الباحث القرآني

﴿ولْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ الأمْرُ مُتَوَجِّهٌ لِمَن يَتَوَجَّهُ الخِطابُ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: وهُمُ الأوْسُ والخَزْرَجُ عَلى ما ذَكَرَهُ الجُمْهُورُ. وأمْرُهُ لَهم بِذَلِكَ أمْرٌ لِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ، ومَن تابَعَهم إلى يَوْمِ القِيامَةِ، فَهو مِنَ الخِطابِ الخاصِّ الَّذِي يُرادُ بِهِ العُمُومُ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ عامًّا فَيَدْخُلُ فِيهِ الأوْسُ والخَزْرَجُ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: (مِنكم) يَدُلُّ عَلى التَّبْعِيضِ، وقالَهُ الضَّحّاكُ والطَّبَرِيُّ؛ لِأنَّ الدُّعاءَ إلى الخَيْرِ والأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ، لا يَصْلُحُ إلّا لِمَن عَلِمَ المَعْرُوفَ والمُنْكَرَ، وكَيْفَ يُرَتِّبُ الأمْرَ في إقامَتِهِ، وكَيْفَ يُباشِرُ ؟ فَإنَّ الجاهِلَ رُبَّما أمَرَ بِمُنْكَرٍ ونَهى عَنْ مَعْرُوفٍ، ورُبَّما عَرَفَ حُكْمًا في مَذْهَبِهِ مُخالِفًا لِمَذْهَبِ غَيْرِهِ، فَيَنْهى عَنْ غَيْرِ مُنْكَرٍ ويَأْمُرُ بِغَيْرِ مَعْرُوفٍ، وقَدْ يُغْلِظُ في مَواضِعِ اللِّينِ، وبِالعَكْسِ. فَعَلى هَذا تَكُونُ ”مِن“ لِلتَّبْعِيضِ، ويَكُونُ مُتَعَلِّقُ الأمْرِ بِبَعْضِ الأُمَّةِ، وهُمُ الَّذِينَ يَصْلُحُونَ لِذَلِكَ. وذَهَبَ الزُّجاجُ إلى أنَّ ”مِن“ لِبَيانِ الجِنْسِ، وأتى عَلى زَعْمِهِ بِنَظائِرَ مِنَ القُرْآنِ وكَلامِ العَرَبِ، ويَكُونُ مُتَعَلِّقُ الأمْرِ جَمِيعَ الأُمَّةِ، يَكُونُونَ يَدْعُونَ جَمِيعَ العالَمِ إلى الخَيْرِ، الكُفّارَ إلى الإسْلامِ، والعُصاةَ إلى الطّاعَةِ. وظاهِرُ هَذا الأمْرِ الفَرْضِيَّةُ، فالجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ فَرْضُ كِفايَةٍ، فَإذا قامَ بِهِ بَعْضٌ سَقَطَ عَنِ الباقِينَ. وذَهَبَ جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ إلى أنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ، فَيَتَعَيَّنُ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ مَتى قَدَرَ عَلى ذَلِكَ وتَمَكَّنَ مِنهُ. واخْتَلَفُوا في الَّذِي يُسْقِطُ الوُجُوبَ. فَقالَ قَوْمٌ: الخَشْيَةُ عَلى النَّفْسِ، وما عَدا ذَلِكَ لا يُسْقِطُهُ. وقالَ قَوْمٌ: إذا تَحَقَّقَ ضَرْبًا أوْ حَبْسًا أوْ إهانَةً سَقَطَ عَنْهُ الفَرْضُ، وانْتَقَلَ إلى النَّدْبِ والأمْرِ والنَّهْيِ، وإنْ كانا مُطْلَقَيْنِ في القُرْآنِ فَقَدْ تَقَيَّدَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ ﷺ: «مَن رَأى مِنكم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وذَلِكَ أضْعَفُ الإيمانِ» ولَمْ يَدْفَعْ أحَدٌ مِن عُلَماءِ الأُمَّةِ سَلَفِها وخَلَفِها وُجُوبَ ذَلِكَ الأقْوَمَ مِنَ الحَشَوِيَّةِ وجُهّالِ أهْلِ الحَدِيثِ، فَإنَّهم أنْكَرُوا فِعالَ الفِئَةِ الباغِيَةِ، والأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ بِالسِّلاحِ، مَعَ ما سَمِعُوا مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات: ٩] وزَعَمُوا أنَّ السُّلْطانَ لا يُنْكَرُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ والجَوْرُ وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وإنَّما يُنْكَرُ عَلى غَيْرِ السُّلْطانِ بِالقَوْلِ أوْ بِاليَدِ بِغَيْرِ سِلاحٍ. وقَدْ ذَكَرَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ في أحْكامِهِ فَصْلًا مُشْبَعًا في الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، ذَكَرَ فِيهِ أنَّ دِماءَ أصْحابِ الضَّرائِبِ والمُكُوسِ مُباحَةٌ، وأنَّهُ يَجِبُ عَلى المُسْلِمِينَ قَتْلُهم، ولِكُلِّ واحِدٍ مِنَ النّاسِ أنْ يَقْتُلَ مَن قَدَرَ عَلَيْهِ مِنهم مَن غَيْرِ إنْذارٍ لَهُ ولا تَقَدُّمٍ بِالقَوْلِ. يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ: هو الإسْلامُ. قالَهُ مُقاتِلٌ، أوِ العَمَلُ بِطاعَةِ اللَّهِ، قالَهُ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ، أوِ الجِهادُ والإسْلامُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”ولْتَكُنْ“ بِسُكُونِ اللّامِ. وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، والحَسَنُ، والزُّهْرِيُّ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ، وأبُو حَيْوَةَ بِكَسْرِها، وعِلَّةُ بِنائِها عَلى الكَسْرِ مَذْكُورَةٌ في النَّحْوِ. وجَوَّزُوا في ”ولْتَكُنْ“ أنْ تَكُونَ تامَّةً، فَيَكُونُ ”مِنكم“ مُتَعَلِّقًا بِها، أوْ بِمَحْذُوفٍ عَلى أنَّهُ حالٌ؛ إذْ لَوْ تَأخَّرَ لَكانَ صِفَةً لِأُمَّةٍ. وأنْ تَكُونَ ناقِصَةً، و”يَدْعُونَ“ الخَبَرَ، وتُعَلَّقَ مِن عَلى الوَجْهَيْنِ السّابِقَيْنِ. وجَوَّزُوا أيْضًا أنْ يَكُونَ ”مِنكم“ الخَبَرَ، و”يَدْعُونَ“ صِفَةً. ومَحَطُّ الفائِدَةِ إنَّما هو في يَدْعُونَ فَهو الخَبَرُ. و﴿يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ [التوبة: ٧١] ذُكِرَ أوَّلًا الدُّعاءُ إلى الخَيْرِ، وهو عامٌّ في التَّكالِيفِ مِنَ الأفْعالِ والتُّرُوكِ، ثُمَّ جِيءَ بِالخاصِّ إعْلامًا بِفَضْلِهِ وشَرَفِهِ لِقَوْلِهِ: ﴿وجِبْرِيلَ ومِيكالَ﴾ [البقرة: ٩٨] ﴿والصَّلاةِ الوُسْطى﴾ [البقرة: ٢٣٨] وفَسَّرَ بَعْضُهُمُ المَعْرُوفَ بِالتَّوْحِيدِ، والمُنْكَرَ بِالكُفْرِ. ولا شَكَّ أنَّ التَّوْحِيدَ رَأْسُ المَعْرُوفِ، والكَفْرَ رَأْسُ (p-٢١)المُنْكَرِ. ولَكِنَّ الظّاهِرَ العُمُومُ في كُلِّ مَعْرُوفٍ مَأْمُورٍ بِهِ في الشَّرْعِ، وفي كُلِّ مَنهِيٍّ نُهِيَ عَنْهُ في الشَّرْعِ. وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ أحادِيثَ مَرْوِيَّةً في فَضْلِ مَن يَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهى عَنِ المُنْكَرِ، وفي إثْمِ مَن تَرَكَ ذَلِكَ، وآثارًا عَنِ الصَّحابَةِ وغَيْرِهِمْ في ذَلِكَ، وما طَرِيقُ الوُجُوبِ، هَلِ السَّمْعُ وحْدَهُ كَما ذَهَبَ إلَيْهِأبُو هاشِمٍ ؟ أمِ السَّمْعُ والعَقْلُ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ أبُوهُ أبُو عَلِيٍّ ؟ وهَذا عَلى آراءِ المُعْتَزِلَةِ. وأمّا شَرائِطُ النَّهْيِ والوُجُوبِ، ومَن يُباشِرُ، وكَيْفِيَّةِ المُباشَرَةِ، وهَلْ يَنْهى عَمّا يَرْتَكِبُهُ - لَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ لِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ، ومَوْضُوعُ هَذا كُلِّهِ عِلْمُ الفِقْهِ. وقَرَأ عُثْمانُ، وعَبْدُ اللَّهِ، وابْنُ الزُّبَيْرِ: ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ، ويَسْتَعِينُونَ اللَّهَ عَلى ما أصابَهم. ولَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الزِّيادَةُ في سَوادِ المُصْحَفِ، فَلا يَكُونُ قُرْآنًا. وفِيها إشارَةٌ إلى ما يُصِيبُ الآمِرَ بِالمَعْرُوفِ والنّاهِيَ عَنِ المُنْكَرِ مِنَ الأذى، كَما قالَ تَعالى: ﴿وأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنْكَرِ واصْبِرْ عَلى ما أصابَكَ﴾ [لقمان: ١٧] . ﴿وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ٥] تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذِهِ الجُمْلَةِ في أوَّلِ البَقَرَةِ. وهو تَبْشِيرٌ عَظِيمٌ، ووَعْدٌ كَرِيمٌ لِمَنِ اتَّصَفَ بِما قَبْلَ هَذِهِ الجُمْلَةِ. ﴿ولا تَكُونُوا كالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ البَيِّناتُ﴾ هَذِهِ والآيَةُ قَبْلَها كالشَّرْحِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٠٣] فَشَرَحَ الِاعْتِصامَ بِحَبْلِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ﴾ ولا سِيَّما عَلى قَوْلِ الزَّجّاجِ. وشَرَحَ ﴿ولا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٠٣] بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَكُونُوا كالَّذِينَ تَفَرَّقُوا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هُمُ الأُمَمُ السّالِفَةُ الَّتِي افْتَرَقَتْ في الدِّينِ. وقالَ الحَسَنُ: هُمُ اليَهُودُ والنَّصارى اخْتَلَفُوا وصارُوا فِرَقًا. وقالَ: قَتادَةُ هم أصْحابُ البِدَعِ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ. زادَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهُمُ المُشَبِّهَةُ، والمُجَبِّرَةُ، والحَشَوِيَّةُ، وأشْباهُهم. وقالَ أبُو أُمامَةَ: هُمُ الحَرُورِيَّةُ، ورُوِيَ في ذَلِكَ حَدِيثٌ، قالَ بَعْضُ مُعاصِرِينا: في قَوْلِ قَتادَةَ وأبِي أُمامَةَ نَظَرٌ، فَإنَّ مُبْتَدِعَةَ هَذِهِ الأُمَّةِ والحَرُورِيَّةَ لَمْ يَكُونُوا إلّا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ بِزَمانٍ، وكَيْفَ نَهى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ أنْ يَكُونُوا كَمَثَلِ قَوْمٍ ما ظَهَرَ تَفَرُّقُهم ولا بِدَعُهم إلّا بَعْدَ انْقِطاعِ الوَحْيِ ومَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ ؟ فَإنَّكَ لا تَنْهى زَيْدًا أنْ يَكُونَ مِثْلَ عَمْرٍو إلّا بَعْدَ تَقَدُّمِ أمْرٍ مَكْرُوهٍ جَرى مِن عَمْرٍو، ولَيْسَ لِقَوْلَيْهِما وجْهٌ إلّا أنْ يَكُونَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنَ الماضِي الَّذِي أرادَ بِهِ المُسْتَقْبَلَ، فَيَكُونُ المَعْنى: ولا تَكُونُوا كالَّذِينِ يَتَفَرَّقُونَ ويَخْتَلِفُونَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِن إعْجازِ القُرْآنِ وإخْبارِهِ بِما لَمْ يَقَعْ ثُمَّ وقَعَ. انْتَهى كَلامُهُ. والبَيِّناتُ عَلى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ: آياتُ اللَّهِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلى أهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ. وعَلى قَوْلِ الحَسَنِ: التَّوْراةُ. وعَلى قَوْلِ قَتادَةَ وأبِي أُمامَةَ: القُرْآنُ. ﴿وأُولَئِكَ لَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ يَتَّصِفُ عَذابُ اللَّهِ بِالعَظِيمِ، إذْ هو أمْرٌ نِسْبِيٌّ يَتَفاوَتُ فِيهِ رُتَبُ المُعَذَّبِينَ، كَعَذابِ أبِي طالِبٍ، وعَذابِ العُصاةِ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ . ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦] الجُمْهُورُ عَلى أنَّ ابْيِضاضَ الوُجُوهِ واسْوِدادَها عَلى حَقِيقَةِ اللَّوْنِ. والبَياضُ مِنَ النُّورِ، والسَّوادُ مِنَ الظُّلْمَةِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَن كانَ مِن أهْلِ نُورِ الدِّينِ وُسِمَ بِبَياضِ اللَّوْنِ وإسْفارِهِ وإشْراقِهِ، وابْيَضَّتْ صَحِيفَتُهُ وأشْرَقَتْ، وسَعى النُّورُ بَيْنَ يَدَيْهِ وبِيَمِينِهِ. ومَن كانَ مِن أهْلِ ظَلَمَةِ الباطِلِ وُسِمَ بِسَوادِ اللَّوْنِ وكُسُوفِهِ وكَمَدِهِ، واسْوَدَّتْ صَحِيفَتُهُ وأظْلَمَتْ، وأحاطَتْ بِهِ الظُّلْمَةُ مِن كُلِّ جانِبٍ. انْتَهى كَلامُهُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وبَياضُ الوُجُوهِ عِبارَةٌ عَنْ إشْراقِها واسْتِنارَتِها وبِشْرِها بِرَحْمَةِ اللَّهِ. قالَهُ الزُّجاجُ وغَيْرُهُ. ويُحْتَمَلُ عِنْدِي أنْ تَكُونَ مِن آثارِ الوُضُوءِ كَما قالَ: «أنْتُمُ الغَرُّ المُحَجَّلُونَ مِن آثارِ الوُضُوءِ» . وأمّا سَوادُ الوُجُوهِ فَقالَ المُفَسِّرُونَ: هو عِبارَةٌ عَنِ ارْتِدادِها وإظْلامِها بِغَمَمِ العَذابِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَسْوِيدًا يُنَزِّلُهُ اللَّهُ بِهِمْ عَلى جِهَةِ التَّشْوِيهِ والتَّمْثِيلِ بِهِمْ، عَلى نَحْوِ حَشْرِهِمْ زُرْقًا، وهَذِهِ أقْبَحُ طَلْعَةٍ. ومِن ذَلِكَ قَوْلُ بِشارٍ:(p-٢٢) ؎ولِلْبَخِيلِ عَلى أمْوالِهِ عِلَلٌ زُرْقُ العُيُونِ عَلَيْها أوْجُهٌ سُودُ انْتَهى كَلامُهُ. وقالَ قَوْمٌ: البَياضُ والسَّوادُ مَثَلانِ عُبِّرَ بِهِما عَنِ السُّرُورِ والحُزْنِ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ظَلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا﴾ [النحل: ٥٨] وكَقَوْلِ العَرَبِ لِمَن نالَ أُمْنِيَّتَهُ: ابْيَضَّ وجْهُهُ. ولِمَن جاءَ خائِبًا: جاءَ مُسْوَدَّ الوَجْهِ. وقالَ أبُو طالِبٍ: ؎وأبْيَضُ يُسْتَسْقى الغَمامُ بِوَجْهِهِ وقالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎وأوْجُهُهم عِنْدَ المَشاهِدِ غُرّانُ وقالَ زُهَيْرٌ: ؎وأبْيَضُ فَيّاضٌ يَـداهُ غَمامَـةٌ وبَدَأ بِالبَياضِ؛ لِشَرَفِهِ وأنَّهُ الحالَةُ المُثْلى. وأسْنَدَ الِابْيِضاضَ والِاسْوِدادَ إلى الوُجُوهِ، وإنْ كانَ جَمِيعُ الجَسَدِ أبْيَضَ أوْ أسْوَدَ؛ لِأنَّ الوَجْهَ أوَّلُ ما يَلْقاكَ مِنَ الشَّخْصِ وتَراهُ، وهو أشْرَفُ أعْضائِهِ. والمُرادُ: وُجُوهُ المُؤْمِنِينَ ووُجُوهُ الكافِرِينَ. قالَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. وقِيلَ: وُجُوهُ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ، ووُجُوهُ بَنِي قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ. وقِيلَ: وُجُوهُ أهْلِ السُّنَّةِ، ووُجُوهُ أهْلِ البِدْعَةِ. وقالَ عَطاءٌ: وُجُوهُ المُخْلِصِينَ، ووُجُوهُ المُنافِقِينَ. وقِيلَ: وُجُوهُ المُؤْمِنِينَ، ووُجُوهُ أهْلِ الكِتابِ والمُنافِقِينَ. وقِيلَ: وُجُوهُ المُجاهِدِينَ، ووُجُوهُ الفُرّارِ مِنَ الزَّحْفِ. وقِيلَ: تَبْيَضُّ بِالقَناعَةِ، وتَسْوَدُّ بِالطَّمَعِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: تَسْفُرُ وُجُوهُ مَن قَدَرَ عَلى السُّجُودِ إذا دُعُوا إلَيْهِ، وتَسْوَدُّ وُجُوهُ مَن لَمْ يَقْدِرْ. واخْتَلَفُوا في وقْتِ ابْيِضاضِ الوُجُوهِ واسْوِدادِها، فَقِيلَ: وقْتُ البَعْثِ مِنَ القُبُورِ. وقِيلَ: وقْتُ قِراءَةِ الصُّحُفِ. وقِيلَ: وقْتُ رُجْحانِ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ في المِيزانِ. وقِيلَ: عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وامْتازُوا اليَوْمَ أيُّها المُجْرِمُونَ﴾ [يس: ٥٩] وقِيلَ: وقْتُ أنْ يُؤْمَرَ كُلُّ فَرِيقٍ بِأنْ يَتْبَعَ مَعْبُودَهُ. والعامِلُ في: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ﴾ [آل عمران: ١٠٦] ما يَتَعَلَّقُ بِهِ. ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ أيْ وعَذابٌ عَظِيمٌ كائِنٌ لَهم يَوْمَ تَبْيَضُّ وجُوهٌ. وقالَ الحَوْفِيُّ: العامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ الجُمْلَةُ السّابِقَةُ، أيْ: يُعَذَّبُونَ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِإضْمارِ اذْكُرُوا، أوْ بِالظَّرْفِ وهو لَهم. وقالَ قَوْمٌ: العامِلُ عَظِيمٌ، وضَعُفَ مِن جِهَةِ المَعْنى؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي أنَّ عِظَمَ العَذابِ في ذَلِكَ اليَوْمِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَعْمَلَ فِيهِ ”عَذابٌ“؛ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ قَدْ وُصِفَ. وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ، وأبُو رَزِينٍ العُقَيْلِيُّ، وأبُو نَهِيكٍ: تَبْيَضُّ وتَسْوَدُّ بِكَسْرِ التّاءِ فِيهِما، وهي لُغَةُ تَمِيمٍ: وقَرَأ الحَسَنُ، والزُّهْرِيُّ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وأبُو الجَوْزاءِ: تَبْياضُّ وتَسْوادُّ، بِألِفٍ فِيهِما. ويَجُوزُ كَسْرُ التّاءِ في تَبْياضُّ وتَسْوادُّ، ولَمْ يُنْقَلْ أنَّهُ قُرِئَ بِذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب