الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا وظِلالُهم بِالغُدُوِّ والآصالِ﴾ .
بَيَّنَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّهُ يَسْجُدُ لَهُ أهْلُ السَّماواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا وتَسْجُدُ لَهُ ظِلالُهم بِالغُدُوِّ والآصالِ، وذَكَرَ أيْضًا سُجُودَ الظِّلالِ وسُجُودَ أهْلِ السَّماواتِ والأرْضِ في قَوْلِهِ ﴿أوَلَمْ يَرَوْا إلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ اليَمِينِ والشَّمائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وهم داخِرُونَ﴾ ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ مِن دابَّةٍ والمَلائِكَةُ وهم لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [النحل: ٤٨، ٤٩] إلى قَوْلِهِ يُؤْمَرُونَ [النحل: ٥٠]، واخْتَلَفَ العُلَماءُ في المُرادِ بِسُجُودِ الظِّلِّ وسُجُودِ غَيْرِ المُؤْمِنِينَ، فَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: سُجُودُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ مِنَ العامِّ المَخْصُوصِ، فالمُؤْمِنُونَ والمَلائِكَةُ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ سُجُودًا حَقِيقِيًّا، وهو وضْعُ الجَبْهَةِ عَلى الأرْضِ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ طَوْعًا، والكُفّارُ يَسْجُدُونَ كَرْهًا، أعْنِي المُنافِقِينَ لِأنَّهم كُفّارٌ في الباطِنِ ولا يَسْجُدُونَ لِلَّهِ إلّا كَرْهًا، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَإذا قامُوا إلى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراءُونَ النّاسَ﴾ الآيَةَ [النساء: ١٤٢]، وقالَ تَعالى: ﴿وَما (p-٢٣٨)مَنَعَهم أنْ تُقْبَلَ مِنهم نَفَقاتُهم إلّا أنَّهم كَفَرُوا بِاللَّهِ وبِرَسُولِهِ ولا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إلّا وهم كُسالى ولا يُنْفِقُونَ إلّا وهم كارِهُونَ﴾ [التوبة: ٥٤]، والدَّلِيلُ عَلى أنَّ سُجُودَ أهْلِ السَّماواتِ والأرْضِ مِنَ العامِّ المَخْصُوصِ، قَوْلُهُ تَعالى في ”سُورَةِ الحَجِّ“: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ والشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُومُ والجِبالُ والشَّجَرُ والدَّوابُّ وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ وكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذابُ﴾ [الحج: ١٨]، فَقَوْلُهُ: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ﴾ [الحج: ١٨] دَلِيلٌ عَلى أنَّ بَعْضَ النّاسِ غَيْرُ داخِلٍ في السُّجُودِ المَذْكُورِ، وهَذا قَوْلُ الحَسَنِ، وقَتادَةَ، وغَيْرِهِما، وذَكَرَهُ الفَرّاءُ، وقِيلَ الآيَةُ عامَّةٌ. والمُرادُ بِسُجُودِ المُسْلِمِينَ طَوْعًا انْقِيادُهم لِما يُرِيدُ اللَّهُ مِنهم طَوْعًا، والمُرادُ بِسُجُودِ الكافِرِينَ كَرْهًا انْقِيادُهم لِما يُرِيدُ اللَّهُ مِنهم كَرْهًا؛ لِأنَّ إرادَتَهُ نافِذَةٌ فِيهِمْ وهم مُنْقادُونَ خاضِعُونَ لِصُنْعِهِ فِيهِمْ ونُفُوذِ مَشِيئَتِهِ فِيهِمْ، وأصْلُ السُّجُودِ في لُغَةِ العَرَبِ: الذُّلُّ والخُضُوعُ، ومِنهُ قَوْلُ زِيدِ الخَيْلِ:
؎بِجَمْعٍ تَضِلُّ البُلْقُ في حُجُراتِهِ تَرى الأكَمَ فِيها سُجَّدًا لِلْحَوافِرِ
وَمِنهُ قَوْلُ العَرَبِ: أسْجُدُ: إذا طَأْطَأ رَأْسَهُ وانْحَنى، قالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ:
؎فَلَمّا لَوَيْنَ عَلى مِعْصَمٍ ∗∗∗ وكَفٍّ خَضِيبٍ وأسْوارِها
؎فُضُولَ أزِمَّتِها أسْجَدَتْ ∗∗∗ سُجُودَ النَّصارى لِأحْبارِها
وَعَلى هَذا القَوْلِ فالسُّجُودُ لُغَوِيٌّ لا شَرْعِيٌّ، وهَذا الخِلافُ المَذْكُورُ جارٍ أيْضًا في سُجُودِ الظِّلالِ، فَقِيلَ: سُجُودُها حَقِيقِيٌّ، واللَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى أنْ يَخْلُقَ لَها إدْراكًا تُدْرِكُ بِهِ وتَسْجُدُ لِلَّهِ سُجُودًا حَقِيقِيًّا، وقِيلَ: سُجُودُها مَيْلُها بِقُدْرَةِ اللَّهِ أوَّلَ النَّهارِ إلى جِهَةِ المَغْرِبِ، وآخِرَهُ إلى جِهَةِ المَشْرِقِ، وادَّعى مَن قالَ هَذا أنَّ الظِّلَّ لا حَقِيقَةَ لَهُ؛ لِأنَّهُ خَيالٌ فَلا يُمْكِنُ مِنهُ الإدْراكُ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ جَلَّ وعَلا قادِرٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، فَهو قادِرٌ عَلى أنْ يَخْلُقَ لِلظِّلِّ إدْراكًا يَسْجُدُ بِهِ لِلَّهِ تَعالى سُجُودًا حَقِيقِيًّا، والقاعِدَةُ المُقَرَّرَةُ عِنْدَ عُلَماءِ الأُصُولِ هي: حَمْلُ نُصُوصِ الوَحْيِ عَلى ظَواهِرِها إلّا بِدَلِيلٍ مِن كِتابٍ أوْ سُنَّةٍ، ولا يَخْفى أنَّ حاصِلَ القَوْلَيْنِ:
أنَّ أحَدَهُما: أنَّ السُّجُودَ شَرْعِيٌّ وعَلَيْهِ فَهو في أهْلِ السَّماواتِ والأرْضِ مِنَ العامِّ المَخْصُوصِ.
والثّانِي: أنَّ السُّجُودَ لُغَوِيٌّ بِمَعْنى الِانْقِيادِ والذُّلِّ والخُضُوعِ، وعَلَيْهِ فَهو باقٍ عَلى عُمُومِهِ، والمُقَرَّرُ في الأُصُولِ عِنْدَ المالِكِيَّةِ والحَنابِلَةِ وجَماعَةٍ مِنَ الشّافِعِيَّةِ أنَّ النَّصَّ إنْ دارَ (p-٢٣٩)بَيْنَ الحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ والحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ حُمِلَ عَلى الشَّرْعِيَّةِ، وهو التَّحْقِيقُ، خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ في تَقْدِيمِ اللُّغَوِيَّةِ، ولِمَن قالَ يَصِيرُ اللَّفْظُ مُجْمَلًا لِاحْتِمالِ هَذا وذاكَ، وعَقَدَ هَذِهِ المَسْألَةَ صاحِبُ ”مَراقِي السُّعُودِ“ بِقَوْلِهِ:
؎واللَّفْظُ مَحْمُولٌ عَلى الشَّرْعِيِّ ∗∗∗ إنْ لَمْ يَكُنْ فَمُطْلَقُ العُرْفِيِّ
فاللُّغَوِيُّ عَلى الجَلِيِّ ولَمْ يَجِبْ بَحْثٌ عَنِ المَجازِ في الَّذِي انْتُخِبْ وقِيلَ: المُرادُ بِسُجُودِ الكُفّارِ كَرْهًا سُجُودُ ظِلالِهِمْ كَرْهًا، وقِيلَ: الآيَةُ في المُؤْمِنِينَ فَبَعْضُهم يَسْجُدُ طَوْعًا؛ لِخِفَّةِ امْتِثالِ أوامِرِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ، وبَعْضُهم يَسْجُدُ كَرْهًا؛ لِثِقَلِ مَشَقَّةِ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ مَعَ أنَّ إيمانَهُ يَحْمِلُهُ عَلى تَكَلُّفِ ذَلِكَ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى:
وَقَوْلُهُ تَعالى: بِالغُدُوِّ [الرعد: ١٥] يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أوْ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ جَمْعَ غَداةٍ، والآصالُ جَمْعُ أُصُلٍ بِضَمَّتَيْنِ وهو جَمْعُ أصِيلٍ، وهو ما بَيْنَ العَصْرِ والغُرُوبِ، ومِنهُ قَوْلُ أبِي ذُؤَيْبٍ الهُذَلِيِّ:
؎لَعَمْرِي لَأنْتَ البَيْتُ أُكْرِمُ أهْلَهُ ∗∗∗ وأقْعُدُ في أفْيائِهِ بِالأصائِلِ
{"ayah":"وَلِلَّهِ یَسۡجُدُ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعࣰا وَكَرۡهࣰا وَظِلَـٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡـَٔاصَالِ ۩"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق