الباحث القرآني

﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنهُ ومِن قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إمامًا ورَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ومَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزابِ فالنّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ في مِرْيَةٍ مِنهُ إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾: لَمّا ذَكَرَ حالَ مَن يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا، ذَكَرَ حالَ مَن يُرِيدُ وجْهَ اللَّهِ تَعالى بِأعْمالِهِ الصّالِحَةِ، وحُذِفَ المُعادِلُ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ الهَمْزَةُ والتَّقْدِيرُ: كَمَن يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا. وكَثِيرًا ما حُذِفَ في القُرْآنِ كَقَوْلِهِ: ﴿أفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر: ٨] وقَوْلِهِ: ﴿أمْ مَن هو قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ﴾ [الزمر: ٩] وهَذا اسْتِفْهامٌ مَعْناهُ: التَّقْرِيرُ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ: لا تَعْقِبُونَهم في المَنزِلَةِ ولا تُفارِقُونَهم، يُرِيدُ أنَّ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ تَفاوُتًا بَعِيدًا وتَبايُنًا بَيِّنًا، وأرادَ بِهِمْ مَن آمَنَ مِنَ اليَهُودِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وغَيْرِهِ، كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ أيْ: عَلى بُرْهانٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وبَيانٍ أنَّ دِينَ الإسْلامِ حَقٌّ وهو دَلِيلُ العَقْلِ ويَتْلُوهُ، ويَتْبَعُ ذَلِكَ البُرْهانَ شاهِدٌ مِنهُ، أيْ: شاهِدٌ يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ، وهو القُرْآنُ مِنهُ مِنَ اللَّهِ، أوْ شاهِدٌ مِنَ القُرْآنِ ومِن قَبْلِهِ: ومِن قَبْلِ القُرْآنِ كِتابُ مُوسى وهو: التَّوْراةُ، أيْ: ويَتْلُو ذَلِكَ أيْضًا مِن قَبْلِ القُرْآنِ كِتابُ مُوسى. وقُرِئَ: (كِتابَ مُوسى) بِالنَّصْبِ، ومَعْناهُ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ وهو الدَّلِيلُ عَلى أنَّ القُرْآنَ حَقٌّ، ويَتْلُوهُ ويَقْرَأُ القُرْآنَ شاهِدٌ مِنهُ، شاهِدٌ مِمَّنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ كَقَوْلِهِ: ﴿وشَهِدَ شاهِدٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ﴾ [الأحقاف: ١٠] ﴿قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكم ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ [الرعد: ٤٣] . ﴿ومِن قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى﴾: ويَتْلُوهُ ومِن قَبْلِ التَّوْراةِ، إمامًا: كِتابًا مُؤْتَمًّا في الدِّينِ قُدْوَةً فِيهِ، انْتَهى. وقِيلَ في ﴿أفَمَن كانَ﴾: المُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ، (p-٢١١)وقِيلَ: مُحَمَّدٌ ﷺ خاصَّةً. وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ وابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ ومُجاهِدٌ والضَّحّاكُ: مُحَمَّدٌ والمُؤْمِنُونَ جَمِيعًا، والبَيِّنَةُ: القُرْآنُ أوِ الرَّسُولُ، والهاءُ لِلْمُبالَغَةِ. والشّاهِدُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والنَّخَعِيُّ ومُجاهِدٌ والضَّحّاكُ وأبُو صالِحٍ وعِكْرِمَةُ: هو جِبْرِيلُ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: هو الرَّسُولُ. وقالَ أيْضًا مُجاهِدٌ: هو مَلَكٌ وكَّلَهُ اللَّهُ بِحِفْظِ القُرْآنِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهَذِهِ الألْفاظِ: جِبْرِيلَ، وقِيلَ: وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ. ورَوى المِنهالُ عَنْ عُبادَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ: ما في قُرَيْشٍ أحَدٌ إلّا وقَدْ نَزَلَتْ فِيهِ آيَةٌ قِيلَ: فَما نَزَلَ فِيكَ ؟ قالَ: ﴿ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنهُ﴾، وبِهِ قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ. وقِيلَ: هو الإنْجِيلُ قالَهُ: الفَرّاءُ. وقِيلَ: هو القُرْآنُ، وقِيلَ: هو إعْجازُ القُرْآنِ، قالَهُ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ، وقِيلَ: صُورَةُ الرَّسُولِ ﷺ ووَجْهُهُ ومَخايِلُهُ، لِأنَّ كُلَّ عاقِلٍ نَظَرَ إلَيْهِ عَلِمَ أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ . وقِيلَ: وأبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، والضَّمِيرُ في مِنهُ يَعُودُ إلى الدِّينِ، أوْ إلى الرَّسُولِ، أوْ إلى القُرْآنِ. ويَتْلُوهُ: بِمَعْنى يَتْبَعُهُ، أوْ يَقْرَؤُهُ، والضَّمِيرُ المَرْفُوعُ في يَتْلُوهُ والمَنصُوبُ والمَجْرُورُ في مِنهُ، يَتَرَتَّبُ عَلى ما يُناسِبُهُ كُلُّ قَوْمٍ مِن هَذِهِ. وقَرَأ مُحَمَّدُ بْنُ السّائِبِ الكَلْبِيُّ وغَيْرُهُ: ﴿كِتابُ مُوسى﴾ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلى مَفْعُولِ يَتْلُوهُ، أوْ بِإضْمارِ فِعْلٍ. وإذا لَمْ يُعْنَ بِالشّاهِدِ الإنْجِيلُ فَإنَّما خَصَّ التَّوْراةَ بِالذِّكْرِ، لِأنَّ المِلَّتَيْنِ مُجْتَمِعَتانِ عَلى أنَّها مِن عِنْدِ اللَّهِ، والإنْجِيلُ يُخالِفُ فِيهِ اليَهُودُ، فَكانَ الِاسْتِشْهادُ بِما تَقُومُ بِهِ الحُجَّةُ عَلى الفَرِيقَيْنِ أوْلى. وهَذا يَجْرِي مَعَ قَوْلِ الجِنِّ: ﴿إنّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسى﴾ [الأحقاف: ٣٠] ومَعَ قَوْلِ النَّجاشِيِّ: إنَّ هَذا والَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى لَيَخْرُجُ مِن مِشْكاةٍ واحِدَةٍ. وانْتَصَبَ إمامًا عَلى الحالِ، والَّذِي يَظْهَرُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ، أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ الكُفّارَ وأنَّهم لَيْسَ لَهم إلّا النّارُ، أعْقَبَ بِضِدِّهِمْ وهُمُ المُؤْمِنُونَ، وهُمُ الَّذِينَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِمْ، والشّاهِدُ: القُرْآنُ، ومِنهُ عائِدٌ عَلى رَبِّهِ. ويَدُلُّ عَلى أنَّ الشّاهِدَ القُرْآنُ ذِكْرُ قَوْلِهِ: (ومِن قَبْلِهِ)، أيْ: ومِن قَبْلِ القُرْآنِ كِتابُ مُوسى، فَمَعْناهُ: أنَّهُ تَظافَرَ عَلى هِدايَتِهِ شَيْئانِ: كَوْنُهُ عَلى أمْرٍ واضِحٍ مِن بُرْهانِ العَقْلِ، وكَوْنُهُ يُوافِقُ ذَلِكَ البُرْهانُ هَذَيْنِ الكِتابَيْنِ الإلَهِيَّيْنِ: القُرْآنَ والتَّوْراةَ، فاجْتَمَعَ لَهُ العَقْلُ والنَّقْلُ. والإشارَةُ بِأُولَئِكَ: إلى مَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ، راعى مَعْنى مَعَ فَجَمَعَ، والضَّمِيرُ في بِهِ يَعُودُ إلى التَّوْراةِ، أوْ إلى القُرْآنِ، أوْ إلى الرَّسُولِ، ثَلاثَةُ أقْوالٍ. والأحْزابُ جَمِيعُ المِلَلِ قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، أوِ اليَهُودُ والنَّصارى، قالَهُ قَتادَةُ، أوْ قُرَيْشٌ، قالَهُ السُّدِّيُّ، أوْ بَنُو أُمَيَّةَ وبَنُو المُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المَخْزُومِيِّ، وآلُ أبِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قالَهُ مُقاتِلٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أهْلَ مَكَّةَ ومَن ضامَّهم مِنَ المُتَحَزِّبِينَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، انْتَهى. ﴿فالنّارُ مَوْعِدُهُ﴾ أيْ: مَكانُ وعْدِهِ الَّذِي يَصِيرُونَ إلَيْهِ. وقالَ حَسّانُ: أوْرَدْتُمُونا حِياضَ المَوْتِ ضاحِيَةً فالنّارُ مَوْعِدُها والمَوْتُ لاقِيها والضَّمِيرُ في مِنهُ عائِدٌ عَلى القُرْآنِ، وقِيلَ: عَلى الخَبَرِ، بِأنَّ الكُفّارَ مَوْعِدُهُمُ النّارُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (في مِرْيَةٍ) بِكَسْرِ المِيمِ، وهي لُغَةُ الحِجازِ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ وأبُو رَجاءٍ وأبُو الخَطّابِ السُّدُوسِيُّ والحَسَنُ: بِضَمِّها، وهي لُغَةُ أسَدٍ وتَمِيمٍ، والنّاسُ: أهْلُ مَكَّةَ قالَهُ: ابْنُ عَبّاسٍ، أوْ: جَمِيعُ الكُفّارِ مِن شاكٍّ وجاهِلٍ ومُعانِدٍ قالَهُ: صاحِبُ العِقْيانِ. ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ ويَقُولُ الأشْهادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الظّالِمِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ويَبْغُونَها عِوَجًا وهم بِالآخِرَةِ هم كافِرُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ في الأرْضِ وما كانَ لَهم مِن دُونِ اللَّهِ مِن أوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ العَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وما كانُوا يُبْصِرُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ ﴿لا جَرَمَ أنَّهم في الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ﴾: (p-٢١٢)لَمّا سَبَقَ قَوْلُهم: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ﴾ [هود: ١٣]، ذَكَرَ أنَّهُ لا أحَدَ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا، وهُمُ المُفْتَرُونَ الَّذِينَ نَسَبُوا إلى اللَّهِ الوَلَدَ، واتَّخَذُوا مَعَهُ آلِهَةً، وحَرَّمُوا وحَلَّلُوا مِن غَيْرِ شَرْعِ اللَّهِ، وعَرْضُهم عَلى اللَّهِ بِمَعْنى: التَّشْهِيرِ لِخِزْيِهِمْ والإشارَةِ بِكَذِبِهِمْ، وإلّا فالطّائِعُ والعاصِي يُعْرَضُونَ عَلى اللَّهِ ﴿وعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا﴾ [الكهف: ٤٨] والأشْهادُ: جَمْعُ شاهِدٍ، كَصاحِبٍ وأصْحابٍ، أوْ جَمْعُ شَهِيدٍ كَشَرِيفٍ وأشْرافٍ، والأشْهادُ: المَلائِكَةُ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ عَلَيْهِمْ أعْمالَهم في الدُّنْيا، أوِ الأنْبِياءُ، أوْ هُما المُؤْمِنُونَ، أوْ ما يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ مِن أعْضائِهِمْ أقْوالٌ. وفي قَوْلِهِ: (هَؤُلاءِ): إشارَةٌ إلى تَحْقِيرِهِمْ وإصْغارِهِمْ بِسُوءِ مُرْتَكَبِهِمْ. وفِي قَوْلِهِ: (عَلى رَبِّهِمْ) أيْ: عَلى مَن يُحْسِنُ إلَيْهِمْ ويَمْلِكُ نَواصِيَهم، وكانُوا جَدِيرِينَ أنْ لا يَكْذِبُوا عَلَيْهِ، وهَذا كَما تَقُولُ إذا رَأيْتَ مُجْرِمًا: هَذا الَّذِي فَعَلَ كَذا وكَذا. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الجُمْلَةِ بَعْدَ هَذا. وهم: تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: وهم، وقَوْلُهُ: (مُعْجِزِينَ)، أيْ: كانُوا لا يُعْجِزُونَ اللَّهَ في الدُّنْيا أنْ يُعاقِبَهم لَوْ أرادَ عِقابَهم، وما كانَ لَهم مَن يَنْصُرُهم ويَمْنَعُهم مِنَ العِقابِ، ولَكِنَّهُ أرادَ إنْظارَهم وتَأْخِيرَ عِقابِهِمْ إلى هَذا اليَوْمِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهو كَلامُ الأشْهادِ يَعْنِي: أنَّ كَلامَهم مِن قَوْلِهِمْ: هَؤُلاءِ إلى آخِرِ هَذِهِ الجُمْلَةِ الَّتِي هي وما كانَ لَهم مِن دُونِ اللَّهِ مِن أوْلِياءَ. وقَدْ يَظْهَرُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الظّالِمِينَ﴾: مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى لا عَلى سَبِيلِ الحِكايَةِ، ويَدُلُّ لِقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ قَوْلُهُ: ﴿فَأذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهم أنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الظّالِمِينَ﴾ [الأعراف: ٤٤] الآيَةَ، فَكَما أنَّهُ مِن كَلامِ المَخْلُوقِينَ في تِلْكَ الآيَةِ، فَكَذَلِكَ هُنا يُضاعَفُ لَهُمُ العَذابُ: يُشَدَّدُ ويَكْثُرُ، وهَذا اسْتِئْنافُ إخْبارٍ عَنْ حالِهِمْ في الآخِرَةِ، لِأنَّهم جَمَعُوا إلى الكُفْرِ بِالبَعْثِ الكَذِبَ عَلى اللَّهِ، وصَدَّ عِبادِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وبَغْيَ العِوَجِ لَها، وهي الطَّرِيقَةُ المُسْتَقِيمَةُ. ﴿ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾: إخْبارٌ عَنْ حالِهِمْ في الدُّنْيا عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ يَعْنِي: السَّمْعَ لِلْقُرْآنِ، ولِما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ . ﴿وما كانُوا يُبْصِرُونَ﴾ أيْ: يَنْظُرُونَ إلَيْهِ لِبُغْضِهِمْ فِيهِ. ألا تَرى إلى حَشْوِ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو أُذُنَيْهِ مِنَ الكُرْسُفِ، وإبايَةِ قُرَيْشٍ أنْ يَسْمَعُوا ما نُقِلَ إلَيْهِمْ مِن كَلامِ الرَّسُولِ حَتّى تَرُدَّهم عَنْ ذَلِكَ مَشْيَخَتُهم ؟ أوْ إخْبارٌ عَنْ حالِهِمْ إذا ضُعِّفَ لَهُمُ العَذابُ أيْ: أنَّهُ تَعالى حَتَمَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَهم لا يَسْمَعُونَ لِذَلِكَ سَماعًا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، ولا يُبْصِرُونَ لِذَلِكَ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في كانُوا عائِدٌ عَلى أوْلِياؤُهم: آلِهَتُهم أيْ: فَما كانَ لَهم في الحَقِيقَةِ مِن أوْلِياءَ وإنْ كانُوا يَعْتَقِدُونَ أنَّهم أوْلِياءُ. ويَعْنِي أنَّهُ مَن لا يَسْتَطِيعُ أنْ يَسْمَعَ ولا يُبْصِرَ فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِلْوِلايَةِ ؟ ويَكُونُ ﴿يُضاعَفُ لَهُمُ العَذابُ﴾ اعْتِراضًا، وما عَلى هَذِهِ الأقْوالِ نَفْيٌ. وقِيلَ: ما مَصْدَرِيَّةٌ أيْ: يُضاعَفُ لَهُمُ العَذابُ مُدَّةَ اسْتِطاعَتِهِمُ السَّمْعَ وإبْصارِهِمْ، والمَعْنى: أنَّ العَذابَ وتَضْعِيفَهُ دائِمٌ لَهم مُتَمادٍ. وأجازَ الفَرّاءُ أنْ تَكُونَ ما مَصْدَرِيَّةً، وحُذِفَ حَرْفُ الجَرِّ مِنها كَما يُحْذَفُ مَعَ أنْ وإنْ أُخْتَيْها، وهَذا فِيهِ بُعْدٌ في اللَّفْظِ وفي المَعْنى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أرادَ أنَّهم لِفَرْطِ تَصامِّهِمْ عَنِ اتِّباعِ الحَقِّ وكَراهَتِهِمْ لَهُ كَأنَّهم لا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، ولَعَلَّ بَعْضَ المُجْبِرَةِ يَتَوَثَّبُ إذا عَثَرَ عَلَيْهِ فَيُوَعْوِعُ بِهِ عَلى أهْلِ العَدْلِ، كَأنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ النّاسَ يَقُولُونَ في كُلِّ لِسانٍ: هَذا الكَلامُ لا أسْتَطِيعُ أسْمَعُهُ، وهَذا مِمّا يَمُجُّهُ سَمْعِي، انْتَهى. يَعْنِي: أنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلى أنَّ العَبْدَ لا قُدْرَةَ لَهُ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ نَفى عَنْهُ اسْتِطاعَةَ السَّمْعِ، وإذا انْتَفَتْ الِاسْتِطاعَةُ مِنهُ انْتَفَتْ قُدْرَتُهُ. والزَّمَخْشَرِيُّ عَلى عادَتِهِ في السَّفَهِ عَلى أهْلِ السُّنَّةِ وخُسْرانِهِمْ أنْفُسِهِمْ، لِكَوْنِهِمُ اشْتَرَوْا عِبادَةَ الآلِهَةِ بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، فَخَسِرُوا في تِجارَتِهِمْ خُسْرانًا لا خُسْرانَ أعْظَمُ مِنهُ. وهُوَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ: راحَةُ أوْ سَعادَةُ أنْفُسِهِمْ، وإلّا فَأنْفُسُهم باقِيَةٌ مُعَذَّبَةٌ. وبَطَلَ عَنْهم ما افْتَرَوْهُ مِن عِبادَةِ الآلِهَةِ، وكَوْنِهِمْ يَعْتَقِدُونَ شَفاعَتَها إذا رَأوْا أنَّها لا تَشْفَعُ ولا تَنْفَعُ. لا جَرَمَ: مَذْهَبُ الخَلِيلِ وسِيبَوَيْهِ أنَّهُما رُكِّبا مِن: لا وجَرَمَ وبُنِيا، والمَعْنى: حَقَّ، وما بَعْدَهُ رُفِعَ بِهِ عَلى الفاعِلِيَّةِ (p-٢١٣)وقالَ الحَوْفِيُّ: جَرَمَ مَنفِيٌّ بِلا بِمَعْنى: حَقَّ، وهو مَبْنِيٌّ مَعَ لا في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، وأنَّهم في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى خَبَرِ جَرَمَ. وقالَ قَوْمٌ: إنَّ جَرَمَ مَبْنِيَّةٌ مَعَ لا عَلى الفَتْحِ نَحْوَ قَوْلِكَ: لا رَجُلَ، ومَعْناها: لا بُدَّ ولا مَحالَةَ. وقالَ الكِسائِيُّ: مَعْناها: لا ضِدَّ ولا مَنعَ، فَتَكُونُ اسْمَ لا وهي مَبْنِيَّةٌ عَلى الفَتْحِ كالقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، وتَكُونُ جَرَمَ هُنا مِن مَعْنى القَطْعِ، نَقُولُ: جَرَمْتُ أيْ: قَطَعْتُ. وقالَ الزَّجّاجُ: لا تَرْكِيبَ بَيْنَهُما ولا رَدَّ عَلَيْهِمْ. ولِما تَقَدَّمَ مِن كُلِّ ما قَبْلَها مِمّا قالُوا: إنَّ الأصْنامَ تَنْفَعُهم. وجَرَمَ: فِعْلٌ ماضٍ مَعْناهُ: كَسَبَ، والفاعِلُ مُضْمَرٌ: أيَكْسِبُ هو أيْ: فِعْلُهم، وأنَّ وما بَعْدَها في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى المَفْعُولِ بِهِ، وجَرَمَ القَوْمَ: كاسَبَهم. وقالَ الشّاعِرُ: ؎نَصَبْنا رَأسَهُ في جِذْعِ نَخْلٍ بِما جَرَمَتْ يَداهُ وما اعْتَدَيْنا وقالَ آخَرُ: جَرِيمَةَ ناهِضٍ في رَأْسِ نِيقٍ تَرى لِعِظامِ ما جَمَعَتْ صَلِيبا ويُقالُ: لا جِرَمَ بِالكَسْرِ، ولا جَرَ: بِحَذْفِ المِيمِ. قالَ النَّحّاسُ: وزَعَمَ الكِسائِيُّ أنَّ فِيها أرْبَعَ لُغاتٍ: لا جَرَمَ، ولا عَنْ ذا جَرَمٍ، ولا أنْ ذا جَرَمٍ، قالَ: وناسٌ مِن فَزارَةَ يَقُولُونَ: لا جَرَمَ. وحَكى الفَرّاءُ فِيهِ لُغَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، قالَ: بَنُو عامِرٍ يَقُولُونَ: لا ذا جَرَمٍ، وناسٌ مِنَ العَرَبِ يَقُولُونَ: لا جُرَمَ بِضَمِّ الجِيمِ. وقالَ الجُبّائِيُّ في نَوادِرِهِ: حُكِيَ عَنْ فَزارَةَ: لا جَرَ واللَّهِ لا أفْعَلُ ذاكَ، قالَ: ويُقالُ: لا ذا جَرَمٍ، ولا ذُو جَرَمٍ، ولا عَنْ ذا جَرَمٍ، ولا أنْ ذا جَرَمٍ، ولا أنْ جَرَمَ، ولا عَنْ جَرَمٍ، ولا ذا جَرَ واللَّهِ، بِغَيْرِ مِيمٍ: لا أفْعَلُ ذاكَ. وحَكى بَعْضُهم بِغَيْرِ لا جَرَمَ: أنَّكَ أنْتَ فَعَلْتَ ذاكَ، وعَنْ أبِي عَمْرٍو: لَأجْرَمَ أنَّ لَهُمُ النّارَ عَلى وزْنِ: لَأكْرَمَ، ولا جَرَ: حَذَفُوهُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ كَما قالُوا: سَوْ تَرى يُرِيدُونَ: سَوْفَ تَرى. ولَمّا كانَ خُسْرانُ النَّفْسِ أعْظَمَ الخُسْرانِ، حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم هُمُ الزّائِدُونَ في الخُسْرانِ عَلى كُلِّ خاسِرٍ مِن سِواهم مِنَ العُصاةِ مَآلُهُ إلى الرّاحَةِ، وإلى انْقِطاعِ خُسْرانِهِ بِخِلافِ هَؤُلاءِ، فَإنَّ خُسْرانَهم لا انْقِطاعَ لَهُ. ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وأخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أصْحابُ الجَنَّةِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ ﴿مَثَلُ الفَرِيقَيْنِ كالأعْمى والأصَمِّ والبَصِيرِ والسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾: لَمّا ذَكَرَ ما يَئُولُ إلَيْهِ الكُفّارُ مِنَ النّارِ، ذَكَرَ ما يَئُولُ إلَيْهِ المُؤْمِنُونَ مِنَ الجَنَّةِ، والفَرِيقانِ هُنا الكافِرُ والمُؤْمِنُ. ولَمّا كانَ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الكُفّارِ وأُعْقِبَ بِذِكْرِ المُؤْمِنِينَ، جاءَ التَّمْثِيلُ هُنا مُبْتَدَأً بِالكافِرِ، فَقالَ: ﴿كالأعْمى والأصَمِّ﴾ . ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مِن بابِ تَشْبِيهِ اثْنَيْنِ بِاثْنَيْنِ، فَقُوبِلَ الأعْمى بِالبَصِيرِ وهو طِباقٌ، وقُوبِلَ الأصَمُّ بِالسَّمِيعِ وهو طِباقٌ أيْضًا، والعَمى والصَّمَمُ: آفَتانِ تَمْنَعانِ مِنَ البَصَرِ والسَّمْعِ، ولَيْسَتا بِضِدَّيْنِ، لِأنَّهُ لا تَعاقُبَ بَيْنَهُما. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن تَشْبِيهٍ واحِدٍ بِوَصْفَيْهِ بِواحِدٍ بِوَصْفَيْهِ، فَيَكُونُ مِن عَطْفِ الصِّفاتِ كَما قالَ الشّاعِرُ: إلى المَلِكِ القَرْنِ وابْنِ الهُمامِ ولَيْثِ الكَرِيهَةِ في المُزْدَحَمْ ولَمْ يَجِئِ التَّرْكِيبُ: كالأعْمى والبَصِيرِ والأصَمِّ والسَّمِيعِ، فَيَكُونُ مُقابَلَةً في لَفْظِ الأعْمى وضِدِّهِ، وفي لَفْظَةِ الأصَمِّ وضِدِّهِ، لِأنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ انْسِدادَ العَيْنِ أتْبَعَهُ بِانْسِدادِ السَّمْعِ، ولَمّا ذَكَرَ انْفِتاحَ البَصَرِ أتْبَعَهُ بِانْفِتاحِ السَّمْعِ، وذَلِكَ هو الأُسْلُوبُ في المُقابَلَةِ، والأتَمُّ في الإعْجازِ. ويَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى نَظِيرُ (p-٢١٤)هَذِهِ المُقابَلَةِ في قَوْلِهِ في طَهَ: ﴿إنَّ لَكَ ألّا تَجُوعَ فِيها ولا تَعْرى﴾ [طه: ١١٨] ﴿وأنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيها ولا تَضْحى﴾ [طه: ١١٩] واحْتُمِلَ أنْ تَكُونَ الكافُ نَفْسُها هي خَبَرُ المُبْتَدَأِ، فَيَكُونُ مَعْناها: مَعْنى المَثَلِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: مَثَلُ الفَرِيقَيْنِ مَثَلُ الأعْمى. واحْتُمِلَ أنْ يُرادَ بِالمَثَلِ: الصِّفَةُ، وبِالكافِ: مِثْلُ، فَيَكُونُ عَلى حَذْفٍ مُضافٍ، أيْ: كَمَثَلِ الأعْمى، وهَذا التَّشْبِيهُ تَشْبِيهُ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ، فَأعْمى البَصِيرَةِ: أصَمُّها، شُبِّهَ بِأعْمى البَصَرِ أصَمُّ السَّمْعِ، ذَلِكَ في ظُلُماتِ الضَّلالاتِ مُتَرَدِّدٌ تائِهٌ، وهَذا في الطُّرُقاتِ مُحَيَّرٌ لا يَهْتَدِي إلَيْها. وجاءَ (أفَلا تَذَكَّرُونَ) لِيُنَبِّهَ عَلى أنَّهُ يُمْكِنُ زَوالُ هَذا العَمى وهَذا الصَّمَمُ المَعْقُولُ، فَيَجِبُ عَلى العاقِلِ أنْ يَتَذَكَّرَ ما هو فِيهِ، ويَسْعى في هِدايَةِ نَفْسِهِ. وانْتَصَبَ مَثَلًا عَلى التَّمْيِيزِ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا، انْتَهى. وفِيهِ بُعْدٌ، والظّاهِرُ: التَّمْيِيزُ وأنَّهُ مَنقُولٌ مِنَ الفاعِلِ، أصْلُهُ: هَلْ يَسْتَوِي مَثَلاهُما. ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ إنِّي لَكم نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ ﴿أنْ لا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ إنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ ألِيمٍ﴾ ﴿فَقالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ ما نَراكَ إلّا بَشَرًا مِثْلَنا وما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هم أراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وما نَرى لَكم عَلَيْنا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكم كاذِبِينَ﴾: هَذِهِ السُّورَةُ في قَصَصِها شَبِيهَةٌ بِسُورَةِ الأعْرافِ، بُدِئَ فِيها بِـ نُوحٍ، ثُمَّ بِهُودٍ، ثُمَّ بِصالِحٍ، ثُمَّ بِلُوطٍ، مُقَدَّمًا عَلَيْهِ إبْراهِيمُ بِسَبَبِ قَوْمِ لُوطٍ، ثُمَّ بِشُعَيْبٍ، ثُمَّ بِـ مُوسى وهارُونَ، صَلّى اللَّهُ عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ. وذَكَرُوا وُجُوهَ حِكَمٍ وفَوائِدَ لِتَكْرارِ هَذِهِ القَصَصِ في القُرْآنِ. وقَرَأ النَّحْوِيّانِ وابْنُ كَثِيرٍ: أنِّي بِفَتْحِ الهَمْزَةِ أيْ: بِأنِّي، وباقِي السَّبْعَةِ: بِكَسْرِها عَلى إضْمارِ القَوْلِ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ في قِراءَةِ الفَتْحِ: خُرُوجٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى المُخاطَبَةِ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وفي هَذا نَظَرٌ، وإنَّما هي حِكايَةُ مُخاطَبَةٍ لِقَوْمِهِ، ولَيْسَ هَذا حَقِيقَةَ الخُرُوجِ مِن غَيْبَةٍ إلى مُخاطَبَةٍ، ولَوْ كانَ الكَلامُ: أنْ أنْذِرْهم أوْ نَحْوَهُ لَصَحَّ ذَلِكَ، انْتَهى. * * * ﴿ألّا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ﴾ [هود: ٢]: ظاهِرٌ في أنَّهم كانُوا يَعْبُدُونَ الأوْثانَ كَما جاءَ مُصَرَّحًا في غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وأنْ بَدَلٌ مِن أيْ لَكم في قِراءَةِ مَن فَتَحَ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ أنِ المُفَسِّرَةَ. وأمّا في قِراءَةِ مَن كَسَرَ فَيُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ المُفَسِّرَةَ، والمُراعى قَبْلَها: إمّا أرْسَلْنا وإمّا نَذِيرٌ مُبِينٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مَعْمُولَةً لَأرْسَلْنا أيْ: بِأنْ لا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ، وإسْنادُ الألَمِ إلى اليَوْمِ مَجازٌ لِوُقُوعِ الألَمِ فِيهِ لا بِهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): فَإذا وُصِفَ بِهِ العَذابُ ؟ (قُلْتُ): مَجازِيٌّ مِثْلُهُ، لِأنَّ الألِيمَ في الحَقِيقَةِ هو المُعَذِّبُ، ونَظِيرُهُما قَوْلُكُ: نَهارُهُ صائِمٌ، انْتَهى. وهَذا عَلى أنْ يَكُونَ (ألِيمٍ) صِفَةَ مُبالَغَةٍ مِن ألِمَ، وهو: مَن كَثُرَ ألَمُهُ. فَإنْ كانَ ألِيمٍ بِمَعْنى: مُؤْلِمٍ، فَنِسْبَتُهُ لِلْيَوْمِ مَجازٌ، ولِلْعَذابِ حَقِيقَةٌ لَمّا أنْذَرَهم مِن عَذابِ اللَّهِ وأمَرَهم بِإفْرادِهِ بِالعِبادَةِ، وأخْبَرَ أنَّهُ رَسُولٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ، ذَكَرُوا أنَّهُ مُماثِلُهم في البَشَرِيَّةِ، واسْتَبْعَدُوا أنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا مِنَ البَشَرِ، وكَأنَّهم ذَهَبُوا إلى مَذْهَبِ البَراهِمَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ البَشَرِ عَلى الإطْلاقِ، ثُمَّ عَيَّرُوهُ بِأنَّهُ لَمْ يَتَّبِعْهُ إلّا الأراذِلُ أيْ: فَنَحْنُ لا نُساوِيهِمْ، ثُمَّ نَفَوْا أنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَضْلٌ أيْ: أنْتَ مُساوِينا في البَشَرِيَّةِ ولا فَضْلَ لَكَ عَلَيْنا، فَكَيْفَ امْتَزْتَ بِأنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ؟ . وفِي قَوْلِهِ: ﴿إلّا الَّذِينَ هم أراذِلُنا﴾: مُبالَغَةٌ في الإخْبارِ، وكَأنَّهُ مُؤْذِنٌ بِتَأْكِيدِ حَصْرِ مَنِ اتَّبَعَهُ، وأنَّهم هُمُ الأراذِلُ لَمْ يَشْرَكْهم شَرِيفٌ في ذَلِكَ. وفي الحَدِيثِ إنَّهم كانُوا حاكَةً وحَجّامِينَ وقالَ النَّحّاسُ: هُمُ الفُقَراءُ والَّذِينَ لا حَسَبَ لَهم، والخَسِيسُوا الصِّناعاتِ. وفِي حَدِيثِ هِرَقْلَ: أشْرافُ النّاسِ اتَّبَعُوهُ أمْ ضُعَفاؤُهم ؟ فَقالَ: بَلْ ضُعَفاؤُهم، فَقالَ: هم أتْباعُ الرُّسُلِ قَبْلُ وإنَّما كانَ كَذَلِكَ لِاسْتِيلاءِ الرِّئاسَةِ عَلى الأشْرافِ، وصُعُوبَةِ الِانْفِكاكِ عَنْها، والأنَفَةِ مِنَ الِانْقِيادِ لِغَيْرِهِمْ، والفَقِيرُ خَلِيٌّ عَنْ تِلْكَ المَوانِعِ فَهو سَرِيعٌ إلى الإجابَةِ والِانْقِيادِ. (ونَراكَ): يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً، وأنْ تَكُونَ عِلْمِيَّةً. قالُوا: وأراذِلُ: جَمْعُ الجَمْعِ، فَقِيلَ: جَمْعُ أرْذُلٍ كَكَلْبٍ وأكْلُبٍ وأكالِبٍ. وقِيلَ: جَمْعُ أرْذالٍ، وقِياسُهُ أراذِيلُ. والظّاهِرُ أنَّهُ جَمْعُ أرْذَلَ الَّتِي هي أفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وجاءَ جَمْعًا كَما جاءَ: أكابِرَ مُجْرِمِيها (p-٢١٥)وأحاسِنُكم أخْلاقًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ما نَراكَ إلّا بَشَرًا مِثْلَنا، تَعْرِيضٌ بِأنَّهم أحَقُّ مِنهُ بِالنُّبُوَّةِ، وأنَّ اللَّهَ لَوْ أرادَ أنْ يَجْعَلَها في أحَدٍ مِنَ البَشَرِ لَجَعَلَها فِيهِمْ، فَقالُوا: هَبْ أنَّكَ واحِدٌ مِنَ المَلَأِ ومُوازِيهِمْ في المَنزِلَةِ، فَما جَعَلَكَ أحَقَّ مِنهم ؟ ألا تَرى إلى قَوْلِهِمْ: ﴿وما نَرى لَكم عَلَيْنا مِن فَضْلٍ﴾، أوْ أرادُوا أنَّهُ كانَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مَلَكًا لا بَشَرًا، ولا يَظْهَرُ ما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ الآيَةِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو و عِيسى الثَّقَفِيُّ: (بادِئَ الرَّأْيِ) مِن بَدَأ يَبْدَأُ ومَعْناهُ: أوَّلُ الرَّأْيِ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ: بادِي بِالياءِ مِن بَدا يَبْدُو، ومَعْناهُ: ظاهِرُ الرَّأْيِ. وقِيلَ: بادِي بِالياءِ مَعْناهُ: بادِئٌ بِالهَمْزِ، فَسُهِّلَتِ الهَمْزَةُ بِإبْدالِها ياءً لِكَسْرِ ما قَبْلِها. وذَكَرُوا أنَّهُ مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِ، والعامِلُ فِيهِ نَراكَ أوِ اتَّبَعَكَ أوْ أراذِلُنا أيْ: وما نَراكَ فِيما يَظْهَرُ لَنا مِنَ الرَّأْيِ، أوْ في أوَّلِ رَأْيِنا، أوْ وما نَراكَ اتَّبَعَكَ أوَّلَ رَأْيِهِمْ، أوْ ظاهِرُ رَأْيِهِمْ. واحْتَمَلَ هَذا الوَجْهُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يُرِيدَ: اتَّبَعَكَ في ظاهِرِ أمْرِهِمْ، وعَسى أنْ تَكُونَ بَواطِنُهم لَيْسَتْ مَعَكَ. والمَعْنى الثّانِي: أنْ يُرِيدَ: اتَّبَعُوكَ بِأوَّلِ نَظَرٍ وبِالرَّأْيِ البادِئِ دُونَ تَعَقُّبٍ، ولَوْ تَثَبَّتُوا لَمْ يَتَّبِعُوكَ، وفي هَذا الوَجْهِ ذَمُّ الرَّأْيِ غَيْرِ المَرْوِيِّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اتَّبَعُوكَ أوَّلَ الرَّأْيِ، أوْ ظاهِرَ الرَّأْيِ، وانْتِصابُهُ عَلى الظَّرْفِ أصْلُهُ وقْتَ حُدُوثِ أوَّلِ أمْرِهِمْ، أوْ وقْتَ حُدُوثِ ظاهِرِ رَأْيِهِمْ، فَحُذِفَ ذَلِكَ، وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ، أرادُوا: أنَّ اتِّباعَهم لَكَ إنَّما هو شَيْءٌ عَنَّ لَهم بَدِيهَةً مِن غَيْرِ رَوِيَّةٍ ونَظَرٍ، انْتَهى. وكَوْنُهُ مَنصُوبًا عَلى الظَّرْفِ هو قَوْلُ أبِي عَلِيٍّ في الحُجَّةِ، وإنَّما حَمَلَهُ عَلى الظَّرْفِ ولَيْسَ بِزَمانٍ ولا مَكانٍ، لِأنَّ في مُقَدَّرَةٌ فِيهِ أيْ: في ظاهِرِ الأمْرِ، أوْ في أوَّلِ الأمْرِ. وعَلى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ أعْنِي أنْ يَكُونَ العامِلُ فِيهِ: نَراكَ، أوِ اتَّبَعَكَ، يَقْتَضِي أنْ لا يَجُوزَ ذَلِكَ، لِأنَّ ما بَعْدَ إلّا لا يَكُونُ مَعْمُولًا لِما قَبْلَها، إلّا إنْ كانَ مُسْتَثْنًى مِنهُ نَحْوَ: قامَ إلّا زَيْدًا القَوْمُ، أوْ مُسْتَثْنًى نَحْوَ: جاءَ القَوْمُ إلّا زَيْدًا، أوْ تابِعًا لِلْمُسْتَثْنى مِنهُ نَحْوَ: ما جاءَنِي أحَدٌ إلّا زَيْدٌ أخْبَرَنِي عَمْرٌو، وبادِئَ الرَّأْيِ لَيْسَ واحِدًا مِن هَذِهِ الثَّلاثَةِ. وأُجِيبَ بِأنَّهُ ظَرْفٌ، أوْ كالظَّرْفِ مِثْلَ: جُهْدَ رَأْيٍ إنَّكَ ذاهِبٌ، أيْ: إنَّكَ ذاهِبٌ في جُهْدِ رَأْيٍ، والظُّرُوفِ يُتَّسَعُ فِيها. وإذا كانَ العامِلُ أراذِلُنا فَمَعْناهُ: الَّذِينَ هم أراذِلُنا بِأقَلِّ نَظَرٍ فِيهِمْ، وبِبادِئِ الرَّأْيِ يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنهم. وقِيلَ: ﴿بادِيَ الرَّأْيِ﴾: نَعْتٌ لِقَوْلِهِ: (بَشَرًا) . وقِيلَ: انْتَصَبَ حالًا مِن ضَمِيرِ نُوحٍ في اتَّبَعَكَ، أيْ: وأنْتَ مَكْشُوفُ الرَّأْيِ لا حَصافَةَ لَكَ. وقِيلَ: انْتَصَبَ عَلى النِّداءِ لِـ نُوحٍ أيْ: يا بادِيَ الرَّأْيِ، أيْ: ما في نَفْسِكَ مِنَ الرَّأْيِ ظاهِرٌ لِكُلِّ أحَدٍ، قالُوا ذَلِكَ تَعْجِيزًا لَهُ. وقِيلَ: انْتَصَبَ عَلى المَصْدَرِ، وجاءَ الظَّرْفُ والمَصْدَرُ عَلى فاعِلٍ، ولَيْسَ بِالقِياسِ. فالرَّأْيُ هُنا إمّا مِن رُؤْيَةِ العَيْنِ، وإمّا مِنَ الفِكْرِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنَّما اسْتَرْذَلُوا المُؤْمِنِينَ لِفَقْرِهِمْ وتَأخُّرِهِمْ في الأسْبابِ الدُّنْيَوِيَّةِ، لِأنَّهم كانُوا جُهّالًا ما كانُوا يَعْلَمُونَ إلّا ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا، فَكانَ الأشْرَفُ عِنْدَهم مَن لَهُ جاهٌ ومالٌ، انْتَهى. وظاهِرُ الخِطابِ في لَكم شامِلٌ لِـ نُوحٍ ومَنِ اتَّبَعَهُ، والمَعْنى: لَيْسَ لَكم عَلَيْنا زِيادَةٌ في مالٍ، ونَسَبٍ، ولا دِينٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: في الخَلْقِ والخُلُقِ، وقِيلَ: بِكَثْرَةِ المُلْكِ والمِلْكِ، وقِيلَ: بِمُتابَعَتِكم نُوحًا ومُخالَفَتِكم لَنا، وقِيلَ: مِن شَرَفٍ يُؤَهِّلُكم لِلنُّبُوَّةِ، وقالَ الكَلْبِيُّ: نَظُنُّكم: نَتَيَقَّنُكم، وقالَ مُقاتِلٌ: نَحْسَبُكم، أيْ في دَعْوى نُوحٍ وتَصْدِيقِكم، وقالَ صاحِبُ العِتِيّانِ: بَلْ نَظُنُّكم كاذِبِينَ تَوَسُّلًا إلى الرِّئاسَةِ والشُّهْرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب