الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً﴾ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: الْمُؤْمِنُ يَسْجُدُ طَوْعًا، وَالْكَافِرُ يَسْجُدُ كَرْهًا بِالسَّيْفِ. وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا: يَسْجُدُ الْكَافِرُ كَارِهًا حِينَ لَا يَنْفَعُهُ الْإِيمَانُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سُجُودُ الْكَافِرِ كَرْهًا مَا فِيهِ من الخضوع وأثر الصنعة. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "طَوْعاً" مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ رَغْبَةً، وَ "كَرْهاً" مَنْ دَخَلَ فِيهِ رَهْبَةً بِالسَّيْفِ. وَقِيلَ: "طَوْعاً" مَنْ طَالَتْ مُدَّةُ إِسْلَامِهِ فَأَلِفَ السُّجُودَ، وَ "كَرْهاً" مَنْ يُكْرِهُ نَفْسَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى "وَالْأَرْضِ" وَبَعْضُ مَنْ فِي الْأَرْضِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَفِي الْآيَةِ مَسْلَكَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهَا عَامَّةٌ وَالْمُرَادُ بِهَا التَّخْصِيصُ، فَالْمُؤْمِنُ يَسْجُدُ طَوْعًا، وَبَعْضُ الْكُفَّارِ يَسْجُدُونَ إِكْرَاهًا وَخَوْفًا كَالْمُنَافِقِينَ، فَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ، ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: الْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ، مِنْهُمْ مَنْ يَسْجُدُ طَوْعًا لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ السُّجُودُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَثْقُلُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْتِزَامَ التَّكْلِيفِ مَشَقَّةٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ الْمَشَقَّةَ إِخْلَاصًا وَإِيمَانًا، إِلَى أَنْ يَأْلَفُوا الْحَقَّ وَيَمْرُنُوا عَلَيْهِ. وَالْمَسْلَكُ الثَّانِي- وَهُوَ الصَّحِيحُ- إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى التَّعْمِيمِ، وَعَلَى هَذَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْجُدُ طَوْعًا، وأما الكافر فمأمور: السجود مُؤَاخَذٌ بِهِ. وَالثَّانِي- وَهُوَ الْحَقُّ- أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْجُدُ بِبَدَنِهِ طَوْعًا، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ يَسْجُدُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَخْلُوقٌ، يَسْجُدُ دَلَالَةً وَحَاجَةً إِلَى الصَّانِعِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾[[راجع ج ١٠ ص ٢٦٦ وص ١١١.]] [الإسراء: ٤٤] وَهُوَ تَسْبِيحُ دَلَالَةٍ لَا تَسْبِيحُ عِبَادَةٍ. (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أَيْ ظِلَالُ الْخَلْقِ سَاجِدَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، لِأَنَّهَا تَبِينُ فِي هَذَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، وَتَمِيلُ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ، وَذَلِكَ تَصْرِيفُ اللَّهِ إِيَّاهَا عَلَى مَا يَشَاءُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ﴾ [النحل: ٤٨] قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ظِلُّ الْمُؤْمِنِ يَسْجُدُ طَوْعًا وَهُوَ طَائِعٌ، وَظِلُّ الْكَافِرِ يَسْجُدُ كَرْهًا وَهُوَ كَارِهٌ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يُجْعَلُ لِلظِّلَالِ عُقُولٌ تَسْجُدُ بِهَا وَتَخْشَعُ بِهَا، كَمَا جُعِلَ لِلْجِبَالِ أَفْهَامٌ حَتَّى خَاطَبَتْ وَخُوطِبَتْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فِي هَذَا نَظَرَ، لِأَنَّ الْجَبَلَ عَيْنٌ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَقْلٌ بِشَرْطِ تَقْدِيرِ الْحَيَاةِ، وَأَمَّا الظِّلَالُ فَآثَارٌ وَأَعْرَاضٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيرُ الْحَيَاةِ لَهَا، وَالسُّجُودُ بِمَعْنَى الْمَيْلِ، فَسُجُودُ الظِّلَالِ مَيْلُهَا مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، يقال: سجدت النخلة أي مالت. والْآصالِ جَمْعُ أُصُلٍ، وَالْأُصُلُ جَمْعُ أَصِيلٍ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى الْغُرُوبِ، ثُمَّ أَصَائِلُ جَمْعُ الْجَمْعُ، قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ: لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ... وَأَقْعُدُ فِي أَفْيَائِهِ بِالْأَصَائِلِ وظِلالُهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى "مَنْ" وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ارْتَفَعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: وَظِلَالُهُمْ سُجَّدٌ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَ "بِالْغُدُوِّ" يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ غَدَاةٍ، يُقَوِّي كَوْنَهُ جَمْعًا مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ الَّذِي هو الآصال به.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب