الباحث القرآني

اَلْقَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١٠٤ ] ﴿ولْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ ﴿ولْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ﴾ أيْ: جَماعَةٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّها يَؤُمُّها فِرَقُ النّاسِ، أيْ يَقْصِدُونَها ويَقْتَدُونَ بِها: ﴿يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ﴾ وهو ما فِيهِ صَلاحٌ دِينِيٌّ ودُنْيَوِيٌّ: ﴿ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ﴾ أيْ: بِكُلِّ مَعْرُوفٍ، مِن واجِبٍ ومَندُوبٍ يُقَرِّبُهم إلى الجَنَّةِ ويُبْعِدُهم عَنْ النّارِ: ﴿ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ أيْ: عَنْ كُلِّ مُنْكَرْ، مِن حَرامٍ ومَكْرُوهٍ يُقَرِّبُهم إلى النّارِ ويُبْعِدُهم مِنَ الجَنَّةِ: ﴿وأُولَئِكَ﴾ الدّاعُونَ الآمِرُونَ النّاهُونَ: ﴿هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ الفائِزُونَ بِأُجُورِ أعْمالِهِمْ وأعْمالِ مَن تَبِعَهم. قالَ بَعْضُهم: الفَلاحُ: هو الظَّفَرُ وإدْراكُ البُغْيَةِ. فالدُّنْيَوِيُّ هو إدْراكُ السَّعادَةِ الَّتِي تَطِيبُ بِها الِحَياةُ، والأُخْرَوِيُّ أرْبَعَةُ أشْياءَ: بَقاءٌ بِلا فَناءٍ، وعِزٌّ بِلا ذُلٍّ، وغِنًى بِلا فَقْرٍ، وعِلْمٌ بِلا جَهْلٍ. لَطِيفَةٌ: قِيلَ: عَطْفُ: ﴿ويَأْمُرُونَ﴾ عَلى ما قَبْلُهُ، مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ. كَذا قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وناقَشَهُ في (الِانْتِصافِ) . وعِبارَتُهُ: عَطْفُ الخاصِّ عَلى العامِّ يُؤْذِنُ بِمَزِيدِ اعْتِناءٍ بِالخاصِّ لا مَحالَةَ إذا اقْتَصَرَ عَلى بَعْضِ مُتَناوِلاتِ العامِّ، كَقَوْلِهِ: ﴿مَن كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكالَ﴾ [البقرة: ٩٨] وكَقَوْلِهِ: ﴿فِيهِما فاكِهَةٌ ونَخْلٌ ورُمّانٌ﴾ [الرحمن: ٦٨] وكَقَوْلِهِ: ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى﴾ [البقرة: ٢٣٨] وشِبْهِ ذَلِكَ، لِأنَّ الِاقْتِصارَ عَلى تَخْصِيصِ ما يُفْرَدُ بِالذِّكْرِ (p-٩٢١)يُفِيدُهُ تَمْيِيزًا عَنْ غَيْرِهِ مِن بَقِيَّةِ المُتَناوِلاتِ. وأمّا هَذِهِ الآيَةُ فَقَدْ ذُكِرَ، بَعْدَ العامِّ فِيها جَمِيعُ ما يَتَناوَلُهُ، إذْ الخَيْرُ المَدْعُوُّ إلَيْهِ إمّا فِعْلُ مَأْمُورٍ، أوْ تَرْكُ مَنهِيٍّ، لا يَعْدُو واحِدًا مِن هَذَيْنَ حَتّى يَكُونَ تَخْصِيصُها يُمَيِّزُها عَنْ بَقِيَّةِ المُتَناوِلاتِ، فالأوْلى في ذَلِكَ أنْ يُقالَ: فائِدَةُ هَذا التَّخْصِيصِ ذِكْرُ الدُّعاءَ إلى الخَيْرِ عامًّا ثُمَّ مُفَصَّلًا. وفِيهِ تَنْبِيهٌ: أنَّ الذِّكْرَ عَلى وجْهَيْنِ ما لا يَخْفى مِنَ العِنايَةِ - واَللَّهُ أعْلَمُ - إلّا أنْ يَثْبُتَ عُرْفٌ يَخُصُّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنْ المُنْكَرِ بِبَعْضِ أنْواعِ الخَيْرِ، فَإذْ ذاكَ يَتِمُّ مُرادُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وما أرى هَذا العُرْفَ ثانِيًا - واَللَّهَ أعْلَمُ - انْتَهى. تَنْبِيهٌ: وفِي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى وُجُوبِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنْ المُنْكَرِ، ووُجُوبُهُ ثابِتٌ بِالكِتابِ والسُّنَّةِ، وهو مِن أعْظَمِ واجِباتِ الشَّرِيعَةِ المُطَهَّرَةِ، وأصْلٌ عَظِيمٌ مِن أُصُولِها، ورُكْنٌ مَشِيدٌ مِن أرْكانِها، وبِهِ يَكْمُلُ نِظامُها ويَرْتَفِعُ سَنامُها - كَذا في (فَتْحِ البَيانِ) . قالَ الغَزالِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: في هَذِهِ الآيَةِ بَيانُ الإيجابِ. فَإنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولْتَكُنْ﴾ أمْرٌ. وظاهِرُ الأمْرِ الإيجابُ، وفِيها بَيانُ أنَّ الفَلاحَ مَنُوطٌ بِهِ، إذْ حَصَرَ وقالَ: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ وفِيها بَيانُ أنَّهُ فَرْضُ كِفايَةٍ لا فَرْضُ عَيْنٍ، وأنَّهُ إذا قامَ بِهِ أُمَّةٌ سَقَطَ الفَرْضُ عَنْ الآخَرِينَ؛ إذْ لَمْ يَقُلْ: كُونُوا كُلُّكم آمِرِينَ بِالمَعْرُوفِ. بَلْ قالَ: ﴿ولْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ﴾ فَإذًا، مَهْما قامَ بِهِ واحِدٌ أوْ جَماعَةٌ سَقَطَ الحَرَجُ عَنْ الآخَرِينَ، واخْتَصَّ الفَلاحُ بِالقائِمِينَ بِهِ المُباشِرِينَ. وإنَّ تَقاعَدَ عَنْهُ الخَلْقُ أجْمَعُونَ، عَمَّ الحَرَجُ كافَّةَ القادِرِينَ عَلَيْهِ لا مَحالَةَ. انْتَهى. فَإنْ قُلْتَ: فَمَن يُباشِرُهُ ؟ فالجَوابُ: كُلُّ مُسْلِمٍ تَمَكَّنَ مِنهُ ولَمْ يَغْلِبْ عَلى ظَنِّهِ أنَّهُ إنْ أنْكَرَ لَحِقَتْهُ مَضَرَّةٌ عَظِيمَةٌ، أوْ إنَّ نَهْيَهُ لا يُؤَثِّرُ، لِأنَّهُ عَبَثٌ، إلّا أنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِإظْهارِ شِعارِ الإسْلامِ، وتَذْكِيرِ النّاسِ بِأمْرِ الدِّينِ. فَإنْ قُلْتَ: فَمَن يُؤْمَرُ ويُنْهى ؟ قُلْتُ: كُلُّ مُكَلَّفٍ، وغَيْرُ المُكَلَّفِ، إذا هَمَّ بِضَرَرِ غَيْرِهِ مُنِعَ، كالصِّبْيانِ والمَجانِينِ، ويُنْهى الصِّبْيانُ عَنْ المُحَرَّماتِ حَتّى لا يَتَعَوَّدُوها، كَما يُؤْخَذُونَ بِالصَّلاةِ لِيُمَرَّنُوا عَلَيْها - ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ - . (p-٩٢٢)وتَفْصِيلُ هَذا البَحْثِ في (الإحْياءِ) لِلْغَزالِيِّ قُدِّسَ سِرُّهُ، وقَدْ قالَ - قُدِّسَ سِرُّهُ - في طَلِيعَةِ ذَلِكَ البَحْثِ ما نَصُّهُ: إنَّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنْ المُنْكَرِ، هو القُطْبُ الأعْظَمُ في الدِّينِ، وهو المُهِمُّ الَّذِي ابْتَعَثَ اللَّهُ لَهُ النَّبِيِّينَ أجْمَعِينَ، ولَوْ طُوِيَ بِساطُهُ وأُهْمِلَ عَمَلُهُ لَتَعَطَّلَتْ النُّبُوَّةُ، واضْمَحَلَّتْ الدِّيانَةُ، وعَمَّتْ الفَتْرَةُ، وفَشَتْ الضَّلالَةُ، وشاعَتْ الجَهالَةُ، واسْتَشْرى الفَسادُ، واتَّسَعَ الخَرْقُ، وخَرِبَتْ البِلادُ، وهَلَكَ العِبادُ، وإنْ لَمْ يَشْعُرُوا بِالهَلاكِ إلّا يَوْمَ التَّنادِ، وقَدْ كانَ الَّذِي خِفْنا أنْ يَكُونَ، إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ، إذْ قَدْ انْدَرَسَ مِن هَذا القُطْبِ عَمَلُهُ وعِلْمُهُ، وانْمَحى بِالكُلِّيَّةِ حَقِيقَتُهُ ورَسْمُهُ، واسْتَوْلَتْ عَلى القُلُوبِ مُداهَنَةُ الخَلْقِ، وانْمَحَتْ عَنْها مُراقَبَةُ الخالِقِ، واسْتَرْسَلَ النّاسُ في اتِّباعِ الهَوى والشَّهَواتِ اسْتِرْسالَ البَهائِمِ، وعَزَّ عَلى بِساطِ الأرْضِ مُؤْمِنٌ صادِقٌ لا تَأْخُذُهُ في اللَّهِ لَوْمَةُ لائِمٍ، فَمَن سَعى في تَلافِي هَذِهِ الفَتْرَةِ، وسَدِّ هَذِهِ الثُّلْمَةِ، إمّا مُتَكَفِّلًا بِعَمَلِها، أوْ مُتَقَلِّدًا لِتَنْفِيذِها، مُجَدِّدًا لِهَذِهِ السُّنَّةِ الدّاثِرَةِ، ناهِضًا بِأعْبائِها، ومُتَشَمِّرًا في إحْيائِها - كانَ مُسْتَأْثِرًا مِن بَيْنِ الخَلْقِ بِإحْياءِ سُنَّةٍ أفْضى الزَّمانُ إلى إماتَتِها، ومُسْتَبِدًّا بِقُرْبَةٍ تَتَضاءَلُ دَرَجاتُ القُرَبِ دُونَ ذُرْوَتِها - انْتَهى - .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب