(ولله يسجد من في السماوات والأرض) إن كان المراد بالسجود معناه الحقيقي وهو وضع الجبهة على الأرض للتعظيم مع الخضوع والتذلل فذلك ظاهر في المؤمنين والملائكة ومسلمي الجن، وأما في الكفار فلا يصح تأويل السجود بهذا في حقهم فلا بد أن يحمل السجود المذكور في الآية على معنى حق لله السجود ووجب حتى يتناول السجود بالفعل وغيره أو يفسر السجود بالانقياد لأن الكفار وإن لم يسجدوا لله سبحانه فهم منقادون لأمره وحكمه فيهم بالصحة والمرض والحياة والموت، والفقر والغنى، وجاء بمن تغليباً للعقلاء على غيرهم، ولكون سجود غيرهم تبعاً لسجودهم.
ومما يؤيد حمل السجود على الانقياد ما يفيده تقديم لله على الفعل من الاختصاص فإن سجود الكفار لأصنامهم معلوم ولا ينقادون لهم كانقيادهم لله في الأمور التي يقرون على أنفسهم بأنها من الله كالخلق والحياة والموت وغير ذلك.
وأيضاً يدل على إرادة هذا المعنى قوله (طوعاً وكرهاً) فإن الكفار ينقادون كرهاً كما ينقاد المؤمنون طوعاً، وهما منتصبان على المصدرية أي انقياد طوع وانقياد كره، أو على الحال أي طائعين وراضين وكارهين غير راضين، قال الفراء: الآية خاصة بالمؤمنين فإنهم يسجدون طوعاً وبعض الكفار يسجدون إكراهاً بالسيف، وخوفاً كالمنافقين فالآية محمولة على هؤلاء.
وقيل الآية في المؤمنين فمنهم من يسجد طوعاً لا يثقل عليه السجود ومنهم من يثقل عليه لأن التزام التكليف مشقة، ولكنهم يتحملون المشقة إيماناً بالله وإخلاصاً له أو المراد بالسجود هو الاعتراف بالعظمة والعبودية وكل من فيهما من ملك وإنس وجن فإنهم يقرون له بالعبودية والتعظيم، ويدل عليه قوله تعالى (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) والأول أولى.
(وظلالهم) جمع ظل والمراد به من له ظل منهم كالإنسان لا الجن ولا الملك إذ لا ظل لهما والمعنى سجوده حقيقة تبعاً لصاحبه حيث صار لازماً لا ينفك عنه، قال الزجاج: جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله فظله يسجد لله وقال ابن الأنباري ولا يبعد أن يخلق الله تعالى للظلال عقولاً وأفهاماً تسجد بها لله سبحانه كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيحه، فظل المؤمن يسجد لله طوعاً وظل الكافر يسجد لله كرهاً.
وقيل المراد بالسجود ميلان الظلال من جانب إلى جانب آخر وطولها تارة وقصرها أخرى بسبب ارتفاع الشمس ونزولها والأول أولى.
(بالغدو والآصال) أي البكر والعشايا وخصهما بالذكر لأنه يزداد ظهور الظلال فيهما وهما ظرف للسجود المقدر، أي ويسجد ظلالهم في هذين الوقتين، وقيل لأنهما طرفا النهار فيدخل وسطه فيما بينهما، والغدو بالضم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والغدوة والغداة أول النهار، وقيل إلى نصف النهار.
والآصال جمع أصيل وهو العشية والآصال العشايا جمع عشية وهي ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، وقد تقدم تفسير الغدو والآصال في الأعراف أيضاً. وفي معنى هذه الآية قوله سبحانه (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون) قيل وهذه السجدة من عزائم سجود التلاوة، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءته واستماعه لهذه السجدة.
{"ayah":"وَلِلَّهِ یَسۡجُدُ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعࣰا وَكَرۡهࣰا وَظِلَـٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡـَٔاصَالِ ۩"}