الباحث القرآني

" آدَمُ " أصْلُهُ أأْدَمُ بِهَمْزَتَيْنِ إلّا أنَّهم لَيَّنُوا الثّانِيَةَ وإذا حُرِّكَتْ قُلِبَتْ واوًا، كَما قالُوا في الجَمْعِ أوادِمٌ، قالَهُ الأخْفَشُ. واخْتُلِفَ في اشْتِقاقِهِ، فَقِيلَ: مِن أدِيمِ الأرْضِ وهو وجْهُها، وقِيلَ: مِنَ الأُدْمَةِ وهي السُّمْرَةُ. قالَ في الكَشّافِ: وما آدَمُ إلّا اسْمٌ عَجَمِيٌّ، وأقْرَبُ أمْرِهِ أنْ يَكُونَ عَلى فاعَلَ كَآزَرَ وعازَرَ وعابَرَ وشالَخَ وفالَغَ وأشْباهِ ذَلِكَ، والأسْماءَ هي العِباراتُ والمُرادُ: أسْماءُ المُسَمَّياتِ، قالَ بِذَلِكَ أكْثَرُ العُلَماءِ، وهو المَعْنى الحَقِيقِيُّ لِلِاسْمِ. والتَّأْكِيدُ بِقَوْلِهِ: كُلَّها يُفِيدُ أنَّهُ عَلَّمَهُ جَمِيعَ الأسْماءِ ولَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذا شَيْءٌ مِنها كائِنًا ما كانَ. وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إنَّها أسْماءُ المَلائِكَةِ وأسْماءُ ذَرِّيَّةِ آدَمَ، ثُمَّ رَجَّحَ هَذا وهو غَيْرُ راجِحٍ. وقالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ: أسْماءُ الذُّرِّيَّةِ. وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ: أسْماءُ المَلائِكَةِ. واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ هَلْ عَرَضَ عَلى المَلائِكَةِ المُسَمَّياتِ أوِ الأسْماءَ، والظّاهِرُ الأوَّلُ لِأنَّ عَرْضَ نَفْسِ الأسْماءِ غَيْرُ واضِحٍ. وعَرْضُ الشَّيْءِ إظْهارُهُ، ومِنهُ عَرْضُ الشَّيْءِ لِلْبَيْعِ. وإنَّما ذُكِرَ ضَمِيرُ المَعْرُوضِينَ تَغْلِيبًا لِلْعُقَلاءِ عَلى غَيْرِهِمْ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: " عَرَضَهُنَّ " وقَرَأ أُبَيٌّ: " عَرَضَها " وإنَّما رَجَعَ ضَمِيرُ عَرْضِهِمْ إلى مُسَمَّياتٍ مَعَ عَدَمِ تَقَدُّمِ ذِكْرِها؛ لِأنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ما يَدُلُّ عَلَيْها وهو أسْماؤُها. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ اللَّهَ عَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ وعَرَضَ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ الأجْناسَ أشْخاصًا، ثُمَّ عَرَضَ تِلْكَ عَلى المَلائِكَةِ وسَألَهم عَنْ أسْماءِ مُسَمَّياتِها الَّتِي قَدْ تَعَلَّمَها آدَمُ، فَقالَ لَهم آدَمُ: هَذا اسْمُهُ كَذا وهَذا اسْمُهُ كَذا. قالَ الماوَرْدِيُّ: فَكانَ الأصَحُّ تَوَجُّهَ العَرْضِ إلى المُسَمَّيْنَ. ثُمَّ في زَمَنِ عَرْضِهِمْ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ عَرَضَهم بَعْدَ أنْ خَلَقَهم. الثّانِي: أنَّهُ صَوَّرَهم لِقُلُوبِ المَلائِكَةِ ثُمَّ عَرَضَهم. وأمّا أمْرُهُ سُبْحانَهُ لِلْمَلائِكَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَؤُلاءِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ فَهَذا مِنهُ تَعالى لِقَصْدِ التَّبْكِيتِ لَهم مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّهم يَعْجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ. والمُرادُ ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ أنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ فَأنْبَئُونِي، كَذا قالَ المُبَرِّدُ. وقالَ أبُو عُبَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ: إنَّ بَعْضَ المُفَسِّرِينَ قالَ: مَعْنى ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ إذْ كُنْتُمْ، قالا: وهَذا خَطَأٌ. ومَعْنى أنْبِئُونِي أخْبَرُونِي. فَلَمّا قالَ لَهم ذَلِكَ اعْتَرَفُوا بِالعَجْزِ والقُصُورِ ﴿قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إلّا ما عَلَّمْتَنا﴾ وسُبْحانَ: مَنصُوبٌ عَلى المَصْدَرِيَّةِ عِنْدَ الخَلِيلِ وسِيبَوَيْهِ وقالَ الكِسائِيُّ: هو مَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ مُنادى مُضافٌ وهَذا ضَعِيفٌ جِدًّا. والعَلِيمُ: لِلْمُبالَغَةِ والدَّلالَةِ عَلى كَثْرَةِ المَعْلُوماتِ. والحَكِيمُ صِيغَةُ مُبالَغَةٍ في إثْباتِ الحِكْمَةِ لَهُ. ثُمَّ أمَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ آدَمَ أنْ يُعْلِمَهم بِأسْمائِهِمْ بَعْدَ أنْ عَرَضَهم عَلى المَلائِكَةِ فَعَجَزُوا واعْتَرَفُوا بِالقُصُورِ. ولِهَذا قالَ سُبْحانَهُ: ﴿ألَمْ أقُلْ لَكُمْ﴾ الآيَةَ. قالَ فِيما تَقَدَّمَ: ﴿أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ ثُمَّ قالَ هُنا: ﴿أعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ تَدَرُّجًا مِنَ المُجْمَلِ إلى ما هو مُبَيَّنٌ بَعْضَ بَيانٍ، ومَبْسُوطٌ بَعْضَ بَسْطٍ. وفِي اخْتِصاصِهِ بِعِلْمِ غَيْبِ السَّماواتِ والأرْضِ رَدٌّ لِما يَتَكَلَّفُهُ كَثِيرٌ مِنَ العِبادِ مِنَ الِاطِّلاعِ عَلى شَيْءٍ مِن عِلْمِ الغَيْبِ كالمُنَجِّمِينَ والكُهّانِ وأهْلِ الرَّمْلِ والسِّحْرِ والشَّعْوَذَةِ. والمُرادُ بِما يُبْدُونَ وما يَكْتُمُونَ: ما يُظْهِرُونَ ويُسِرُّونَ كَما (p-٤٦)يُفِيدُهُ مَعْنى ذَلِكَ عِنْدَ العَرَبِ، ومَن فَسَّرَهُ بِشَيْءٍ خاصٍّ فَلا يُقْبَلُ مِنهُ ذَلِكَ إلّا بِدَلِيلٍ. وقَدْ أخْرَجَ الفِرْيابِيُّ وابْنُ سَعْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: إنَّما سُمِّيَ آدَمَ لِأنَّهُ خُلِقَ مِن أدِيمِ الأرْضِ. وأخْرَجَ نَحْوَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها﴾ قالَ: عَلَّمَهُ اسْمَ الصَّفْحَةِ والقِدْرِ وكُلِّ شَيْءٍ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في تَفْسِيرِ الآيَةِ قالَ: عَرَضَ عَلَيْهِ أسْماءَ ولَدِهِ إنْسانًا إنْسانًا والدَّوابِّ، فَقِيلَ: هَذا الجَمَلُ هَذا الحِمارُ هَذا الفَرَسُ. وأخْرَجَ الحاكِمُ في تارِيخِهِ وابْنُ عَساكِرَ والدَّيْلَمِيُّ «عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ بِشْرٍ مَرْفُوعًا في قَوْلِهِ: ﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها﴾ قالَ: عَلَّمَ اللَّهُ آدَمَ في تِلْكَ الأسْماءِ ألْفَ حِرْفَةٍ مِنَ الحِرَفِ وقالَ لَهُ: قُلْ لِأوْلادِكَ ولِذُرِّيَّتِكَ إنْ لَمْ تَصْبِرُوا عَنِ الدُّنْيا فاطْلُبُوها بِهَذِهِ الحِرَفِ ولا تَطْلُبُوها بِالدِّينِ، فَإنَّ الدِّينَ لِي وحْدِي خالِصًا، ويْلٌ لِمَن طَلَبَ الدُّنْيا بِالدِّينِ ويْلٌ لَهُ» . وأخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أبِي رافِعٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «مُثِّلَتْ لِي أُمَّتِي في الماءِ والطِّينِ وعُلِّمْتُ الأسْماءَ كُلَّها كَما عُلِّمَ آدَمُ الأسْماءَ كُلَّها» وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ في تَفْسِيرِ الآيَةِ قالَ: أسْماءَ ذُرِّيَّتِهِ أجْمَعِينَ ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ قالَ: أخَذَهم مِن ظَهْرِهِ. وأخْرَجَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ قالَ: أسْماءَ المَلائِكَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الآيَةِ قالَ: هي هَذِهِ الأسْماءُ الَّتِي يَتَعارَفُ بِها النّاسُ ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ يَعْنِي عَرَضَ أسْماءَ جَمِيعِ الأشْياءِ الَّتِي عَلَّمَها آدَمَ مِن أصْنافِ الخَلْقِ. ﴿فَقالَ أنْبِئُونِي﴾ يَقُولُ: أخْبِرُونِي ﴿بِأسْماءِ هَؤُلاءِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنِّي لَمْ أجْعَلْ في الأرْضِ خَلِيفَةً ﴿قالُوا سُبْحانَكَ﴾ تَنْزِيهًا لِلَّهِ مِن أنْ يَكُونَ يَعْلَمُ الغَيْبَ أحَدٌ غَيْرُهُ، تُبْنا إلَيْكَ ﴿لا عِلْمَ لَنا﴾ تَبَرَّءُوا مِنهم مِن عِلْمِ الغَيْبِ ﴿إلّا ما عَلَّمْتَنا﴾ كَما عَلَّمْتَ آدَمَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: عَرَضَ أصْحابَ الأسْماءِ عَلى المَلائِكَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّكَ أنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ قالَ: العَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمَلَ في عِلْمِهِ، والحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمَلَ في حُكْمِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وناسٍ مِنَ الصَّحابَةِ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ أنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ ويَسْفِكُونَ الدِّماءَ ﴿وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ﴾ قالَ: قَوْلُهم ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ ﴿وما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠ - ٣٣] يَعْنِي: ما أسَرَّ إبْلِيسُ في نَفْسِهِ مِنَ الكِبْرِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ﴿ما تُبْدُونَ﴾ ما تُظْهِرُونَ ﴿وما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ يَقُولُ: أعْلَمُ السِّرَّ كَما أعْلَمُ العَلانِيَةَ. * * * " إذْ " مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: واذْكُرْ إذْ قُلْنا. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ إذْ زائِدَةٌ وهو ضَعِيفٌ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في المَلائِكَةِ وآدَمَ. السُّجُودُ مَعْناهُ في كَلامِ العَرَبِ: التَّذَلُّلُ والخُضُوعُ. وغايَتُهُ وضْعُ الوَجْهِ عَلى الأرْضِ. قالَ ابْنُ فارِسٍ: سَجَدَ إذا تَطامَنَ، وكُلُّ ما سَجَدَ فَقَدْ ذَلَّ، والإسْجادُ: إدامَةُ النَّظَرِ. وقالَ أبُو عُمَرَ: وسَجَدَ إذا طَأْطَأ رَأْسَهُ، وفي هَذِهِ الآيَةِ فَضِيلَةٌ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَظِيمَةٌ حَيْثُ أسْجَدَ اللَّهُ لَهُ مَلائِكَتَهُ. وقِيلَ: إنَّ السُّجُودَ كانَ لِلَّهِ ولَمْ يَكُنْ لِآدَمَ، وإنَّما كانُوا مُسْتَقْبِلِينَ لَهُ عِنْدَ السُّجُودِ، ولا مُلْجِئَ لِهَذا فَإنَّ السُّجُودَ لِلْبَشَرِ قَدْ يَكُونُ جائِزًا في بَعْضِ الشَّرائِعِ بِحَسَبِ ما تَقْتَضِيهِ المَصالِحُ. وقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ السُّجُودَ لِآدَمَ وكَذَلِكَ الآيَةُ الأُخْرى أعْنِي قَوْلَهُ: ﴿فَإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ﴾ [الحجر: ٢٩] وقالَ تَعالى: ﴿ورَفَعَ أبَوَيْهِ عَلى العَرْشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ [يوسف: ١٠٠] فَلا يَسْتَلْزِمُ تَحْرِيمُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ في شَرِيعَةِ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ في سائِرِ الشَّرائِعِ. ومَعْنى السُّجُودِ هُنا: هو وضْعُ الجَبْهَةِ عَلى الأرْضِ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الجُمْهُورُ. وقالَ قَوْمٌ: هو مُجَرَّدُ التَّذَلُّلِ والِانْقِيادِ. وقَدْ وقَعَ الخِلافُ هَلْ كانَ السُّجُودُ مِنَ المَلائِكَةِ لِآدَمَ قَبْلَ تَعْلِيمِهِ الأسْماءَ أمْ بَعْدَهُ ؟ وقَدْ أطالَ البَحْثَ في ذَلِكَ البِقاعِيُّ في تَفْسِيرِهِ. وظاهِرُ السِّياقِ أنَّهُ وقَعَ التَّعْلِيمُ وتَعَقَّبَهُ الأمْرُ بِالسُّجُودِ وتَعَقَّبَهُ إسْكانُهُ الجَنَّةَ ثُمَّ إخْراجُهُ مِنها وإسْكانُهُ الأرْضَ. وقَوْلُهُ: ﴿إلّا إبْلِيسَ﴾ اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ لِأنَّهُ كانَ مِنَ المَلائِكَةِ عَلى ما قالَهُ الجُمْهُورُ. وقالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وبَعْضُ الأُصُولِيِّينَ: ﴿كانَ مِنَ الجِنِّ﴾ الَّذِي كانُوا في الأرْضِ. فَيَكُونُ الِاسْتِثْناءُ عَلى هَذا مُنْقِطَعًا. واسْتَدَلُّوا عَلى هَذا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهم ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦] وبِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلّا إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنِّ﴾ [الكهف: ٥٠] والجِنُّ غَيْرُ المَلائِكَةِ، وأجابَ الأوَّلُونَ بِأنَّهُ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَخْرُجَ إبْلِيسُ عَنْ جُمْلَةِ المَلائِكَةِ، لِما سَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ مِن شَقائِهِ عَدْلًا مِنهُ ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء: ٢٣] ولَيْسَ في خَلْقِهِ مِن نارٍ ولا تَرْكِيبِ الشَّهْوَةِ فِيهِ حِينَ غَضِبَ عَلَيْهِ ما يَدْفَعُ أنَّهُ مِنَ المَلائِكَةِ وأيْضًا عَلى تَسْلِيمِ ذَلِكَ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ الِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلًا تَغْلِيبًا لِلْمَلائِكَةِ الَّذِينَ هم أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ عَلى إبْلِيسَ الَّذِي هو فَرْدٌ واحِدٌ بَيْنَ أظْهُرِهِمْ. ومَعْنى أبى امْتَنَعَ مِن فِعْلِ ما أُمِرَ بِهِ. والِاسْتِكْبارُ: الِاسْتِعْظامُ لِلنَّفْسِ، وقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «إنَّ الكِبْرَ بَطَرُ الحَقِّ وغَمْطُ النّاسِ» وفي رِوايَةٍ " غَمْصُ " بِالصّادِ المُهْمَلَةِ ﴿وكانَ مِنَ الكافِرِينَ﴾ أيْ مِن جِنْسِهِمْ. قِيلَ: إنَّ " كانَ " هُنا بِمَعْنى صارَ. وقالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنَّهُ خَطَأٌ تَرُدُّهُ الأُصُولُ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَتِ السَّجْدَةُ لِآدَمَ والطّاعَةُ لِلَّهِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ قالَ: سَجَدُوا كَرامَةً مِنَ اللَّهِ أكْرَمَ بِها آدَمَ وأخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ عَنْ إبْراهِيمَ المُزَنِيِّ قالَ: إنَّ اللَّهَ جَعَلَ آدَمَ كالكَعْبَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ الأنْبارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَ إبْلِيسُ اسْمُهُ عَزازِيلُ، وكانَ مِن أشْرافِ المَلائِكَةِ مِن ذَوِي الأجْنِحَةِ الأرْبَعَةِ، ثُمَّ أبْلَسَ بَعْدُ. ورَوى ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ قالَ: إنَّما سُمِّيَ إبْلِيسَ لِأنَّ اللَّهَ أبْلَسَهُ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ، أيْ آيَسَهُ مِنهُ. وأخْرَجَ (p-٤٧)ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ الأنْبارِيِّ عَنْهُ قالَ: كانَ إبْلِيسُ قَبْلَ أنْ يَرْتَكِبَ المَعْصِيَةَ مِنَ المَلائِكَةِ اسْمُهُ عَزازِيلَ، وكانَ مِن سُكّانِ الأرْضِ، وكانَ مِن أشَدِّ المَلائِكَةِ اجْتِهادًا وأكْثَرِهِمْ عِلْمًا، فَذَلِكَ دَعاهُ إلى الكِبْرِ، وكانَ مِن حَيٍّ يُسَمَّوْنَ جِنًّا. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْهُ قالَ: كانَ إبْلِيسُ مِن خُزّانِ الجَنَّةِ، وكانَ يُدَبِّرُ أمْرَ سَماءِ الدُّنْيا. وأخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ أمَرَ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ، فَقالَ: لَكَ الجَنَّةُ ولِمَن سَجَدَ مِن ولَدِكَ، وأمَرَ إبْلِيسَ بِالسُّجُودِ فَأبى أنْ يَسْجُدَ، فَقالَ: لَكَ النّارُ ولِمَن أبى مِن ولَدِكَ أنْ يَسْجُدَ» . وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وكانَ مِنَ الكافِرِينَ﴾ قالَ: جَعَلَهُ اللَّهُ كافِرًا لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُؤْمِنَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ قالَ: ابْتَدَأ اللَّهُ خَلْقَ إبْلِيسَ عَلى الكُفْرِ والضَّلالَةِ وعَمِلَ بِعَمَلِ المَلائِكَةِ فَصَيَّرَهُ إلى ما ابْتُدِئَ إلَيْهِ خَلْقُهُ مِنَ الكُفْرِ، قالَ اللَّهُ: ﴿وكانَ مِنَ الكافِرِينَ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب