الباحث القرآني

﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها﴾ عَطْفٌ عَلى (قالَ)، وفِيهِ تَحْقِيقٌ لِمَضْمُونِ ما تَقَدَّمَ، وظاهِرُ الِابْتِداءِ بِحِكايَةِ التَّعْلِيمِ يَدُلُّ عَلى أنَّ ما مَرَّ مِنَ المُقاوَلَةِ إنَّما جَرَتْ بَعْدَ خَلْقِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِمَحْضِرٍ مِنهُ، بِأنْ قِيلَ: إثْرَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ: إنِّي جاعِلٌ إيّاهُ خَلِيفَةً، فَقَبْلَ ما قِيلَ، وقِيلَ: إنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى مَحْذُوفٍ، أيْ فَخَلَقَ وعَلَّمَ، أوْ فَخَلَقَهُ، وسَوّاهُ، ونَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، وعَلَّمَ، أوْ فَجَعَلَ في الأرْضِ خَلِيفَةً وعَلَّمَ، وإبْرازُ اسْمِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لِلتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، والتَّنْوِيهِ بِذِكْرِهِ، ( وآدَمُ ) صَرَّحَ الجَوالِيقِيُّ، وكَثِيرُونَ أنَّهُ عَرَبِيٌّ، ووَزْنُهُ أفْعَلُ مِنَ الأُدْمَةِ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ السُّمْرَةُ، وياما أحَيْلاها في بَعْضٍ، وفَسَّرَها أُناسٌ بِالبَياضِ، أوِ الأدَمَةِ بِفَتْحَتَيْنِ الأُسْوَةِ والقُدْوَةِ، أوْ مِن أدِيمِ الأرْضِ ما ظَهَرَ مِنها، وقَدْ أخْرَجَأحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ غَيْرُ واحِدٍ (أنَّهُ تَعالى قَبَضَ قَبْضَةً مِن جَمِيعِ الأرْضِ سَهْلِها وحَزَنِها، فَخَلَقَ مِنها آدَمَ )، فَلِذَلِكَ تَأْتِي بَنُوهُ أخْيافًا، أوْ مِنَ الأُدْمِ أوِ الأُدْمَةِ المُوافَقَةِ والأُلْفَةِ، وأصْلُهُ أآدَمُ، بِهَمْزَتَيْنِ، فَأُبْدِلَتِ الثّانِيَةُ ألِفًا لِسُكُونِها بَعْدَ فَتْحَةٍ، ومُنِعَ صَرْفُهُ لِلْعَلَمِيَّةِ، ووَزْنِ الفِعْلِ، وقِيلَ: أعْجَمِيٌّ ووَزْنُهُ فاعَلٌ بِفَتْحِ العَيْنِ، ويَكْثُرُ هَذا في الأسْماءِ، كَشالِخَ وآزَرَ، ويَشْهَدُ لَهُ جَمْعُهُ عَلى أوادِمَ بِالواوِ، لا أآدِمَ بِالهَمْزَةِ، وكَذا تَصْغِيرُهُ عَلى أُوَيْدِمٍ لا أُؤَيْدِمٍ، واعْتَذَرَ عَنْهُ الجَوْهَرِيُّ بِأنَّهُ لَيْسَ لِلْهَمْزَةِ أصْلٌ في البِناءِ مَعْرُوفٌ، فَجُعِلَ الغالِبُ عَلَيْها الواوَ، ولَمْ يُسَلِّمُوهُ لَهُ، وحِينَئِذٍ لا يَجْرِي الِاشْتِقاقُ فِيهِ لِأنَّهُ مِن تِلْكَ اللُّغَةِ لا نَعْلَمُهُ، ومِن غَيْرِها لا يَصِحُّ، والتَّوافُقُ بَيْنَ اللُّغاتِ بَعِيدٌ، وإنْ ذُكِرَ فِيهِ فَذاكَ لِلْإشارَةِ إلى أنَّهُ بَعْدَ التَّعْرِيبِ مُلْحَقٌ بِكَلامِهِمْ، وهو اشْتِقاقٌ تَقْدِيرِيٌّ اعْتَبَرُوهُ لِمَعْرِفَةِ الوَزْنِ، والزّائِدِ فِيهِ مِن غَيْرِهِ، ومَن أجْراهُ فِيهِ حَقِيقَةً كَمَن جَمَعَ بَيْنَ الضَّبِّ والنُّونِ، ولَعَلَّ هَذا أقْرَبُ إلى الصَّوابِ، والأسْماءُ جَمْعُ اسْمٍ، وهو بِاعْتِبارِ الِاشْتِقاقِ ما يَكُونُ عَلامَةً لِلشَّيْءِ ودَلِيلًا يَرْفَعُهُ إلى الذِّهْنِ مِنَ الألْفاظِ المَوْضُوعَةِ بِجَمِيعِ اللُّغاتِ والصِّفاتِ والأفْعالِ، واسْتُعْمِلَ عُرْفًا في المَوْضُوعِ (p-224)لِمَعْنًى مُفْرَدًا كانَ أوْ مُرَكَّبًا مُخْبَرًا عَنْهُ أوْ خَبَرًا، أوْ رابِطَةً بَيْنَهُما، وكِلا المَعْنَيَيْنِ مُحْتَمَلٌ، والعِلْمُ بِالألْفاظِ المُفْرَدَةِ والمُرَكَّبَةِ تَرْكِيبًا خَبَرِيًّا، أوْ إنْشائِيًّا يَسْتَلْزِمُ العِلْمَ بِالمَعانِي التَّصْوِيرِيَّةِ والتَّصْدِيقِيَّةِ، وإرادَةُ المَعْنى المُصْطَلَحِ مِمّا لا يَصْلُحُ لِحُدُوثِهِ بَعْدَ القُرْآنِ، وقالَ الإمامُ: المُرادُ بِالأسْماءِ صِفاتُ الأشْياءِ ونُعُوتُها وخَواصُّها، لِأنَّها عَلاماتٌ دالَّةٌ عَلى ماهِيّاتِها، فَجازَ أنْ يُعَبَّرَ عَنْها بِالأسْماءِ، وفِيهِ كَما قالَ الشِّهابُ نَظَرٌ إذْ لَمْ يُعْهَدْ إطْلاقُ الِاسْمِ عَلى مِثْلِهِ حَتّى يُفَسَّرَ بِهِ النَّظْمُ، وقِيلَ: المُرادُ بِها أسْماءُ ما كانَ، وما يَكُونُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وعُزِيَ إلى ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وقِيلَ: اللُّغاتُ، وقِيلَ: أسْماءُ المَلائِكَةِ، وقِيلَ: أسْماءُ النُّجُومِ، وقالَ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: أسْماؤُهُ تَعالى، وقِيلَ، وقِيلَ، وقِيلَ، والحَقُّ عِنْدِي ما عَلَيْهِ أهْلُ اللَّهِ تَعالى، وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَنصِبُ الخِلافَةِ الَّذِي عَلِمْتَ، وهو أنَّها أسْماءُ الأشْياءِ عُلْوِيَّةً وسُفْلِيَّةً جَوْهَرِيَّةً أوْ عَرَضِيَّةً، ويُقالُ لَها أسْماءُ اللَّهِ تَعالى عِنْدَهم بِاعْتِبارِ دِلالَتِها عَلَيْهِ، وظُهُورُهُ فِيها غَيْرُ مُتَقَيِّدٍ بِها، ولِهَذا قالُوا: إنَّ أسْماءَ اللَّهِ تَعالى غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ، إذْ ما مِن شَيْءٍ يَبْرُزُ لِلْوُجُودِ مِن خَبايا الجُودِ إلّا وهو اسْمٌ مِن أسْمائِهِ تَعالى، وشَأْنٌ مِن شُئُونِهِ عَزَّ شَأْنُهُ، وهو الأوَّلُ، والآخِرُ، والظّاهِرُ، والباطِنُ، ومِن هُنا قالَ قُدِّسَ سِرُّهُ: ؎إنَّ الوُجُودَ وإنْ تَعَدَّدَ ظاهِرًا وحَياتِكم ما فِيهِ إلّا أنْتُمُ لَكِنْ لِلْفَرْقِ مَقامٌ، ولِلْجَمْعِ مَقامٌ، ولِكُلِّ مَقامٍ مَقالٌ، ولَوْلا المَراتِبُ لَتَعَطَّلَتِ الأسْماءُ والصِّفاتُ، وتَعْلِيمُها لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى هَذا ظُهُورُ الحَقِّ جَلَّ وعَلا فِيهِ مُنَزَّهًا عَنِ الحُلُولِ والِاتِّحادِ والتَّشْبِيهِ بِجَمِيعِ أسْمائِهِ وصِفاتِهِ المُتَقابِلَةِ حَسَبَ اسْتِعْدادِهِ الجامِعِ بِحَيْثُ عَلِمَ وجْهَ الحَقِّ في تِلْكَ الأشْياءِ وعَلِمَ ما انْطَوَتْ عَلَيْهِ، وفَهِمَ ما أشارَتْ إلَيْهِ، فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مِنها خافِيَةٌ، ولَمْ يَبْقَ مِن أسْرارِها باقِيَةٌ، فَيالِلَّهِ هَذا الجِرْمُ الصَّغِيرُ كَيْفَ حَوى هَذا العِلْمَ الغَزِيرَ، واخْتَلَفَ الرَّسْمِيُّونَ بَيْنَهم في كَيْفِيَّةِ التَّعْلِيمِ بَعْدَ أنْ فُسِّرَ بِأنَّهُ فِعْلٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ العِلْمُ غالِبًا، وبَعْدَ حُصُولِ ما يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ المُتَعَلِّمِ، كاسْتِعْدادِهِ لِقَبُولِ الفَيْضِ وتَلَقِّيهِ مِن جِهَةِ المُعَلِّمِ، لا تَخَلُّفَ، فَقِيلَ: بِأنْ خَلَقَ فِيهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِمُوجِبِ اسْتِعْدادِهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا تَفْصِيلِيًّا بِتِلْكَ الأسْماءِ، وبِمَدْلُولاتِها، وبِدِلالَتِها، ووَجْهِ دِلالَتِها، وقِيلَ: بِأنْ خَلَقَهُ مِن أجْزاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، وقُوًى مُتَبايِنَةٍ مُسْتَعِدًّا لِإدْراكِ أنْواعِ المُدْرَكاتِ، وألْهَمَهُ مَعْرِفَةَ ذَواتِ الأشْياءِ، وأسْمائِها، وخَواصِّها، ومَعارِفِها، وأُصُولِ العِلْمِ، وقَوانِينِ الصِّناعاتِ، وتَفاصِيلِ آلاتِها، وكَيْفِيّاتِ اسْتِعْمالاتِها، فَيَكُونُ ما مَرَّ مِنَ المُقاوَلَةِ قَبْلَ خَلْقِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، والقَوْلُ: بِأنَّ التَّعْلِيمَ عَلى ظاهِرِهِ، وكانَ بِواسِطَةِ مَلَكٍ غَيْرُ داخِلٍ في عُمُومِ الخِطابِ بِــ(أنْبِؤُونِي)، مِمّا لا أرْتَضِيهِ، اللَّهُمَّ إلّا إنْ صَحَّ خَبَرٌ في ذَلِكَ، ومَعَ هَذا أقُولُ: لِلْخَبَرِ مَحْمَلٌ غَيْرُ ما يَتَبادَرُ مِمّا لا يَخْفى عَلى مَن لَهُ ذَوْقٌ، وقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّ هَذا التَّعْلِيمَ لا يَقْتَضِي تَقَدُّمَ لُغَةٍ اصْطِلاحِيَّةٍ كَما زَعَمَهُ أبُو هاشِمٍ، واحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ رُدَّتْ في التَّفْسِيرِ الكَبِيرِ، إذْ لَوِ افْتَقَرَ لِتَسَلْسُلِ الأمْرِ أوْ دارَ، والإمامُ الأشْعَرِيُّ يَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الواضِعَ لِلُّغاتِ كُلِّها هو اللَّهُ تَعالى ابْتِداءً، ويَجُوزُ حُدُوثُ بَعْضِ الأوْضاعِ مِنَ البَشَرِ كَما يَضَعُ الرَّجُلُ عِلْمَ ابْنِهِ، والمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: الواضِعُ مِنَ البَشَرِ آدَمُ أوْ غَيْرُهُ ويُسَمّى مَذْهَبَ الِاصْطِلاحِ، وقِيلَ: وضَعَ اللَّهُ تَعالى بَعْضَها، ووَضَعَ الباقِيَ البَشَرُ، وهو مَذْهَبُ التَّوْزِيعِ، وبِهِ قالَ الأُسْتاذُ، والمَسْألَةُ مُفَصَّلَةٌ بِأدِلَّتِها، وما لَها، وما عَلَيْها في أُصُولِ الفِقْهِ، وقَرَأ اليَمانِيُّ (وعُلِّمَ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وفي البَحْرِ أنَّ التَّضْعِيفَ لِلتَّعْدِيَةِ، وهي بِهِ سَماعِيَّةٌ، وقِيلَ: قِياسِيَّةٌ، والحَرِيرِيُّ في شَرْحِ لَمْحَتِهِ يَزْعُمُ أنَّ عَلِمَ المُتَعَدِّيَ لِاثْنَيْنِ يَتَعَدّى بِهِ إلى ثَلاثَةٍ، وقَدْ وهِمَ في ذَلِكَ، ﴿ثُمَّ عَرَضَهم عَلى المَلائِكَةِ﴾ أيِ المُسَمَّياتِ المَفْهُومَةَ مِنَ الكَلامِ، وتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ عَلى بَعْضِ الوُجُوهِ لِتَغْلِيبِ ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ العُقَلاءِ، ولِلتَّعْظِيمِ بِتَنْزِيلِها مَنزِلَتَهم في رَأْيٍ عَلى البَعْضِ الآخَرِ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْأسْماءِ بِاعْتِبارِ أنَّها المُسَمَّياتُ مَجازًا عَلى طَرِيقِ الِاسْتِخْدامِ، ومَن قالَ: الِاسْمُ عَيْنُ المُسَمّى قالَ: الأسْماءُ هي المُسَمَّياتُ (p-225)والضَّمِيرُ لَها بِلا تَكَلُّفٍ، وإلَيْهِ ذَهَبَ مَكِّيٌّ، والمَهْدَوِيُّ، ويَرُدُّ عَلَيْهِ أنَّ ﴿أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَؤُلاءِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ العَرْضَ لِلسُّؤالِ عَنْ أسْماءِ المَعْرُوضاتِ لا عَنْ نَفْسِها، وإلّا لَقِيلَ: أنْبِئُونِي بِهَؤُلاءِ، فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ المَعْرُوضُ غَيْرَ المَسْؤُولِ عَنْهُ، فَلا يَكُونُ نَفْسَ الأسْماءِ، ومَعْنى عَرْضِ المُسَمَّياتِ تَصْوِيرُها لِقُلُوبِ المَلائِكَةِ أوْ إظْهارُها لَهم كالذَّرِّ، أوْ إخْبارُهم بِما سَيُوجِدُهُ مِنَ العُقَلاءِ وغَيْرِهِمْ إجْمالًا، وسُؤالُهم عَمّا لا بُدَّ لَهم مِنهُ مِنَ العُلُومِ والصَّنائِعِ الَّتِي بِها نِظامُ مَعاشِهِمْ ومَعادِهِمْ إجْمالًا أيْضًا، وإلّا فالتَّفْضِيلُ لا يُمْكِنُ عِلْمُهُ لِغَيْرِ اللَّطِيفِ الخَبِيرِ، فَكَأنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ: سَأُوجِدُ كَذا وكَذا، فَأخْبِرُونِي بِما لَهم وما عَلَيْهِمْ، وما أسْماءُ تِلْكَ الأنْواعِ مِن قَوْلِهِمْ: عَرَضْتُ أمْرِي عَلى فُلانٍ فَقالَ لِي كَذا، فَلا يَرُدُّ أنَّ المُسَمَّياتِ عِنْدَ بَعْضٍ أعْيانٌ ومَعانٍ، وكَيْفَ تُعْرَضُ المَعانِي كالسُّرُورِ والحُزْنِ والجَهْلِ والعِلْمِ؟ وعِنْدِي أنَّ عَرْضَ المُسَمَّياتِ عَلَيْهِمْ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ عِبارَةً عَنِ اطِّلاعِهِمْ عَلى الصُّوَرِ العِلْمِيَّةِ والأعْيانِ الثّابِتَةِ الَّتِي قَدْ يَطَّلِعُ عَلَيْها في هَذِهِ النَّشْأةِ بَعْضُ عِبادِ اللَّهِ تَعالى المُجَرَّدِينَ، أوْ إظْهارُ ذَلِكَ لَهم في عالَمٍ تَتَجَسَّدُ فِيهِ المَعانِي، وهَذا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَلى اللَّهِ تَعالى، بَلْ إنَّ المَعانِيَ الآنَ مُتَشَكِّلَةٌ في عالَمِ المَلَكُوتِ، بِحَيْثُ يَراها مَن يَراها، وما أحاطَ خُبْرًا بِعالَمِ المِثالِ لَمْ يَسْتَبْعِدْ ذَلِكَ، وقِيلَ: إنَّهم شَهِدُوا تِلْكَ المُسَمَّياتِ في آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهو المُرادُ بِعَرْضِها. ؎وتَزْعُمُ أنَّكَ جِرْمٌ صَغِيرٌ ∗∗∗ وفِيكَ انْطَوى العالَمُ الأكْبَرُ وقَرَأ أُبَيٌّ (ثُمَّ عَرَضَها) وعَبْدُ اللَّهِ (عَرَضَهُنَّ)، والمَعْنى: عَرَضَ مُسَمَّياتِها، أوْ مُسَمَّياتِهِنَّ، وقِيلَ: لا تَقْدِيرَ. ﴿فَقالَ أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَؤُلاءِ﴾ تَعْجِيزٌ لَهُمْ، ولَيْسَ مِنَ التَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ عَلى ما وُهِمَ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ أمْرَ الخِلافَةِ والتَّصَرُّفِ والتَّدْبِيرِ وإقامَةِ المَعْدَلَةِ بِغَيْرِ وُقُوفٍ عَلى مَراتِبِ الِاسْتِعْداداتِ ومَقادِيرِ الحُقُوقِ مِمّا لا يَكادُ يُمْكِنُ، فَكَيْفَ يَرُومُ الخِلافَةَ مَن لا يَعْرِفُ ذَلِكَ، أوْ مَن لا يَعْرِفُ الألْفاظَ أنْفُسَها ! هَيْهاتَ ذَلِكَ أبْعَدُ مِنَ العَيُّوقِ، وأعَزُّ مِن بَيْضِ الأنُّوقِ، وعِنْدِي أنَّ المُرادَ إظْهارُ عَجْزِهِمْ، وقُصُورِ اسْتِعْدادِهِمْ عَنْ رُتْبَةِ الخِلافَةِ الجامِعَةِ لِلظّاهِرِ والباطِنِ، بِأمْرِهِمْ بِالإنْباءِ بِتِلْكَ الأسْماءِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي أُرِيدَ مِنها، والعاجِزُ عَنْ نَفْسِ الإنْباءِ أعْجَزُ عَنِ التَّحَلِّي المَطْلُوبِ في ذَلِكَ المَنصِبِ المَحْبُوبِ. ؎كَيْفَ الوُصُولُ إلى سُعادَ ودُونَها ∗∗∗ قُلَلُ الجِبالِ ودُونَهُنَّ حُتُوفُ ؎الرِّجْلُ حافِيَةٌ وما لِي مَرْكَبٌ ∗∗∗ والكَفُّ صِفْرٌ والطَّرِيقُ مَخُوفُ والإنْباءُ في الأصْلِ مُطْلَقُ الإخْبارِ وهو الظّاهِرُ هُنا، ويُطْلَقُ عَلى الإخْبارِ بِما فِيهِ فائِدَةٌ عَظِيمَةٌ، ويَحْصُلُ بِهِ عِلْمٌ، أوْ غَلَبَةُ ظَنٍّ، وقالَ بَعْضُهم: إنَّهُ إخْبارٌ فِيهِ إعْلامٌ، ولِذَلِكَ يَجْرِي مَجْرى كُلٍّ مِنهُما، وأخْتارُهُ هُنا عَلى ما قِيلَ لِلْإيذانِ بِرِفْعَةِ شَأْنِ الأسْماءِ، وعِظَمِ خَطَرِها، وهَذا مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ النَّبَأ إنَّما يُطْلَقُ عَلى الخَبَرِ الخَطِيرِ، والأمْرِ العَظِيمِ، وفي اسْتِعْمالِ (ثُمَّ) فِيما تَقَدَّمَ، والفاءِ هُنا ما لا يَخْفى مِنَ الِاعْتِناءِ بِشَأْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وعَدَمِهِ في شَأْنِهِمْ. وقَرَأ الأعْمَشُ (أنْبِئُونِي) بِغَيْرِ هَمْزٍ، ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ أيْ فِيما اخْتَلَجَ في خَواطِرِكم مِن أنِّي لا أخْلُقُ خَلْقًا إلّا أنْتُمْ أعْلَمُ مِنهُ، وأفْضَلُ، وهَذا هو التَّفْسِيرُ المَأْثُورُ، فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ المَلائِكَةَ قالُوا: لَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعالى خَلْقًا أكْرَمَ عَلَيْهِ مِنّا، ولا أعْلَمَ، وفي الكَلامِ دِلالَةٌ عَلَيْهِ، فَإنَّ ونَحْنُ نُسَبِّحُ إلَخْ، يَدُلُّ عَلى أفْضَلِيَّتِهِمْ، وتَنْزِيهُ اللَّهِ تَعالى، وتَقْدِيسُهُ أوْ تَقْدِيسُهم أنْفُسَهم يَدُلُّ عَلى كَمالِ العِلْمِ أيْضًا، وقِيلَ: إنَّ المَعْنى: إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زَعْمِكم أنَّكم أحَقُّ بِالِاسْتِخْلافِ، أوْ في أنَّ اسْتِخْلافَهم لا يَلِيقُ، فَأثْبِتُوهُ بِبَيانِ ما فِيكم مِنَ الشَّرائِطِ السّابِقَةِ، ولَيْسَ هَذا مِنَ المَعْصِيَةِ في شَيْءٍ، لِأنَّهُ شُبْهَةٌ اخْتَلَجَتْ، وسَألُوا عَمّا يُزِيحُها، ولَيْسَ بِاخْتِيارِي، ولا يَرِدُ (p-226)أنَّ الصِّدْقَ والكَذِبَ إنَّما يَتَعَلَّقُ بِالخَبَرِ، وهُمُ اسْتَخْبَرُوا، ولَمْ يُخْبِرُوا لِأنّا نَقُولُ: هُما يَتَطَرَّقانِ إلى الإنْشاءاتِ بِالقَصْدِ الثّانِي، ومِن حَيْثُ ما يَلْزَمُ مَدْلُولَها، وإنْ لَمْ يَتَطَرَّقا إلَيْها بِالقَصْدِ الأوَّلِ، ومِن حَيْثُ مَنطُوقُها، وجَوابُ (إنْ) في مِثْلِ هَذا المَوْضِعِ مَحْذُوفٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وجُهْمُورِ البَصْرِيِّينَ يَدُلُّ عَلَيْهِ السّابِقُ، وهو هُنا (أنْبِئُونِي)، وعِنْدَ الكُوفِيِّينَ، وأبِي زَيْدٍ والمُبَرِّدِ أنَّ الجَوابَ هو المُتَقَدِّمُ، وهَذا هو النَّقْلُ الصَّحِيحُ عَمَّنْ ذَكَرَ في المَسْألَةِ، ووَهِمَ البَعْضُ فَعَكَسَ الأمْرَ، ومَن زَعَمَ أنَّ (إنْ) هُنا بِمَعْنى إذا الظَّرْفِيَّةِ، فَلا تَحْتاجُ إلى جَوابٍ، فَقَدْ وهِمَ، وكَأنَّهُ لَمّا رَأى عِصْمَةَ المَلائِكَةِ وظَنَّ مِنَ الآيَةِ ما يُخِلُّ بِها، ولَمْ يَجِدْ لَها مَحْمَلًا مَعَ إبْقاءِ (إنْ) عَلى ظاهِرِها افْتَقَرَ إلى ذَلِكَ، والحَمْدُ لِلَّهِ تَعالى عَلى ما أغْنانا مِن فَضْلِهِ، ولَمْ يُحْوِجْنا إلى هَذا، وإلى القَوْلِ بِأنَّ الغَرَضَ مِنَ الشَّرْطِيَّةِ التَّوْكِيدُ لِما نَبَّهَهم عَلَيْهِ مِنَ القُصُورِ والعَجْزِ، فَحاصِلُ المَعْنى حِينَئِذٍ: أخْبِرُونِي، ولا تَقُولُوا إلّا حَقًّا كَما قالَ الإمامُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب