الباحث القرآني

المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: مِنَ النّاسِ مَن قالَ: قَوْلُهُ: ﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها﴾ أيْ عَلَّمَهُ صِفاتِ الأشْياءِ ونُعُوتَها وخَواصَّها، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ الِاسْمَ اشْتِقاقُهُ إمّا مِنَ السِّمَةِ أوْ مِنَ السُّمُوِّ، فَإنْ كانَ مِنَ السِّمَةِ كانَ الِاسْمُ هو العَلامَةَ، وصِفاتُ الأشْياءِ ونُعُوتُها وخَواصُّها دالَّةٌ عَلى ماهِيّاتِها، فَصَحَّ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الأسْماءِ: الصِّفاتُ، وإنْ كانَ مِنَ السُّمُوِّ فَكَذَلِكَ؛ لِأنَّ دَلِيلَ الشَّيْءِ كالمُرْتَفِعِ عَلى ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَإنَّ العِلْمَ بِالدَّلِيلِ حاصِلٌ قَبْلَ العِلْمِ بِالمَدْلُولِ، فَكانَ الدَّلِيلُ أسْمى في الحَقِيقَةِ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا امْتِناعَ في اللُّغَةِ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الِاسْمِ الصِّفَةُ، بَقِيَ أنَّ أهْلَ النَّحْوِ خَصَّصُوا لَفْظَ الِاسْمِ بِالألْفاظِ المَخْصُوصَةِ، ولَكِنَّ ذَلِكَ عُرْفٌ حادِثٌ لا اعْتِبارَ بِهِ، وإذا ثَبَتَ أنَّ هَذا التَّفْسِيرَ مُمْكِنٌ بِحَسْبَ اللُّغَةِ وجَبَ أنْ يَكُونَ هو المُرادَ لا غَيْرُهُ، لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ الفَضِيلَةَ في مَعْرِفَةِ حَقائِقِ الأشْياءِ أكْثَرُ مِنَ الفَضِيلَةِ في مَعْرِفَةِ أسْمائِها، وحَمْلُ الكَلامِ المَذْكُورِ لِإظْهارِ الفَضِيلَةِ عَلى ما يُوجِبُ مَزِيدَ الفَضِيلَةِ أوْلى مِن حَمْلِهِ عَلى ما لَيْسَ كَذَلِكَ. وثانِيها: أنَّ التَّحَدِّيَ إنَّما يَجُوزُ ويَحْسُنُ بِما يَتَمَكَّنُ السّامِعُ مِن مِثْلِهِ في الجُمْلَةِ، فَإنَّ مَن كانَ عالِمًا بِاللُّغَةِ والفَصاحَةِ، يَحْسُنُ أنْ يَقُولَ لَهُ غَيْرُهُ عَلى سَبِيلِ التَّحَدِّي: ائْتِ بِكَلامٍ مِثْلِ كَلامِي في الفَصاحَةِ، أمّا العَرَبِيُّ فَلا يَحْسُنُ مِنهُ أنْ يَقُولَ لِلزَّنْجِيِّ في مَعْرِضِ التَّحَدِّي: تَكَلَّمْ بِلُغَتِي، وذَلِكَ لِأنَّ العَقْلَ لا طَرِيقَ لَهُ إلى مَعْرِفَةِ اللُّغاتِ البَتَّةَ: بَلْ ذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا بِالتَّعْلِيمِ، فَإنْ حَصَلَ التَّعْلِيمُ، حَصَلَ العِلْمُ بِهِ وإلّا فَلا، أمّا العِلْمُ بِحَقائِقِ الأشْياءِ، فالعَقْلُ مُتَمَكِّنٌ مِن تَحْصِيلِهِ فَصَحَّ وُقُوعُ التَّحَدِّي فِيهِ. القَوْلُ الثّانِي: وهو المَشْهُورُ، أنَّ المُرادَ أسْماءُ كُلِّ ما خَلَقَ اللَّهُ مِن أجْناسِ المُحْدَثاتِ مِن جَمِيعِ اللُّغاتِ المُخْتَلِفَةِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِها ولَدُ آدَمَ اليَوْمَ مِنَ العَرَبِيَّةِ والفارِسِيَّةِ والرُّومِيَّةِ وغَيْرِها، وكانَ ولَدُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَتَكَلَّمُونَ بِهَذِهِ اللُّغاتِ، فَلَمّا ماتَ آدَمُ وتَفَرَّقَ ولَدُهُ في نَواحِي العالَمِ تَكَلَّمَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم بِلُغَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِن تِلْكَ اللُّغاتِ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ اللِّسانُ، فَلَمّا طالَتِ المُدَّةُ وماتَ مِنهم قَرْنٌ بَعْدَ قَرْنٍ نَسُوا سائِرَ اللُّغاتِ، فَهَذا هو السَّبَبُ في تَغَيُّرِ الألْسِنَةِ في ولَدِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. قالَ أهْلُ المَعانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ﴾ لا بُدَّ فِيهِ مِن إضْمارٍ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ وعَلَّمَ آدَمَ أسْماءَ المُسَمَّياتِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ وعَلَّمَ آدَمَ مُسَمَّياتِ الأسْماءِ، قالُوا: لَكِنَّ الأوَّلَ أوْلى؛ لِقَوْلِهِ: ﴿أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَؤُلاءِ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا أنْبَأهم بِأسْمائِهِمْ﴾ [البَقَرَةِ: ٣٣] ولَمْ يَقُلْ: أنْبِئُونِي بِهَؤُلاءِ وأنْبَأهم بِهِمْ، فَإنْ قِيلَ: فَلَمّا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعالى أنْواعَ جَمِيعِ المُسَمَّياتِ، وكانَ في المُسَمَّياتِ ما لا يَكُونُ عاقِلًا، فَلِمَ قالَ عَرَضَهم ولَمْ يَقُلْ عَرَضَها ؟ قُلْنا: لِأنَّهُ لَمّا كانَ في جُمْلَتِها المَلائِكَةُ والإنْسُ والجِنُّ وهُمُ العُقَلاءُ، فَغُلِّبَ الأكْمَلُ؛ لِأنَّهُ جَرَتْ عادَةُ العَرَبِ بِتَغْلِيبِ الكامِلِ عَلى النّاقِصِ كُلَّما غَلَّبُوا. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: مِنَ النّاسِ مَن تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَؤُلاءِ﴾ عَلى جَوازِ تَكْلِيفِ ما لا يُطاقُ وهو ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى إنَّما اسْتَنْبَأهم مَعَ عِلْمِهِ تَعالى بِعَجْزِهِمْ عَلى سَبِيلِ التَّبْكِيتِ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ . (p-١٦٣)المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: إنَّ ما ظَهَرَ مِن آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن عِلْمِهِ بِالأسْماءِ مُعْجِزَةٌ دالَّةٌ عَلى نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ في ذَلِكَ الوَقْتِ، والأقْرَبُ أنَّهُ كانَ مَبْعُوثًا إلى حَوّاءَ، ولا يَبْعُدُ أيْضًا أنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا إلى مَن تَوَجَّهَ التَّحَدِّي إلَيْهِمْ مِنَ المَلائِكَةِ؛ لِأنَّ جَمِيعَهم وإنْ كانُوا رُسُلًا فَقَدْ يَجُوزُ الإرْسالُ إلى الرَّسُولِ كَبِعْثَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأنَّ حُصُولَ ذَلِكَ العِلْمِ لَهُ ناقِضٌ لِلْعادَةِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مُعْجِزًا، وإذا ثَبَتَ كَوْنُهُ مُعْجِزًا ثَبَتَ كَوْنُهُ رَسُولًا في ذَلِكَ الوَقْتِ، ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ لا نُسَلِّمُ أنَّ ذَلِكَ العِلْمَ ناقِضٌ لِلْعادَةِ؛ لِأنَّ حُصُولَ العِلْمِ بِاللُّغَةِ لِمَن عَلَّمَهُ تَعالى، وعَدَمَ حُصُولِهِ لِمَن لَمْ يُعَلِّمْهُ اللَّهُ لَيْسَ بِناقِضٍ لِلْعادَةِ، وأيْضًا فَإمّا أنْ يُقالَ: المَلائِكَةُ عَلِمُوا كَوْنَ تِلْكَ الأسْماءِ مَوْضُوعَةً لِتِلْكَ المُسَمَّياتِ أوْ ما عَلِمُوا ذَلِكَ، فَإنْ عَلِمُوا ذَلِكَ فَقَدْ قَدَرُوا عَلى أنْ يَذْكُرُوا أسْماءَ تِلْكَ المُسَمَّياتِ، فَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ المُعارَضَةُ ولا تَظْهَرُ المَزِيَّةُ والفَضِيلَةُ، وإنْ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ فَكَيْفَ عَرَفُوا أنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أصابَ فِيما ذَكَرَ مِن كَوْنِ كُلِّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الألْفاظِ اسْمًا لِكُلِّ واحِدٍ مِن تِلْكَ المُسَمَّياتِ ؟ واعْلَمْ أنَّهُ يُمْكِنُ دَفْعُ هَذا السُّؤالِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: رُبَّما كانَ لِكُلِّ صِنْفٍ مِن أصْنافِ المَلائِكَةِ لُغَةٌ مِن هَذِهِ اللُّغاتِ، وكانَ كُلُّ صِنْفٍ جاهِلًا بِلُغَةِ الصِّنْفِ الآخَرِ، ثُمَّ إنَّ جَمِيعَ أصْنافِ المَلائِكَةِ حَضَرُوا، وإنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَدَّ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ تِلْكَ اللُّغاتِ بِأسْرِها، فَعَرَفَ كُلُّ صِنْفٍ إصابَتَهُ في تِلْكَ اللُّغَةِ خاصَّةً، فَعَرَفُوا بِهَذا الطَّرِيقِ صِدْقَهُ إلّا أنَّهم بِأسْرِهِمْ عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَةِ تِلْكَ اللُّغاتِ بِأسْرِها، فَكانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا. الثّانِي: لا يَمْتَنِعُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى عَرَّفَهم قَبْلَ أنْ يَسْمَعُوا مِن آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ تِلْكَ الأسْماءَ ما اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلى صِدْقِ آدَمَ، فَلَمّا سَمِعُوا مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ تِلْكَ الأسْماءَ عَرَفُوا صِدْقَهُ فِيها، فَعَرَفُوا كَوْنَهُ مُعْجِزًا، سَلَّمْنا أنَّهُ ظَهَرَ عَلَيْهِ فِعْلٌ خارِقٌ لِلْعادَةِ فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن بابِ الكَراماتِ، أوْ مِن بابِ الإرْهاصِ وهُما عِنْدَنا جائِزانِ، وحِينَئِذٍ يَصِيرُ الكَلامُ في هَذِهِ المَسْألَةِ فَرْعًا عَلى الكَلامِ فِيهِما، واحْتَجَّ مَن قَطَعَ بِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ما كانَ نَبِيًّا في ذَلِكَ الوَقْتِ بِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ لَوْ كانَ نَبِيًّا في ذَلِكَ الزَّمانِ لَكانَ قَدْ صَدَرَتِ المَعْصِيَةُ عَنْهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ، فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ نَبِيًّا في ذَلِكَ الزَّمانِ، أمّا المُلازَمَةُ فَلِأنَّ صُدُورَ الزَّلَّةِ عَنْهُ كانَ بَعْدَ هَذِهِ الواقِعَةِ بِالِاتِّفاقِ، وتِلْكَ الزَّلَّةُ مِن بابِ الكَبائِرِ عَلى ما سَيَأْتِي شَرْحُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، والإقْدامُ عَلى الكَبِيرَةِ يُوجِبُ اسْتِحْقاقَ الطَّرْدِ والتَّحْقِيرِ واللَّعْنِ، وكُلُّ ذَلِكَ عَلى الأنْبِياءِ غَيْرُ جائِزٍ فَيَجِبُ أنْ يُقالَ: وقَعَتْ تِلْكَ الواقِعَةُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ. وثانِيها: لَوْ كانَ رَسُولًا في ذَلِكَ الوَقْتِ لَكانَ إمّا أنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا إلى أحَدٍ أوْ لا يَكُونُ، فَإنْ كانَ مَبْعُوثًا إلى أحَدٍ، فَإمّا أنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا إلى المَلائِكَةِ أوِ الإنْسِ أوِ الجِنِّ، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّ المَلائِكَةَ عِنْدَ المُعْتَزِلَةِ أفْضَلُ مِنَ البَشَرِ، ولا يَجُوزُ جَعْلُ الأدْوَنِ رَسُولًا إلى الأشْرَفِ؛ لِأنَّ الرَّسُولَ [قائِدٌ] والأُمَّةَ تَبَعٌ، وجَعْلُ الأدْوَنِ مَتْبُوعَ الأشْرَفِ خِلافُ الأصْلِ، وأيْضًا فالمَرْءُ إلى قَبُولِ القَوْلِ مِمَّنْ هو مِن جِنْسِهِ أمْكَنُ؛ ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا﴾ [الأنْعامِ: ٩] ولا جائِزَ أنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا إلى البَشَرِ؛ لِأنَّهُ ما كانَ هُناكَ أحَدٌ مِنَ البَشَرِ إلّا حَوّاءَ، وإنَّ حَوّاءَ إنَّما عَرَفَتِ التَّكْلِيفَ لا بِواسِطَةِ آدَمَ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَقْرَبا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ [البَقَرَةِ: ٣٥] شافَهَهُما بِهَذا التَّكْلِيفِ، وما جَعَلَ آدَمَ واسِطَةً، ولا جائِزَ أنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا إلى الجِنِّ؛ لِأنَّهُ ما كانَ في السَّماءِ أحَدٌ مِنَ الجِنِّ، ولا جائِزَ أيْضًا أنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا إلى أحَدٍ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ مِن جَعْلِهِ رَسُولا التَّبْلِيغُ فَحَيْثُ لا مُبَلَّغَ لَمْ يَكُنْ (p-١٦٤)فِي جَعْلِهِ رَسُولًا فائِدَةٌ، وهَذا الوَجْهُ لَيْسَ في غايَةِ القُوَّةِ. وثالِثُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ﴾ [طَهَ: ١٢٢] فَهَذِهِ الآيَةُ دَلَّتْ عَلى أنَّهُ تَعالى إنَّما اجْتَباهُ بَعْدَ الزَّلَّةِ فَوَجَبَ أنْ يُقالَ: إنَّهُ قَبْلَ الزَّلَّةِ ما كانَ مُجْتَبًى، وإذا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الوَقْتَ مُجْتَبًى وجَبَ أنْ لا يَكُونَ رَسُولًا؛ لِأنَّ الرِّسالَةَ والِاجْتِباءَ مُتَلازِمانِ؛ لِأنَّ الِاجْتِباءَ لا مَعْنى لَهُ إلّا التَّخْصِيصُ بِأنْواعِ التَّشْرِيفاتِ، وكُلُّ مَن جَعَلَهُ اللَّهُ رَسُولًا فَقَدْ خَصَّهُ بِذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ [الأنْعامِ: ١٢٤] . * * * المَسْألَةُ الخامِسَةُ: ذَكَرُوا في قَوْلِهِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ وُجُوهًا: أحَدُها: مَعْناهُ أعْلِمُونِي أسْماءَ هَؤُلاءِ إنْ عَلِمْتُمْ أنَّكم تَكُونُونَ صادِقِينَ في ذَلِكَ الإعْلامِ. وثانِيها: مَعْناهُ أخْبِرُونِي ولا تَقُولُوا إلّا حَقًّا وصِدْقًا، فَيَكُونُ الغَرَضُ مِنهُ التَّوْكِيدَ لِما نَبَّهَهم عَلَيْهِ مِنَ القُصُورِ والعَجْزِ؛ لِأنَّهُ مَتى تَمَكَّنَ في أنْفُسِهِمُ العِلْمُ بِأنَّهم إنْ أخْبَرُوا لَمْ يَكُونُوا صادِقِينَ ولا لَهم إلَيْهِ سَبِيلٌ عَلِمُوا أنَّ ذَلِكَ مُتَعَذَّرٌ عَلَيْهِمْ. وثالِثُها: إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قَوْلِكم أنَّهُ لا شَيْءَ مِمّا يَتَعَبَّدُ بِهِ الخَلْقُ إلّا وأنْتُمْ تَصْلُحُونَ [لَهُ]، وتَقُومُونَ بِهِ وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ مَسْعُودٍ. ورابِعُها: إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قَوْلِكم أنِّي لَمْ أخْلُقْ خَلْقًا إلّا كُنْتُمْ أعْلَمَ مِنهُ فَأخْبِرُونِي بِأسْماءِ هَؤُلاءِ. * * * المَسْألَةُ السّادِسَةُ: هَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى فَضْلِ العِلْمِ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ ما أظْهَرَ كَمالَ حِكْمَتِهِ في خَلْقِهِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إلّا بِأنْ أظْهَرَ عِلْمَهُ، فَلَوْ كانَ في الإمْكانِ وُجُودُ شَيْءٍ أشْرَفَ مِنَ العِلْمِ لَكانَ مِنَ الواجِبِ إظْهارُ فَضْلِهِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ لا بِالعِلْمِ، واعْلَمْ أنَّهُ يَدُلُّ عَلى فَضِيلَةِ العِلْمِ الكِتابُ والسُّنَّةُ والمَنقُولُ، أمّا الكِتابُ فَوُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى سَمّى العِلْمَ بِالحِكْمَةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى عَظَّمَ أمْرَ الحِكْمَةِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى عِظَمِ شَأْنِ العِلْمِ. بَيانُ أنَّهُ تَعالى سَمّى العِلْمَ بِالحِكْمَةِ ما يُرْوى عَنْ مُقاتِلٍ أنَّهُ قالَ: تَفْسِيرُ الحِكْمَةِ في القُرْآنِ عَلى أرْبَعَةِ أوْجُهٍ: أحَدُها: مَواعِظُ القُرْآنِ، قالَ في البَقَرَةِ: ﴿وما أنْزَلَ عَلَيْكم مِنَ الكِتابِ والحِكْمَةِ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٣١] يَعْنِي مَواعِظَ القُرْآنِ، وفي النِّساءِ: ﴿وأنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ﴾ [النِّساءِ: ١١٣] يَعْنِي المَواعِظَ، ومِثْلُها في آلِ عِمْرانَ. وثانِيها: الحِكْمَةُ بِمَعْنى الفَهْمِ والعِلْمِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ١٢] وفي لُقْمانَ: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الحِكْمَةَ﴾ [لُقْمانَ: ١٢] يَعْنِي الفَهْمَ والعِلْمَ، وفي الأنْعامِ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ والحُكْمَ﴾ [الأنْعامِ: ٨٩] . وثالِثُها: الحِكْمَةُ بِمَعْنى النُّبُوَّةِ في النِّساءِ: ﴿فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ﴾ [النِّساءِ: ٥٤] يَعْنِي النُّبُوَّةَ وفي ص: ﴿وآتَيْناهُ الحِكْمَةَ﴾ [ص: ٢٠] يَعْنِي النُّبُوَّةَ، وفي البَقَرَةِ: ﴿وآتاهُ اللَّهُ المُلْكَ والحِكْمَةَ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٥١] . ورابِعُها: القُرْآنُ في النَّحْلِ: ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٥] وفي البَقَرَةِ: ﴿ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البَقَرَةِ: ٢٦٩] . وجَمِيعُ هَذِهِ الوُجُوهِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ تَرْجِعُ إلى العِلْمِ، ثُمَّ تَفَكَّرْ أنَّ اللَّهَ تَعالى ما أعْطى مِنَ العِلْمِ إلّا القَلِيلَ قالَ: ﴿وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا﴾ [الإسْراءِ: ٨٥] وسَمّى الدُّنْيا بِأسْرِها قَلِيلًا ﴿قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ﴾ [النِّساءِ: ٧٧] فَما سَمّاهُ قَلِيلًا لا يُمْكِنُنا أنْ نُدْرِكَ كَمِّيَّتَهُ فَما ظَنُّكَ بِما سَمّاهُ كَثِيرًا، ثُمَّ البُرْهانُ العَقْلِيُّ عَلى قِلَّةِ الدُّنْيا وكَثْرَةِ الحِكْمَةِ أنَّ الدُّنْيا مُتَناهِي القَدْرِ مُتَناهِي العَدَدِ مُتَناهِي المُدَّةِ، والعِلْمُ لا نِهايَةَ لِقَدْرِهِ وعَدَدِهِ ومُدَّتِهِ، ولا لِلسِّعاداتِ الحاصِلَةِ مِنهُ، وذَلِكَ يُنَبِّهُكَ عَلى فَضِيلَةِ العِلْمِ. الثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزُّمَرِ: ٩] وقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ سَبْعِ نَفَرٍ (p-١٦٥)فِي كِتابِهِ، فَرَّقَ بَيْنَ الخَبِيثِ والطَّيِّبِ فَقالَ: ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الخَبِيثُ والطَّيِّبُ﴾ [المائِدَةِ: ١٠٠] يَعْنِي الحَلالَ والحَرامَ، وفَرَّقَ بَيْنَ الأعْمى والبَصِيرِ، فَقالَ: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمى والبَصِيرُ﴾ [الرَّعْدِ: ١٦] وفَرَّقَ بَيْنَ النُّورِ والظُّلْمَةِ فَقالَ: ﴿أمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ والنُّورُ﴾ [الرَّعْدِ: ١٦] وفَرَّقَ بَيْنَ الجَنَّةِ والنّارِ، وبَيْنَ الظِّلِّ والحَرُورِ، وإذا تَأمَّلْتَ وجَدْتَ كُلَّ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنَ الفَرْقِ بَيْنَ العالِمِ والجاهِلِ. الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿أطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنكُمْ﴾ [النِّساءِ: ٥٩] والمُرادُ مِن أُولِي الأمْرِ العُلَماءُ في أصَحِّ الأقْوالِ؛ لِأنَّ المُلُوكَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ طاعَةُ العُلَماءِ ولا يَنْعَكِسُ، ثُمَّ انْظُرْ إلى هَذِهِ المَرْتَبَةِ فَإنَّهُ تَعالى ذَكَرَ العالِمِ في مَوْضِعَيْنِ مِن كِتابِهِ في المَرْتَبَةِ الثّانِيَةِ قالَ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو والمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٨]، وقالَ: ﴿أطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنكُمْ﴾ [النِّساءِ: ٥٩] ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى زادَ في الإكْرامِ فَجَعَلَهم في المَرْتَبَةِ الأُولى في آيَتَيْنِ، فَقالَ تَعالى: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٧] وقالَ: ﴿قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكم ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ [الرَّعْدِ: ٤٣] . الرّابِعُ: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكم والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ﴾ [المُجادَلَةِ: ١١] واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ الدَّرَجاتِ لِأرْبَعَةِ أصْنافٍ: أوَّلُها: لِلْمُؤْمِنِينَ مِن أهْلِ بَدْرٍ قالَ: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنْفالِ: ٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿لَهم دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الأنْفالِ: ٤] . والثّانِيَةُ: لِلْمُجاهِدِينَ قالَ: ﴿وفَضَّلَ اللَّهُ المُجاهِدِينَ عَلى القاعِدِينَ﴾ [النِّساءِ: ٩٥] . والثّالِثَةُ: لِلصّالِحِينَ قالَ: ﴿ومَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ العُلا﴾ [طَهَ: ٧٥] . الرّابِعَةُ: لِلْعُلَماءِ، قالَ: ﴿والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ﴾ [المُجادَلَةِ: ١١] واللَّهُ فَضَّلَ أهْلَ بَدْرٍ عَلى غَيْرِهِمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِدَرَجاتٍ، وفَضَّلَ المُجاهِدِينَ عَلى القاعِدِينَ بِدَرَجاتٍ، وفَضَّلَ الصّالِحِينَ عَلى هَؤُلاءِ بِدَرَجاتٍ، ثُمَّ فَضَّلَ العُلَماءَ عَلى جَمِيعِ الأصْنافِ بِدَرَجاتٍ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ العُلَماءُ أفْضَلَ النّاسِ. الخامِسُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾ [فاطِرٍ: ٢٨] فَإنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَ العُلَماءَ في كِتابِهِ بِخَمْسِ مَناقِبَ، أحَدُها: الإيمانُ ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٧] . وثانِيها: التَّوْحِيدُ والشَّهادَةُ ﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٨] إلى قَوْلِهِ: ﴿وأُولُو العِلْمِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٨] . وثالِثُها: البُكاءُ ﴿ويَخِرُّونَ لِلْأذْقانِ يَبْكُونَ﴾ [الإسْراءِ: ١٠٩] . ورابِعُها: الخُشُوعُ ﴿إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ﴾ [الإسْراءِ: ١٠٧] الآيَةَ. وخامِسُها: الخَشْيَةُ ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾ [فاطِرٍ: ٢٨] أمّا الأخْبارُ فَوُجُوهٌ: أحَدُها: رَوى ثابِتٌ عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”«مَن أحَبَّ أنْ يَنْظُرَ إلى عُتَقاءِ اللَّهِ مِنَ النّارِ فَلْيَنْظُرْ إلى المُتَعَلِّمِينَ، فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما مِن مُتَعَلِّمٍ يَخْتَلِفُ إلى بابِ عالِمٍ إلّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ عِبادَةَ سَنَةٍ، وبَنى لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ مَدِينَةً في الجَنَّةِ، ويَمْشِي عَلى الأرْضِ والأرْضُ تَسْتَغْفِرُ لَهُ، ويُمْسِي ويُصْبِحُ مَغْفُورًا لَهُ، وشَهِدَتِ المَلائِكَةُ لَهم بِأنَّهم عُتَقاءُ اللَّهِ مِنَ النّارِ» “ . وثانِيها: عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«مَن طَلَبَ العِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيا حَتّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ العِلْمُ، فَيَكُونَ لِلَّهِ، ومَن طَلَبَ العِلْمَ لِلَّهِ فَهو كالصّائِمِ نَهارَهُ وكالقائِمِ لَيْلَهُ، وإنَّ بابًا مِنَ العِلْمِ يَتَعَلَّمُهُ الرَّجُلُ خَيْرٌ مِن (p-١٦٦)أنْ يَكُونَ لَهُ أبُو قُبَيْسٍ ذَهَبًا فَيُنْفِقَهُ في سَبِيلِ اللَّهِ» “ . وثالِثُها: عَنِ الحَسَنِ مَرْفُوعًا ”«مَن جاءَهُ المَوْتُ وهو يَطْلُبُ العِلْمَ لِيُحْيِيَ بِهِ الإسْلامَ كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الأنْبِياءِ دَرَجَةٌ واحِدَةٌ في الجَنَّةِ» “ . ورابِعُها: أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ مَرْفُوعًا ”«يَبْعَثُ اللَّهُ العِبادَ يَوْمَ القِيامَةِ ثُمَّ يُمَيِّزُ العُلَماءَ فَيَقُولُ: يا مَعْشَرَ العُلَماءِ، إنِّي لَمْ أضَعْ نُورِي فِيكم إلّا لِعِلْمِي بِكم، ولَمْ أضَعْ عِلْمِي فِيكم لِأُعَذِّبَكم، انْطَلِقُوا فَقَدْ غَفَرْتُ لَكم» “ . وخامِسُها: قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«مُعَلِّمُ الخَيْرِ إذا ماتَ بَكى عَلَيْهِ طَيْرُ السَّماءِ ودَوابُّ الأرْضِ وحِيتانُ البُحُورِ» “ . وسادِسُها: أبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ”«مَن صَلّى خَلْفَ عالِمٍ مِنَ العُلَماءِ فَكَأنَّما صَلّى خَلْفَ نَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياءِ» “ . وسابِعُها: ابْنُ عُمَرَ مَرْفُوعًا ”«فُضِّلَ العالِمُ عَلى العابِدِ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً بَيْنَ كُلِّ دَرَجَةٍ عَدْوُ الفَرَسِ سَبْعِينَ عامًا، وذَلِكَ أنَّ الشَّيْطانَ يَضَعُ البِدْعَةَ لِلنّاسِ فَيُبْصِرُها العالِمُ فَيُزِيلُها، والعابِدُ يُقْبِلُ عَلى عِبادَتِهِ لا يَتَوَجَّهُ ولا يَتَعَرَّفُ لَها» “ . وثامِنُها: الحَسَنُ مَرْفُوعًا، قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«رَحْمَةُ اللَّهِ عَلى خُلَفائِي، فَقِيلَ: مَن خُلَفاؤُكَ يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قالَ: الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي ويُعَلِّمُونَها عِبادَ اللَّهِ» “ . وتاسِعُها: قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«مَن خَرَجَ يَطْلُبُ بابًا مِنَ العِلْمِ لِيَرُدَّ بِهِ باطِلًا إلى حَقٍّ أوْ ضَلالًا إلى هُدًى كانَ عَمَلُهُ كَعِبادَةِ أرْبَعِينَ عامًا» “ . وعاشِرُها: قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِعَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ إلى اليَمَنِ ”«لَأنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِمّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أوْ تَغْرُبُ» “ . الحادِيَ عَشَرَ: ابْنُ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا ”«مَن طَلَبَ العِلْمَ لِيُحَدِّثَ بِهِ النّاسَ ابْتِغاءَ وجْهِ اللَّهِ أعْطاهُ أجْرَ سَبْعِينَ نَبِيًّا» “ . الثّانِي عَشَرَ: عامِرٌ الجُهَنِيُّ مَرْفُوعًا ”«يُؤْتى بِمِدادِ طالِبِ العِلْمِ ودَمِ الشَّهِيدِ يَوْمَ القِيامَةِ لا يُفَضَّلُ أحَدُهُما عَلى الآخَرِ» “ وفي رِوايَةٍ «فَيُرَجَّحُ مِدادُ العُلَماءِ» . الثّالِثَ عَشَرَ: أبُو واقِدٍ اللَّيْثِيُّ: ”«أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بَيْنَما هو جالِسٌ والنّاسُ مَعَهُ إذْ أقْبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ أمّا أحَدُهم فَرَأى فُرْجَةً في الحَلْقَةِ فَجَلَسَ إلَيْها، وأمّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهم، وأمّا الثّالِثُ فَإنَّهُ رَجَعَ وفَرَّ، فَلَمّا فَرَغَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن كَلامِهِ قالَ: أُخْبِرُكم عَنِ النَّفَرِ الثَّلاثَةِ، أمّا الأوَّلُ: فَآوى إلى اللَّهِ فَآواهُ اللَّهُ، وأمّا الثّانِي: فاسْتَحْيا مِنَ اللَّهِ فاسْتَحْيا اللَّهُ مِنهُ، وأمّا الثّالِثُ: فَأعْرَضَ عَنِ اللَّهِ فَأعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ» “ رَواهُ مُسْلِمٌ. * * * وأمّا الآثارُ فَمِن وُجُوهٍ: (أ) العالِمُ أرْأفُ بِالتِّلْمِيذِ مِنَ الأبِ والأُمِّ؛ لِأنَّ الآباءَ والأُمَّهاتِ يَحْفَظُونَهُ مِن نارِ الدُّنْيا وآفاتِها، والعُلَماءُ يَحْفَظُونَهُ مِن نارِ الآخِرَةِ وشَدائِدِها. (ب) قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: بِمَ وجَدْتَ هَذا العِلْمَ ؟ قالَ: بِلِسانٍ سَئُولٍ، وقَلْبٍ عَقُولٍ. (ج) قالَ بَعْضُهم: سَلْ مَسْألَةَ الحَمْقى، واحْفَظْ حِفْظَ الأكْياسِ. (د) مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ قالَ لِابْنِهِ: يا بُنَيَّ تَعَلَّمِ العِلْمَ فَإنْ كانَ لَكَ مالٌ كانَ العِلْمُ لَكَ جَمالًا، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ مالٌ كانَ العِلْمُ لَكَ مالًا. (ه) قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ: لا خَيْرَ في الصَّمْتِ عَنِ العِلْمِ كَما لا خَيْرَ في الكَلامِ عَنِ الجَهْلِ. (و) قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: العُلَماءُ ثَلاثَةٌ عالِمٌ (p-١٦٧)بِاللَّهِ غَيْرُ عالِمٍ بِأمْرِ اللَّهِ، وعالِمٌ بِأمْرِ اللَّهِ غَيْرُ عالِمٍ بِاللَّهِ، وعالِمٌ بِاللَّهِ وبِأمْرِ اللَّهِ. أمّا الأوَّلُ: فَهو عَبْدٌ قَدِ اسْتَوْلَتِ المَعْرِفَةُ الإلَهِيَّةُ عَلى قَلْبِهِ، فَصارَ مُسْتَغْرِقًا بِمُشاهَدَةِ نُورِ الجَلالِ وصَفَحاتِ الكِبْرِياءِ، فَلا يَتَفَرَّغُ لِتَعَلُّمِ عِلْمِ الأحْكامِ إلّا ما لا بُدَّ مِنهُ. الثّانِي: هو الَّذِي يَكُونُ عالِمًا بِأمْرِ اللَّهِ وغَيْرَ عالِمٍ بِاللَّهِ وهو الَّذِي عَرَفَ الحَلالَ والحَرامَ وحَقائِقَ الأحْكامِ لَكِنَّهُ لا يَعْرِفُ أسْرارَ جَلالِ اللَّهِ. أمّا العالِمُ بِاللَّهِ وبِأحْكامِ اللَّهِ فَهو جالِسٌ عَلى الحَدِّ المُشْتَرَكِ بَيْنَ عالَمِ المَعْقُولاتِ وعالَمِ المَحْسُوساتِ فَهو تارَةً مَعَ اللَّهِ بِالحُبِّ لَهُ، وتارَةً مَعَ الخَلْقِ بِالشَّفَقَةِ والرَّحْمَةِ، فَإذا رَجَعَ مِن رَبِّهِ إلى الخَلْقِ صارَ مَعَهم كَواحِدٍ مِنهم كَأنَّهُ لا يَعْرِفُ اللَّهَ، وإذا خَلا بِرَبِّهِ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِهِ وخِدْمَتِهِ فَكَأنَّهُ لا يَعْرِفُ الخَلْقَ، فَهَذا سَبِيلُ المُرْسَلِينَ والصِّدِّيقِينَ، وهَذا هو المُرادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«سائِلِ العُلَماءَ، وخالِطِ الحُكَماءَ، وجالِسِ الكُبَراءَ» “ فالمُرادُ مِن قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «سائِلِ العُلَماءَ» أيِ العُلَماءَ بِأمْرِ اللَّهِ غَيْرَ العالِمِينَ بِاللَّهِ، فَأمَرَ بِمُساءَلَتِهِمْ عِنْدَ الحاجَةِ إلى اللَّهِ اسْتِفْتاءً مِنهم، وأمّا الحُكَماءُ فَهُمُ العالِمُونَ بِاللَّهِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أوامِرَ اللَّهِ فَأمَرَ بِمُخالَطَتِهِمْ، وأمّا الكُبَراءُ فَهُمُ العالِمُونَ بِاللَّهِ وبِأحْكامِ اللَّهِ فَأمَرَ بِمُجالَسَتِهِمْ؛ لِأنَّ في تِلْكَ المُجالَسَةِ مَنافِعَ الدُّنْيا والآخِرَةِ، ثُمَّ قالَ شَقِيقٌ البَلْخِيُّ: لِكُلِّ واحِدٍ مِن هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ ثَلاثُ عَلاماتٍ، أمّا العالِمُ بِأمْرِ اللَّهِ فَلَهُ ثَلاثُ عَلاماتٍ: أنْ يَكُونَ ذاكِرًا بِاللِّسانِ دُونَ القَلْبِ، وأنْ يَكُونَ خائِفًا مِنَ الخَلْقِ دُونَ الرَّبِّ، وأنْ يَسْتَحْيِيَ مِنَ النّاسِ في الظّاهِرِ ولا يَسْتَحْيِيَ مِنَ اللَّهِ في السِّرِّ، وأمّا العالِمُ بِاللَّهِ فَإنَّهُ يَكُونُ ذاكِرًا خائِفًا مُسْتَحْيِيًا. أمّا الذِّكْرُ فَذِكْرُ القَلْبِ لا ذِكْرُ اللِّسانِ، وأمّا الخَوْفُ فَخَوْفُ الرِّياءِ لا خَوْفُ المَعْصِيَةِ، وأمّا الحَياءُ فَحَياءُ ما يَخْطُرُ عَلى القَلْبِ لا حَياءُ الظّاهِرِ، وأمّا العالِمُ بِاللَّهِ وبِأمْرِ اللَّهِ فَلَهُ سِتَّةُ أشْياءَ، الثَّلاثَةُ الَّتِي ذَكَرْناها لِلْعالِمِ بِاللَّهِ فَقَطْ مَعَ ثَلاثَةٍ أُخْرى: كَوْنُهُ جالِسًا عَلى الحَدِّ المُشْتَرَكِ بَيْنَ عالَمِ الغَيْبِ وعالَمِ الشَّهادَةِ، وكَوْنُهُ مُعَلِّمًا لِلْقِسْمَيْنِ الأوَّلَيْنِ، وكَوْنُهُ بِحَيْثُ يَحْتاجُ الفَرِيقانِ الأوَّلانِ إلَيْهِ وهو يَسْتَغْنِي عَنْهُما، ثُمَّ قالَ: مَثَلُ العالِمِ بِاللَّهِ وبِأمْرِ اللَّهِ كَمَثَلِ الشَّمْسِ لا يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ، ومَثَلُ العالِمِ بِاللَّهِ فَقَطْ، كَمَثَلِ القَمَرِ يَكْمُلُ تارَةً ويَنْقُصُ تارَةً أُخْرى، ومَثَلُ العالِمِ بِأمْرِ اللَّهِ فَقَطْ، كَمَثَلِ السِّراجِ يُحْرِقُ نَفْسَهُ ويُضِيءُ لِغَيْرِهِ. (ز) قالَ فَتْحٌ المَوْصِلِيُّ: ألَيْسَ المَرِيضُ إذا امْتَنَعَ عَنْهُ الطَّعامُ والشَّرابُ والدَّواءُ يَمُوتُ ؟ فَكَذا القَلْبُ إذا امْتَنَعَ عَنْهُ العِلْمُ والفِكْرُ والحِكْمَةُ يَمُوتُ. (ح) قالَ شَقِيقٌ البَلْخِيُّ: النّاسُ يَقُومُونَ مِن مَجْلِسِي عَلى ثَلاثَةِ أصْنافٍ: كافِرٌ مَحْضٌ، ومُنافِقٌ مَحْضٌ، ومُؤْمِنٌ مَحْضٌ، وذَلِكَ لِأنِّي أُفَسِّرُ القُرْآنَ فَأقُولُ عَنِ اللَّهِ وعَنِ الرَّسُولِ فَمَن لا يُصَدِّقُنِي فَهو كافِرٌ مَحْضٌ، ومَن ضاقَ قَلْبُهُ مِنهُ فَهو مُنافِقٌ مَحْضٌ، ومِن نَدِمَ عَلى ما صَنَعَ، وعَزَمَ عَلى أنْ لا يُذْنِبَ كانَ مُؤْمِنًا مَحْضًا. وقالَ أيْضًا: ثَلاثَةٌ مِنَ النَّوْمِ يُبْغِضُها اللَّهُ تَعالى، وثَلاثَةٌ مِنَ الضَّحِكِ: النَّوْمُ بَعْدَ صَلاةِ الفَجْرِ وقَبْلَ صَلاةِ العَتَمَةِ، والنَّوْمُ في الصَّلاةِ، والنَّوْمُ عِنْدَ مَجْلِسِ الذِّكْرِ، والضَّحِكُ خَلْفَ الجِنازَةِ، والضَّحِكُ في المَقابِرِ، والضَّحِكُ في مَجْلِسِ الذِّكْرِ. (ط) قالَ بَعْضُهم في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رابِيًا﴾ [الرَّعْدِ: ١٧] السَّيْلُ هَهُنا العِلْمُ، شَبَّهَهُ اللَّهُ تَعالى بِالماءِ لِخَمْسِ خِصالٍ: أحَدُها: كَما أنَّ المَطَرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كَذَلِكَ العِلْمُ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ. والثّانِي: كَما أنَّ إصْلاحَ الأرْضِ بِالمَطَرِ فَإصْلاحُ الخَلْقِ بِالعِلْمِ. الثّالِثُ: كَما أنَّ الزَّرْعَ والنَّباتَ لا يَخْرُجُ بِغَيْرِ المَطَرِ كَذَلِكَ الأعْمالُ والطّاعاتُ لا تَخْرُجُ بِغَيْرِ العِلْمِ. والرّابِعُ: كَما أنَّ المَطَرَ فَرْعُ الرَّعْدِ والبَرْقِ كَذَلِكَ العِلْمُ فَإنَّهُ فَرْعُ الوَعْدِ والوَعِيدِ. الخامِسُ: كَما أنَّ المَطَرَ نافِعٌ وضارٌّ، كَذَلِكَ العِلْمُ نافِعٌ (p-١٦٨)وضارٌّ: نافِعٌ لِمَن عَمِلَ بِهِ ضارٌّ لِمَن لَمْ يَعْمَلْ بِهِ. (ي) كَمْ مِن مُذَكِّرٍ بِاللَّهِ ناسٍ لِلَّهِ، وكَمْ مِن مُخَوِّفٍ بِاللَّهِ جَرِيءٌ عَلى اللَّهِ، وكَمْ مِن مُقَرِّبٍ إلى اللَّهِ بَعِيدٌ عَنِ اللَّهِ، وكَمْ مِن داعٍ إلى اللَّهِ فارٌّ مِنَ اللَّهِ، وكَمْ مِن تالٍ كِتابَ اللَّهِ مُنْسَلِخٌ عَنْ آياتِ اللَّهِ. (يا) الدُّنْيا بُسْتانٌ زُيِّنَتْ بِخَمْسَةِ أشْياءَ: عِلْمُ العُلَماءِ، وعَدْلُ الأُمَراءِ، وعِبادَةُ العُبّادِ، وأمانَةُ التُّجّارِ، ونَصِيحَةُ المُحْتَرِفِينَ. فَجاءَ إبْلِيسُ بِخَمْسَةِ أعْلامٍ فَأقامَها بِجَنْبِ هَذِهِ الخَمْسِ جاءَ بِالحَسَدِ فَرَكَزَهُ في جَنْبِ العِلْمِ، وجاءَ بِالجَوْرِ فَرَكَزَهُ بِجَنْبِ العَدْلِ، وجاءَ بِالرِّياءِ فَرَكَزَهُ بِجَنْبِ العِبادَةِ، وجاءَ بِالخِيانَةِ فَرَكَزَها بِجَنْبِ الأمانَةِ، وجاءَ بِالغِشِّ فَرَكَزَهُ بِجَنْبِ النَّصِيحَةِ. (يب) فُضِّلَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ عَلى التّابِعِينَ بِخَمْسَةِ أشْياءَ: أوَّلُها: لَمْ يَأْمُرْ أحَدًا بِشَيْءٍ حَتّى عَمِلَهُ. والثّانِي: لَمْ يَنْهَ أحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتّى انْتَهى عَنْهُ. والثّالِثُ: كُلُّ مَن طَلَبَ مِنهُ شَيْئًا مِمّا رَزَقَهُ اللَّهُ تَعالى لَمْ يَبْخَلْ بِهِ مِنَ العِلْمِ والمالِ. والرّابِعُ: كانَ يَسْتَغْنِي بِعِلْمِهِ عَنِ النّاسِ، والخامِسُ: كانَتْ سَرِيرَتُهُ وعَلانِيَتُهُ سَواءً. (يج) إذا أرَدْتَ أنْ تَعْلَمَ أنَّ عِلْمَكَ يَنْفَعُكَ أمْ لا فاطْلُبْ مِن نَفْسِكَ خَمْسَ خِصالٍ: حُبُّ الفَقْرِ لِقِلَّةِ المُؤْنَةِ، وحُبُّ الطّاعَةِ طَلَبًا لِلثَّوابِ، وحُبُّ الزُّهْدِ في الدُّنْيا طَلَبًا لِلْفَراغِ، وحُبُّ الحِكْمَةِ طَلَبًا لِصَلاحِ القَلْبِ، وحُبُّ الخَلْوَةِ طَلَبًا لِمُناجاةِ الرَّبِّ. (يد) اطْلُبْ خَمْسَةً في خَمْسَةٍ، الأوَّلُ: اطْلُبِ العِزَّ في التَّواضُعِ لا في المالِ والعَشِيرَةِ. والثّانِي: اطْلُبِ الغِنى في القَناعَةِ لا في الكَثْرَةِ. والثّالِثُ: اطْلُبِ الأمْنَ في الجَنَّةِ لا في الدُّنْيا. والرّابِعُ: اطْلُبِ الرّاحَةَ في القِلَّةِ لا في الكَثْرَةِ. والخامِسُ: اطْلُبْ مَنفَعَةَ العِلْمِ في العَمَلِ لا في كَثْرَةِ الرِّوايَةِ. (يه) قالَ ابْنُ المُبارَكِ: ما جاءَ فَسادُ هَذِهِ الأُمَّةِ إلّا مِن قِبَلِ الخَواصِّ وهم خَمْسَةٌ: العُلَماءُ، والغُزاةُ، والزُّهّادُ: والتُّجّارُ، والوُلاةُ. أمّا العُلَماءُ فَهم ورَثَةُ الأنْبِياءِ، وأمّا الزُّهّادُ فَعِمادُ أهْلِ الأرْضِ، وأمّا الغُزاةُ فَجُنْدُ اللَّهِ في الأرْضِ، وأمّا التُّجّارُ فَأُمَناءُ اللَّهِ في أرْضِهِ، وأمّا الوُلاةُ فَهُمُ الرُّعاةُ، فَإذا كانَ العالِمُ لِلدِّينِ واضِعًا ولِلْمالِ رافِعًا فَبِمَن يَقْتَدِي الجاهِلُ ؟ وإذا كانَ الزّاهِدُ في الدُّنْيا راغِبًا فَبِمَن يَقْتَدِي التّائِبُ ؟ وإذا كانَ الغازِي طامِعًا مُرائِيًا فَكَيْفَ يَظْفَرُ بِالعَدُوِّ ؟ وإذا كانَ التّاجِرُ خائِنًا فَكَيْفَ تَحْصُلُ الأمانَةُ ؟ وإذا كانَ الرّاعِي ذِئْبًا فَكَيْفَ تَحْصُلُ الرِّعايَةُ ؟ (يو) قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: العِلْمُ أفْضَلُ مِنَ المالِ بِسَبْعَةِ أوْجُهٍ: أوَّلُها: العِلْمُ مِيراثُ الأنْبِياءِ، والمالُ مِيراثُ الفَراعِنَةِ. الثّانِي: العِلْمُ لا يَنْقُصُ بِالنَّفَقَةِ والمالُ يَنْقُصُ. والثّالِثُ: يَحْتاجُ المالُ إلى الحافِظِ والعِلْمُ يَحْفَظُ صاحِبَهُ. والرّابِعُ: إذا ماتَ الرَّجُلُ يَبْقى مالُهُ والعِلْمُ يَدْخُلُ مَعَ صاحِبِهِ قَبْرَهُ. والخامِسُ: المالُ يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ والكافِرِ، والعِلْمُ لا يَحْصُلُ إلّا لِلْمُؤْمِنِ. والسّادِسُ: جَمِيعُ النّاسِ يَحْتاجُونَ إلى صاحِبِ العِلْمِ في أمْرِ دِينِهِمْ، ولا يَحْتاجُونَ إلى صاحِبِ المالِ. السّابِعُ: العِلْمُ يُقَوِّي الرَّجُلَ عَلى المُرُورِ عَلى الصِّراطِ، والمالُ يَمْنَعُهُ. (يز) قالَ الفَقِيهُ أبُو اللَّيْثِ: إنَّ مَن يَجْلِسُ عِنْدَ العالِمِ ولا يَقْدِرُ أنْ يَحْفَظَ مِن ذَلِكَ العِلْمِ شَيْئًا فَلَهُ سَبْعُ كَراماتٍ: أوَّلُها: يَنالُ فَضْلَ المُتَعَلِّمِينَ. والثّانِي: ما دامَ جالِسًا عِنْدَهُ كانَ مَحْبُوسًا عَنِ الذُّنُوبِ. والثّالِثُ: إذا خَرَجَ مِن مَنزِلِهِ طَلَبًا لِلْعِلْمِ نَزَلَتِ الرَّحْمَةُ عَلَيْهِ. والرّابِعُ: إذا جَلَسَ في حَلْقَةِ العِلْمِ فَإذا نَزَلَتِ الرَّحْمَةُ عَلَيْهِمْ حَصَلَ لَهُ مِنها نَصِيبٌ. والخامِسُ: ما دامَ يَكُونُ في الِاسْتِماعِ، تُكْتَبُ لَهُ طاعَةٌ. والسّادِسُ: إذا اسْتَمَعَ ولَمْ يَفْهَمْ ضاقَ قَلْبُهُ لِحِرْمانِهِ عَنْ إدْراكِ العِلْمِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ الغَمُّ وسِيلَةً لَهُ إلى حَضْرَةِ اللَّهِ تَعالى؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ”أنا عِنْدَ المُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهم لِأجْلِي“ . والسّابِعُ: يَرى إعْزازَ المُسْلِمِينَ لِلْعالِمِ وإذْلالَهم لِلْفُسّاقِ فَيُرَدُّ قَلْبُهُ (p-١٦٩)عَنِ الفِسْقِ ويَمِيلُ طَبْعُهُ إلى العِلْمِ؛ فَلِهَذا أمَرَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِمُجالَسَةِ الصّالِحِينَ. * * * (يح) قِيلَ: مِنَ العُلَماءِ مَن يَضِنُّ بِعِلْمِهِ، ولا يُحِبُّ أنْ يُوجَدَ عِنْدَ غَيْرِهِ فَذاكَ في الدَّرْكِ الأوَّلِ مِنَ النّارِ، ومِنَ العُلَماءِ مَن يَكُونُ في عِلْمِهِ بِمَنزِلَةِ السُّلْطانِ، فَإنْ رُدَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن حَقِّهِ غَضِبَ، فَذاكَ في الدَّرْكِ الثّانِي مِنَ النّارِ، ومِنَ العُلَماءِ مَن يَجْعَلُ حَدِيثَهُ وغَرائِبَ عِلْمِهِ لِأهْلِ الشَّرَفِ واليَسارِ، ولا يَرى الفُقَراءَ لَهُ أهْلًا، فَذاكَ في الدَّرْكِ الثّالِثِ مِنَ النّارِ، ومِنَ العُلَماءِ مَن كانَ مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ إنْ وعَظَ عَنَّفَ، وإنَّ وُعِظَ أنِفَ، فَذاكَ في الدَّرْكِ الرّابِعِ مِنَ النّارِ. ومِنَ العُلَماءِ مَن يَنْصِبُ نَفْسَهُ لَلْفُتْيا فَيُفْتِي خَطَأً، فَذاكَ في الدَّرْكِ الخامِسِ مِنَ النّارِ، ومِنَ العُلَماءِ مَن يَتَعَلَّمُ كَلامَ المُبْطِلِينَ فَيَمْزُجُهُ بِالدِّينِ فَهو في الدَّرْكِ السّادِسِ مِنَ النّارِ، ومِنَ العُلَماءِ مَن يَطْلُبُ العِلْمَ لِوُجُوهِ النّاسِ فَذاكَ في الدَّرْكِ السّابِعِ مِنَ النّارِ. (يط) قالَ الفَقِيهُ أبُو اللَّيْثِ: مَن جَلَسَ مَعَ ثَمانِيَةِ أصْنافٍ مِنَ النّاسِ زادَهُ اللَّهُ ثَمانِيَةَ أشْياءَ، مَن جَلَسَ مَعَ الأغْنِياءِ زادَهُ اللَّهُ حُبَّ الدُّنْيا والرَّغْبَةَ فِيها، ومَن جَلَسَ مَعَ الفُقَراءِ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الشُّكْرَ والرِّضا بِقِسْمَةِ اللَّهِ، ومَن جَلَسَ مَعَ السُّلْطانِ زادَهُ اللَّهُ القَسْوَةَ والكِبْرَ، ومَن جَلَسَ مَعَ النِّساءِ زادَهُ اللَّهُ الجَهْلَ والشَّهْوَةَ، ومَن جَلَسَ مَعَ الصِّبْيانِ ازْدادَ مِنَ اللَّهْوِ والمِزاحِ، ومَن جَلَسَ مَعَ الفُسّاقِ ازْدادَ مِنَ الجُرْأةِ عَلى الذُّنُوبِ وتَسْوِيفِ التَّوْبَةِ، ومَن جَلَسَ مَعَ الصّالِحِينَ ازْدادَ رَغْبَةً في الطّاعاتِ، ومَن جَلَسَ مَعَ العُلَماءِ ازْدادَ العِلْمَ والوَرَعَ. (يي) إنَّ اللَّهَ عَلَّمَ سَبْعَةَ نَفَرٍ سَبْعَةَ أشْياءَ: (أ) عَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ ﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها﴾ . (ب) عَلَّمَ الخَضِرَ الفِراسَةَ ﴿وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾ [الكَهْفِ: ٦٥] . (ج) وعَلَّمَ يُوسُفَ عِلْمَ التَّعْبِيرِ ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ﴾ [يُوسُفَ: ١٠١] . (د) عَلَّمَ داوُدَ صَنْعَةَ الدِّرْعِ ﴿وعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾ [الأنْبِياءِ: ٨٠] . (ه) عَلَّمَ سُلَيْمانَ مَنطِقَ الطَّيْرِ ﴿ياأيُّها النّاسُ عُلِّمْنا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾ [النَّمْلِ: ١٦] . (و) عَلَّمَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ عِلْمَ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ ﴿ويُعَلِّمُهُ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتَّوْراةَ والإنْجِيلَ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٤٨] . (ز) وعَلَّمَ مُحَمَّدًا ﷺ الشَّرْعَ والتَّوْحِيدَ ﴿وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ [النِّساءِ: ١١٣]، ﴿ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ﴾ [البَقَرَةِ: ١٢٩]، ﴿الرَّحْمَنُ﴾ ﴿عَلَّمَ القُرْآنَ﴾ [الرَّحْمَنِ: ١ - ٢] . فَعِلْمُ آدَمَ كانَ سَبَبًا لَهُ في حُصُولِ السَّجْدَةِ والتَّحِيَّةِ، وعِلْمُ الخَضِرِ كانَ سَبَبًا لِأنْ وجَدَ تِلْمِيذًا مِثْلَ مُوسى ويُوشَعَ عَلَيْهِما السَّلامُ، وعِلْمُ يُوسُفَ كانَ سَبَبًا لِوِجْدانِ الأهْلِ والمَمْلَكَةِ، وعِلْمُ داوُدَ كانَ سَبَبًا لِوِجْدانِ الرِّياسَةِ والدَّرَجَةِ، وعِلْمُ سُلَيْمانَ كانَ سَبَبًا لِوِجْدانِ بِلْقِيسَ والغَلَبَةِ، وعِلْمُ عِيسى كانَ سَبَبًا لِزَوالِ التُّهْمَةِ عَنْ أُمِّهِ، وعِلْمُ مُحَمَّدٍ ﷺ كانَ سَبَبًا لِوُجُودِ الشَّفاعَةِ، ثُمَّ نَقُولُ: مَن عَلِمَ أسْماءَ المَخْلُوقاتِ وجَدَ التَّحِيَّةَ مِنَ المَلائِكَةِ، فَمَن عَلِمَ ذاتَ الخالِقِ وصِفاتِهِ أما يَجِدُ تَحِيَّةَ المَلائِكَةِ ؟ بَلْ يَجِدُ تَحِيَّةَ الرَّبِّ ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨] والخَضِرُ وجَدَ بِعِلْمِ الفِراسَةِ صُحْبَةَ مُوسى، فَيا أُمَّةَ الحَبِيبِ بِعِلْمِ الحَقِيقَةِ كَيْفَ لا تَجِدُونَ صُحْبَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ﴾ [النِّساءِ: ٦٩]، ويُوسُفُ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيا نَجا مِن حَبْسِ الدُّنْيا، فَمَن كانَ عالِمًا بِتَأْوِيلِ كِتابِ اللَّهِ كَيْفَ لا يَنْجُو مِن حَبْسِ الشَّهَواتِ ﴿ويَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يُونُسَ: ٢٥] وأيْضًا فَإنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ ذَكَرَ مِنَّةَ اللَّهِ عَلى نَفْسِهِ حَيْثُ قالَ: ﴿وعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ﴾ [يُوسُفَ: ١٠١] . فَأنْتَ يا عالِمُ أما تَذْكُرُ مِنَّةَ اللَّهِ عَلى نَفْسِكَ حَيْثُ عَلَّمَكَ تَفْسِيرَ كِتابِهِ ؟ فَأيُّ نِعْمَةٍ أجَلُّ مِمّا أعْطاكَ اللَّهُ ؟! حَيْثُ جَعَلَكَ مُفَسِّرًا لِكَلامِهِ، وسَمِيًّا لِنَفْسِهِ، ووارِثًا لِنَبِيِّهِ، وداعِيًا لِخَلْقِهِ، وواعِظًا لِعِبادِهِ، وسِراجًا لِأهْلِ بِلادِهِ، وقائِدًا لِلْخَلْقِ إلى جَنَّتِهِ وثَوابِهِ، وزاجِرًا لَهم عَنْ نارِهِ وعِقابِهِ، كَما جاءَ في الحَدِيثِ: «العُلَماءُ سادَةٌ، والفُقَهاءُ قادَةٌ، ومُجالَسَتُهم زِيادَةٌ» (كا) المُؤْمِنُ لا يَرْغَبُ في طَلَبِ العِلْمِ حَتّى يَرى سِتَّ خِصالٍ مِن نَفْسِهِ. أحَدُها: أنْ يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ (p-١٧٠)أمَرَنِي بِأداءِ الفَرائِضِ، وأنا لا أقْدِرُ عَلى أدائِها إلّا بِالعِلْمِ. الثّانِيَةُ: أنْ يَقُولَ: نَهانِي عَنِ المَعاصِي وأنا لا أقْدِرُ عَلى اجْتِنابِها إلّا بِالعِلْمِ. الثّالِثَةُ: أنَّهُ تَعالى أوْجَبَ عَلَيَّ شُكْرَ نِعَمِهِ ولا أقْدِرُ عَلَيْهِ إلّا بِالعِلْمِ. والرّابِعَةُ: أمَرَنِي بِإنْصافِ الخَلْقِ وأنا لا أقْدِرُ أنْ أُنْصِفَهم إلّا بِالعِلْمِ. والخامِسَةُ: أنَّ اللَّهَ أمَرَنِي بِالصَّبْرِ عَلى بَلائِهِ ولا أقْدِرُ عَلَيْهِ إلّا بِالعِلْمِ. والسّادِسَةُ: أنَّ اللَّهَ أمَرَنِي بِالعَداوَةِ مَعَ الشَّيْطانِ ولا أقْدِرُ عَلَيْها إلّا بِالعِلْمِ. (كب) طَرِيقُ الجَنَّةِ في أيْدِي أرْبَعَةٍ: العالِمِ والزّاهِدِ والعابِدِ والمُجاهِدِ، فالزّاهِدُ إذا كانَ صادِقًا في دَعْواهُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ الأمْنَ، والعابِدُ إذا كانَ صادِقًا في دَعْواهُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ الخَوْفَ، والمُجاهِدُ إذا كانَ صادِقًا في دَعْواهُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ الثَّناءَ والحَمْدَ، والعالِمُ إذا كانَ صادِقًا في دَعْواهُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ. (كج) اطْلُبْ أرْبَعَةً مِن أرْبَعَةٍ: مِنَ المَوْضِعِ السَّلامَةَ، ومِنَ الصّاحِبِ الكَرامَةَ، ومِنَ المالِ الفَراغَةَ، ومِنَ العِلْمِ المَنفَعَةَ، فَإذا لَمْ تَجِدْ مِنَ المَوْضِعِ السَّلامَةَ فالسِّجْنُ خَيْرٌ مِنهُ، وإذا لَمْ تَجِدْ مِن صاحِبِكَ الكَرامَةَ فالكَلْبُ خَيْرٌ مِنهُ، وإذا لَمْ تَجِدْ مِن مالِكَ الفَراغَةَ فالمَدَرُ خَيْرٌ مِنهُ، وإذا لَمْ تَجِدْ مِنَ العِلْمِ المَنفَعَةَ فالمَوْتُ خَيْرٌ مِنهُ. (كد) لا تَتِمُّ أرْبَعَةُ أشْياءَ إلّا بِأرْبَعَةِ أشْياءَ: لا يَتِمُّ الدِّينُ إلّا بِالتَّقْوى، ولا يَتِمُّ القَوْلُ إلّا بِالفِعْلِ، ولا تَتِمُّ المُرُوءَةُ إلّا بِالتَّواضُعِ، ولا يَتِمُّ العِلْمُ إلّا بِالعَمَلِ، فالدِّينُ بِلا تَقْوى عَلى الخَطَرِ، والقَوْلُ بِلا فِعْلٍ كالهَدْرِ، والمُرُوءَةُ بِلا تَواضُعٍ كَشَجَرٍ بِلا ثَمَرٍ، والعِلْمُ بِلا عَمَلٍ كَغَيْثٍ بِلا مَطَرٍ. (كه) قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِجابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأنْصارِيِّ: قِوامُ الدُّنْيا بِأرْبَعَةٍ بِعالِمٍ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ، وجاهِلٍ لا يَسْتَنْكِفُ مِن تَعَلُّمِهِ، وغَنِيٍّ لا يَبْخَلُ بِمالِهِ، وفَقِيرٍ لا يَبِيعُ آخِرَتَهُ بِدُنْياهُ، فَإذا لَمْ يَعْمَلِ العالِمُ بِعِلْمِهِ اسْتَنْكَفَ الجاهِلُ مِن تَعَلُّمِهِ، وإذا بَخِلَ الغَنِيُّ بِمَعْرُوفِهِ باعَ الفَقِيرُ آخِرَتَهُ بِدُنْياهُ، فالوَيْلُ لَهم والثُّبُورُ سَبْعِينَ مَرَّةً. (كو) قالَ الخَلِيلُ: الرِّجالُ أرْبَعَةٌ رَجُلٌ يَدْرِي، ويَدْرِي أنَّهُ يَدْرِي فَهو عالِمٌ فاتَّبِعُوهُ، ورَجُلٌ يَدْرِي ولا يَدْرِي أنَّهُ يَدْرِي فَهو نائِمٌ فَأيْقِظُوهُ، ورَجُلٌ لا يَدْرِي ويَدْرِي أنَّهُ لا يَدْرِي فَهو مُسْتَرْشِدٌ فَأرْشِدُوهُ، ورَجُلٌ لا يَدْرِي، ولا يَدْرِي أنَّهُ لا يَدْرِي فَهو شَيْطانٌ فاجْتَنِبُوهُ. (كز) أرْبَعَةٌ لا يَنْبَغِي لِلشَّرِيفِ أنْ يَأْنَفَ مِنها، وإنْ كانَ أمِيرًا: قِيامُهُ مِن مَجْلِسِهِ لِأبِيهِ، وخِدْمَتُهُ لِضَيْفِهِ، وخِدْمَتُهُ لِلْعالِمِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ مِنهُ، والسُّؤالُ عَمًّا لا يَعْلَمُ مِمَّنْ هو أعْلَمُ مِنهُ. (كح) إذا اشْتَغَلَ العُلَماءُ بِجَمْعِ الحَلالِ صارَ العَوامُّ آكِلِينَ لِلشُّبُهاتِ، وإذا صارَ العالِمُ آكِلًا لِلشُّبَهاتِ صارَ العامِّيُّ آكِلًا لِلْحَرامِ، وإذا صارَ العالِمُ آكِلًا لِلْحَرامِ صارَ العامِّيُّ كافِرًا يَعْنِي إذا اسْتَحَلُّوا. أمّا الوُجُوهُ العَقْلِيَّةُ فَأُمُورٌ: أحَدُها: أنَّ الأُمُورَ عَلى أرْبَعَةِ أقْسامٍ، قِسْمٌ يَرْضاهُ العَقْلُ ولا تَرْضاهُ الشَّهْوَةُ، وقِسْمٌ تَرْضاهُ الشَّهْوَةُ، ولا يَرْضاهُ العَقْلُ، وقِسْمٌ يَرْضاهُ العَقْلُ والشَّهْوَةُ مَعًا، وقِسْمٌ لا يَرْضاهُ العَقْلُ ولا تَرْضاهُ الشَّهْوَةُ. أمّا الأوَّلُ: فَهو الأمْراضُ والمَكارِهُ في الدُّنْيا. وأمّا الثّانِي: فَهو المَعاصِي أجْمَعُ. وأمّا الثّالِثُ: فَهو العِلْمُ. وأمّا الرّابِعُ: فَهو الجَهْلُ، فَيَنْزِلُ العِلْمُ مِنَ الجَهْلِ مَنزِلَةَ الجَنَّةِ مِنَ النّارِ، فَكَما أنَّ العَقْلَ والشَّهْوَةَ لا يَرْضَيانِ بِالنّارِ فَكَذَلِكَ لا يَرْضَيانِ بِالجَهْلِ، وكَما أنَّهُما يَرْضَيانِ بِالجَنَّةِ فَكَذا يَرْضَيانِ بِالعِلْمِ، فَمَن رَضِيَ بِالجَهْلِ فَقَدْ رَضِيَ بِنارٍ حاضِرَةٍ، ومَنِ اشْتَغَلَ بِالعِلْمِ فَقَدْ خاضَ في جَنَّةٍ حاضِرَةٍ، فَكُلُّ مَنِ اخْتارَ العِلْمَ (p-١٧١)يُقالُ لَهُ: تَعَوَّدْتَ المُقامَ في الجَنَّةِ فادْخُلِ الجَنَّةَ، ومَنِ اكْتَفى بِالجَهْلِ يُقالُ لَهُ: تَعَوَّدْتَ النّارَ فادْخُلِ النّارَ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ العِلْمَ جَنَّةٌ، والجَهْلَ نارٌ أنَّ كَمالَ اللَّذَّةِ في إدْراكِ المَحْبُوبِ، وكَمالَ الألَمِ في البُعْدِ عَنِ المَحْبُوبِ، والجِراحَةُ إنَّما تُؤْلِمُ؛ لِأنَّها تُبْعِدُ جُزْءًا مِنَ البَدَنِ عَنْ جُزْءٍ مَحْبُوبٍ مِن تِلْكَ الأجْزاءِ وهو الِاجْتِماعُ، فَلَمّا اقْتَضَتِ الجِراحَةُ إزالَةَ ذَلِكَ الِاجْتِماعِ، فَقَدِ اقْتَضَتْ إزالَةَ المَحْبُوبِ وبُعْدَهُ، فَلا جَرَمَ كانَ ذَلِكَ مُؤْلِمًا، والإحْراقُ بِالنّارِ إنَّما كانَ أشَدَّ إيلامًا مِنَ الجُرْحِ؛ لِأنَّ الجُرْحَ لا يُفِيدُ إلّا تَبْعِيدَ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ عَنْ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ، أمّا النّارُ فَإنَّها تَغُوصُ في جَمِيعِ الأجْزاءِ فاقْتَضَتْ تَبْعِيدَ جَمِيعِ الأجْزاءِ بَعْضِها عَنْ بَعْضٍ، فَلَمّا كانَتِ التَّفْرِيقاتُ في الإحْراقِ أشَدَّ كانَ الألَمُ هُناكَ أصْعَبَ، أمّا اللَّذَّةُ فَهي عِبارَةٌ عَنْ إدْراكِ المَحْبُوبِ، فَلَذَّةُ الأكْلِ عِبارَةٌ عَنْ إدْراكِ تِلْكَ الطُّعُومِ لِمُوافَقَةٍ لِلْبَدَنِ، وكَذَلِكَ لَذَّةُ النَّظَرِ إنَّما تَحْصُلُ؛ لِأنَّ القُوَّةَ الباصِرَةَ مُشْتاقَةٌ إلى إدْراكِ المَرْئِيّاتِ، فَلا جَرَمَ كانَ ذَلِكَ الإدْراكُ لَذَّةً لَها، فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذا أنَّ اللَّذَّةَ عِبارَةٌ عَنْ إدْراكِ المَحْبُوبِ، والألَمَ عِبارَةٌ عَنْ إدْراكِ المَكْرُوهِ، وإذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: كُلَّما كانَ الإدْراكُ أغْوَصَ وأشَدَّ، والمُدْرِكُ أشْرَفَ وأكْمَلَ، والمُدْرَكُ أنْقى وأبْقى، وجَبَ أنْ تَكُونَ اللَّذَّةُ أشْرَفَ وأكْمَلَ. ولا شَكَّ أنَّ مَحْمِلَ العِلْمِ هو الرُّوحُ وهو أشْرَفُ مِنَ البَدَنِ، ولا شَكَّ أنَّ الإدْراكَ العَقْلِيَّ أغَوْصَ وأشْرَفَ عَلى ما سَيَجِيءُ بَيانُهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [النُّورِ: ٣٥] . وأمّا المَعْلُومُ فَلا شَكَّ أنَّهُ أشْرَفُ؛ لِأنَّهُ هو اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ وجَمِيعُ مَخْلُوقاتِهِ مِنَ المَلائِكَةِ والأفْلاكِ والعَناصِرِ والجَماداتِ والنَّباتِ والحَيَواناتِ، وجَمِيعُ أحْكامِهِ وأوامِرِهِ وتَكالِيفِهِ وأيُّ مَعْلُومٍ أشْرَفُ مِن ذَلِكَ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا كَمالَ، ولا لَذَّةَ فَوْقَ كَمالِ العِلْمِ ولَذّاتِهِ، ولا شَقاوَةَ ولا نُقْصانَ فَوْقَ شَقاوَةِ الجَهْلِ ونُقْصانِهِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى ما قُلْناهُ أنَّهُ إذا سُئِلَ الواحِدُ مِنّا عَنْ مَسْألَةٍ عِلْمِيَّةٍ، فَإنْ عَلِمَها وقَدِرَ عَلى الجَوابِ والصَّوابِ فِيها فَرِحَ بِذَلِكَ وابْتَهَجَ بِهِ، وإنْ جَهِلَها نَكَّسَ رَأْسَهُ حَياءً مِن ذَلِكَ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّذَّةَ الحاصِلَةَ بِالعِلْمِ أكْمَلُ اللَّذّاتِ، والشَّقاءَ الحاصِلَ بِالجَهْلِ أكْمَلُ أنْواعِ الشَّقاءِ. * * * واعْلَمْ أنَّ هَهُنا وُجُوهًا أُخَرَ مِنَ النُّصُوصِ تَدُلُّ عَلى فَضِيلَةِ العِلْمِ نَسِينا إيرادَها قَبْلَ ذَلِكَ فَلا بَأْسَ أنْ نَذْكُرَها هَهُنا. الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ أوَّلَ ما نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ﴾ ﴿اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ﴾ ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾ ﴿عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العَلَقِ: ١ - ٥] فَقِيلَ فِيهِ: إنَّهُ لا بُدَّ مِن رِعايَةِ التَّناسُبِ بَيْنَ الآياتِ فَأيُّ مُناسَبَةٍ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ﴾ وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ﴾ ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾ فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأنَّ وجْهَ المُناسَبَةِ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ أوَّلَ حالِ الإنْسانِ، وهو كَوْنُهُ عَلَقَةً مَعَ أنَّها أخَسُّ الأشْياءِ، وآخِرَ حالِهِ وهي صَيْرُورَتُهُ عالِمًا وهو أجَلُّ المَراتِبِ، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: كُنْتَ أنْتَ في أوَّلِ حالِكَ في تِلْكَ الدَّرَجَةِ الَّتِي هي غايَةُ الخَساسَةِ فَصِرْتَ في آخِرِ حالِكَ في هَذِهِ الدَّرَجَةِ الَّتِي هي الغايَةُ في الشَّرَفِ، وهَذا إنَّما يَتِمُّ لَوْ كانَ العِلْمُ أشْرَفَ المَراتِبِ إذْ لَوْ كانَ غَيْرُهُ أشْرَفَ لَكانَ ذِكْرُ ذَلِكَ الشَّيْءِ في هَذا المَقامِ أوْلى. الثّانِي: أنَّهُ قالَ: ﴿اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ﴾ ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾ وقَدْ ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ تَرْتِيبَ الحُكْمِ عَلى الوَصْفِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ الوَصْفِ عِلَّةً، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى إنَّما اسْتَحَقَّ الوَصْفَ بِالأكْرَمِيَّةِ؛ لِأنَّهُ أعْطى العِلْمَ فَلَوْلا أنَّ العِلْمَ أشْرَفُ مِن غَيْرِهِ وإلّا لَما كانَتْ إفادَتُهُ أشْرَفَ مِن إفادَةِ غَيْرِهِ. (p-١٧٢)الثّالِثُ: قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾ وهَذِهِ الآيَةُ فِيها وُجُوهٌ مِنَ الدَّلائِلِ عَلى فَضْلِ العِلْمِ. أحَدُها: دَلالَتُها عَلى أُمَمٍ مِن أهْلِ الجَنَّةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ العُلَماءَ مِن أهْلِ الخَشْيَةِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الخَشْيَةِ كانَ مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فالعُلَماءُ مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فَبَيانُ أنَّ العُلَماءَ مِن أهْلِ الخَشْيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾ [فاطِرٍ: ٢٨]، وبَيانُ أنَّ أهْلَ الخَشْيَةِ مِن أهْلِ الجَنَّةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿جَزاؤُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ [البَيِّنَةِ: ٨] إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَن خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البَيِّنَةِ: ٨]، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِمَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٤٦]، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ”«وعِزَّتِي وجَلالِي لا أجْمَعُ عَلى عَبْدِي خَوْفَيْنِ ولا أجْمَعُ لَهُ أمْنَيْنِ، فَإذا أمِنَنِي في الدُّنْيا أخَفْتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ، وإذا خافَنِي في الدُّنْيا أمَّنْتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ» “ واعْلَمْ أنَّهُ يُمْكِنُ إثْباتُ مُقَدِّمَتَيْ هَذِهِ الدَّلالَةِ بِالعَقْلِ، أمّا بَيانُ أنَّ العالِمَ بِاللَّهِ يَجِبُ أنْ يَخْشاهُ، فَذَلِكَ لِأنَّ مَن لَمْ يَكُنْ عالِمًا بِالشَّيْءِ اسْتَحالَ أنْ يَكُونَ خائِفًا مِنهُ، ثُمَّ إنَّ العِلْمَ بِالذّاتِ لا يَكْفِي في الخَوْفِ، بَلْ لا بُدَّ لَهُ مِنَ العِلْمِ بِأُمُورٍ ثَلاثَةٍ: مِنها: العِلْمُ بِالقُدْرَةِ؛ لِأنَّ المَلِكَ عالِمٌ بِاطِّلاعِ رَعِيَّتِهِ عَلى أفْعالِهِ القَبِيحَةِ، لَكِنَّهُ لا يَخافُهم لِعِلْمِهِ بِأنَّهم لا يَقْدِرُونَ عَلى دَفْعِها، ومِنها: العِلْمُ بِكَوْنِهِ عالِمًا؛ لِأنَّ السّارِقَ مِن مالِ السُّلْطانِ يَعْلَمُ قُدْرَتَهُ، ولَكِنَّهُ يَعْلَمُ أنَّهُ غَيْرُ عالِمٍ بِسَرِقَتِهِ فَلا يَخافُهُ، ومِنها العِلْمُ بِكَوْنِهِ حَكِيمًا، فَإنَّ المُسَخَّرَ عِنْدَ السُّلْطانِ عالِمٌ بِكَوْنِ السُّلْطانِ قادِرًا عَلى مَنعِهِ عالِمًا بِقَبائِحِ أفْعالِهِ، لَكِنَّهُ يَعْلَمُ أنَّهُ قَدْ يَرْضى بِما لا يَنْبَغِي فَلا يَحْصُلُ الخَوْفُ، أمّا لَوْ عَلِمَ اطِّلاعَ السُّلْطانِ عَلى قَبائِحِ أفْعالِهِ وعَلِمَ قُدْرَتَهُ عَلى مَنعِهِ وعَلِمَ أنَّهُ حَكِيمٌ لا يَرْضى بِشَفاهَتِهِ؛ صارَتْ هَذِهِ العُلُومُ الثَّلاثَةُ مُوجِبَةً لِحُصُولِ الخَوْفِ في قَلْبِهِ، فَثَبَتَ أنَّ خَوْفَ العَبْدِ مِنَ اللَّهِ لا يَحْصُلُ إلّا إذا عَلِمَ بِكَوْنِهِ تَعالى عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، قادِرًا عَلى كُلِّ المَقْدُوراتِ، غَيْرَ راضٍ بِالمُنْكَراتِ والمُحَرَّماتِ، فَثَبَتَ أنَّ الخَوْفَ مِن لَوازِمِ العِلْمِ بِاللَّهِ، وإنَّما قُلْنا: إنَّ الخَوْفَ سَبَبُ الفَوْزِ بِالجَنَّةِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ إذا سَنَحَ لِلْعَبْدِ لَذَّةٌ عاجِلَةٌ، وكانَتْ تِلْكَ اللَّذَّةُ عَلى خِلافِ أمْرِ اللَّهِ، وفِعْلُ ذَلِكَ الشَّيْءِ يَكُونُ مُشْتَمِلًا عَلى مَنفَعَةٍ ومَضَرَّةٍ، فَصَرِيحُ العَقْلِ حاكِمٌ بِتَرْجِيحِ الجانِبِ الرّاجِحِ عَلى الجانِبِ المَرْجُوحِ، فَإذا عَلِمَ بِنُورِ الإيمانِ أنَّ اللَّذَّةَ العاجِلَةَ حَقِيرَةٌ في مُقابَلَةِ الألَمِ الآجِلِ، صارَ ذَلِكَ الإيمانُ سَبَبًا لِفِرارِهِ عَنْ تِلْكَ اللَّذَّةِ العاجِلَةِ، وذَلِكَ هو الخَشْيَةُ، وإذا صارَ تارِكًا لِلْمَحْظُورِ فاعِلًا لِلْواجِبِ كانَ مِن أهْلِ الثَّوابِ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالشَّواهِدِ النَّقْلِيَّةِ والعَقْلِيَّةِ أنَّ العالِمَ بِاللَّهِ خائِفٌ، والخائِفُ مِن أهْلِ الجَنَّةِ. وثانِيها: أنَّ ظاهِرَ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ لِلْجَنَّةِ أهْلٌ إلّا العُلَماءَ، وذَلِكَ لِأنَّ كَلِمَةَ (إنَّما) لِلْحَصْرِ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ خَشْيَةَ اللَّهِ لا تَحْصُلُ إلّا لِلْعُلَماءِ، والآيَةُ الثّانِيَةُ وهي قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ لِمَن خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البَيِّنَةِ: ٨] دالَّةٌ عَلى أنَّ الجَنَّةَ لِأهْلِ الخَشْيَةِ، وكَوْنُها لِأهْلِ الخَشْيَةِ يُنافِي كَوْنَها لِغَيْرِهِمْ، فَدَلَّ مَجْمُوعُ الآيَتَيْنِ عَلى أنَّهُ لَيْسَ لِلْجَنَّةِ أهْلٌ إلّا العُلَماءَ، واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ فِيها تَخْوِيفٌ شَدِيدٌ، وذَلِكَ لِأنَّهُ ثَبَتَ أنَّ الخَشْيَةَ مِنَ اللَّهِ تَعالى مِن لَوازِمِ العِلْمِ بِاللَّهِ، فَعِنْدَ عَدَمِ الخَشْيَةِ يَلْزَمُ عَدَمُ العِلْمِ بِاللَّهِ، وهَذِهِ الدَّقِيقَةُ تُنَبِّهُكَ عَلى أنَّ العِلْمَ الَّذِي هو سَبَبُ القُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعالى هو الَّذِي يُورِثُ الخَشْيَةَ، وأنَّ أنْواعَ المُجادَلاتِ وإنْ دَقَّتْ وغَمُضَتْ إذا خَلَتْ عَنْ إفادَةِ الخَشْيَةِ كانَتْ مِنَ العِلْمِ المَذْمُومِ. (p-١٧٣)وثالِثُها: قُرِئَ ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾ [فاطِرٍ: ٢٨] بِرَفْعِ الأوَّلِ ونَصْبِ الثّانِي، ومَعْنى هَذِهِ القِراءَةِ: أنَّهُ تَعالى لَوْ جازَتِ الخَشْيَةُ عَلَيْهِ، لَما خَشِيَ العُلَماءُ؛ لِأنَّهم هُمُ الَّذِينَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ ما يَجُوزُ وبَيْنَ ما لا يَجُوزُ، وأمّا الجاهِلُ الَّذِي لا يُمَيِّزُ بَيْنَ هَذَيْنِ البابَيْنِ فَأيُّ مُبالاةٍ بِهِ وأيُّ التِفاتٍ إلَيْهِ ؟ فَفي هَذِهِ القِراءَةِ نِهايَةُ المَنصِبِ لِلْعُلَماءِ والتَّعْظِيمِ. الرّابِعُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤] . وفِيهِ أدَلُّ دَلِيلٍ عَلى نَفاسَةِ العِلْمِ وعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ وفَرْطِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ، حَيْثُ أمَرَ نَبِيَّهُ بِالِازْدِيادِ مِنهُ خاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ، وقالَ قَتادَةُ: لَوِ اكْتَفى أحَدٌ مِنَ العِلْمِ لاكْتَفى نَبِيُّ اللَّهِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ولَمْ يَقُلْ: ﴿هَلْ أتَّبِعُكَ عَلى أنْ تُعَلِّمَنِي مِمّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ [الكَهْفِ: ٦٦] . الخامِسُ: كانَ لِسُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن مُلْكِ الدُّنْيا ما كانَ حَتّى إنَّهُ ﴿قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ مِن بَعْدِي﴾ [ص: ٣٥] ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَفْتَخِرْ بِالمَمْلَكَةِ، وافْتَخَرَ بِالعِلْمِ حَيْثُ قالَ: ﴿وقالَ ياأيُّها النّاسُ عُلِّمْنا مَنطِقَ الطَّيْرِ وأُوتِينا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النَّمْلِ: ١٦] فافْتَخَرَ بِكَوْنِهِ عالِمًا بِمَنطِقِ الطَّيْرِ، فَإذا حَسُنَ مِن سُلَيْمانَ أنْ يَفْتَخِرَ بِذَلِكَ العِلْمِ فَلَأنْ يَحْسُنَ بِالمُؤْمِنِ أنْ يَفْتَخِرَ بِمَعْرِفَةِ رَبِّ العالَمِينَ كانَ أحْسَنَ، ولِأنَّهُ قَدَّمَ ذَلِكَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وأُوتِينا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النَّمْلِ: ١٦] وأيْضًا فَإنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ كَمالَ حالِهِمْ قَدَّمَ العِلْمَ أوَّلًا، وقالَ: ﴿وداوُدَ وسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ﴾ [الأنْبِياءِ: ٧٨] إلى قَوْلِهِ: ﴿وكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا﴾ [الأنْبِياءِ: ٧٩] ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ما يَتَعَلَّقُ بِأحْوالِ الدُّنْيا فَدَلَّ عَلى أنَّ العِلْمَ أشْرَفُ. السّادِسُ: قالَ بَعْضُهم: الهُدْهُدُ مَعَ أنَّهُ في نِهايَةِ الضَّعْفِ، ومَعَ أنَّهُ كانَ في مَوْقِفِ المُعاتَبَةُ قالَ لِسُلَيْمانَ: ﴿أحَطتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ [النَّمْلِ: ٢٢]، فَلَوْلا أنَّ العِلْمَ أشْرَفُ الأشْياءِ وإلّا فَمِن أيْنَ لِلْهُدْهُدِ أنْ يَتَكَلَّمَ في مَجْلِسِ سُلَيْمانَ بِمِثْلِ هَذا الكَلامِ، ولِذَلِكَ يُرى الرَّجُلُ السّاقِطُ إذا تَعَلَّمَ العِلْمَ صارَ نافِذَ القَوْلِ عِنْدَ السَّلاطِينِ، وما ذاكَ إلّا بِبَرَكَةِ العِلْمِ. السّابِعُ: قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«تَفَكُّرُ ساعَةٍ خَيْرٌ مِن عِبادَةِ سِتِّينَ سَنَةً» “ وفي التَّفْضِيلِ وجْهانِ: أحَدُها: أنَّ التَّفَكُّرَ يُوصِلُكَ إلى اللَّهِ تَعالى، والعِبادَةَ تُوصِلُكَ إلى ثَوابِ اللَّهِ تَعالى، والَّذِي يُوصِلُكَ إلى اللَّهِ خَيْرٌ مِمّا يُوصِلُكَ إلى غَيْرِ اللَّهِ. والثّانِي: أنَّ التَّفَكُّرَ عَمَلُ القَلْبِ، والطّاعَةَ عَمَلُ الجَوارِحِ، والقَلْبُ أشْرَفُ مِنَ الجَوارِحِ فَكانَ عَمَلُ القَلْبِ أشْرَفَ مِن عَمَلِ الجَوارِحِ، والَّذِي يُؤَكِّدُ هَذا الوَجْهَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّنِي أنا اللَّهُ﴾ [طه: ١٤] جَعَلَ الصَّلاةَ وسِيلَةً إلى ذِكْرِ القَلْبِ، والمَقْصُودُ أشْرَفُ مِنَ الوَسِيلَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ العِلْمَ أشْرَفُ مِن غَيْرِهِ. الثّامِنُ: قالَ تَعالى: ﴿وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ [النِّساءِ: ١١٣]، ﴿وكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النِّساءِ: ١١٣]، فَسَمّى العِلْمَ عَظِيمًا، وسَمّى الحِكْمَةَ خَيْرًا كَثِيرًا، فالحِكْمَةُ هي العِلْمُ، وقالَ أيْضًا: ﴿الرَّحْمَنُ﴾ ﴿عَلَّمَ القُرْآنَ﴾ [الرَّحْمَنِ: ١ - ٢] فَجَعَلَ هَذِهِ النِّعْمَةَ مُقَدَّمَةً عَلى جَمِيعِ النِّعَمِ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ أفْضَلُ مِن غَيْرِهِ. التّاسِعُ: أنَّ سائِرَ كُتُبِ اللَّهِ ناطِقَةٌ بِفَضْلِ العِلْمِ، أمّا التَّوْراةُ فَقالَ تَعالى لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ”عَظِّمِ الحِكْمَةَ فَإنِّي لا أجْعَلُ الحِكْمَةَ في قَلْبِ عَبْدٍ إلّا وأرَدْتُ أنْ أغْفِرَ لَهُ فَتَعَلَّمْها ثُمَّ اعْمَلْ بِها، ثُمَّ ابْذُلْها كَيْ تَنالَ بِها كَرامَتِي في الدُّنْيا والآخِرَةِ“، وأمّا الزَّبُورُ فَقالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ”يا داوُدُ قُلْ لِأحْبارِ (p-١٧٤)بَنِي إسْرائِيلَ ورُهْبانِهِمْ حادِثُوا مِنَ النّاسِ الأتْقِياءَ، فَإنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهِمْ تَقِيًّا فَحادِثُوا العُلَماءَ، فَإنْ لَمْ تَجِدُوا عالِمًا فَحادِثُوا العُقَلاءَ، فَإنَّ التُّقى والعِلْمَ والعَقْلَ ثَلاثُ مَراتِبَ ما جَعَلْتُ واحِدَةً مِنهُنَّ في أحَدٍ مِن خَلْقِي وأنا أُرِيدُ إهْلاكَهُ“ وأقُولُ: إنَّما قَدَّمَ اللَّهُ تَعالى التُّقى عَلى العِلْمِ؛ لِأنَّ التُّقى لا يُوجَدُ بِدُونِ العِلْمِ، كَما بَيَّنّا أنَّ الخَشْيَةَ لا تَحْصُلُ إلّا مَعَ العِلْمِ، والمَوْصُوفُ بِالأمْرَيْنِ أشْرَفُ مِنَ المَوْصُوفِ بِأمْرٍ واحِدٍ، وهَذا السِّرُّ أيْضًا قَدَّمَ العالِمَ عَلى العاقِلِ؛ لِأنَّ العالِمَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ عاقِلًا، أمّا العاقِلُ فَقَدْ لا يَكُونُ عالِمًا، فالعَقْلُ كالبَذْرِ والعِلْمُ كالشَّجَرَةِ والتَّقْوى كالثَّمَرِ. وأمّا الإنْجِيلُ قالَ اللَّهُ تَعالى في السُّورَةِ السّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنهُ ”ويْلٌ لِمَن سَمِعَ بِالعِلْمِ فَلَمْ يَطْلُبْهُ كَيْفَ يُحْشَرُ مَعَ الجُهّالِ إلى النّارِ، اطْلُبُوا العِلْمَ وتَعَلَّمُوهُ، فَإنَّ العِلْمَ إنْ لَمْ يُسْعِدْكم لَمْ يُشْقِكم، وإنْ لَمْ يَرْفَعْكم لَمْ يَضَعْكم، وإنْ لَمْ يُغْنِكم لَمْ يُفْقِرْكم، وإنْ لَمْ يَنْفَعْكم لَمْ يَضُرَّكم، ولا تَقُولُوا: نَخافُ أنْ نَعْلَمَ فَلا نَعْمَلُ، ولَكِنْ قُولُوا: نَرْجُو أنْ نَعْلَمَ فَنَعْمَلَ“ والعِلْمُ شَفِيعٌ لِصاحِبِهِ وحَقٌّ عَلى اللَّهِ تَعالى أنْ لا يُخْزِيَهُ، إنَّ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ يَوْمَ القِيامَةِ: ”يا مَعاشِرَ العُلَماءِ ما ظَنُّكم بِرَبِّكم ؟ يَقُولُونَ: ظَنُّنا أنْ يَرْحَمَنا ويَغْفِرَ لَنا، فَيَقُولُ: فَإنِّي قَدْ فَعَلْتُ، إنِّي قَدِ اسْتَوْدَعْتُكم حِكْمَتِي لا لِشَرٍّ أرَدْتُهُ بِكم، بَلْ لِخَيْرٍ أرَدْتُهُ بِكم، فادْخُلُوا في صالِحِ عِبادِي إلى جَنَّتِي بِرَحْمَتِي“ وقالَ مُقاتِلُ بْنُ سُلَيْمانَ: وجَدْتُ في الإنْجِيلِ: أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ لِعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِما السَّلامُ: يا عِيسى عَظِّمِ العُلَماءَ واعْرِفْ فَضْلَهم؛ لِأنِّي فَضَّلْتُهم عَلى جَمِيعِ خَلْقِي إلّا النَّبِيِّينَ والمُرْسَلِينَ كَفَضْلِ الشَّمْسِ عَلى الكَواكِبِ، وكَفَضْلِ الآخِرَةِ عَلى الدُّنْيا، وكَفَضْلِي عَلى كُلِّ شَيْءٍ. * * * أمّا الأخْبارُ: (أ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قالَ: «قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: يَقُولُ اللَّهُ تَعالى لِلْعُلَماءِ: ”إنِّي لَمْ أضَعْ عِلْمِي فِيكم وأنا أُرِيدُ أنْ أُعَذِّبَكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ عَلى ما كانَ مِنكم“» . (ب) قالَ أبُو هُرَيْرَةَ، وابْنُ عَبّاسٍ: خَطَبَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خُطْبَةً بَلِيغَةً قَبْلَ وفاتِهِ وهي آخِرُ خُطْبَةٍ خَطَبَها بِالمَدِينَةِ، فَقالَ: ”«مَن تَعَلَّمَ العِلْمَ وتَواضَعَ في العِلْمِ وعَلَّمَهَ عِبادَ اللَّهِ يُرِيدُ ما عِنْدَ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ في الجَنَّةِ أفْضَلُ ثَوابًا مِنهُ ولا أعْظَمُ مَنزِلَةً، ولَمْ يَكُنْ في الجَنَّةِ مَنزِلَةٌ ولا دَرَجَةٌ رَفِيعَةٌ نَفِيسَةٌ إلّا كانَ لَهُ فِيها أوْفَرُ النَّصِيبِ وأشْرَفُ المَنازِلِ» “ . (ج) ابْنُ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ صُفَّتْ مَنابِرُ مِن ذَهَبٍ عَلَيْها قِبابٌ مِن فِضَّةٍ مُنَضَّدَةٌ بِالدُّرِّ والياقُوتِ والزُّمُرُّدِ جِلالُها السُّنْدُسُ والإسْتَبْرَقُ، ثُمَّ يُنادِي مُنادِي الرَّحْمَنِ: أيْنَ مَن حَمَلَ إلى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عِلْمًا يُرِيدُ بِهِ وجْهَ اللَّهِ: اجْلِسُوا عَلى هَذِهِ المَنابِرِ فَلا خَوْفَ عَلَيْكم حَتّى تَدْخُلُوا الجَنَّةَ» . (د) عَنْ عِيسى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِما السَّلامُ: أنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عُلَماءُ حُكَماءُ كَأنَّهم مِنَ الفِقْهِ أنْبِياءُ، يَرْضَوْنَ مِنَ اللَّهِ بِاليَسِيرِ مِنَ الرِّزْقِ، ويَرْضى اللَّهُ مِنهم بِاليَسِيرِ مِنَ العَمَلِ، ويَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِلا إلَهَ إلّا اللَّهُ. (ه) قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَماهُ في طَلَبِ العِلْمِ، حَرَّمَ اللَّهُ جَسَدَهُ عَلى النّارِ، واسْتَغْفَرَ لَهُ مَلَكاهُ، وإنْ ماتَ في طَلَبِهِ ماتَ شَهِيدًا، وكانَ قَبْرُهُ رَوْضَةً مِن رِياضِ الجَنَّةِ، ويُوَسَّعُ لَهُ في قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، ويُنَوَّرُ عَلى جِيرانِهِ أرْبَعِينَ قَبْرًا عَنْ يَمِينِهِ، وأرْبَعِينَ قَبْرًا عَنْ يَسارِهِ، وأرْبَعِينَ عَنْ خَلْفِهِ، وأرْبَعِينَ أمامَهُ، ونَوْمُ العالِمِ عِبادَةٌ، ومُذاكَرَتُهُ تَسْبِيحٌ، ونَفْسُهُ صَدَقَةٌ، وكُلُّ قَطْرَةٍ نَزَلَتْ مِن عَيْنَيْهِ تُطْفِئُ بَحْرًا مِن جَهَنَّمَ، فَمَن أهانَ العالِمَ فَقَدْ أهانَ العِلْمَ، ومَن أهانَ العِلْمَ فَقَدْ أهانَ النَّبِيَّ، ومَن أهانَ النَّبِيَّ فَقَدْ أهانَ جِبْرِيلَ، ومَن أهانَ جِبْرِيلَ أهانَ اللَّهَ، ومَن أهانَ اللَّهَ أهانَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ» “ . (و) قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«ألا أُخْبِرُكم بِأجْوَدِ الأجْوادِ ؟ قالُوا: نَعَمْ يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: اللَّهُ تَعالى أجْوَدُ الأجْوادِ، وأنا أجْوَدُ ولَدِ آدَمَ، وأجْوَدُهم مِن بَعْدِي رَجُلٌ عالِمٌ يَنْشُرُ عِلْمَهُ فَيُبْعَثُ يَوْمَ القِيامَةِ أُمَّةً وحْدَهُ، ورَجُلٌ جاهَدَ في سَبِيلِ اللَّهِ حَتّى يُقْتَلَ» “ . (ز) عَنْ أبِي (p-١٧٥)هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ”«مَن نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الآخِرَةِ، ومَن يَسَّرَ عَلى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، واللَّهُ تَعالى في عَوْنِ العَبْدِ ما دامَ العَبْدُ في عَوْنِ أخِيهِ، ومَن سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إلى الجَنَّةِ، وما اجْتَمَعَ قَوْمٌ في مَسْجِدٍ مِن مَساجِدِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ ويَتَدارَسُونَهُ بَيْنَهم إلّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وحَفَّتْ بِهِمُ المَلائِكَةُ، وذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ» “ رَواهُ مُسْلِمٌ في الصَّحِيحِ. (ح) قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«يَشْفَعُ يَوْمَ القِيامَةِ ثَلاثَةٌ: الأنْبِياءُ ثُمَّ العُلَماءُ ثُمَّ الشُّهَداءُ» “ . قالَ الرّاوِي: فَأعْظَمُ مَرْتَبَةٍ هي واسِطَةٌ بَيْنَ النُّبُوَّةِ والشَّهادَةِ. (ط) مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ: قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«تَعَلَّمُوا العِلْمَ فَإنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وطَلَبَهُ عِبادَةٌ، ومُذاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، والبَحْثَ عَنْهُ جِهادٌ، وتَعْلِيمَهُ صَدَقَةٌ، وبَذْلَهُ لِأهْلِهِ قُرْبَةٌ» “ لِأنَّهُ مَعالِمُ الحَلالِ والحَرامِ ومَنارُ سُبُلِ الجَنَّةِ والأنِيسُ مِنَ الوَحْشَةِ، والصّاحِبُ في الوَحْدَةِ والمُحَدِّثُ في الخَلْوَةِ، والدَّلِيلُ عَلى السَّرّاءِ والضَّرّاءِ، والسِّلاحُ عَلى الأعْداءِ، والدِّينُ عِنْدَ الِاخْتِلافِ يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أقْوامًا فَيَجْعَلُهم في الخَيْرِ قادَةً هُداةً يُهْتَدى بِهِمْ، وأئِمَّةً في الخَيْرِ يُقْتَفى بِآثارِهِمْ، ويُقْتَدى بِأفْعالِهِمْ، ويُنْتَهى إلى آرائِهِمْ تَرْغَبُ المَلائِكَةُ في خِلْقَتِهِمْ وبِأجْنِحَتِها تَمْسَحُهم، وفي صَلاتِها تَسْتَغْفِرُ لَهم حَتّى كُلُّ رَطْبٍ ويابِسٍ، وحِيتانُ البَحْرِ وهَوامُّهُ وسِباعُ البَرِّ وأنْعامُهُ والسَّماءُ ونُجُومُها؛ لِأنَّ العِلْمَ حَياةُ القُلُوبِ مِنَ العَمى ونُورُ الأبْصارِ مِنَ الظُّلْمَةِ، وقُوَّةُ الأبْدانِ مِنَ الضَّعْفِ يَبْلُغُ بِالبَعِيدِ مَنازِلَ الأحْرارِ ومَجالِسَ المُلُوكِ والدَّرَجاتِ العُلا في الدُّنْيا والآخِرَةِ، والتَّفَكُّرُ فِيهِ يُعْدَلُ بِالصِّيامِ، ومُدارَسَتُهُ بِالقِيامِ بِهِ يُطاعُ اللَّهُ ويُعْبَدُ، وبِهِ يُمَجَّدُ ويُوَحَّدُ، وبِهِ تُوصَلُ الأرْحامُ، وبِهِ يُعْرَفُ الحَلالُ والحَرامُ. (ي) أبُو هُرَيْرَةَ: قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«إذا ماتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلّا مِن ثَلاثٍ صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، أوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أوْ ولَدٍ صالِحٍ يَدْعُو لَهُ بِالخَيْرِ» “ (يا) قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ”«إذا سَألْتُمُ الحَوائِجَ فاسْألُوها النّاسَ، قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ ومَنِ النّاسُ ؟ قالَ: أهْلُ القُرْآنِ، قِيلَ: ثُمَّ مَن ؟ قالَ: أهْلُ العِلْمِ، قِيلَ: ثُمَّ مَن ؟ قالَ: الصِّباحُ الوُجُوهِ» “ . قالَ الرّاوِي: والمُرادُ بِأهْلِ القُرْآنِ مَن يَحْفَظُ مَعانِيَهُ (يب) قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن أمَرَ بِالمَعْرُوفِ ونَهى عَنِ المُنْكَرِ فَهو خَلِيفَةُ اللَّهِ في أرْضِهِ وخَلِيفَةُ كِتابِهِ وخَلِيفَةُ رَسُولِهِ، والدُّنْيا سُمُّ اللَّهِ القَتّالُ لِعِبادِهِ فَخُذُوا مِنها بِقَدْرِ السُّمِّ في الأدْوِيَةِ لَعَلَّكم تَنْجُونَ» “ قالَ الرّاوِي: والعُلَماءُ داخِلُونَ فِيهِ؛ لِأنَّهم يَقُولُونَ: هَذا حَرامٌ فاجْتَنِبُوهُ، وهَذا حَلالٌ فَخُذُوهُ. (يج) في الخَبَرِ: العالِمُ نَبِيٌّ لَمْ يُوحَ إلَيْهِ. (يد) قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«كُنْ عالِمًا، أوْ مُتَعَلِّمًا، أوْ مُسْتَمِعًا، أوْ مُحِبًّا، ولا تَكُنِ الخامِسَ فَتَهْلِكَ» “ . * * * قالَ الرّاوِي: وجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوايَةِ، وبَيْنَ الرِّوايَةِ الأُخْرى وهي قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«النّاسُ رَجُلانِ: عالِمٌ ومُتَعَلِّمٌ، وسائِرُ النّاسِ هَمَجٌ لا خَيْرَ فِيهِمْ» “ إنَّ المُسْتَمِعَ والمُحِبَّ بِمَنزِلَةِ المُتَعَلِّمِ، وما أحْسَنَ قَوْلَ بَعْضِ الأعْرابِ لِوَلَدِهِ: كُنْ سَبُعًا خالِسًا، أوْ ذِئْبًا خانِسًا، أوْ كَلْبًا حارِسًا، وإيّاكَ وأنْ تَكُونَ إنْسانًا ناقِصًا. (يه) قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَنِ اتَّكَأ عَلى يَدِهِ عالِمٌ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ، ومَن قَبَّلَ رَأْسَ عالِمٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةً» “ . (يو) قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِرِوايَةِ أبِي هُرَيْرَةَ: ”«بَكَتِ السَّماواتُ السَّبْعُ ومَن فِيهِنَّ ومَن عَلَيْهِنَّ، والأرَضُونَ السَّبْعُ ومَن فِيهِنَّ ومَن عَلَيْهِنَّ لِعَزِيزٍ ذَلَّ وغَنِيٍّ افْتَقَرَ، وعالِمٍ يَلْعَبُ بِهِ الجُهّالُ» “ . (يز) وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«حَمَلَةُ القُرْآنِ عُرَفاءُ أهْلِ الجَنَّةِ، والشُّهَداءُ قُوّادُ أهْلِ الجَنَّةِ، والأنْبِياءُ سادَةُ أهْلِ الجَنَّةِ» “ . (يح) وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«العُلَماءُ مَفاتِيحُ الجَنَّةِ وخُلَفاءُ الأنْبِياءِ» “ . (p-١٧٦)قالَ الرّاوِي: الإنْسانُ لا يَكُونُ مِفْتاحًا إنَّما المَعْنى أنَّ عِنْدَهم مِنَ العِلْمِ مِفْتاحَ الجِنانِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ مَن رَأى في النَّوْمِ أنَّ بِيَدِهِ مَفاتِيحَ الجَنَّةِ فَإنَّهُ يُؤْتى عِلْمًا في الدِّينِ. (يط) وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«إنَّ لِلَّهِ تَعالى في كُلِّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ ألْفَ رَحْمَةٍ عَلى جَمِيعِ خَلْقِهِ الغافِلِينَ، والبالِغِينَ وغَيْرِ البالِغِينَ، فَتِسْعُمِائَةٍ وتِسْعَةٌ وتِسْعُونَ رَحْمَةً لِلْعُلَماءِ وطالِبِي العِلْمِ والمُسْلِمِينَ، والرَّحْمَةُ الواحِدَةُ لِسائِرِ النّاسِ» “ . (كَ) وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«قُلْتُ يا جِبْرِيلُ أيُّ الأعْمالِ أفْضَلُ لِأُمَّتِي ؟ قالَ: العِلْمُ، قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ ؟ قالَ: النَّظَرُ إلى العالِمِ، قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ ؟ قالَ: زِيارَةُ العالِمِ، ثُمَّ قالَ: ومَن كَسَبَ العِلْمَ لِلَّهِ وأرادَ بِهِ صَلاحَ نَفْسِهِ وصَلاحَ المُسْلِمِينَ، ولَمْ يُرِدْ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيا، فَأنا كَفِيلُهُ بِالجَنَّةِ» “ . (كا) وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«عَشَرَةٌ تُسْتَجابُ لَهُمُ الدَّعْوَةُ: العالِمُ، والمُتَعَلِّمُ، وصاحِبُ حُسْنِ الخُلُقِ، والمَرِيضُ، واليَتِيمُ، والغازِي، والحاجُّ، والنّاصِحُ لِلْمُسْلِمِينَ، والوَلَدُ المُطِيعُ لِأبَوَيْهِ، والمَرْأةُ المُطِيعَةُ لِزَوْجِها» “ (كب) ”«سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ ما العِلْمُ ؟ فَقالَ: دَلِيلُ العَمَلِ، قِيلَ: فَما العَقْلُ ؟ قالَ: قائِدُ الخَيْرِ، قِيلَ: فَما الهَوى ؟ قالَ: مَرْكَبُ المَعاصِي، قِيلَ: فَما المالُ ؟ قالَ: رِداءُ المُتَكَبِّرِينَ، قِيلَ: فَما الدُّنْيا ؟ قالَ: سُوقُ الآخِرَةِ» “ . (كج) «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ يُحَدِّثُ إنْسانًا فَأوْحى اللَّهُ إلَيْهِ: إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِن عُمُرِ هَذا الرَّجُلِ الَّذِي تُحَدِّثُهُ إلّا ساعَةٌ، وكانَ هَذا وقْتَ العَصْرِ، فَأخْبَرَهُ الرَّسُولُ بِذَلِكَ فاضْطَرَبَ الرَّجُلُ، وقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلى أوْفَقِ عَمَلٍ لِي في هَذِهِ السّاعَةِ، قالَ: اشْتَغِلْ بِالتَّعَلُّمِ، فاشْتَغَلَ بِالتَّعَلُّمِ، وقُبِضَ قَبْلَ المَغْرِبِ» . قالَ الرّاوِي: فَلَوْ كانَ شَيْءٌ أفْضَلَ مِنَ العِلْمِ لَأمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِهِ في ذَلِكَ الوَقْتِ. (كد) قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«النّاسُ كُلُّهم مَوْتى إلّا العالِمُونَ» “ والخَبَرُ مَشْهُورٌ. (كه) عَنْ أنَسٍ، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«سَبْعَةٌ لِلْعَبْدِ تَجْرِي بَعْدَ مَوْتِهِ: مَن عَلَّمَ عِلْمًا، أوْ أجْرى نَهْرًا، أوْ حَفَرَ بِئْرًا، أوْ بَنى مَسْجِدًا، أوْ ورِّثَ مُصْحَفًا، أوْ تَرَكَ ولَدًا صالِحًا يَدْعُو لَهُ بِالخَيْرِ، أوْ صَدَقَةً تَجْرِي لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ» “ فَقَدَّمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ التَّعْلِيمَ عَلى جَمِيعِ الِانْتِفاعاتِ؛ لِأنَّهُ رُوحانِيٌّ، والرُّوحانِيُّ أبْقى مِنَ الجُسْمانِيّاتِ. (كو) قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«لا تُجالِسُوا العُلَماءَ إلّا إذا دَعَوْكم مِن خَمْسٍ إلى خَمْسٍ: مِنَ الشَّكِّ إلى اليَقِينِ، ومِنَ الكِبَرِ إلى التَّواضُعِ، ومِنَ العَداوَةِ إلى النَّصِيحَةِ، ومِنَ الرِّياءِ إلى الإخْلاصِ، ومِنَ الرَّغْبَةِ إلى الزُّهْدِ» “ (كز) «أوْصى النَّبِيُّ ﷺ إلى عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقالَ: يا عَلِيُّ احْفَظِ التَّوْحِيدَ فَإنَّهُ رَأْسُ مالِي، والزَمِ العَمَلَ فَإنَّهُ حِرْفَتِي، وأقِمِ الصَّلاةَ فَإنَّها قُرَّةُ عَيْنِي، واذْكُرِ الرَّبَّ فَإنَّهُ بَصِيرَةُ فُؤادِي، واسْتَعْمِلِ العِلْمَ فَإنَّهُ مِيراثِي» . (كح) أبُو كَبْشَةَ الأنْصارِيُّ قالَ: «ضَرَبَ لَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَثَلَ الدُّنْيا مَثَلَ أرْبَعَةِ رَهْطٍ: رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ عِلْمًا وآتاهُ مالًا فَهو يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ في مالِهِ، ورَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ عِلْمًا ولَمْ يُؤْتِهِ مالًا فَيَقُولُ: لَوْ أنَّ اللَّهَ تَعالى آتانِي مِثْلَ ما أُوتِيَ فُلانٌ لَفَعَلْتُ فِيهِ مِثْلَ ما يَفْعَلُ فُلانٌ فَهُما في الأجْرِ سَواءٌ، ورَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ مالًا ولَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهو يَمْنَعُهُ مِنَ الحَقِّ ويُنْفِقُهُ في الباطِلِ، ورَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا ولَمْ يُؤْتِهِ مالًا، فَيَقُولُ: لَوْ أنَّ اللَّهَ تَعالى آتانِي مِثْلَ ما أُوتِيَ فُلانٌ لَفَعَلْتُ فِيهِ مِثْلَ ما يَفْعَلُ فُلانٌ فَهُما في الوِزْرِ سَواءٌ» . الآثارُ: (أ) كُمَيْلُ بْنُ زِيادٍ قالَ: أخَذَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِيَدِي فَأخْرَجَنِي إلى الجَبّانَةِ فَلَمّا أصْحَرَ تَنَفَّسَ الصُّعَداءَ، ثُمَّ قالَ: يا كُمَيْلُ بْنَ زِيادٍ إنَّ هَذِهِ القُلُوبَ أوْعِيَةٌ فَخَيْرُها أوْعاها، فاحْفَظْ ما أقُولُ لَكَ: النّاسُ ثَلاثَةٌ: عالِمٌ رَبّانِيٌّ، ومُتَعَلِّمٌ عَلى سَبِيلِ نَجاةٍ، وهَمَجٌ رِعاعٌ أتْباعُ كُلِّ ناعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ العِلْمِ، ولَمْ يَلْجَئُوا إلى رُكْنٍ وثِيقٍ، ياكُمَيْلُ، العِلْمُ خَيْرٌ مِنَ المالِ، والعِلْمُ يَحْرُسُكَ وأنْتَ تَحْرُسُ المالَ، والمالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، والعِلْمُ يَزْكُو بِالإنْفاقِ، وصَنِيعُ المالِ يَزُولُ بِزَوالِهِ، يا كُمَيْلُ مَعْرِفَةُ العِلْمِ زَيْنٌ يُزانُ بِهِ يَكْتَسِبُ (p-١٧٧)بِهِ الإنْسانُ الطّاعَةَ في حَياتِهِ، وجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وفاتِهِ، والعِلْمُ حاكِمٌ، والمالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. (ب) عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِن مَنزِلِهِ وعَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ مِثْلُ جَبَلِ تِهامَةَ، فَإذا سَمِعَ العِلْمَ، وخافَ واسْتَرْجَعَ عَلى ذُنُوبِهِ انْصَرَفَ إلى مَنزِلِهِ ولَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ، فَلا تُفارِقُوا مَجالِسَ العُلَماءِ، فَإنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ تُرْبَةً عَلى وجْهِ الأرْضِ أكْرَمَ مِن مَجالِسِ العُلَماءِ. (ج) عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: خُيَّرَ سُلَيْمانُ بَيْنَ المُلْكِ والمالِ وبَيْنَ العِلْمِ فاخْتارَ العِلْمَ، فَأُعْطِيَ العِلْمَ والمُلْكَ مَعًا. (د) سُلَيْمانُ لَمْ يَحْتَجْ إلى الهُدْهُدِ إلّا لِعِلْمِهِ لِما رُوِيَ عَنْ نافِعِ بْنِ الأزْرَقِ قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ: كَيْفَ اخْتارَ سُلَيْمانُ الهُدْهُدَ لِطَلَبِ الماءِ ؟ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لِأنَّ الأرْضَ كالزُّجاجَةِ يُرى باطِنُها مِن ظاهِرِها، فَقالَ نافِعٌ: فَكَيْفَ بِأوْقاتِ الفَخِّ يُغَطّى لَهُ بِأُصْبُعٍ مِن تُرابٍ فَلا يَراهُ بَلْ يَقَعُ فِيهِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إذا جاءَ القَدَرُ عَمِيَ البَصَرُ. (ه) قالَ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ: تُقَسَّمُ الجَنَّةُ عَلى عَشَرَةِ آلافِ جُزْءٍ، تِسْعَةُ آلافِ وتِسْعُمِائَةٍ وتِسْعَةٌ وتِسْعُونَ مِنها لِلَّذِينِ عَقَلُوا عَنِ اللَّهِ أمْرَهُ فَكانَ هَذا ثَوابَهم عَلى قَدْرِ ما قَسَمَ اللَّهُ لَهم مِنَ العُقُولِ، يَقْتَسِمُونَ المَنازِلَ فِيها، وجُزْءٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الضُّعَفاءِ الفُقَراءِ الصّالِحِينَ. (و) قالَ ابْنُ عَبّاسٍ لِوَلَدِهِ: يا بُنَيَّ عَلَيْكَ بِالأدَبِ؛ فَإنَّهُ دَلِيلٌ عَلى المُرُوءَةِ، وأُنْسٌ في الوَحْشَةِ، وصاحِبٌ في الغُرْبَةِ، وقَرِينٌ في الحَضَرِ، وصَدْرٌ في المَجْلِسِ، ووَسِيلَةٌ عِنْدَ انْقِضاءِ الوَسائِلِ، وغِنًى عِنْدَ العَدَمِ، ورِفْعَةٌ لِلْخَسِيسِ، وكَمالٌ لِلشَّرِيفِ، وجَلالَةٌ لِلْمَلِكِ. (ز) عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ: صَرِيرُ قَلَمِ العُلَماءِ تَسْبِيحٌ، وكِتابَةُ العِلْمِ والنَّظَرُ فِيهِ عِبادَةٌ، وإذا أصابَ مِن ذَلِكَ المِدادِ ثَوْبَهُ فَكَأنَّما أصابَهُ دَمُ الشُّهَداءِ، وإذا قَطَرَ مِنها عَلى الأرْضِ تَلَأْلَأ نُورُهُ، وإذا قامَ مِن قَبْرِهِ نَظَرَ إلَيْهِ أهْلُ الجَمْعِ، فَيُقالُ: هَذا عَبْدٌ مِن عِبادِ اللَّهِ أكْرَمَهُ اللَّهُ وحُشِرَ مَعَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. (ح) في كِتابِ كَلِيلَةَ ودِمْنَةَ: أحَقُّ مَن لا يُسْتَخَفُّ بِحُقُوقِهِمْ ثَلاثَةٌ: العالِمُ والسُّلْطانُ والإخْوانُ، فَإنَّ مَنِ اسْتَخَفَّ بِالعالِمِ أهْلَكَ دِينَهُ، ومَنِ اسْتَخَفَّ بِالسُّلْطانِ أهْلَكَ دُنْياهُ، ومَنِ اسْتَخَفَّ بِالإخْوانِ أهْلَكَ مُرُوءَتَهُ. (ط) قالَ سُقْراطُ: مِن فَضِيلَةِ العِلْمِ أنَّكَ لا تَقْدِرُ عَلى أنْ يَخْدِمَكَ فِيهِ أحَدٌ كَما تَجِدُ مَن يَخْدِمُكَ في سائِرِ الأشْياءِ، بَلْ تَخْدِمُهُ بِنَفْسِكَ ولا يَقْدِرُ أحَدٌ عَلى سَلْبِهِ عَنْكَ. (ي) قِيلَ لِبَعْضِ الحُكَماءِ: لا تَنْظُرْ، فَأغْمَضَ عَيْنَيْهِ، فَقِيلَ: لا تَسْمَعْ، فَسَدَّ أُذُنَيْهِ، فَقِيلَ: لا تَتَكَلَّمْ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلى فِيهِ، فَقِيلَ لَهُ: لا تَعْلَمْ، فَقالَ: لا أقْدِرُ عَلَيْهِ. (يا) إذا كانَ السّارِقُ عالِمًا لا تُقْطَعُ يَدُهُ؛ لِأنَّهُ يَقُولُ: كانَ المالُ ودِيعَةً لِي، وكَذا الشّارِبُ يَقُولُ: حَسِبْتُهُ خَلّا، وكَذا الزّانِي يَقُولُ: تَزَوَّجْتُها فَإنَّهُ لا يُحَدُّ. (يب) قالَ بَعْضُهم: أحْيُوا قُلُوبَ إخْوانِكم بِبَصائِرِ بَيانِكم كَما تُحْيُونَ المَواتَ بِالنَّباتِ والنَّواةِ، فَإنَّ نَفْسًا تَبْعُدُ مِنَ الشَّهَواتِ والشُّبُهاتِ أفْضَلُ مِن أرْضٍ تَصْلُحُ لِلنَّباتِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎وفِي الجَهْلِ قَبْلَ المَوْتِ مَوْتٌ لِأهْلِهِ وأجْسامُهم قَبْلَ القُبُورِ قُبُورُ ؎وإنَّ امْرَأً لَمْ يَحْيَ بِالعِلْمِ مَيِّتٌ ∗∗∗ ولَيْسَ لَهُ حَتّى النُّشُورِ نُشُورُ * * * (وأمّا النُّكَتُ) فَمِن وُجُوهٍ: (أ) المَعْصِيَةُ عِنْدَ الجَهْلِ لا يُرْجى زَوالُها، وعِنْدَ الشَّهْوَةِ يُرْجى زَوالُها، انْظُرْ إلى زَلَّةِ آدَمَ فَإنَّهُ بِعِلْمِهِ اسْتَغْفَرَ والشَّيْطانُ غَوى، وبَقِيَ في غَيِّهِ أبَدًا؛ لِأنَّ ذَلِكَ كانَ بِسَبَبِ الجَهْلِ. (ب) إنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا صارَ مَلِكًا احْتاجَ إلى وزِيرٍ فَسَألَ رَبَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَقالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إنَّ رَبَّكَ يَقُولُ: لا تَخْتَرْ إلّا فُلانًا، فَرَآهُ يُوسُفُ في أسْوَأِ الأحْوالِ فَقالَ لِجِبْرِيلَ: إنَّهُ كَيْفَ يَصْلُحُ لِهَذا العَمَلِ مَعَ سُوءِ حالِهِ ؟ فَقالَ جِبْرِيلُ: إنَّ رَبَّكَ عَيَّنَهُ لِذَلِكَ؛ لِأنَّهُ كانَ ذَبَّ عَنْكَ حَيْثُ قالَ: ﴿وإنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وهو مِنَ الصّادِقِينَ﴾ [يُوسُفَ: ٢٧] والنُّكْتَةُ أنَّ الَّذِي ذَبَّ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ اسْتَحَقَّ الشَّرِكَةَ في مَمْلَكَتِهِ، فَمَن ذَبَّ عَنِ الدِّينِ القَوِيمِ بِالبُرْهانِ المُسْتَقِيمِ كَيْفَ لا يَسْتَحِقُّ مِنَ اللَّهِ الإحْسانَ والتَّحْسِينَ ؟! (ج) أرادَ واحِدٌ خِدْمَةَ مَلِكٍ فَقالَ المَلِكُ: اذْهَبْ وتَعَلَّمْ (p-١٧٨)حَتّى تَصْلُحَ لِخِدْمَتِي، فَلَمّا شَرَعَ في التَّعَلُّمِ وذاقَ لَذَّةَ العِلْمِ بَعَثَ المَلِكُ إلَيْهِ وقالَ: اتْرُكِ التَّعَلُّمَ، فَقَدْ صِرْتَ أهْلًا لِخِدْمَتِي، فَقالَ: كُنْتُ أهْلًا لِخِدْمَتِكَ حِينَ لَمْ تَرَنِي أهْلًا لِخِدْمَتِكَ، وحِينَ رَأيْتَنِي أهْلًا لِخِدْمَتِكَ رَأيْتُ نَفْسِي أهْلًا لِخِدْمَةِ اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ أنِّي كُنْتُ أظُنُّ أنَّ البابَ بابُكَ لِجَهْلِي، والآنَ عَلِمْتُ أنَّ البابَ بابُ الرَّبِّ. (د) تَحْصِيلُ العِلْمِ إنَّما يَصْعُبُ عَلَيْكَ لِفَرْطِ حُبِّكَ لِلدُّنْيا؛ لِأنَّهُ تَعالى أعْطاكَ سَوادَ العَيْنِ وسُوَيْداءَ القَلْبِ، ولا شَكَّ أنَّ السَّوادَ أكْبَرُ مِنَ السُّوَيْداءِ في اللَّفْظِ؛ لِأنَّ السُّوَيْداءَ تَصْغِيرُ السَّوادِ، ثُمَّ إذا وضَعْتَ عَلى سَوادِ عَيْنِكَ جُزْءًا مِنَ الدُّنْيا لا تَرى شَيْئًا، فَكَيْفَ إذا وضَعْتَ عَلى السُّوَيْداءِ كُلَّ الدُّنْيا كَيْفَ تَرى بِقَلْبِكَ شَيْئًا ؟ (ه) قالَ حَكِيمٌ: القَلْبُ مَيِّتٌ وحَياتُهُ بِالعِلْمِ، والعِلْمُ مَيِّتٌ وحَياتُهُ بِالطَّلَبِ، والطَّلَبُ ضَعِيفٌ وقُوَّتُهُ بِالمُدارَسَةِ، فَإذا قَوِيَ بِالمُدارَسَةِ فَهو مُحْتَجِبٌ وإظْهارُهُ بِالمُناظَرَةِ، وإذا ظَهَرَ بِالمُناظَرَةِ فَهو عَقِيمٌ ونِتاجُهُ بِالعَمَلِ، فَإذا زُوِّجَ العِلْمُ بِالعَمَلِ تَوالَدَ وتَناسَلَ مُلْكًا أبَدِيًّا لا آخِرَ لَهُ. (و) ﴿قالَتْ نَمْلَةٌ ياأيُّها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ﴾ ] [النَّمْلِ: ١٨] إلى قَوْلِهِ: ﴿وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ [النَّمْلِ: ١٨] كانَتْ رِياسَةُ تِلْكَ النَّمْلَةِ عَلى غَيْرِها لَمْ تَكُنْ إلّا بِسَبَبِ أنَّها عَلِمَتْ مَسْألَةً واحِدَةً وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ كَأنَّها قالَتْ: إنَّ سُلَيْمانَ مَعْصُومٌ والمَعْصُومُ لا يَجُوزُ مِنهُ إيذاءُ البَرِيءِ عَنِ الجُرْمِ، ولَكِنَّهُ لَوْ حَطَّمَكم فَإنَّما يَصْدُرُ ذَلِكَ مِنهُ عَلى سَبِيلِ السَّهْوِ؛ لِأنَّهُ لا يَعْلَمُ حالَكم فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ إشارَةٌ إلى تَنْزِيهِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ عَنِ المَعْصِيَةِ، فَتِلْكَ النَّمْلَةُ لَمّا عَلِمَتْ هَذِهِ المَسْألَةَ الواحِدَةَ اسْتَحَقَّتِ الرِّياسَةَ التّامَّةَ، فَمَن عَلِمَ حَقائِقَ الأشْياءِ مِنَ المَوْجُوداتِ والمَعْدُوماتِ كَيْفَ لا يَسْتَوْجِبُ الرِّياسَةَ في الدُّنْيا والدِّينِ. (ز) الكَلْبُ إذا تَعَلَّمَ وأرْسَلَهُ المالِكُ عَلى اسْمِ اللَّهِ تَعالى صارَ صَيْدُهُ النَّجِسُ طاهِرًا، والنُّكْتَةُ أنَّ العِلْمَ هُناكَ انْضَمَّ إلى الكَلْبِ فَصارَ النَّجِسُ بِبَرَكَةِ العِلْمِ طاهِرًا، فَهَهُنا النَّفْسُ والرُّوحُ طاهِرَتانِ في أصْلِ الفِطْرَةِ إلّا أنَّهُما تَلَوَّثَتا بِأقْذارِ المَعْصِيَةِ، ثُمَّ انْضَمَّ إلَيْهِما العِلْمُ بِاللَّهِ وبِصِفاتِهِ فَنَرْجُو مِن عَمِيمِ لُطْفِهِ أنْ يَقْلِبَ النَّجِسَ طاهِرًا هَهُنا والمَرْدُودَ مَقْبُولًا. (ح) القَلْبُ رَئِيسُ الأعْضاءِ، ثُمَّ تِلْكَ الرِّياسَةُ لَيْسَتْ لِلْقُوَّةِ، فَإنَّ العَظْمَ أقْوى مِنهُ، ولا لِلْعِظَمِ، فَإنَّ الفَخِذَ أعْظَمُ مِنهُ، ولا لِلْحِدَّةِ، فَإنَّ الظُّفْرَ أحَدُّ مِنهُ، وإنَّما تِلْكَ الرِّياسَةُ بِسَبَبِ العِلْمِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ العِلْمَ أشْرَفُ الصِّفاتِ. (أمّا الحِكاياتُ): (أ) حُكِيَ أنَّ هارُونَ الرَّشِيدَ كانَ مَعَهُ فُقَهاءُ، وكانَ فِيهِمْ أبُو يُوسُفَ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ فادَّعى عَلَيْهِ آخَرُ أنَّهُ أخَذَ مِن بَيْتِهِ مالًا بِاللَّيْلِ فَأقَرَّ الآخِذُ بِذَلِكَ في المَجْلِسِ فاتَّفَقَ الفُقَهاءُ عَلى أنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ، فَقالَ أبُو يُوسُفَ: لا قَطْعَ عَلَيْهِ، قالُوا: لِمَ ؟ قالَ: لِأنَّهُ أقَرَّ بِالأخْذِ والأخْذُ لا يُوجِبُ القَطْعَ بَلْ لا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرافِ بِالسَّرِقَةِ، فَصَدَّقَهُ الكُلُّ في قَوْلِهِ، ثُمَّ قالُوا لِلْآخِذِ أسَرَقْتَها ؟ قالَ: نَعَمْ، فَأجْمَعُوا كُلُّهم عَلى أنَّهُ وجَبَ القَطْعُ، لِأنَّهُ أقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، فَقالَ أبُو يُوسُفَ: لا قَطْعَ لِأنَّهُ وإنْ أقَرَّ بِالسَّرِقَةِ لَكِنْ بَعْدَ ما وجَبَ الضَّمانُ عَلَيْهِ بِإقْرارِهِ بِالأخْذِ فَإذا أقَرَّ بِالسَّرِقَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَهو بِهَذا الإقْرارِ يُسْقِطُ الضَّمانَ عَنْ نَفْسِهِ فَلا يُسْمَعُ إقْرارُهُ فَتَعَجَّبَ الكُلُّ مِن ذَلِكَ. (ب) عَنِ الشَّعْبِيِّ كُنْتُ عِنْدَ الحَجّاجِ فَأُتِيَ بِيَحْيى بْنِ يَعْمَرَ فَقِيهِ خُراسانَ مَعَ بَلْخٍ مُكَبَّلًا بِالحَدِيدِ فَقالَ لَهُ الحَجّاجُ: أنْتَ زَعَمْتَ أنَّ الحَسَنَ والحُسَيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ؟ فَقالَ: بَلى، فَقالَ الحَجّاجُ: لَتَأْتِيَنِّي بِها واضِحَةً بَيِّنَةً مِن كِتابِ اللَّهِ أوْ لَأُقَطِّعَنَّكَ عُضْوًا عُضْوًا، فَقالَ: آتِيكَ بِها واضِحَةً بَيِّنَةً مِن كِتابِ اللَّهِ يا حَجّاجُ قالَ: فَتَعَجَّبْتُ مِن جُرْأتِهِ بِقَوْلِهِ: يا حَجّاجُ، فَقالَ لَهُ: ولا تَأْتِنِي بِهَذِهِ الآيَةِ ﴿نَدْعُ أبْناءَنا وأبْناءَكُمْ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٦١] فَقالَ: آتِيكَ بِها واضِحَةً مِن كِتابِ اللَّهِ وهو قَوْلُهُ: ﴿ونُوحًا هَدَيْنا مِن قَبْلُ ومِن ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وسُلَيْمانَ﴾ [الأنْعامِ: ٨٤] إلى قَوْلِهِ: ﴿وزَكَرِيّا ويَحْيى وعِيسى﴾ [الأنْعامِ: ٨٥] فَمَن كانَ أبا عِيسى وقَدْ أُلْحِقَ بِذُرِّيَّةِ نُوحٍ ؟ قالَ: فَأطْرَقَ مَلِيًّا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقالَ: كَأنِّي لَمْ أقْرَأْ هَذِهِ الآيَةَ مِن كِتابِ اللَّهِ، حُلُّوا وثاقَهُ وأعْطُوهُ مِنَ المالِ كَذا. (ج) يُحْكى أنَّ جَماعَةً مِن أهْلِ المَدِينَةِ جاءُوا إلى أبِي حَنِيفَةَ لِيُناظِرُوهُ في (p-١٧٩)القِراءَةِ خَلْفَ الإمامِ ويُبَكِّتُوهُ ويُشَنِّعُوا عَلَيْهِ، فَقالَ لَهم: لا يُمْكِنُنِي مُناظَرَةُ الجَمِيعِ، فَفَوِّضُوا أمْرَ المُناظَرَةِ إلى أعْلَمِكم لِأُناظِرَهُ، فَأشارُوا إلى واحِدٍ فَقالَ: هَذا أعْلَمُكم ؟ قالُوا: نَعَمْ، قالَ: والمُناظَرَةُ مَعَهُ كالمُناظَرَةِ مَعَكم ؟ قالُوا: نَعَمْ، قالَ: والإلْزامُ عَلَيْهِ كالإلْزامِ عَلَيْكم ؟ قالُوا: نَعَمْ، قالَ: وإنْ ناظَرْتُهُ وألْزَمْتُهُ الحُجَّةَ فَقَدْ لَزِمَتْكُمُ الحُجَّةُ ؟ قالُوا: نَعَمْ، قالَ: كَيْفَ ؟ قالُوا: لِأنّا رَضِينا بِهِ إمامًا، فَكانَ قَوْلُهُ قَوْلًا لَنا، قالَ أبُو حَنِيفَةَ: فَنَحْنُ لَمّا اخْتَرْنا الإمامَ في الصَّلاةِ كانَتْ قِراءَتُهُ قِراءَةً لَنا وهو يَنُوبُ عَنّا فَأقَرُّوا لَهُ بِالإلْزامِ. (د) هَجا الفَرَزْدَقُ واحِدًا فَقالَ: ؎لَقَدْ ضاعَ شِعْرِي عَلى بابِكم كَما ضاعَ دُرٌّ عَلى خالِصَةْ وكانَتْ خالِصَةُ مَعْشُوقَةَ سُلَيْمانَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ، وكانَتْ ظَرِيفَةً صاحِبَةَ أدَبٍ، وكانَتْ هَيْبَةُ سُلَيْمانَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ تَفُوقُ هَيْبَةَ المَرْوانِيِّينَ، فَلَمّا بَلَغَها هَذا البَيْتُ شَقَّ عَلَيْها فَدَخَلَتْ عَلى سُلَيْمانَ وشَكَتِ الفَرَزْدَقَ، فَأمَرَ سُلَيْمانُ بِإشْخاصِ الفَرَزْدَقِ عَلى أفْظَعِ الوُجُوهِ مُكَبَّلًا مُقَيَّدًا، فَلَمّا حَضَرَ وما كانَ بِهِ مِنَ الرَّمَقِ إلّا مِقْدارُ ما يُقِيمُهُ عَلى الرِّجْلِ مِن شِدَّةِ الهَيْبَةِ، فَقالَ لَهُ سُلَيْمانُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ: أنْتَ القائِلُ: ؎لَقَدْ ضاعَ شِعْرِي عَلى بابِكم ∗∗∗ كَما ضاعَ دُرٌّ عَلى خالِصَةْ فَقالَ: ما قُلْتُهُ هَكَذا، وإنَّما غَيَّرَهُ عَلَيَّ مَن أرادَ بِي مَكْرُوهًا، وإنَّما قُلْتُ: - وخالِصَةُ مِن وراءِ السِّتْرِ تَسْمَعُ -: ؎لَقَدْ ضاءَ شِعْرِي عَلى بابِكم ∗∗∗ كَما ضاءَ دُرٌّ عَلى خالِصَةْ فَسُرِّيَ عَنْ خالِصَةَ فَلَمْ تَمْلِكْ نَفْسَها أنْ خَرَجَتْ مِنَ السِّتْرِ فَألْقَتْ عَلى الفَرَزْدَقِ ما كانَ عَلَيْها مِنَ الحُلِيِّ، وهي زِيادَةٌ عَلى ألْفِ ألْفِ دِرْهَمٍ، فَأتْبَعَهُ سُلَيْمانُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ حاجِبَهُ لَمّا خَرَجَ مِن عِنْدِهِ حَتّى اشْتَرى الحُلِيَّ مِنَ الفَرَزْدَقِ بِمِائَةِ ألْفٍ ورَدَّهُ عَلى خالِصَةَ. (ه) دَعا المَنصُورُ أبا حَنِيفَةَ يَوْمًا فَقالَ الرَّبِيعُ - وهو يُعادِيهُ -: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ هَذا - يَعْنِي أبا حَنِيفَةَ - يُخالِفُ جَدَّكَ حَيْثُ يَقُولُ: الِاسْتِثْناءُ المُنْفَصِلُ جائِزٌ وأبُو حَنِيفَةَ يُنْكِرُهُ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: هَذا الرَّبِيعُ يَقُولُ: لَيْسَ لَكَ بَيْعَةٌ في رَقَبَةِ النّاسِ، فَقالَ: كَيْفَ ؟ قالَ: إنَّهم يَعْقِدُونَ البَيْعَةَ لَكَ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلى مَنازِلِهِمْ فَيَسْتَثْنُونَ فَتَبْطُلُ بَيْعَتُهم، فَضَحِكَ المَنصُورُ، وقالَ: إيّاكَ يا رَبِيعُ وأبا حَنِيفَةَ، فَلَمّا خَرَجَ فَقالَ الرَّبِيعُ: يا أبا حَنِيفَةَ سَعَيْتَ في دَمِي، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: كُنْتَ البادِيَ وأنا المُدافِعُ. ويُحْكى أنَّ مُسْلِمًا قَتَلَ ذِمِّيًّا عَمْدًا فَحَكَمَ أبُو يُوسُفَ بِقَتْلِ المُسْلِمِ بِهِ، فَبَلَغَ زُبَيْدَةَ ذَلِكَ فَبَعَثَتْ إلى أبِي يُوسُفَ فَقالَتْ: إيّاكَ وأنْ تَقْتُلَ المُسْلِمَ، وكانَتْ في عِنايَةٍ عَظِيمَةٍ بِأمْرِ المُسْلِمِينَ، فَلَمّا حَضَرَ أبُو يُوسُفَ وحَضَرَ الفُقَهاءُ وجِيءَ بِأوْلِياءَ الذِّمِّيِّ والمُسْلِمِ فَقالَ لَهُ الرَّشِيدُ: احْكم بِقَتْلِهِ، فَقالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ هو مَذْهَبِي غَيْرَ أنِّي لَسْتُ أقْتُلُ المُسْلِمَ بِهِ حَتّى تَقُومَ البَيِّنَةُ العادِلَةُ أنَّ الذِّمِّيَّ يَوْمَ قَتَلَهُ المُسْلِمُ كانَ مِمَّنْ يُؤَدِّي الجِزْيَةَ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ فَبَطَلَ دَمُهُ. (ز) دَخَلَ الغَضْبانُ عَلى الحَجّاجِ بَعْدَما قالَ لِعَدُوِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الأشْعَثِ: تَغَدَّ بِالحَجّاجِ قَبْلَ أنْ يَتَعَشّى بِكَ، فَقالَ لَهُ: ما جَوابُ: السَّلامُ عَلَيْكَ ؟ فَقالَ: وعَلَيْكُمُ السَّلامُ، ثُمَّ فَطِنَ الحَجّاجُ، وقالَ: قاتَلَكَ اللَّهُ يا غَضْبانُ، أخَذْتَ لِنَفْسِكَ أمانًا بِرَدِّي عَلَيْكَ، أما واللَّهِ لَوْلا الوَفاءُ والكَرَمُ، لَما شَرِبْتَ الماءَ البارِدَ بَعْدَ ساعَتِكَ هَذِهِ. فانْظُرْ إلى فائِدَةِ العِلْمِ في هَذِهِ الصُّورَةِ، فَلِلَّهِ دَرُّ العِلْمِ ومَن بِهِ تَرَدّى، وتَعْسًا لِلْجَهْلِ ومَن في أوْدِيَتِهِ تَرَدّى. (ح) بَلَغَ عَبْدَ المَلِكِ بْنَ مَرْوانَ قَوْلُ الشّاعِرِ: (p-١٨٠) ؎ومِنّا سُوَيْدٌ والبَطِينُ وقَعْنَبُ ∗∗∗ ومِنّا أمِيرُ المُؤْمِنِينَ شَبِيبُ فَأمَرَ بِهِ فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ، فَقالَ: أنْتَ القائِلُ: ومَنّا أمِيرُ المُؤْمِنِينَ شَبِيبُ ؟ فَقالَ: إنَّما قُلْتُ: ومِنّا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ شَبِيبُ، بِنَصْبِ الرّاءِ فَنادَيْتُكَ واسْتَغَثْتُ بِكَ، فَسُرِّيَ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، وتَخَلَّصَ الرَّجُلُ مِنَ الهَلاكِ بِصَنْعَةٍ يَسِيرَةٍ عَمِلَها بِعِلْمِهِ، وهو أنَّهُ حَوَّلَ الضَّمَّةَ فَتْحَةً. (ط) قالَ أبُو مُسْلِمٍ صاحِبُ الدَّوْلَةِ لِسُلَيْمانَ بْنِ كَثِيرٍ: بَلَغَنِي أنَّكَ كُنْتَ في مَجْلِسٍ وقَدْ جَرى بَيْنَ يَدَيْكَ ذِكْرِي، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ سَوِّدْ وجْهَهُ، واقْطَعْ عُنُقَهُ، وأسْقِنِي مِن دَمِهِ، فَقالَ: نَعَمْ قُلْتُهُ، ولَكِنْ في كَرْمِ كَذا لَمّا نَظَرْتُ إلى الحِصْرِمِ، فاسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ، وعَفا عَنْهُ. (ي) قالَ رَجُلٌ لِأبِي حَنِيفَةَ: إنِّي حَلَفْتُ لا أُكَلِّمُ امْرَأتِي حَتّى تُكَلِّمَنِي، وحَلَفَتْ بِصَدَقَةِ ما تَمْلِكُ أنْ لا تُكَلِّمَنِي أوْ أُكَلِّمَها فَتَحَيَّرَ الفُقَهاءُ فِيهِ فَقالَ سُفْيانُ: مَن كَلَّمَ صاحِبَهُ حَنِثَ. فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: اذْهَبْ وكَلِّمْها ولا حِنْثَ عَلَيْكُما، فَذَهَبَ إلى سُفْيانَ وأخْبَرَهُ بِما قالَ أبُو حَنِيفَةَ، فَذَهَبَ سُفْيانُ إلى أبِي حَنِيفَةَ مُغْضَبًا، وقالَ: تُبِيحُ الفُرُوجَ ! فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: وما ذاكَ ؟ قالَ سُفْيانُ: أعِيدُوا عَلى أبِي حَنِيفَةَ السُّؤالَ، فَأعادُوا وأعادَ أبُو حَنِيفَةَ الفَتْوى، فَقالَ: مِن أيْنَ قُلْتَ ؟ قالَ: لَمّا شافَهَتْهُ بِاليَمِينِ بَعْدَما حَلَفَ كانَتْ مُكَلِّمَةً فَسَقَطَتْ يَمِينُهُ، وإنْ كَلَّمَها فَلا حِنْثَ عَلَيْهِ ولا عَلَيْها؛ لِأنَّهُ قَدْ كَلَّمَها بَعْدَ اليَمِينِ فَسَقَطَتِ اليَمِينُ عَنْهُما، قالَ سُفْيانُ: إنَّهُ لَيُكْشَفُ لَكَ مِنَ العِلْمِ عَنْ شَيْءٍ كُلُّنا عَنْهُ غافِلٌ. (يا) دَخَلَ اللُّصُوصُ عَلى رَجُلٍ فَأخَذُوا مَتاعَهُ واسْتَحْلَفُوهُ بِالطَّلاقِ ثَلاثًا أنْ لا يُعْلِمَ أحَدًا، فَأصْبَحَ الرَّجُلُ وهو يَرى اللُّصُوصَ يَبِيعُونَ مَتاعَهُ ولَيْسَ يَقْدِرُ أنْ يَتَكَلَّمَ مِن أجْلِ يَمِينِهِ، فَجاءَ الرَّجُلُ يُشاوِرُ أبا حَنِيفَةَ فَقالَ: أحْضِرْ لِي إمامَ مَسْجِدِكَ وأهْلَ مَحَلَّتِكَ فَأحْضَرَهم إيّاهُ، فَقالَ لَهم أبُو حَنِيفَةَ: هَلْ تُحِبُّونَ أنْ يَرُدَّ اللَّهُ عَلى هَذا مَتاعَهُ ؟ قالُوا: نَعَمْ، قالَ: فاجْمَعُوا كُلًّا مِنهم، وأدْخِلُوهم في دارٍ ثُمَّ أخْرِجُوهم واحِدًا واحِدًا، وقُولُوا: أهَذا لِصُّكَ ؟ فَإنْ كانَ لَيْسَ بِلِصِّهِ قالَ: لا، وإنْ كانَ لِصَّهُ فَلْيَسْكُتْ، وإذا سَكَتَ فاقْبِضُوا عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا ما أمَرَهم بِهِ أبُو حَنِيفَةَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ جَمِيعَ ما سُرِقَ مِنهُ. [[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب