الباحث القرآني

(p-٣٠١)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾: وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ فَرْضٌ لَكِنَّهُ فَرْضٌ عَلى الكِفايَةِ. ولَعَلَّ قَوْلَهُ: ﴿ولْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ﴾ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، فَإنَّهُ يَقْتَضِي بِظاهِرِهِ أنَّهُ إذا قامَ بِهِ البَعْضُ، سَقَطَ عَنِ الباقِينَ، فَإنَّهُ قالَ: ﴿ولْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ﴾ . أيْ إنَّ جَمِيعَكم رُبَّما لا يُمْكِنُهم ذَلِكَ، فَلْيَتَوَلَّ قَوْمٌ مِنكم حَتّى يَكُونَ المَعْرُوفُ مَأْتِيًّا والمُنْكَرُ مَرْفُوضًا، وقَدْ أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ في مَواضِعَ في كِتابِهِ لا حاجَةَ بِنا إلى ذِكْرِها، ووَرَدَتْ في ذَلِكَ أخْبارٌ أوْفاها ما رَواهُ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: «”مَن رَأى مِنكم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وذَلِكَ أضْعَفُ الإيمانِ“». وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى في هَذا المَعْنى: ﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإنْ (p-٣٠٢)بَغَتْ إحْداهُما عَلى الأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات: ٩] . وقالَ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ﴾ [المائدة: ٧٨] إلى قَوْلِهِ: ﴿كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ [المائدة: ٧٩] . وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥] الآيَةُ. ولَيْسَ ذَلِكَ ناسِخًا لِوُجُوبِ الجِهادِ والأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، ولَكِنَّهُ إذا أمْكَنَهُ إزالَتُهُ بِلِسانِهِ فَلْيَفْعَلْهُ، وإنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إلّا بِالعُقُوبَةِ والقَتْلِ فَلْيَفْعَلْهُ، وإنِ انْتَهى بِدُونِ القَتْلِ لَمْ يَجُزْ بِالقَتْلِ وهَذا يُتَلَقّى مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات: ٩] . وعَلَيْهِ بَنى العُلَماءُ: أنَّهُ إذا دَفَعَ الصّائِلُ عَلى النَّفْسِ، أوْ عَلى المالِ عَنْ نَفْسِهِ، أوْ عَنْ مالِهِ، أوْ مالِ غَيْرِهِ، أوْ نَفْسِ غَيْرِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ ولا شَيْءَ عَلَيْهِ، ولَوْ رَأى زَيْدٌ عَمْرًا وقَدْ قَصَدَ مالَ بَكْرٍ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَدْفَعَهُ عَنْهُ، إذا لَمْ يَكُنْ صاحِبُ المالِ قادِرًا عَلَيْهِ ولا راضِيًا بِهِ، ولَوْ قَصَدَ مالَهُ، فَيَجُوزُ لَهُ أنْ يَتْرُكَهُ عَلَيْهِ ولا يَدْفَعَهُ، وفي الصِّيالِ عَلى النَّفْسِ خِلافٌ. (p-٣٠٣)ولَوْ كانَ في يَدِ الغاصِبِ مالٌ غَيْرُهُ وسِعَكَ أنْ تَبِيعَهُ، ويَقْتُلُهُ إنْ لَمْ يَقِفْ، وكَذَلِكَ في السّارِقِ إذا أخَذَ المَتاعَ فَيَجُوزُ ابْتِياعُهُ، والسّارِقُ الَّذِي يُنَقِّبُ البُيُوتَ كَمِثْلٍ، حَتّى قالَ العُلَماءُ: لَوْ فَرَضْنا قَوْمًا مِن أصْحابِ المُكُوسِ والضَّرائِبِ والأمْوالِ الَّذِينَ في أيْدِيهِمْ أمْوالُ النّاسِ، وهم مُمْتَنِعُونَ مِن إيصالِها إلى المُلّاكِ، ولا يَنْفَعُهُمُ الرَّدْعُ بِالكَلامِ والمَلامِ والتَّخْوِيفِ بِاللَّهِ، فَيَجُوزُ قَتْلُهم مِن غَيْرِ إنْذارٍ، لِأنَّهم لا يَقْبَلُونَ ذَلِكَ مِن أحَدٍ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ﴾ [المائدة: ١٠٥] يَعْنِي: لَمْ يَقْبَلْ مِنكم ولا يَقْدِرْ عَلى مَنعِهِ مِنَ الظُّلْمِ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ. وقالَ تَعالى في ذِكْرِ أصْحابِ السَّبْتِ. ﴿أنْجَيْنا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وأخَذْنا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [الأعراف: ١٦٥] . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ مَن لَمْ يَنْهَ عَنِ الظُّلْمِ، جُعِلَ راضِيًا بِهِ حَتّى وجَبَ تَعْذِيبُهُ، وقَدْ نُسِبَ قَتْلُ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ، إلى مَن كانَ في عَصْرِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ اليَهُودِ، الَّذِينَ كانُوا مُوالِينَ لِأسْلافِهِمُ القاتِلِينَ لِأنْبِيائِهِمْ. وبَنى الشّافِعِيُّ عَلَيْهِ: أنَّ فِعْلَ الفاعِلِ، إذا كانَ في نَفْسِهِ قَبِيحًا ومَفْسَدَةً فَيَجُوزُ دَفْعُ الفاعِلِ عَنْهُ لِما يَأْتِي عَلى نَفْسِهِ، ولا ضَمانَ عَلى قاتِلِهِ، مِثْلُ أنْ يَصُولَ مَجْنُونٌ أوْ بَهِيمَةٌ عَلى مالٍ لِرَجُلٍ أوْ نَفْسِهِ، فَيَجُوزُ لِلْمَصُولِ عَلَيْهِ ولِغَيْرِهِ قَتْلُهُ، ولا ضَمانَ عَلَيْهِ، وهو مِن قَبِيلِ النَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، ولَيْسَ مَعْنى النَّهْيِ تَكْلِيفُ الفِعْلِ، ولَكِنَّهُ دَفْعُ الفاعِلِ عَنِ الفِعْلِ القَبِيحِ والظُّلْمِ والتَّشْنِيعِ. (p-٣٠٤)وأبُو حَنِيفَةَ يُخالِفُ في ذَلِكَ، لِأنَّهُ يَرى أنَّ القاتِلَ لَيْسَ ظالِمًا بِفِعْلِهِ، ويُقالُ لَهُ إنَّهُ لَيْسَ ظالِمًا بِفِعْلِهِ، إلّا لِأنَّ الفِعْلَ غَيْرُ قَبِيحٍ ولا مَفْسَدَةً، ولَكِنْ لِجَهْلِ الفاعِلِ، ولَوْ عَلِمَهُ كانَ بِهِ ظالِمًا ولَحِقَهُ الذَّمُّ واللَّوْمُ والسَّفَهُ، وهَذا بَيِّنٌ. ومِن جُمْلَةِ ذَلِكَ: أنَّهُ إذا كانَ في بَلَدِ الإسْلامِ مَن يُضَلِّلُ النّاسَ بِشُبْهَةٍ وبِدْعَةٍ، فَإنَّهُ يَجِبُ إزالَتُهُ بِما أمْكَنَ، لِأنَّهُ نَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ، ومَن لَمْ يَكُنْ داعِيًا لِلنّاسِ إلى ذَلِكَ، وإنَّما يُذِعْنَ إلى الحَقِّ، فَإقامَةُ الدَّلائِلِ عَلى صِحَّةِ قَوْلِ أهْلِ الحَقِّ وتَبْيِينِ فَسادِ شُبَهِهِ، ما لَمْ يَخْرُجْ عَلى أهْلِ الحَقِّ بِسَيْفِهِ، ويَكُونُ لَهُ أصْحابٌ يَمْتَنِعُ بِهِمْ عَنِ الإمامِ، فَإنْ خَرَجَ داعِيًا إلى مَقالَتِهِ مُقاتِلًا عَلَيْها، فَهَذا الباغِي الَّذِي أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِقِتالِهِ حَتّى يَفِيءَ إلى أمْرِ اللَّهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب