الباحث القرآني

﴿ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا وظِلالُهم بِالغُدُوِّ والآصالِ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ (﴿لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ﴾ [الرعد: ١٤]) أيْ لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ ولَهُ يَسْجُدُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ وذَلِكَ شِعارُ الإلَهِيَّةِ، فَأمّا الدَّعْوَةُ فَقَدِ اخْتَصَّ بِالحَقَّةِ مِنها دُونَ الباطِلَةِ، وأمّا السُّجُودُ وهو الهَوِيُّ إلى الأرْضِ بِقَصْدِ الخُضُوعِ فَقَدِ اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ عَلى الإطْلاقِ؛ لِأنَّ المَوْجُوداتِ العُلْيا والمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ يَسْجُدُونَ لَهُ، والمُشْرِكِينَ لا يَسْجُدُونَ لِلْأصْنامِ ولا لِلَّهِ تَعالى، ولَعَلَّهم يَسْجُدُونَ لِلَّهِ في بَعْضِ الأحْوالِ. وعُدِلَ عَنْ ضَمِيرِ الجَلالَةِ إلى اسْمِهِ تَعالى العَلَمِ تَبَعًا لِلْأُسْلُوبِ السّابِقِ في افْتِتاحِ الأغْراضِ الأصْلِيَّةِ. والعُمُومُ المُسْتَفادُ مِن (مَنِ) المَوْصُولَةِ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ يُرادُ بِهِ الكَثْرَةُ الكاثِرَةُ. والمَقْصُودُ مِن (﴿طَوْعًا وكَرْهًا﴾) تَقْسِيمُ أحْوالِ السّاجِدِينَ. والمُرادُ بِالطَّوْعِ الِانْسِياقُ مِنَ النَّفْسِ تَقَرُّبًا وزُلْفى لِمَحْضِ التَّعْظِيمِ ومَحَبَّةِ اللَّهِ. وبِالكُرْهِ الِاضْطِرارُ عِنْدَ الشِّدَّةِ والحاجَةِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ثُمَّ إذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإلَيْهِ تَجْأرُونَ﴾ [النحل: ٥٣]، ومِنهُ قَوْلُهم: مُكْرَهٌ أخُوكَ لا بَطَلٌ، أيْ مُضْطَرٌّ إلى المُقاتَلَةِ. (p-١١١)ولَيْسَ المُرادُ مِنَ الكُرْهِ الضَّغْطَ والإلْجاءَ كَما فَسَّرَ بِهِ بَعْضُهم فَهو بَعِيدٌ عَنِ الغَرَضِ كَما سَيَأْتِي. والظِّلالُ: - جَمْعُ ظِلٍّ، وهو صُورَةُ الجِسْمِ المُنْعَكِسِ إلَيْهِ نُورٌ. والضَّمِيرُ راجِعٌ إلى مَن في السَّماواتِ والأرْضِ مَخْصُوصٌ بِالصّالِحِ لَهُ مِنَ الأجْسامِ الكَثِيفَةِ ذاتِ الظِّلِّ تَخْصِيصًا بِالعَقْلِ والعادَةِ. وهو عَطْفٌ عَلى (مَن) أيْ يَسْجُدُ مَن في السَّماواتِ وتَسْجُدُ ظِلالُهم. والغُدُوُّ: الزَّمانُ الَّذِي يَغْدُو فِيهِ النّاسُ، أيْ يَخْرُجُونَ إلى حَوائِجِهِمْ: إمّا مَصْدَرًا عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ. أيْ وقْتُ الغُدُوِّ، وإمّا جَمْعُ غَدْوَةٍ. فَقَدْ حُكِيَ جَمْعُها عَلى غُدُوٍّ، وتَقَدَّمَ في آخِرِ سُورَةِ الأعْرافِ. والآصالُ: جَمْعُ أصِيلٍ، وهو وقْتُ اصْفِرارِ الشَّمْسِ في آخِرِ المَساءِ. والمَقْصُودُ مِن ذِكْرِهِما اسْتِيعابُ أجْزاءِ أزْمِنَةِ الظِّلِّ. ومَعْنى سُجُودِ الظِّلالِ أنَّ اللَّهَ خَلَقَها مِن أعْراضِ الأجْسامِ الأرْضِيَّةِ، فَهي مُرْتَبِطَةٌ بِنِظامِ انْعِكاسِ أشِعَّةِ الشَّمْسِ عَلَيْها وانْتِهاءِ الأشِعَّةِ إلى صَلابَةِ وجْهِ الأرْضِ حَتّى تَكُونَ الظِّلالُ واقِعَةً عَلى الأرْضِ وُقُوعَ السّاجِدِ، فَإذا كانَ مِنَ النّاسِ مَن يَأْبى السُّجُودَ لِلَّهِ أوْ يَتْرُكُهُ اشْتِغالًا عَنْهُ بِالسُّجُودِ لِلْأصْنامِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ مِثالَهُ شاهِدًا عَلى اسْتِحْقاقِ اللَّهِ السُّجُودَ إلَيْهِ شَهادَةً رَمْزِيَّةً ولَوْ جَعَلَ اللَّهُ الشَّمْسَ شَمْسَيْنِ مُتَقابِلَتَيْنِ عَلى السَّواءِ لانْعَدَمَتِ الظِّلالُ، ولَوْ جَعَلَ وجْهَ الأرْضِ شَفّافًا أوْ لامِعًا كالماءِ لَمْ يَظْهَرِ الظِّلُّ بَيِّنًا، فَهَذا مِن رُمُوزِ الصَّنْعَةِ الَّتِي أوْجَدَها اللَّهُ وأدَقَّها دِقَّةً بَدِيعَةً. وجَعَلَ نِظامَ المَوْجُوداتِ الأرْضِيَّةِ مُهَيَّئَةً لَها في الخِلْقَةِ لِحِكَمٍ مُجْتَمِعَةٍ، مِنها: أنْ تَكُونَ رُمُوزًا دالَّةً عَلى انْفِرادِهِ تَعالى بِالإلَهِيَّةِ، وعَلى حاجَةِ المَخْلُوقاتِ إلَيْهِ، وجَعَلَ أكْثَرَها في نَوْعِ الإنْسانِ؛ لِأنَّ نَوْعَهُ مُخْتَصٌّ بِالكُفْرانِ دُونَ الحَيَوانِ. (p-١١٢)والغَرَضُ مِن هَذا الِاسْتِدْلالِ الرَّمْزِيِّ التَّنْبِيهُ لِدَقائِقِ الصُّنْعِ الإلَهِيِّ كَيْفَ جاءَ عَلى نِظامٍ مُطَّرِدٍ دالٍّ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ، كَما قِيلَ: ؎وفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ الواحِدُ والِاسْتِدْلالُ مَعَ ذَلِكَ عَلى أنَّ الأشْياءَ تَسْجُدُ لِلَّهِ؛ لِأنَّ ظِلالَها واقِعَةٌ عَلى الأرْضِ في كُلِّ مَكانٍ وما هي مَساجِدُ لِلْأصْنامِ وأنَّ الأصْنامَ لَها أمْكِنَةٌ مُعَيَّنَةٌ هي حِماها وحَرِيمُها، وأكْثَرُ الأصْنامِ في البُيُوتِ مِثْلُ: العُزّى وذِي الخَلَصَةِ وذِي الكَعْباتِ حَيْثُ تَنْعَدِمُ الظِّلالُ في البُيُوتِ. وهَذِهِ الآيَةُ مَوْضِعُ سُجُودٍ مِن سُجُودِ القُرْآنِ، وهي السَّجْدَةُ الثّانِيَةُ في تَرْتِيبِ المُصْحَفِ بِاتِّفاقِ الفُقَهاءِ. ومِن حِكْمَةِ السُّجُودِ عِنْدَ قِراءَتِها أنْ يَضَعَ المُسْلِمُ نَفْسَهُ في عِدادِ ما يَسْجُدُ لِلَّهِ طَوْعًا بِإيقاعِهِ السُّجُودَ. وهَذا اعْتِرافٌ فِعْلِيٌّ بِالعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب