القُرْآنِ، فَقالَ لَهُ رَجُلٌ: ما نَزَلَ فِيكَ؟ قالَ: أما تَقْرَأُ سُورَةَ هُودٍ ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ﴾ الآيَةَ، مَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأنا شاهِدٌ مِنهُ“، وأخْرَجَ المِنهالُ عَنْ عُبادَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ، وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ بِوَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ﴾ أنا ﴿ويَتْلُوهُ شاهِدٌ﴾ عَلِيٌّ"». وأخْرَجَ الطَّبَرَسِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أهْلِ البَيْتِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم وتَعَلَّقَ بِهِ بَعْضُ الشِّيعَةِ في أنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ هو خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى سَمّاهُ شاهِدًا كَما سَمّى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كَذَلِكَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا﴾ والمُرادُ (شاهِدًا) عَلى الأُمَّةِ كَما يَشْهَدُ لَهُ عَطْفُ (مُبَشِّرًا ونَذِيرًا) عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مَقامُهُ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ بَيْنَ الأُمَّةِ كَمَقامِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بَيْنَهُمْ، وحَيْثُ أخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ يَتْلُوهُ أيْ يُعْقِبُهُ ويَكُونُ بَعْدَهُ دَلَّ عَلى أنَّهُ خَلِيفَتُهُ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الخَبَرَ مِمّا لا يَكادُ يَصِحُّ، وفِيما سَيَأْتِي في الآيَةِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى إباءٌ عَنْهُ، ويُكَذِّبُهُ ما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، والطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحَنَفِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: قُلْتُ لِأبِي كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ: إنَّ النّاسَ يَزْعُمُونَ في قَوْلِ اللَّهِ تَعالى: ﴿ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنهُ﴾ أنَّكَ أنْتَ التّالِي؟ قالَ: ودِدْتُ أنِّي هو ولَكِنَّهُ لِسانُ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلى أنَّ في تَقْرِيرِ الِاسْتِدْلالِ ضَعْفًا ورَكاكَةً بَلَغَتِ الغايَةَ القُصْوى كَما لا يَخْفى عَلى مَن لَهُ أدْنى فِطْنَةٍ. ونَقَلَ أبُو حَيّانَ أنَّ هَذا الشّاهِدَ هو أبُو بَكْرٍ الصَّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وفِيهِ ما فِيهِ، وفي عَطْفِ –يَتْلُوهُ- احْتِمالانِ: الأوَّلُ أنْ يَكُونَ عَلى ما وقَعَ صِفَةً لِبَيِّنَةٍ، والثّانِي أنْ يَكُونَ عَلى جُمْلَةِ (كانَ) ومَرْفُوعِها، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ومِن قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى﴾ عُطِفَ عَلى ( شاهِدٌ ) والضَّمِيرُ المَجْرُورُ لَهُ، وقَدْ تَوَسَّطَ الجارُّ والمَجْرُورُ بَيْنَهُما، والظّاهِرُ أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِنَ الكِتابِ أيْ ﴿ويَتْلُوهُ﴾ في التَّصْدِيقِ ﴿كِتابُ مُوسى﴾ مُنَزَّلًا مِن قَبْلِهِ، وحاصِلُهُ ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ﴾ ويَشْهَدُ لِصِدْقِهِ شاهِدٌ مِنهُ وشاهِدٌ آخَرُ مِن قَبْلِهِ وهو كِتابُ مُوسى، قِيلَ: وإنَّما قُدِّمَ في الذِّكْرِ المُؤَخَّرِ في النُّزُولِ لِكَوْنِهِ وصْفًا لازِمًا لَهُ غَيْرَ مُفارِقٍ عَنْهُ ولِعَراقَتِهِ في وصْفِ التِّلْوِ، وهَذا عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالشّاهِدِ الإعْجازَ -كَما اخْتارَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ- وقَدْ يُقالُ: إنَّ تَأْخِيرَ بَيانِ شَهادَةِ هَذا الشّاهِدِ عَنْ بَيانِ شَهادَةِ الشّاهِدِ الأوَّلِ لِأنَّها لَيْسَتْ في الظُّهُورِ عِنْدَ الأُمَّةِ كَشَهادَةِ الأوَّلِ وهو جارٍ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ أيْضًا، وتَخْصِيصِ كِتابِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِالذِّكْرِ بِناءً عَلى عَدَمِ إرادَةِ الإنْجِيلِ فِيما تَقَدَّمَ لِأنَّ المِلَّتَيْنِ مُجْتَمِعَتانِ عَلى أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى بِخِلافِ الإنْجِيلِ فَإنَّ اليَهُودَ مُخالِفُونَ فِيهِ فَكانَ الِاسْتِشْهادُ بِما تَقُومُ بِهِ الحُجَّةُ عَلى الفَرِيقَيْنِ أوْلى. وأوْجَبَ بَعْضُهم كَوْنَ ﴿ومِن قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى﴾ جُمْلَةً مُبْتَدَأةً غَيْرَ داخِلَةٍ في حَيِّزِ شَيْءٍ مِمّا قَبْلَها وهو مَبْنِيٌّ عَلى كَثِيرٍ مِن الِاحْتِمالاتِ السّابِقَةِ في الشّاهِدِ، وقَرَأ مُحَمَّدُ بْنُ السّائِبِ الكَلْبِيُّ. وغَيْرُهُ (كِتابَ) بِالنَّصْبِ عَلى أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى مَفْعُولِ –يَتْلُوهُ- أوْ مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أيْ ويَتْلُو كِتابَ مُوسى، والأوَّلُ أوْلى لِأنَّ الأصْلَ عَدَمُ التَّقْدِيرِ، ويَتْلُو في هَذِهِ القِراءَةِ مِنَ التِّلاوَةِ، والضَّمِيرُ المَنصُوبُ لِلْقُرْآنِ والمَجْرُورُ لِمَن، و(مِن) تَبْعِيضِيَّةٌ لا تَجْرِيدِيَّةٌ، والمَعْنى عَلى ما يَقْتَضِيهِ كَلامُ الكَشّافِ ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ﴾ عَلى أنَّ القُرْآنَ حَقٌّ لا مُفْتَرًى، والمُرادُ بِهِ أهْلُ الكِتابِ مِمَّنْ كانَ يَعْلَمُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلى الحَقِّ وأنَّ كِتابَهُ هو الحَقُّ لِما كانُوا وجَدُوهُ في التَّوْراةِ، ويَقْرَأُ القُرْآنَ شاهِدٌ مِن هَؤُلاءِ، ويَقْرَأُ مِن قَبْلِ القُرْآنِ كِتابَ مُوسى، والمُرادُ بِهَذا الشّاهِدِ ما أُرِيدَ بِهِ (p-29)فِي قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وشَهِدَ شاهِدٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ﴾ وهو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، فَفي الآيَةِ مَدْحُ أهْلِ الكِتابِ وخَصَّ مِن بَيْنِهِمْ تالِي الكِتابَيْنِ وشاهِدَهم بِالذِّكْرِ دَلالَةً عَلى مَزِيدِ فَضْلِهِ وتَنْبِيهًا عَلى أنَّهم مُشايِعُوهُ في اتِّباعِ الحَقِّ وإنْ لَمْ يَبْلُغُوا رُتْبَةَ الشّاهِدِ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: (يَتْلُوهُ) اسْتِحْضارٌ لِلْحالِ ودَلالَةٌ عَلى اسْتِمْرارِ التِّلاوَةِ، وهو كَما قِيلَ في غايَةِ التَّطابُقِ لِلْكَلامِ ﴿إمامًا﴾ أيْ مُؤْتَمًّا بِهِ في الدِّينِ ومُقْتَدًى، وفي التَّعَرُّضِ لِهَذا الوَصْفِ بَيانُ تِلْوِ الكِتابِ ما لا يَخْفى مِن تَفْخِيمِ شَأْنِ المَتْلُوِّ والتَّنْوِينُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ، وكَذا في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ورَحْمَةً﴾ أيْ نِعْمَةً عَظِيمَةً عَلى مَن أنْزَلَ إلَيْهِمْ ومَن بَعْدَهم إلى يَوْمِ القِيامَةِ بِاعْتِبارِ أحْكامِهِ الباقِيَةِ المُؤَيَّدَةِ بِالقُرْآنِ العَظِيمِ وهُما حالانِ مِنَ الكِتابِ ﴿أُولَئِكَ﴾ أيِ المَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الحَمِيدَةِ وهي الكَوْنُ عَلى بَيِّنَةٍ ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أيْ يُصَدِّقُونَ بِالقُرْآنِ حَقَّ التَّصْدِيقِ حَسْبَما يَشْهَدُ بِهِ تِلْكَ الشَّواهِدُ الحَقَّةُ المُعْرِبَةُ عَنْ حَقِّيَّتِهِ ولا يُقَلِّدُونَ أحَدًا مِن عُظَماءِ الدِّينِ؛ فالضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ، وقِيلَ: إنَّهُ لِكِتابِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِأنَّهُ أقْرَبُ ولا يُناسِبُ ما بَعْدُ، وإنْ لَمْ يَكُ خالِيًا عَنِ الفائِدَةِ، وقِيلَ: إنَّهُ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ﴿ومَن يَكْفُرْ بِهِ﴾ أيْ بِالقُرْآنِ ولَمْ يَعْتَدْ بِتِلْكَ الشَّواهِدِ الحَقَّةِ ولَمْ يُصَدِّقْ بِها ﴿مِنَ الأحْزابِ﴾ مِن أهْلِ مَكَّةَ ومَن تَحَزَّبَ مَعَهم عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَهُ بَعْضُهُمْ، وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ قَتادَةَ أنَّ الأحْزابَ الكُفّارْ مُطْلَقًا فَإنَّهم تَحَزَّبُوا عَلى الكُفْرِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وفي رِوايَةِ أبِي الشَّيْخِ عَنْ قَتادَةَ أنَّهُمُ اليَهُودُ والنَّصارى، وقالَ السُّدِّيُّ: هم قُرَيْشٌ، وقالَ مُقاتِلٌ: هم بَنُو أُمَيَّةَ وبَنُو المُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المَخْزُومِيِّ. وآلُ أبِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ﴿فالنّارُ مَوْعِدُهُ﴾ أيْ يَرُدُّها لا مَحالَةَ حَسْبَما نَطَقَ بِهِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿لَيْسَ لَهم في الآخِرَةِ إلا النّارُ﴾ وآياتٍ أُخَرَ، والمَوْعِدُ اسْمُ مَكانِ الوَعْدِ كَما في قَوْلِ حَسّانَ: ؎أوْرَدْتُمُوها حِياضَ المَوْتِ ضاحِيَةً فالنّارُ مَوْعِدُها والمَوْتُ لاقِيها وفِي جَعْلِ النّارِ مَوْعِدًا إشْعارٌ بِأنَّ لَهُ فِيها ما لا يُوصَفُ مِن أفانِينِ العَذابِ ﴿فَلا تَكُ في مِرْيَةٍ مِنهُ﴾ أيْ في شَكٍّ مِن أمْرِ القُرْآنِ وكَوْنِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى غِبَّ ما شَهِدَتْ بِهِ الشَّواهِدُ وظَهَرَ فَضْلُ مَن تَمَسَّكَ بِهِ، أوْ لا تَكُ في شَكٍّ مِن كَوْنِ النّارِ مَوْعِدَهُمْ، وادَّعى بَعْضُهم أنَّهُ الأظْهَرُ ولَيْسَ كَذَلِكَ، وأيّامّا كانَ فالخِطابُ إنْ كانَ عامًّا لِمَن يَصْلُحُ لَهُ، فالمُرادُ التَّحْرِيضُ عَلى النَّظَرِ الصَّحِيحِ المُزِيلِ لِلشَّكِّ، وإنْ كانَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَهو بَيانٌ لِأنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلشَّكِّ تَعْرِيضًا بِمَن شَكَّ فِيهِ ولا يَلْزَمُ مِن نَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَنْهُ وُقُوعُهُ ولا تَوَقُّعُهُ مِنهُ ﷺ، وقَرَأ السُّلَمِيُّ وأبُو رَجاءٍ، وأبُو الخَطّابِ السَّدُوسِيُّ والحَسَنُ (مُرْيَةٍ) بِضَمِّ المِيمِ وهي لُغَةُ أسَدٍ وتَمِيمٍ، والكَسْرُ لُغَةِ أهْلِ الحِجازِ. ﴿إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ﴾ أيِ الَّذِي يَرِيبُكَ في دِينِكَ ودُنْياكَ ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ . بِذَلِكَ إمّا لِقُصُورِ أنْظارِهِمْ واخْتِلالِ أفْكارِهِمْ، وإمّا لِاسْتِكْبارِهِمْ وعِنادِهِمْ و(النّاسُ) عَلى ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أهْلُ مَكَّةَ، وقالَ صاحِبُ الفَيْنانِ: جَمِيعُ الكُفّارِ، هَذا والهَمْزَةُ في (أفَمَن) قِيلَ: لِلتَّقْرِيرِ و–مَن- مُبْتَدَأٌ والخَبَرُ مَحْذُوفٌ أيْ أفَمَن كانَ كَذا كَمَن يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها، وحَذْفُ مُعادِلِ الهَمْزَةِ ومِثْلُهُ كَثِيرٌ، واخْتارَ هَذا أبُو حَيّانَ، والَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلامُ الزَّمَخْشَرِيِّ -ولَعَلَّهُ الأوْلى- خِلافُهُ حَيْثُ قالَ: المَعْنى أمَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا كَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ أيْ لا يَعْقُبُونَهم ولا يُقارِبُونَهم في المَنزِلَةِ إلى آخِرِ ما قالَ، وحاصِلُهُ عَلى ما في الكَشْفِ أنَّ الفاءَ عاطِفَةٌ (p-30)لِلتَّعْقِيبِ مُسْتَدْعِيَةٌ ما يَعْطِفُ عَلَيْهِ وهو الدّالُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: (مَن كانَ) الآيَةَ، فالتَّقْدِيرُ أمَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا عَلى أنَّها مَوْصُولَةٌ فَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ الفاءِ أيْ يَعْقُبُونَهم أوْ يُقَرِّبُونَهُمْ، والِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ فَيُفِيدُ أنْ لا تَقارُبَ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ فَضْلًا عَنِ التَّماثُلِ فَلِذَلِكَ صارَ أبْلَغَ مِن نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أفَمَن كانَ مُؤْمِنًا كَمَن كانَ فاسِقًا﴾ وأمّا إنَّها عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا﴾ ) فَلا وجْهَ لَهُ لِأنَّهُ يَصِيرُ مِن عَطْفِ الجُمْلَةِ، ولا يَدُلُّ عَلى إنْكارِ التَّماثُلِ، ولا مَعْنى لِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهامِ في الأوَّلِ فَإنَّ الشَّرْطَ والجَزاءَ لا إنْكارَ عَلَيْهِ، انْتَهى، وهو جارٍ عَلى أحَدِ مَذْهَبَيْنِ لِلنُّحاةِ في مِثْلِهِ، ويُعْلَمُ مِمّا تَقَرَّرَ أنَّ الآيَةَ مُرْتَبِطَةٌ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: (مَن كانَ) إلَخْ، ومَساقُها عِنْدَ شَيْخِ الإسْلامِ لِلتَّرْغِيبِ أيْضًا فِيما ذَكَرَ مِنَ الإيمانِ بِالقُرْآنِ، والتَّوْحِيدِ والإسْلامِ، وادَّعى الطَّبَرَسِيُّ أنَّها مُرْتَبِطَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾ وأنَّ المُرادَ أنَّهم إذا لَمْ يَأْتُوا بِذَلِكَ فَقُلْ لَهُمْ: ( أفَمَنَ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ ) ولا بَيِّنَةَ لَهُ عَلى ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب