الباحث القرآني
بابُ فَرْضِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ
قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿ولْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الآيَةُ مَعْنَيَيْنِ؛ أحَدُهُما وُجُوبُ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ؛ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ؛ والآخَرُ أنَّهُ فَرْضٌ عَلى الكِفايَةِ؛ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلى كُلِّ أحَدٍ في نَفْسِهِ؛ إذا قامَ بِهِ غَيْرُهُ؛ لِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ﴾؛ وحَقِيقَتُهُ تَقْتَضِي البَعْضَ؛ دُونَ البَعْضِ؛ فَدَلَّ عَلى أنَّهُ فَرْضٌ عَلى الكِفايَةِ؛ إذا قامَ بِهِ بَعْضُهم سَقَطَ عَنِ الباقِينَ؛ ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ: هو فَرْضٌ عَلى كُلِّ أحَدٍ في نَفْسِهِ؛ ويَجْعَلُ مُخْرَجَ الكَلامِ مُخْرَجَ الخُصُوصِ في قَوْلِهِ: ﴿ولْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ﴾؛ مَجازًا؛ كَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿يَغْفِرْ لَكم مِن ذُنُوبِكُمْ﴾ [نوح: ٤]؛ ومَعْناهُ: "ذُنُوبَكُمْ"؛ والَّذِي يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا القَوْلِ أنَّهُ إذا قامَ بِهِ بَعْضُهم سَقَطَ عَنِ الباقِينَ؛ كالجِهادِ؛ وغُسْلِ المَوْتى؛ وتَكْفِينِهِمْ؛ والصَّلاةِ عَلَيْهِمْ؛ ودَفْنِهِمْ؛ ولَوْلا أنَّهُ فَرْضٌ عَلى الكِفايَةِ لَما سَقَطَ عَنِ الآخَرِينَ بِقِيامِ بَعْضِهِمْ بِهِ.
وقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ (تَعالى) الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنكَرِ في مَواضِعَ أُخَرَ مِن كِتابِهِ؛ فَقالَ عَزَّ وجَلَّ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١١٠]؛ وقالَ - فِيما حَكى عَنْ لُقْمانَ -: ﴿يا بُنَيَّ أقِمِ الصَّلاةَ وأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنْكَرِ واصْبِرْ عَلى ما أصابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [لقمان: ١٧]؛ وقالَ (تَعالى): ﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإنْ بَغَتْ إحْداهُما عَلى الأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات: ٩]؛ وقالَ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [المائدة: ٧٨] ﴿كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: ٧٩]؛ فَهَذِهِ الآيُ ونَظائِرُها مُقْتَضِيَةٌ لِإيجابِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ؛ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ؛ وهي عَلى مَنازِلَ؛ أوَّلُها تَغْيِيرُهُ بِاليَدِ؛ إذا أمْكَنَ؛ فَإنْ لَمْ يُمْكِنْ؛ وكانَ في نَفْيِهِ خائِفًا عَلى نَفْسِهِ إذا أنْكَرَهُ بِيَدِهِ؛ فَعَلَيْهِ إنْكارُهُ بِلِسانِهِ؛ فَإنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِما وصَفْنا؛ فَعَلَيْهِ إنْكارُهُ بِقَلْبِهِ؛ كَما حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أحْمَدَ بْنِ فارِسٍ قالَ: حَدَّثَنا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ الطَّيالِسِيُّ قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ قالَ: أخْبَرَنِي قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ قالَ: سَمِعْتُ طارِقَ بْنَ شِهابٍ قالَ: «قَدَّمَ مَرْوانُ الخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلاةِ؛ فَقامَ رَجُلٌ فَقالَ: خالَفْتَ السُّنَّةَ؛ كانَتِ الخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلاةِ؛ قالَ: "تُرِكَ ذَلِكَ يا (أبُو فُلانٍ)"؛ قالَ شُعْبَةُ: وكانَ لَحّانًا؛ فَقامَ أبُو (p-٣١٦)سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ فَقالَ: أمّا هَذا المُتَكَلِّمُ فَقَدْ قَضى ما عَلَيْهِ؛ قالَ لَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَن رَأى مِنكم مُنْكَرًا فَلْيُنْكِرْهُ بِيَدِهِ؛ فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِلِسانِهِ؛ فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِقَلْبِهِ؛ وذاكَ أضْعَفُ الإيمانِ"؛» وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ البَصْرِيُّ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ العَلاءِ قالَ: حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ رَجاءٍ؛ عَنْ أبِيهِ؛ عَنْ أبِي سَعِيدٍ؛ وعَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ؛ عَنْ طارِقِ بْنِ شِهابٍ؛ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «"مَن رَأى مِنكم مُنْكَرًا فاسْتَطاعَ أنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ؛ فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ؛ فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ؛ وذاكَ أضْعَفُ الإيمانِ"؛» فَأخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّ إنْكارَ المُنْكَرِ عَلى هَذِهِ الوُجُوهِ الثَّلاثَةِ؛ عَلى حَسَبِ الإمْكانِ؛ ودَلَّ عَلى أنَّهُ إذا لَمْ يَسْتَطِعْ تَغْيِيرَهُ بِيَدِهِ فَعَلَيْهِ تَغْيِيرُهُ بِلِسانِهِ؛ ثُمَّ إذا لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أكْثَرُ مِن إنْكارِهِ بِقَلْبِهِ؛ وحَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ قالَ: حَدَّثَنا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ؛ عَنْ أبِي إسْحاقَ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرِيرٍ البَجَلِيِّ؛ عَنْ أبِيهِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «"ما مِن قَوْمٍ يُعْمَلُ بَيْنَهم بِالمَعاصِي؛ هم أكْثَرُ وأعَزُّ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ؛ ثُمَّ لَمْ يُغَيِّرُوا؛ إلّا عَمَّهُمُ اللَّهُ مِنهُ بِعِقابٍ"؛» وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ قالَ: حَدَّثَنا يُونُسُ بْنُ راشِدٍ؛ عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «"إنَّ أوَّلَ ما دَخَلَ النَّقْصُ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ كانَ الرَّجُلُ يَلْقى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يا هَذا؛ اتَّقِ اللَّهَ؛ ودَعْ ما تَصْنَعُ؛ فَإنَّهُ لا يَحِلُّ لَكَ؛ ثُمَّ يَلْقاهُ مِنَ الغَدِ فَلا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ أكِيلَهُ وشَرِيبَهُ وقَعِيدَهُ؛ فَلَمّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ (تَعالى) قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ؛ ثُمَّ قالَ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [المائدة: ٧٨]؛ إلى قَوْلِهِ: ﴿فاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٨١]؛ ثُمَّ قالَ: كَلًّا؛ واللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ؛ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ؛ ولَتَأْخُذُنَّ عَلى يَدَيِ الظّالِمِ؛ ولَتَأْطُرُنَّهُ عَلى الحَقِّ أطْرًا؛ وتَقْصُرُنَّهُ عَلى الحَقِّ قَصْرًا"؛» قالَ أبُو داوُدَ: حَدَّثَنا خَلَفُ بْنُ هِشامٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو شِهابٍ الحَنّاطُ؛ عَنِ العَلاءِ بْنِ المُسَيِّبِ؛ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ؛ عَنْ سالِمٍ؛ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ؛ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِنَحْوِهِ؛ وزادَ فِيهِ: «"أوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكم عَلى بَعْضٍ؛ ثُمَّ لَيَلْعَنَنَّكم كَما لَعَنَهُمْ"؛» فَأخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّ مِن شَرْطِ النَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ أنْ يُنْكِرَهُ؛ ثُمَّ لا يُجالِسَ المُقِيمَ عَلى المَعْصِيَةِ؛ ولا يُؤاكِلَهُ؛ ولا يُشارِبَهُ؛ وكانَ ما ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِن ذَلِكَ بَيانًا لِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿تَرى كَثِيرًا مِنهم يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [المائدة: ٨٠]؛ فَكانُوا بِمُؤاكَلَتِهِمْ إيّاهُمْ؛ ومُجالَسَتِهِمْ لَهُمْ؛ تارِكِينَ لِلنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ لِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿كانُوا (p-٣١٧)لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ [المائدة: ٧٩]؛ مَعَ ما أخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ مِن إنْكارِهِ بِلِسانِهِ؛ إلّا أنَّ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُ مَعَ مُجالَسَتِهِ؛ ومُؤاكَلَتِهِ؛ ومُشارَبَتِهِ إيّاهُ.
وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في ذَلِكَ أيْضًا ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا وهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ قالَ: أخْبَرَنا خالِدٌ؛ عَنْ إسْماعِيلَ؛ عَنْ قَيْسٍ قالَ: قالَ أبُو بَكْرٍ - بَعْدَ أنْ حَمِدَ اللَّهَ (تَعالى) وأثْنى عَلَيْهِ -: يا أيُّها النّاسُ؛ إنَّكم تَقْرَؤُونَ هَذِهِ الآيَةَ وتَضَعُونَها في غَيْرِ مَوْضِعِها: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥]؛ وأنّا سَمِعْنا النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «"إنَّ النّاسَ إذا رَأوُا الظّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلى يَدَيْهِ؛ يُوشِكُ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقابٍ"؛» وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا أبُو الرَّبِيعِ؛ سُلَيْمانُ بْنُ داوُدَ العَتَكِيُّ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ المُبارَكِ؛ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أبِي حَكِيمٍ قالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ جارِيَةَ اللَّخْمِيُّ قالَ: حَدَّثَنِي أبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبانِيُّ قالَ: «سَألْتُ أبا ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيَّ؛ فَقُلْتُ: يا أبا ثَعْلَبَةَ؛ كَيْفَ تَقُولُ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥] ؟ فَقالَ: أما واللَّهِ لَقَدْ سَألْتَ عَنْها خَبِيرًا؛ سَألْتُ عَنْها رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: "بَلِ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ؛ وتَناهَوْا عَنِ المُنْكَرِ؛ حَتّى إذا رَأيْتَ شُحًّا مُطاعًا؛ وهَوًى مُتَّبَعًا؛ ودُنْيا مُؤْثَرَةً؛ وإعْجابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ؛ فَعَلَيْكَ يَعْنِي بِنَفْسِكَ؛ ودَعْ عَنْكَ العَوامَّ؛ فَإنَّ مِن ورائِكم أيّامَ الصَّبْرِ؛ الصَّبْرُ فِيهِ كَقَبْضٍ عَلى الجَمْرِ؛ لِلْعامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ"؛ قالَ: وزادَنِي غَيْرُهُ: قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ أجْرُ خَمْسِينَ مِنهُمْ؟ قالَ: "أجْرُ خَمْسِينَ مِنكُمْ"».
وفِي هَذِهِ الأخْبارِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ؛ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ لَهُما حالانِ؛ حالٌ يُمْكِنُ فِيها تَغْيِيرُ المُنْكَرِ؛ وإزالَتُهُ؛ فَفَرْضٌ عَلى مَن أمْكَنَهُ إزالَةُ ذَلِكَ بِيَدِهِ أنْ يُزِيلَهُ؛ وإزالَتُهُ بِاليَدِ تَكُونُ عَلى وُجُوهٍ؛ مِنها ألّا يُمْكِنَهُ إزالَتُهُ إلّا بِالسَّيْفِ؛ وأنْ يَأْتِيَ عَلى نَفْسِ فاعِلِ المُنْكَرِ؛ فَعَلَيْهِ أنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ كَمَن رَأى رَجُلًا قَصَدَهُ؛ أوْ قَصَدَ غَيْرَهُ بِقَتْلِهِ؛ أوْ بِأخْذِ مالِهِ؛ أوْ قَصَدَ الزِّنا بِامْرَأةٍ؛ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ وعَلِمَ أنَّهُ لا يَنْتَهِي إنْ أنْكَرَهُ بِالقَوْلِ؛ أوْ قاتَلَهُ بِما دُونَ السِّلاحِ؛ فَعَلَيْهِ أنْ يَقْتُلَهُ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ – «"مَن رَأى مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ"؛» فَإذا لَمْ يُمْكِنْهُ تَغْيِيرُهُ بِيَدِهِ إلّا بِقَتْلِ المُقِيمِ عَلى هَذا المُنْكَرِ؛ فَعَلَيْهِ أنْ يَقْتُلَهُ؛ فَرْضًا عَلَيْهِ؛ وإنْ غَلَبَ في ظَنِّهِ أنَّهُ إنْ أنْكَرَهُ بِيَدِهِ؛ ودَفْعَهُ عَنْهُ بِغَيْرِ سِلاحٍ انْتَهى عَنْهُ؛ لَمْ يَجُزْ لَهُ الإقْدامُ عَلى قَتْلِهِ؛ وإنْ غَلَبَ في ظَنِّهِ أنَّهُ إنْ أنْكَرْهُ بِالدَّفْعِ بِيَدِهِ؛ أوْ بِالقَوْلِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ؛ ولَمْ يُمْكِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ دَفْعُهُ عَنْهُ؛ ولَمْ يُمْكِنْهُ إزالَةُ هَذا المُنْكَرِ إلّا بِأنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ بِالقَتْلِ مِن غَيْرِ إنْذارٍ مِنهُ لَهُ؛ فَعَلَيْهِ أنْ يَقْتُلَهُ؛ وقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ - في رَجُلٍ غَصَبَ مَتاعَ رَجُلٍ -: "وسِعَكَ قَتْلُهُ؛ حَتّى تَسْتَنْقِذَ المَتاعَ؛ وتَرُدَّهُ إلى صاحِبِهِ"؛ وكَذَلِكَ قالَ أبُو حَنِيفَةَ (p-٣١٨)فِي السّارِقِ إذا أخَذَ المَتاعَ: "وسِعَكَ أنْ تَتْبَعَهُ حَتّى تَقْتُلَهُ؛ إنْ لَمْ يَرُدَّ المَتاعَ"؛ قالَ مُحَمَّدٌ؛ وقالَ أبُو حَنِيفَةَ - في اللِّصِّ الَّذِي يَنْقُبُ البُيُوتَ -: "يَسَعُكَ قَتْلُهُ"؛ وقالَ - في رَجُلٍ يُرِيدُ قَلْعَ سِنِّكَ -: "فَلَكَ أنْ تَقْتُلَهُ إذا كُنْتَ في مَوْضِعٍ لا يُعِينُكَ النّاسُ عَلَيْهِ"؛ وهَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات: ٩]؛ فَأمَرَ بِقِتالِهِمْ؛ ولَمْ يَرْفَعْهُ عَنْهم إلّا بَعْدَ الفَيْءِ إلى أمْرِ اللَّهِ (تَعالى)؛ وتَرْكِ ما هم عَلَيْهِ مِنَ البَغْيِ والمُنْكَرِ.
وقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «"مَن رَأى مِنكم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ"؛» يُوجِبُ ذَلِكَ أيْضًا؛ لِأنَّهُ قَدْ أمَرَ بِتَغْيِيرِهِ بِيَدِهِ عَلى أيِّ وجْهٍ أمْكَنَ ذَلِكَ؛ فَإذا لَمْ يُمْكِنْهُ تَغْيِيرُهُ إلّا بِالقَتْلِ فَعَلَيْهِ قَتْلُهُ؛ حَتّى يُزِيلَهُ؛ وكَذَلِكَ قُلْنا في أصْحابِ الضَّرائِبِ؛ والمُكُوسِ الَّتِي يَأْخُذُونَها مِن أمْتِعَةِ النّاسِ: "إنَّ دِماءَهم مُباحَةٌ؛ وواجِبٌ عَلى المُسْلِمِينَ قَتْلُهُمْ؛ ولِكُلِّ واحِدٍ مِنَ النّاسِ أنْ يَقْتُلَ مَن قَدَرَ عَلَيْهِ مِنهُمْ؛ مِن غَيْرِ إنْذارٍ مِنهُ لَهُ؛ ولا التَّقَدُّمِ إلَيْهِمْ بِالقَوْلِ"؛ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ مِن حالِهِمْ أنَّهم غَيْرُ قابِلِينَ؛ إذا كانُوا مُقْدِمِينَ عَلى ذَلِكَ؛ مَعَ العِلْمِ بِحَظْرِهِ؛ ومَتى أنْذَرَهم مَن يُرِيدُ الإنْكارَ عَلَيْهِمُ امْتَنَعُوا مِنهُ؛ حَتّى لا يُمْكِنُ تَغْيِيرُ ما هم عَلَيْهِ مِنَ المُنْكَرِ؛ فَجائِزٌ قَتْلُ مَن كانَ مِنهم مُقِيمًا عَلى ذَلِكَ؛ وجائِزٌ - مَعَ ذَلِكَ - تَرْكُهُمْ؛ لِمَن خافَ إنْ أقْدَمَ عَلَيْهِمْ بِالقَتْلِ أنْ يُقْتَلَ؛ إلّا أنَّ عَلَيْهِ اجْتِنابَهُمْ؛ والغِلْظَةَ عَلَيْهِمْ بِما أمْكَنَ؛ وهِجْرانَهُمْ؛ وكَذَلِكَ حُكْمُ سائِرِ مَن كانَ مُقِيمًا عَلى شَيْءٍ مِنَ المَعاصِي المُوبِقاتِ؛ مُصِرًّا عَلَيْها؛ مُجاهِرًا بِها؛ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَن ذَكَرْنا؛ في وُجُوبِ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ بِما أمْكَنَ؛ وتَغْيِيرِ ما هم عَلَيْهِ بِيَدِهِ؛ وإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِلِسانِهِ؛ وذَلِكَ إذا رَجا أنَّهُ إنْ أنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِالقَوْلِ أنْ يَزُولُوا عَنْهُ؛ ويَتْرُكُوهُ؛ فَإنْ لَمْ يَرْجُ ذَلِكَ؛ وقَدْ غَلَبَ في ظَنِّهِ أنَّهم غَيْرُ قابِلِينَ مِنهُ؛ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأنَّهُ مُنْكِرٌ عَلَيْهِمْ؛ وسِعَهُ السُّكُوتُ عَنْهُمْ؛ بَعْدَ أنْ يُجانِبَهُمْ؛ ويُظْهِرَ هِجْرانَهُمْ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «"فَلْيُغَيِّرْهُ بِلِسانِهِ؛ فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ"؛» وقَوْلُهُ ﷺ: " فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ "؛ قَدْ فُهِمَ مِنهُ أنَّهم إذا لَمْ يَزُولُوا عَنِ المُنْكَرِ فَعَلَيْهِ إنْكارُهُ بِقَلْبِهِ؛ سَواءٌ كانَ في تُقْيَةٍ؛ أوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: " فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ "؛ مَعْناهُ أنَّهُ لا يُمْكِنُهُ إزالَتُهُ بِالقَوْلِ؛ فَأباحَ لَهُ السُّكُوتَ في هَذِهِ الحالِ.
وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥] -: "مُرْ بِالمَعْرُوفِ؛ وانْهَ عَنِ المُنْكَرِ؛ ما قُبِلَ مِنكَ؛ فَإذا لَمْ يُقْبَلْ مِنكَ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ"؛ وحَدِيثُ أبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ أيْضًا؛ الَّذِي قَدَّمْناهُ؛ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ قالَ ﷺ: «"اِئْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ؛ وتَناهَوْا عَنِ المُنْكَرِ؛ حَتّى إذا رَأيْتَ شُحًّا مُطاعًا؛ وهَوًى مُتَّبَعًا؛ ودُنْيا مُؤْثَرَةً؛ وإعْجابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ؛ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ؛ ودَعْ عَنْكَ العَوامَّ"؛» يَعْنِي - واللَّهُ أعْلَمُ -: إذا لَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ (p-٣١٩)واتَّبَعُوا أهْواءَهُمْ؛ وآراءَهُمْ؛ فَأنْتَ في سَعَةٍ مِن تَرْكِهِمْ؛ وعَلَيْكَ نَفْسَكَ؛ ودَعْ أمْرَ العَوامِّ؛ وأباحَ تَرْكَ النَّكِيرِ بِالقَوْلِ فِيمَن هَذِهِ حالُهُ.
ورُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ قالَ لَهُ: قَدْ أعْيانِي أنْ أعْلَمَ ما فُعِلَ بِمَن أمْسَكَ عَنِ الوَعْظِ مِن أصْحابِ السَّبْتِ؛ فَقُلْتُ لَهُ: "أنا أُعَرِّفُكَ ذَلِكَ؛ اقْرَإ الآيَةَ الثّانِيَةَ؛ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿أنْجَيْنا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ﴾ [الأعراف: ١٦٥] "؛ قالَ: فَقالَ لِي: أصَبْتَ؛ وكَسانِي حُلَّةً؛ فاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبّاسٍ بِذَلِكَ عَلى أنَّ اللَّهَ (تَعالى) أهْلَكَ مَن عَمِلَ السُّوءَ؛ ومَن لَمْ يَنْهَ عَنْهُ؛ فَجَعَلَ المُمْسِكِينَ عَنْ إنْكارِ المُنْكَرِ بِمَنزِلَةِ فاعِلِيهِ في العَذابِ؛ وهَذا عِنْدَنا عَلى أنَّهم كانُوا راضِينَ بِأعْمالِهِمْ؛ غَيْرَ مُنْكِرِينَ لَها بِقُلُوبِهِمْ؛ وقَدْ نَسَبَ اللَّهُ (تَعالى) قَتْلَ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ إلى مَن كانَ في عَصْرِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ اليَهُودِ؛ الَّذِينَ كانُوا مُتَوالِينَ لِأسْلافِهِمُ القاتِلِينَ لِأنْبِيائِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿قَدْ جاءَكم رُسُلٌ مِن قَبْلِي بِالبَيِّناتِ وبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ [آل عمران: ١٨٣]؛ وبِقَوْلِهِ: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩١]؛ فَأضافَ القَتْلَ إلَيْهِمْ؛ وإنْ لَمْ يُباشِرُوهُ؛ ولَمْ يَقْتُلُوهُمْ؛ إذْ كانُوا راضِينَ بِأفْعالِ القاتِلِينَ؛ فَكَذَلِكَ ألْحَقَ اللَّهُ (تَعالى) مَن لَمْ يَنْهَ عَنِ السُّوءِ مِن أصْحابِ السَّبْتِ بِفاعِلِيهِ؛ إذْ كانُوا بِهِ راضِينَ؛ ولَهم عَلَيْهِ مُتَوالِينَ؛ فَإذا كانَ مُنْكِرًا لِلْمُنْكَرِ بِقَلْبِهِ؛ ولا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهُ عَلى غَيْرِهِ؛ فَهو غَيْرُ داخِلٍ في وعِيدِ فاعِلِيهِ؛ بَلْ هو مِمَّنْ قالَ عَنْهُمُ اللَّهُ (تَعالى): ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥]؛ وحَدَّثَنا مَكْرَمُ بْنُ أحْمَدَ القاضِي قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ عَطِيَّةَ الكُوفِيُّ قالَ: حَدَّثَنا الحِمّانِيُّ قالَ: سَمِعْتُ ابْنَ المُبارَكِ يَقُولُ: لَمّا بَلَغَ أبا حَنِيفَةَ قَتْلُ إبْراهِيمَ الصّائِغِ بَكى؛ حَتّى ظَنَنّا أنَّهُ سَيَمُوتُ؛ فَخَلَوْتُ بِهِ؛ فَقالَ: كانَ واللَّهِ رَجُلًا عاقِلًا؛ ولَقَدْ كُنْتُ أخافُ عَلَيْهِ هَذا الأمْرَ؛ قُلْتُ: وكَيْفَ كانَ سَبَبُهُ؟ قالَ: كانَ يَقْدُمُ ويَسْألُنِي؛ وكانَ شَدِيدَ البَذْلِ لِنَفْسِهِ في طاعَةِ اللَّهِ؛ وكانَ شَدِيدَ الوَرَعِ؛ وكُنْتُ رُبَّما قَدَّمْتُ إلَيْهِ الشَّيْءَ فَيَسْألُنِي عَنْهُ؛ ولا يَرْضاهُ؛ ولا يَذُوقُهُ؛ ورُبَّما رَضِيَهُ فَأكْلَهُ؛ فَسَألَنِي عَنِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ؛ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ؛ إلى أنِ اتَّفَقْنا عَلى أنَّهُ فَرِيضَةٌ مِنَ اللَّهِ (تَعالى)؛ فَقالَ لِي: مُدَّ يَدَكَ حَتّى أُبايِعَكَ؛ فَأظْلَمَتِ الدُّنْيا بَيْنِي وبَيْنَهُ؛ فَقُلْتُ: ولِمَ؟ قالَ: دَعانِي إلى حَقٍّ مِن حُقُوقِ اللَّهِ فامْتَنَعْتُ عَلَيْهِ؛ وقُلْتُ لَهُ: إنْ قامَ بِهِ رَجُلٌ وحْدَهُ قُتِلَ؛ ولَمْ يَصْلُحْ لِلنّاسِ أمْرٌ؛ ولَكِنْ إنْ وجَدَ عَلَيْهِ أعْوانًا صالِحِينَ؛ ورَجُلًا يَرْأسُ عَلَيْهِمْ؛ مَأْمُونًا عَلى دِينِ اللَّهِ؛ لا يَحُولُ؛ قالَ: وكانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ كُلَّما قَدِمَ عَلَيَّ؛ تَقاضِيَ الغَرِيمِ المُلِحِّ؛ كُلَّما قَدِمَ عَلَيَّ تَقاضانِي؛ فَأقُولُ لَهُ: هَذا أمْرٌ لا يَصْلُحُ بِواحِدٍ؛ ما أطاقَتْهُ الأنْبِياءُ؛ حَتّى عَقَدَتْ عَلَيْهِ مِنَ السَّماءِ؛ وهَذِهِ فَرِيضَةٌ لَيْسَتْ كَسائِرِ الفَرائِضِ؛ لِأنَّ سائِرَ الفَرائِضِ يَقُومُ بِها الرَّجُلُ وحْدَهُ؛ وهَذا مَتى أُمِرَ بِهِ الرَّجُلُ وحْدَهُ (p-٣٢٠)أشاطَ بِدَمِهِ؛ وعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ؛ فَأخافُ عَلَيْهِ أنْ يُعِينَ عَلى قَتْلِ نَفْسِهِ؛ وإذا قُتِلَ الرَّجُلُ لَمْ يَجْتَرِئْ غَيْرُهُ أنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ؛ ولَكِنَّهُ يَنْتَظِرُ؛ فَقَدْ قالَتِ المَلائِكَةُ: ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ قالَ إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠]؛ ثُمَّ خَرَجَ إلى مَرْوَ؛ حَيْثُ كانَ أبُو مُسْلِمٍ؛ فَكَلَّمَهُ بِكَلامٍ غَلِيظٍ؛ فَأخَذَهُ؛ فاجْتَمَعَ عَلَيْهِ فُقَهاءُ أهْلِ خُراسانَ؛ وعُبّادُهُمْ؛ حَتّى أطْلَقُوهُ؛ ثُمَّ عاوَدَهُ؛ فَزَجْرَهُ؛ ثُمَّ عاوَدَهُ؛ ثُمَّ قالَ: ما أجِدُ شَيْئًا أقُومُ بِهِ لِلَّهِ (تَعالى) أفْضَلَ مِن جِهادِكَ؛ ولَأُجاهِدَنَّكَ بِلِسانِي؛ لَيْسَ لِي قُوَّةٌ بِيَدِي؛ ولَكِنْ يَرانِي اللَّهُ وأنا أُبْغِضُكَ فِيهِ؛ فَقَتَلَهُ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا ثَبَتَ بِما قَدَّمْنا ذِكْرَهُ مِنَ القُرْآنِ؛ والآثارِ الوارِدَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ وُجُوبُ فَرْضِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ؛ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ؛ وبَيَّنّا أنَّهُ فَرْضٌ عَلى الكِفايَةِ؛ إذا قامَ بِهِ البَعْضُ سَقَطَ عَنِ الباقِينَ؛ وجَبَ ألّا يَخْتَلِفَ في لُزُومِ فَرْضِهِ البَرُّ؛ والفاجِرُ؛ لِأنَّ تَرْكَ الإنْسانِ لِبَعْضِ الفُرُوضِ لا يُسْقِطُ عَنْهُ فُرُوضًا غَيْرَهُ؛ ألا تَرى أنَّ تَرْكَهُ لِلصَّلاةِ لا يُسْقِطُ عَنْهُ فَرْضَ الصَّوْمِ؛ وسائِرَ العِباداتِ؟ فَكَذَلِكَ مَن لَمْ يَفْعَلْ سائِرَ المَعْرُوفِ ولَمْ يَنْتَهِ عَنْ سائِرِ المَناكِيرِ؛ فَإنَّ فَرْضَ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ غَيْرُ ساقِطٍ عَنْهُ.
وقَدْ رَوى طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو؛ عَنْ عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «اِجْتَمَعَ نَفَرٌ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ أرَأيْتَ إنْ عَمِلْنا بِالمَعْرُوفِ؛ حَتّى لا يَبْقى مِنَ المَعْرُوفِ شَيْءٌ إلّا عَمِلْناهُ؛ وانْتَهَيْنا عَنِ المُنْكَرِ؛ حَتّى لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ المُنْكَرِ إلّا انْتَهَيْنا عَنْهُ؛ أيَسَعُنا ألّا نَأْمُرَ بِالمَعْرُوفِ؛ ولا نَنْهى عَنِ المُنْكَرِ؟ قالَ: "مُرُوا بِالمَعْرُوفِ؛ وإنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كُلِّهِ؛ وانْهَوْا عَنِ المُنْكَرِ؛ وإنْ لَمْ تَنْتَهُوا عَنْهُ كُلِّهِ"؛» فَأجْرى النَّبِيُّ ﷺ فَرْضَ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ مُجْرى سائِرِ الفُرُوضِ؛ في لُزُومِ القِيامِ بِهِ؛ مَعَ التَّقْصِيرِ في بَعْضِ الواجِباتِ.
ولَمْ يَدْفَعْ أحَدٌ مِن عُلَماءِ الأُمَّةِ؛ وفُقَهائِها؛ سَلَفِهِمْ وخَلَفِهِمْ؛ وُجُوبَ ذَلِكَ؛ إلّا قَوْمٌ مِنَ الحَشْوِ؛ وجُهّالِ أصْحابِ الحَدِيثِ؛ فَإنَّهم أنْكَرُوا قِتالَ الفِئَةِ الباغِيَةِ؛ والأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ بِالسِّلاحِ؛ وسَمَّوُا الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ فِتْنَةً؛ إذا احْتِيجَ فِيهِ إلى حَمْلِ السِّلاحِ؛ وقِتالِ الفِئَةِ الباغِيَةِ؛ مَعَ ما قَدْ سَمِعُوا فِيهِ مِن قَوْلِ اللَّهِ (تَعالى): ﴿فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات: ٩]؛ وما يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ مِن وُجُوبِ قِتالِها بِالسَّيْفِ؛ وغَيْرِهِ؛ وزَعَمُوا مَعَ ذَلِكَ أنَّ السُّلْطانَ لا يُنْكَرُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ؛ والجَوْرُ؛ وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ (تَعالى)؛ وإنَّما يُنْكَرُ عَلى غَيْرِ السُّلْطانِ؛ بِالقَوْلِ؛ أوْ بِاليَدِ؛ بِغَيْرِ سِلاحٍ؛ فَصارُوا شَرًّا عَلى الأُمَّةِ مِن أعْدائِها المُخالِفِينَ لَها؛ لِأنَّهم أقْعَدُوا النّاسَ (p-٣٢١)عَنْ قِتالِ الفِئَةِ الباغِيَةِ؛ وعَنِ الإنْكارِ عَلى السُّلْطانِ الظُّلْمَ والجَوْرَ؛ حَتّى أدّى ذَلِكَ إلى تَغَلُّبِ الفُجّارِ؛ بَلِ المَجُوسِ؛ وأعْداءِ الإسْلامِ؛ حَتّى ذَهَبَتِ الثُّغُورُ؛ وشاعَ الظُّلْمُ؛ وخَرِبَتِ البِلادُ؛ وذَهَبَ الدِّينُ والدُّنْيا؛ وظَهَرَتِ الزَّنْدَقَةُ؛ والغُلُوُّ؛ ومَذاهِبُ الثَّنَوِيَّةِ؛ والخُرَّمِيَّةِ؛ والمَزْدَكِيَّةِ؛ والَّذِي جَلَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ؛ والإنْكارِ عَلى السُّلْطانِ الجائِرِ؛ واللَّهُ المُسْتَعانُ.
وقَدْ حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبّادٍ الواسِطِيُّ قالَ: حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ هارُونَ قالَ: أخْبَرَنا إسْرائِيلُ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ جُحادَةَ؛ عَنْ عَطِيَّةَ العَوْفِيِّ؛ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «"أفْضَلُ الجِهادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطانٍ جائِرٍ؛ أوْ أمِيرٍ جائِرٍ"؛» وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قالَ: أخْبَرَنِي أحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُصْعَبٍ المَرْوَزِيُّ قالَ: سَمِعْتُ أبا عُمارَةَ قالَ: سَمِعْتُ الحَسَنَ بْنَ رَشِيدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أبا حَنِيفَةَ يَقُولُ: أنا حَدَّثْتُ إبْراهِيمَ الصّائِغَ عَنْ عِكْرِمَةَ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «"سَيِّدُ الشُّهَداءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ؛ ورَجُلٌ قامَ إلى إمامٍ جائِرٍ؛ فَأمَرَهُ؛ ونَهاهُ؛ فَقَتَلَهُ"».
قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ﴾ [غافر: ٣١]؛ قَدِ اقْتَضى ذَلِكَ نَفْيَ إرادَةِ الظُّلْمِ مِن كُلِّ وجْهٍ؛ فَلا يُرِيدُ هو أنْ يَظْلِمَهُمْ؛ ولا يُرِيدُ أيْضًا ظُلْمَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ؛ لِأنَّهُما سَواءٌ في مَنزِلَةِ القُبْحِ؛ ولَوْ جازَ أنْ يُرِيدَ ظُلْمَ بَعْضِهِمْ؛ لَجازَ أنْ يُرِيدَ ظُلْمَهُ لَهُمْ؛ ألا تَرى أنَّهُ لا فارِقَ في العُقُولِ بَيْنَ مَن أرادَ ظُلْمَ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ؛ وبَيْنَ مَن أرادَ ظُلْمَ إنْسانٍ لِغَيْرِهِ؛ وأنَّهُما سَواءٌ في القُبْحِ؟ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ إرادَتُهُ لِلظُّلْمِ مُنْتَفِيَةً مِنهُ؛ ومِن غَيْرِهِ.
{"ayah":"وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةࣱ یَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَیۡرِ وَیَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق