الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١٧ ] ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنهُ ومِن قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إمامًا ورَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ومَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزابِ فالنّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ في مِرْيَةٍ مِنهُ إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ﴾ أيْ بُرْهانٍ نَيِّرٍ، عَظِيمِ الشَّأْنِ، يَدُلُّ عَلى حَقِّيَّةِ ما ثَبَتَ عَلَيْهِ مِنَ الإسْلامِ، وهو القُرْآنُ ﴿ويَتْلُوهُ﴾ أيْ يَتْبَعُهُ ﴿شاهِدٌ مِنهُ﴾ أيْ مِنَ القُرْآنِ نَفْسِهِ، يَشْهَدُ لَهُ بِكَوْنِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى، وهو إعْجازُهُ. وفُسِّرَتِ " البَيِّنَةُ" أيْضًا بِالإسْلامِ، سَمّاهُ بَيِّنَةً لِغايَةِ ظُهُورِهِ، إذْ هو دِينُ الفِطْرَةِ، قَبْلَ تَدْنِيسِها بِرِجْسِ الوَثَنِيَّةِ و(الشّاهِدُ) بِالقُرْآنِ، (p-٣٤٢٣)فالضَّمِيرُ لِلرَّبِّ تَعالى. ﴿ومِن قَبْلِهِ﴾ أيِ القُرْآنِ ﴿كِتابُ مُوسى﴾ وهو التَّوْراةُ. أيْ: ويَتْلُو تِلْكَ البَيِّنَةَ مِن قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى، مُقَرِّرًا لِذَلِكَ أيْضًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إمامًا﴾ أيْ: مُقْتَدًى بِهِ في الدِّينِ ﴿ورَحْمَةً﴾ أيْ نِعْمَةً عَظِيمَةً عَلى المَنزَلِ إلَيْهِمْ، تَهْدِيهِمْ وتُعَلِّمُهُمُ الشَّرائِعَ. ﴿أُولَئِكَ﴾ أيْ مَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أيْ بِالقُرْآنِ فَلَهُمُ الجَنَّةُ، ﴿ومَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزابِ﴾ يَعْنِي أهْلَ مَكَّةَ، ومَنَ ضامَّهم مِنَ المُتَحَزِّبِينَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: ﴿فالنّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ في مِرْيَةٍ مِنهُ﴾ أيْ شَكٍّ مِنَ القُرْآنِ أوْ مِنَ المَوْعِدِ ﴿إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ أيْ بِهِ، إمّا لِقُصُورِ أنْظارِهِمْ واخْتِلالِ أفْكارِهِمْ، وإمّا لِعِنادِهِمْ واسْتِكْبارِهِمْ. لَطائِفُ: الأُولى: (مَن) في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ﴾ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ، لِإغْناءِ الحالِ عَنْ ذِكْرِهِ، وهَذا سِرُّ حَذْفِ مُعادِلِ الهَمْزَةِ كَثِيرًا. وتَقْدِيرُهُ: أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ كَأُولَئِكَ الَّذِينَ ذُكِرْتَ أعْمالُهُمْ، وبُيِّنَ مَصِيرُهم ومَآلُهم -كَذا قالَ أبُو السُّعُودِ-. وفِي (شَرْحِ الكَشّافِ) أنَّ التَّقْدِيرَ: أمَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا، عَلى أنَّها مَوْصُولَةٌ، فَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ؛ لِدَلالَةِ الفاءِ، أيْ: يَعْقُبُونَهم أوْ يُقَرِّبُونَهم. والِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ، فَيُفِيدُ أنَّهُ لا تَقارُبَ بَيْنَهُمْ، فَضْلًا عَنِ التَّماثُلِ، فَلِذَلِكَ صارَ أبْلَغَ مِن نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أفَمَن كانَ مُؤْمِنًا كَمَن كانَ فاسِقًا لا يَسْتَوُونَ﴾ [السجدة: ١٨] الثّانِيَةُ: قُرِئَ ((كِتابَ مُوسى)) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلى الضَّمِيرِ في (يَتْلُوهُ) أيْ يَتْلُو القُرْآنَ شاهِدٌ مِمَّنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ، يَعْنِي مَن آمَنَ مِن أهْلِ الكِتابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامِ، وشَهادَتُهم عَلى أنَّهُ حَقٌّ لا مُفْتَرًى؛ لِما يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ، و(يَتْلُو) مِنَ التِّلاوَةِ، فَتَكُونُ الآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وشَهِدَ شاهِدٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [الأحقاف: ١٠] -واللَّهُ أعْلَمُ-. (p-٣٤٢٤)الثّالِثَةُ: (الأحْزابُ) جَمْعُ حِزْبٍ، والحِزْبُ جَماعَةُ النّاسِ. ويُطْلَقُ (الأحْزابُ) عَلى مَن تَألَّبُوا عَلى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وكَذا كُلُّ نَبِيٍّ قَبْلَهُ، وهو إطْلاقٌ شَرْعِيٌّ، وعَلَيْهِ حَمَلَ الأكْثَرُ الآيَةَ؛ لِكَوْنِ السُّورَةِ مَكِّيَّةً، إلّا أنَّ اللَّفْظَ يَتَناوَلُهُ، وكُلَّ مَن شاكَلَهم مِن سائِرِ الطَّوائِفِ. وفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ، يَهُودِيٌّ أوْ نَصْرانِيٌّ، ثُمَّ لا يُؤْمِنُ بِي، إلّا دَخَلَ النّارَ»» . قالَ سَعِيدٌ: كُنْتُ لا أسْمَعُ بِحَدِيثٍ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَلى وجْهِهِ، إلّا وجَدْتُ مِصْداقَهُ في القُرْآنِ، فَبَلَغَنِي هَذا الحَدِيثُ، فَجَعَلْتُ أقُولُ: أيْنَ مِصْداقُهُ في كِتابِ اللَّهِ؟ حَتّى وجَدْتُ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿ومَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزابِ فالنّارُ مَوْعِدُهُ﴾ قالَ: المِلَلُ كُلُّها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب