الباحث القرآني

﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها﴾: لَمّا أخْبَرَ تَعالى المَلائِكَةَ عَنْ وجْهِ الحِكْمَةِ في خَلْقِ آدَمَ وذُرِّيَّتِهِ عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ، أرادَ أنْ يَفْصِلَ، فَبَيَّنَ لَهم مِن فَضْلِ آدَمَ ما لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهم، وذَلِكَ بِأنْ عَلَّمَهُ الأسْماءَ؛ لِيُظْهِرَ فَضْلَهُ وقُصُورَهم عَنْهُ في العِلْمِ، فَتَأكَّدَ الجَوابُ الإجْمالِيُّ بِالتَّفْضِيلِ. ولا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ قَبْلَ هَذا؛ لِأنَّهُ بِها يَتِمُّ المَعْنى ويَصِحُّ هَذا العَطْفُ، وهي: فَجَعَلَ في الأرْضِ خَلِيفَةً. ولَمّا كانَ لَفْظُ الخَلِيفَةِ مَحْذُوفًا مَعَ الجُمْلَةِ المُقَدَّرَةِ، أبْرَزَهُ في قَوْلِهِ: ﴿وعَلَّمَ آدَمَ﴾، ناصًّا عَلَيْهِ ومُنَوِّهًا بِذِكْرِهِ بِاسْمِهِ. وأبْعَدَ مَن زَعَمَ أنَّ: ﴿وعَلَّمَ آدَمَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ، قالَ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جاعِلٌ﴾ [البقرة: ٣٠] . وهَلِ التَّعْلِيمُ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ تَعالى لَهُ في السَّماءِ، كَما كَلَّمَ مُوسى في الأرْضِ، أوْ بِوَساطَةِ مَلَكٍ أوْ بِالإلْهامِ ؟ أقْوالٌ أُظْهَرُها أنَّ البارِي تَعالى هو المُعَلِّمُ، لا بِواسِطَةٍ ولا إلْهامٍ. وقَرَأ اليَمانِيُّ ويَزِيدُ اليَزِيدِيُّ: ﴿وعَلَّمَ آدَمَ﴾ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وحُذِفَ الفاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ والتَّضْعِيفِ في عُلِّمَ لِلتَّعْدِيَةِ، إذْ كانَ قَبْلَ التَّضْعِيفِ يَتَعَدّى لِواحِدٍ، فَعَدّى بِهِ إلى اثْنَيْنِ. ولَيْسَتِ التَّعْدِيَةُ بِالتَّضْعِيفِ مَقِيسَةً، إنَّما يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلى مَوْرِدِ السَّماعِ، سَواءً كانَ الفِعْلُ قَبْلَ التَّضْعِيفِ لازِمًا أمْ كانَ مُتَعَدِّيًا، نَحْوَ: عَلِمَ المُتَعَدِّيَةُ إلى واحِدٍ. وأمّا إنْ كانَ مُتَعَدِّيًا إلى اثْنَيْنِ، فَلا يُحْفَظُ في شَيْءٍ مِنهُ التَّعْدِيَةَ بِالتَّضْعِيفِ إلى ثَلاثٍ. وقَدْ وهِمَ القاسِمُ بْنُ عَلِيٍّ الحَرِيرِيُّ في زَعْمِهِ في شَرْحِ المُلْحَةِ لَهُ أنَّ عَلِمَ تَكُونُ مَنقُولَةً مِن عَلِمَ الَّتِي تَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ فَتَصِيرُ بِالتَّضْعِيفِ مُتَعَدِّيَةً إلى ثَلاثَةٍ، ولا يَحْفَظُ ذَلِكَ مِن كَلامِهِمْ. وقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إلى اقْتِياسِ التَّعْدِيَةِ بِالتَّضْعِيفِ. قالَ الإمامُ أبُو الحُسَيْنِ بْنُ أبِي الرَّبِيعِ في (كِتابِ التَّلْخِيصِ) مِن تَأْلِيفِهِ: الظّاهِرُ مِن مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أنَّ النَّقْلَ بِالتَّضْعِيفِ سَماعٌ في المُتَعَدِّي واللّازِمِ، وفِيما عَلَّمَهُ أقْوالٌ: أسْماءُ جَمِيعِ المَخْلُوقاتِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُبَيْرٍ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ، أوِ اسْمُ ما كانَ وما يَكُونُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وعُزِيَ إلى ابْنِ عَبّاسٍ، وهو قَرِيبٌ مِنَ الأوَّلِ، أوْ جَمِيعُ اللُّغاتِ، ثُمَّ كَلَّمَ كُلَّ واحِدٍ مِن بَنِيهِ بِلُغَةٍ فَتَفَرَّقُوا في البِلادِ، واخْتَصَّ كُلَّ فِرْقَةٍ بِلُغَةٍ أوْ كَلِمَةٍ واحِدَةٍ تَفَرَّعَ مِنها جَمِيعُ اللُّغاتِ، أوْ أسْماءُ النُّجُومِ فَقَطْ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ، أوْ أسْماءُ المَلائِكَةِ فَقَطْ، قالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ، أوْ أسْماءُ ذُرِّيَّتِهِ، قالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ زَيْدٍ، أوْ أسْماءُ ذُرِّيَّتِهِ والمَلائِكَةِ، قالَهُ الطَّبَرِيُّ واخْتارَهُ؛ أوْ أسْماءُ الأجْناسِ الَّتِي خَلَقَها، عَلَّمَهُ أنَّ هَذا اسْمُهُ فَرَسٌ، وهَذا اسْمُهُ بَعِيرٌ، وهَذا اسْمُهُ كَذا، وهَذا اسْمُهُ كَذا، وعَلَّمَهُ أحْوالَها وما يَتَعَلَّقُ بِها مِنَ المَنافِعِ الدِّينِيَّةِ والدُّنْيَوِيَّةِ، واخْتارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أوْ أسْماءُ ما خَلَقَ في الأرْضِ، قالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، أوِ الأسْماءُ بِلُغَةٍ ثُمَّ وقَعَ الِاصْطِلاحُ مِن ذُرِّيَّتِهِ في سِواها، أوْ عَلَّمَهُ كُلَّ شَيْءٍ حَتّى نَحْوَ سِيبَوَيْهِ، قالَهُ أبُو عَلِيُّ الفارِسِيُّ، أوْ أسْماءُ (p-١٤٦)اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، قالَهُ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، أوْ أسْماءٌ مِن أسْمائِهِ المَخْزُونَةِ، فَعَلِمَ بِها جَمِيعَ الأسْماءِ، قالَهُ الجَرِيرِيُّ، أوِ التَّسْمِيّاتُ. ومَعْنى هَذا عَلَّمَهُ أنْ يُسَمِّيَ الأشْياءَ، ولَيْسَ المَعْنى عَلَّمَهُ الأسْماءَ؛ لِأنَّ التَّسْمِيَةَ غَيْرُ الِاسْمِ، قالَهُ الجُمْهُورُ، وحالَةُ تَعْلِيمِهِ تَعالى آدَمَ، هَلْ عَرَضَ عَلَيْهِ المُسَمَّياتِ أوْ وصَفَها لَهُ ولَمْ يَعْرِضْها عَلَيْهِ قَوْلانِ: قالَ بَعْضُ مَن عاصَرْناهُ: المُخْتارُ أسْماءُ ذُرِّيَّتِهِ، وعَرَّفَهُ العاصِي والمُطِيعَ؛ لِيَعْرِفَ المَلائِكَةَ بِأسْمائِهِمْ وأفْعالِهِمْ رَدًّا عَلَيْهِمْ قَوْلَهم: ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ [البقرة: ٣٠]، الأسْماءَ كُلَّها: يَحْتَمِلُ أسْماءُ المُسَمَّياتِ، فَحُذِفَ المُضافُ إلَيْهِ لِدَلالَةِ الأسْماءِ عَلَيْهِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وعِوَضٌ مِنهُ اللّامُ كَقَوْلِهِ: ﴿واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ [مريم: ٤] . انْتَهى. وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا أنَّ اللّامَ عِوَضٌ مِنَ الإضافَةِ لَيْسَ مَذْهَبَ البَصْرِيِّينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مُسَمَّياتِ الأسْماءِ، فَحُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ، ويَتَرَجَّحُ الأوَّلُ، وهو تَعْلِيقُ التَّعْلِيمِ بِالأسْماءِ تَعَلَّقَ الإنْباءِ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَؤُلاءِ﴾، والآيَةِ الَّتِي بَعْدَها، ولَمْ يَقِلْ: أنْبَئُونِي بِهَؤُلاءِ، ولا أنْبِئْهم بِهِمْ. ويَتَرَجَّحُ الثّانِي بِقَوْلِهِ، ثُمَّ عَرَضَهم إذا حَمَلَ عَلى ظاهِرِهِ؛ لِأنَّ الأسْماءَ لا تَجْمَعُ كَذَلِكَ، فَدَلَّ عَلى عُودِهِ عَلى المُسَمَّياتِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوْ كَظُلُماتٍ في بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ﴾ [النور: ٤٠]، التَّقْدِيرُ: أوْ كَذِي ظُلُماتٍ، فَعادَ الضَّمِيرُ مِن يَغْشاهُ عَلى ذِي المَحْذُوفَةِ، القائِمِ مَقامَها في الإعْرابِ ظُلُماتٍ. والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظاهِرُ اللَّفْظِ أنَّ اللَّهَ عَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ ولَمْ يُبَيِّنْ لَنا أسْماءً مَخْصُوصَةً، بَلْ دَلَّ قَوْلُهُ تَعالى: (كُلَّها) عَلى الشُّمُولِ، والحِكْمَةُ حاصِلَةٌ بِتَعْلِيمِ الأسْماءِ، وإنْ لَمْ تُعْلَمْ مُسَمَّياتُها. ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِالأسْماءِ المُسَمَّياتِ، فَيَكُونُ مِن إطْلاقِ اللَّفْظِ ويُرادُ بِهِ مَدْلُولُهُ. ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾: ثُمَّ: حَرْفُ تَراخٍ ومَهَلَةٍ، عَلَّمَ آدَمَ ثُمَّ أمْهَلَهُ مِن ذَلِكَ الوَقْتِ إلى أنْ قالَ: ﴿أنْبِئْهم بِأسْمائِهِمْ﴾ [البقرة: ٣٣]؛ لِيَتَقَرَّرَ ذَلِكَ في قَلْبِهِ ويَتَحَقَّقُ المَعْلُومُ ثُمَّ أخْبَرَهُ عَمّا تَحَقَّقَ بِهِ واسْتَيْقَنَهُ. وأمّا المَلائِكَةُ فَقالَ لَهم عَلى وجْهِ التَّعْقِيبِ دُونَ مُهْلَةٍ ﴿أنْبِئُونِي﴾، فَلَمّا لَمْ يَتَقَدَّمُ لَهم تَعْرِيفٌ لَمْ يُخْبِرُوا، ولَمّا تَقَدَّمَ لِآدَمَ التَّعْلِيمَ أجابَ وأخْبَرَ ونَطَقَ إظْهارًا لِعِنايَتِهِ السّابِقَةِ بِهِ سُبْحانَهُ. عَرَضَهم خَلَقَهم وعَرَضَهَمْ عَلَيْهِمْ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، أوْ صَوَّرَهم لِقُلُوبِ المَلائِكَةِ، أوْ عَرَضَهم وهم كالذَّرِّ، أوْ عَرَضَ الأسْماءَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وفِيهِ جَمْعُها بِلَفْظَةِ هم. والظّاهِرُ أنَّ ضَمِيرَ النَّصْبِ في عِرَضَهم يَعُودُ عَلى المُسَمَّياتِ، وظاهِرُهُ أنَّهُ لِلْعُقَلاءِ، فَيَكُونُ إذْ ذاكَ المَعْنِيُ بِالأسْماءِ أسْماءُ العاقِلِينَ، أوْ يَكُونَ فِيهِمْ غَيْرَ العُقَلاءِ، وغَلَّبَ العُقَلاءَ. وقَرَأ أُبَيُّ ثُمَّ عَرَضَها. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ عَرَضَهُنَّ، والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الأسْماءِ، فَتَكُونُ هي المَعْرُوضَةَ، أوْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مُسَمَّياتِها، فَيَكُونُ المَعْرُوضُ المُسَمَّياتُ لا الأسْماءُ. ﴿عَلى المَلائِكَةِ﴾: ظاهَرُهُ العُمُومُ، فَقِيلَ: هو مُرادٌ، وقِيلَ: المَلائِكَةُ الَّذِينَ كانُوا مَعَ إبْلِيسَ في الأرْضِ. (فَقالَ): الفاءُ: لِلتَّعْقِيبِ، ولَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ العَرْضِ والأمْرِ مُهْلَةٌ بِحَيْثُ يَقَعُ فِيها تَرَوٍّ أوْ فِكْرٍ، وذَلِكَ أجْدَرُ بِعَدَمِ الإضافَةِ. ﴿أنْبِئُونِي﴾: أمْرُ تَعْجِيزٍ لا تَكْلِيفٍ. وقَرَأ الأعْمَشُ: أنْبُونِي، بِغَيْرِ هَمْزٍ، وقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: أنْبَئُونِي عَلى جَوازِ تَكْلِيفِ ما لا يُطاقُ، وهو اسْتِدْلالٌ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ عَلى سَبِيلِ التَّبْكِيتِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣] . ﴿بِأسْماءِ هَؤُلاءِ﴾: ظاهِرُهُ حُضُورُ أشْخاصٍ حالَةَ العَرْضِ عَلى المَلائِكَةِ، ومَن قالَ: إنِ المَعْرُوضَ إنَّما هي أسْماءٌ فَقَطْ، جَعَلَ الإشارَةَ إلى أشْخاصِ الأسْماءِ وهي غائِبَةٌ، إذْ قَدْ حَضَرَ ما هو مِنها بِسَبَبٍ وذَلِكَ أسْماؤُها وكَأنَّهُ قالَ لَهم في كُلِّ اسْمٍ لِأيِّ شَخْصٍ هَذا الِاسْمَ، وهَذا فِيهِ بُعْدٌ وتَكَلُّفٌ وخُرُوجٌ عَنِ الظّاهِرِ بِغَيْرٍ داعِيَةٍ إلى ذَلِكَ. ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣]: شَرْطُ جَوابِهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرِهِ فَأنْبِئُونِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أنْبَئُونِي السّابِقُ، ولا يَكُونُ أنْبِئُونِي السّابِقُ هو الجَوابُ، هَذا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وجُمْهُورُ البَصْرِيِّينَ، وخالَفَ الكُوفِيُّونَ وأبُو زَيْدٍ وأبُو العَبّاسِ، فَزَعَمُوا أنَّ جَوابَ الشَّرْطِ هو المُتَقَدِّمُ في نَحْوِ هَذِهِ المَسْألَةِ، هَذا هو النَّقْلُ المُحَقَّقُ، وقَدْ وهِمَ الَمَهْدَوِيُّ، وتَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَزَعَما أنَّ جَوابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ عِنْدَ المُبَرِّدِ، التَّقْدِيرُ: (فَأنْبِئُونِي)، إلّا إنْ كانا اطَّلِعا عَلى نَقْلٍ آخَرَ غَرِيبٍ عَنِ المُبَرِّدِ يُخالِفُ مَشْهُورَ ما حَكاهُ النّاسُ، فَيُحْتَمَلُ. وكَذَلِكَ وهِمَ ابْنُ عَطِيَّةَ (p-١٤٧)وغَيْرُهُ، فَزَعَما أنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ تَقْدِيمُ الجَوابِ عَلى الشَّرْطِ، وأنَّ قَوْلَهُ: ﴿أنْبِئُونِي﴾ المُتَقَدِّمِ هو الجَوابُ. والصِّدْقُ هُنا هو الصَّوابُ، أيْ إنْ كُنْتُمْ مُصِيبِينَ، كَما يُطْلَقُ الكَذِبُ عَلى الخَطَأِ، كَذَلِكَ يُطْلَقُ الصِّدْقُ عَلى الصَّوابِ. ومُتَعَلِّقُ الصِّدْقِ فِيهِ أقْوالٌ: ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣]، إنِّي لا أخْلُقُ خَلْقًا، لا كُنْتُمْ أعْلَمَ مِنهُ؛ لِأنَّهُ هَجَسٌ في أنْفُسِهِمْ أنَّهم أعْلَمُ مِن غَيْرِهِمْ، أوْ فِيما زَعَمْتُمْ أنَّ خُلَفائِيَ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ، أوْ فِيما وقَعَ في نُفُوسِكم أنِّي لا أخْلُقُ خَلْقًا إلّا كُنْتُمْ أفْضَلَ مِنهُ، أوْ بِأُمُورِ مَن أسْتَخْلِفُهم بَعْدَكم، أوْ إنِّي إنِ اسْتَخْلَفْتُكم فِيها سَبَّحْتُمُونِي وقَدَّسْتُمُونِي، وإنِ اسْتَخْلَفْتُ غَيْرَكم فِيها عَصانِي، أوْ في قَوْلِكم: إنَّهُ لا شَيْءَ مِمّا يَتَعَبَّدُ بِهِ الخَلْقُ إلّا وأنْتُمْ تَصْلُحُونَ لَهُ وتَقُومُونَ بِهِ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ، أوْ في ذَلِكَ إنْباءٌ، وجَوابُ السُّؤالِ بِالأسْماءِ، رُوِيَ أنَّ المَلائِكَةَ حِينَ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ قالَتْ: يَخْلُقُ رَبُّنا ما شاءَ، فَلَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا أعْلَمُ مَنًّا ولا أكْرَمُ عَلَيْهِ. فَأرادَ أنْ يُرِيَهم مِن عِلْمِ آدَمَ وكَرامَتِهِ خِلافَ ما ظَنُّوا، قالُوا: ولِقَوْلِهِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، لَمْ يَجُزْ لَهُمُ الِاجْتِهادُ؛ إذْ لَوْ لَمْ يُقَيِّدْ بِالصِّدْقِ، وهو الإصابَةُ، لَجازَ الِاجْتِهادُ، كَما جازَ لِلَّذِي قالَ لَهُ: كَمْ لَبِثْتَ ؟ ولَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ الإصابَةَ فَلَمْ يُصِبْ ولَمْ يُعَنَّفْ. وأبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ الصِّدْقَ هُنا ضِدُّ الكَذِبِ المُتَعارَفِ؛ لِعِصْمَةِ المَلائِكَةِ، كَما أبْعَدَ مَن جَعَلَ إنْ بِمَعْنى إذْ، فَأخْرَجَها عَنِ الشَّرْطِيَّةِ إلى الظَّرْفِيَّةِ. وإذا التَقَتْ هَمْزَتانِ مَكْسُورَتانِ مِن كَلِمَتَيْنِ نَحْوَ: هَؤُلاءِ إنْ كُنْتُمْ، فَوَرْشٌ وقَنْبُلُ يُبَدِّلانِ الثّانِيَةَ ياءً مَمْدُودَةً، إلّا أنَّ ورْشًا في ﴿هَؤُلاءِ إنْ كُنْتُمْ﴾ و﴿عَلى البِغاءِ إنْ أرَدْنَ﴾ [النور: ٣٣] يَجْعَلُ الياءَ مَكْسُورَةً، وقالُونَ والبَزِّيَ يَلِينانِ الأُولى ويُحَقِّقانِ الثّانِيَةَ، وعَنْهُما في ﴿بِالسُّوءِ إلّا﴾ [يوسف: ٥٣] وُجُوهٌ: أحَدُها: هَذا الأصْلُ الَّذِي تَقَرَّرَ لَهُما. الثّانِي: إبْدالُ الهَمْزَةِ الأُولى واوًا مَكْسُورَةً وإدْغامُ الواوِ السّاكِنَةِ قَبْلَها فِيها وتَحْقِيقُ الثّانِيَةِ. الثّالِثُ: إبْدالُ الهَمْزَةِ الأُولى ياءً، نَحْوَ: (بِالسُّويِ) . الرّابِعُ: إبْدالُها واوًا مِن غَيْرِ إدْغامٍ، نَحْوَ: السُّووُ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: بِحَذْفِ الأُولى، وقَرَأ الكُوفِيُّونَ وابْنُ عامِرٍ: بِتَحْقِيقِ الهَمْزَتَيْنِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب