﴿ولِلَّهِ﴾ وحْدَهُ ﴿يَسْجُدُ﴾ يَخْضَعُ ويَنْقادُ لا لِشَيْءٍ غَيْرِهِ سُبْحانَهُ اسْتِقْلالًا ولا اشْتِراكًا فالقَصْرُ يَنْتَظِمُ القَلْبُ والإفْرادُ ﴿مَن في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ مِنَ المَلائِكَةِ والثَّقَلَيْنِ كَما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ التَّعْبِيرِ بِمَن وتَخْصِيصُ انْقِيادِ العُقَلاءِ مَعَ كَوْنِ غَيْرِهِمْ أيْضًا كَذَلِكَ لِأنَّهُمُ العُمْدَةُ وانْقِيادُهم دَلِيلُ انْقِيادِ غَيْرِهِمْ عَلى أنَّ فِيما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى بَيانًا لِذَلِكَ وقِيلَ: المُرادُ ما يَشْمَلُ أُولَئِكَ وغَيْرَهم والتَّعْبِيرُ بِمَن لِلتَّغْلِيبِ ﴿طَوْعًا وكَرْهًا﴾ نُصِبَ عَلى الحالِ فَإنْ قُلْنا بِوُقُوعِ المَصْدَرِ حالًا مِن غَيْرِ تَأْوِيلٍ فَهو ظاهِرٌ وإلّا فَهو بِتَأْوِيلِ طائِعِينَ وكارِهِينَ أيْ أنَّهم خاضِعُونَ لِعَظَمَتِهِ تَعالى مُنْقادُونَ لِإحْداثِ ما أرادَ سُبْحانَهُ فِيهِمْ مِن أحْكامِ التَّكْوِينِ والإعْدامِ شاؤُوا أوْ أبَوْا مِن غَيْرِ مُداخَلَةِ حُكْمِ غَيْرِهِ جَلَّ وعَلا بَلْ غَيْرُ حُكْمِهِ تَعالى في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ.
وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ النَّصْبُ عَلى العِلَّةِ فالكُرْهُ بِمَعْنى الإكْراهِ وهو مَصْدَرُ المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ لِيَتَّحِدَ الفاعِلُ بِناءً عَلى اشْتِراطِ ذَلِكَ في نَصْبِ المَفْعُولِ لِأجْلِهِ وهو عِنْدَ مَن لَمْ يَشْتَرِطْ عَلى ظاهِرِهِ وما قِيلَ عَلَيْهِ مِن أنَّ اعْتِبارَ العِلِّيَّةِ في الكُرْهِ غَيْرُ ظاهِرٍ لِأنَّهُ الَّذِي يُقابِلُ الطَّوْعَ وهو الإباءُ ولا يُعْقَلُ كَوْنُهُ عِلَّةً لِلسُّجُودِ فَمَدْفُوعٌ بِأنَّ العِلَّةَ ما يُحْمَلُ عَلى الفِعْلِ أوْ ما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لا ما لا يَكُونُ غَرَضًا لَهُ وقَدْ مَرَّ عَنْ قُرْبٍ فَتَذْكَّرْهُ وقِيلَ: النَّصْبُ عَلى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ أيْ سُجُودَ طَوْعٍ وكُرْهٍ ﴿وظِلالُهُمْ﴾ أيْ وتَنْقادُ لَهُ تَعالى ظِلالُ مَن لَهُ ذَلِكَ مِنهم وهُمُ الإنْسُ فَقَطْ أوْ ما يَعُمُّهم وكُلُّ كَثِيفٍ.
وفِي الحَواشِي الشِّهابِيَّةِ يَنْبَغِي أنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ لِمَن في الأرْضِ لِأنَّ مَن في السَّماءِ لا ظِلَّ لَهُ إلّا أنْ يُحْمَلَ عَلى التَّغْلِيبِ أوِ التَّجَوُّزِ ومَعْنى انْقِيادِ الظِّلالِ لَهُ تَعالى أنَّها تابِعَةٌ لِتَصَرُّفِهِ سُبْحانَهُ ومَشِيئَتِهِ في الِامْتِدادِ والتَّقَلُّصِ والفَيْءِ والزَّوالِ وأصْلُ الظِّلَّ كَما قالَ الفَرّاءُ مَصْدَرٌ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى الخَيالِ الَّذِي يَظْهَرُ لِلْجِرْمِ وهو إمّا مَعْكُوسٌ أوْ مُسْتَوٍ ويُبْنى عَلى كُلٍّ مِنهُما أحْكامٌ ذَكَرُوها في مَحَلِّها ﴿بِالغُدُوِّ والآصالِ﴾ . (15) . ظَرْفٌ لِلسُّجُودِ المُقَدَّرِ والباءُ بِمَعْنى في وهو كَثِيرٌ والمُرادُ بِهِما الدَّوامُ لِأنَّهُ يُذْكَرُ مِثْلُ ذَلِكَ لِلتَّأْيِيدِ قِيلَ: فَلا يُقالُ لِمَ خُصَّ بِالذِّكْرِ وكَذا يُقالُ: إذا كانا في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الظِّلالِ وبَعْضُهم يُعَلِّلُ ذَلِكَ بِأنَّ امْتِدادَها وتَقَلُّصَها في ذَيْنِكَ الوَقْتَيْنِ أظْهَرُ.
والغُدُوُّ جَمْعُ غَداةٍ كَقُنِيٍّ وقَناةٍ والآصالُ جَمْعُ أصِيلٍ وهو ما بَيْنَ العَصْرِ والمَغْرِبِ وقِيلَ: هو جَمْعُ أُصُلٍ جَمْعُ أصِيلٍ وأصْلُهُ أأْصالٌ بِهَمْزَتَيْنِ فَقُلِبَتِ الثّانِيَةُ ألِفًا وقِيلَ: الغُدُوُّ مَصْدَرٌ وأيِّدَ بِقِراءَةِ ابْنِ مِجْلَزٍ ( الإيصالِ ) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ عَلى أنَّهُ مَصْدَرُ آصَلْنا بِالمَدِّ أيْ دَخَلْنا في الأصِيلِ كَما قالَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ هَذا وقِيلَ: إنَّ المُرادَ حَقِيقَةُ السُّجُودِ فَإنَّ الكَفَرَةَ حالَةُ الِاضْطِرارِ وهو المَعْنى بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكَرْهًا﴾ يَخُصُّونَ السُّجُودَ بِهِ سُبْحانَهُ قالَ تَعالى: ﴿فَإذا رَكِبُوا في الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ ولا يَبْعُدُ أنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعالى في الظِّلالِ أفْهامًا وعُقُولًا بِها تَسْجُدُ لِلَّهِ تَعالى شَأْنُهُ كَما خَلَقَ جَلَّ جَلالُهُ ذَلِكَ لِلْجِبالِ حَتّى اشْتَغَلَتْ بِالتَّسْبِيحِ وظَهَرَتْ فِيها آثارُ التَّجَلِّي كَما قالَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ: وجُوِّزَ أنْ يُرادَ بِسُجُودِها ما يُشاهَدُ فِيها مِن هَيْئَةِ السُّجُودِ تَبَعًا لِأصْحابِها وهَذا عَلى ما قِيلَ: مَبْنِيٌّ عَلى ارْتِكابِ عُمُومِ المَجازِ في السُّجُودِ المَذْكُورِ في الآيَةِ بِأنْ يُرادَ بِهِ الوُقُوعُ عَلى الأرْضِ فَيَشْمَلُ سُجُودَ الظِّلالِ بِهَذا المَعْنى أوْ تَقْدِيرَ فِعْلٍ مُؤَدٍّ ذَلِكَ رافِعٌ لِلظِّلالِ أوْ خَبَرٌ لَهُ كَذَلِكَ أوِ التِزامُ أنَّ (p-127)إرادَةَ ما ذُكِرَ لا يَضُرُّ في الحَقِيقَةِ لِكَوْنِهِ بِالتَّبَعِيَّةِ والعَرْضِ أوْ أنَّ الجَمْعَ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ جائِزٌ ولا يَخْفى ما في بَعْضِ الشُّقُوقِ مِنَ النَّظَرِ وعَنْ قَتادَةَ أنَّ السُّجُودَ عِبارَةٌ عَنِ الهَيْئَةِ المَخْصُوصَةِ وقَدْ عُبِّرَ بِالطَّوْعِ عَنْ سُجُودِ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ والمُؤْمِنِينَ وبِالكَرْهِ عَنْ سُجُودِ مَن ضَمَّهُ السَّيْفُ إلى الإسْلامِ فَيَسْجُدُ كَرْهًا إمّا نِفاقًا أوْ يَكُونُ الكَرْهُ أوَّلَ حالِهِ فَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ الصِّفَةُ وإنْ صَحَّ إيمانُهُ بَعْدُ وقِيلَ: السّاجِدُ طَوْعًا مَن لا يَثْقُلُ عَلَيْهِ السُّجُودُ والسّاجِدُ كَرْها مَن يَثْقُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وعَنِ ابْنِ الأنْبارِيِّ الأوَّلُ مَن طالَتْ مُدَّةُ إسْلامِهِ فَألِفَ السُّجُودَ والثّانِي مَن بَدَأ بِالإسْلامِ إلى أنْ يَأْلَفَ وأيًّا ما كانَ فَمِن عامٍّ أُرِيدَ بِهِ مَخْصُوصٌ إذْ يَخْرُجُ مِن ذَلِكَ مَن لا يَسْجُدُ وقِيلَ: هو عامٌّ لِسائِرِ أنْواعِ العُقَلاءِ والمُرادُ بِيَسْجُدُ يَجِبُ أنْ يَسْجُدَ لَكِنْ عُبِّرَ عَنِ الوُجُوبِ بِالوُقُوعِ مُبالَغَةً.
واخْتارَ غَيْرُ واحِدٍ في تَفْسِيرِ الآيَةِ ما ذَكَرْناهُ أوَّلًا فَفي البَحْرِ والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ مَساقَ الآيَةِ إنَّما هو أنَّ العالَمَ كُلَّهُ مَقْهُورٌ لِلَّهِ تَعالى خاضِعٌ لِما أرادَ سُبْحانَهُ مِنهُ مَقْصُورٌ عَلى مَشِيئَتِهِ لا يَكُونُ مِنهُ إلّا ما قَدَّرَ جَلَّ وعَلا فالَّذِينَ تَعْبُدُونَهم كائِنًا ما كانُوا داخِلُونَ تَحْتَ القَهْرِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَفْعًا ولا ضَرًّا ويَدُلُّ عَلى هَذا المَعْنى تَشْرِيكُ الظِّلالِ في السُّجُودِ وهي لَيْسَتْ أشْخاصًا يُتَصَوَّرُ مِنها السُّجُودُ بِالهَيْئَةِ المَخْصُوصَةِ ولَكِنَّها داخِلَةٌ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ تَعالى يُصَرِّفُها سُبْحانَهُ حَسْبَما أرادَ إذْ هي مِنَ العالَمِ والعالَمُ جَواهِرُهُ وأعْراضُهُ داخِلَةٌ تَحْتَ قَهْرِ إرادَتِهِ تَعالى كَما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا إلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ اليَمِينِ والشَّمائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ﴾ وكَوْنُ المُرادِ بِالظِّلالِ الأشْخاصَ كَما قالَ بَعْضُهم ضَعِيفٌ وأضْعَفُ مِنهُ ما قالَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ وقِياسُها عَلى الجِبالِ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأنَّ الجَبَلَ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ لَهُ عَقْلٌ بِشَرْطِ تَقْدِيرِ الحَياةِ وأمّا الظِّلُّ فَعَرَضٌ لا يُتَصَوَّرُ قِيامُ الحَياةِ بِهِ وإنَّما مَعْنى سُجُودِها مَيْلُها مِن جانِبٍ إلى جانِبٍ واخْتِلافُ أحْوالِها كَما أرادَ سُبْحانَهُ وتَعالى وفي إرْشادِ العَقْلِ السَّلِيمِ بَعْدَ نَقْلِ ما قِيلَ أوَّلًا وأنْتَ خَبِيرٌ بِأنَّ اخْتِصاصَ سُجُودِ الكافِرِ حالَةَ الِاضْطِرارِ والشِّدَّةِ لِلَّهِ تَعالى لا يُجْدِي فَإنَّ سُجُودَهُ لِلصَّنَمِ حالَةَ الِاخْتِيارِ والرَّخاءِ مُخِلٌّ بِالقَصْرِ المُسْتَفادِ مِن تَقْدِيمِ الجارِّ والمَجْرُورِ فالوَجْهُ حَمْلُ السُّجُودِ عَلى الِانْقِيادِ ولِأنَّ تَحْقِيقَ انْقِيادِ الكُلِّ في الإبْداعِ والإعْدامِ لَهُ تَعالى أدْخَلُ في التَّوْبِيخِ عَلى اتِّخاذِ أوْلِياءَ مِن دُونِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى مِن تَحْقِيقِ سُجُودِهِمْ لَهُ تَعالى. اهَـ. وفي تِلْكَ الأقْوالِ بُعْدُ ما لا يَخْفى عَلى النّاقِدِ البَصِيرِ.
{"ayah":"وَلِلَّهِ یَسۡجُدُ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعࣰا وَكَرۡهࣰا وَظِلَـٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡـَٔاصَالِ ۩"}