الباحث القرآني

﴿ولْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ﴾ أمَرَهم سُبْحانَهُ بِتَكْمِيلِ الغَيْرِ إثْرَ أمْرِهِمْ بِتَكْمِيلِ النَّفْسِ لِيَكُونُوا هادِينَ مَهْدِيِّينَ عَلى ضِدِّ أعْدائِهِمْ، فَإنَّ ما قَصَّ اللَّهُ تَعالى مِن حالِهِمْ فِيما سَبَقَ بَدُلُّ عَلى أنَّهم ضالُّونَ مُضِلُّونَ، والجُمْهُورُ عَلى إسْكانِ لامِ الأمْرِ، وقُرِئَ بِكَسْرِها عَلى الأصْلِ، وتَكُنْ إمّا مِن كانَ التّامَّةِ فَتَكُونُ ( أُمَّةٌ ) فاعِلًا، وجُمْلَةُ ( يَدْعُونَ ) صِفَتُهُ، و( مِنكم ) مُتَعَلِّقٌ بِتَكُنْ أوْ بِمَحْذُوفٍ عَلى أنْ يَكُونَ صِفَةً - لِأُمَّةٍ - قُدِّمَ (p-21)عَلَيْها فَصارَ حالًا، وإمّا مِن كانَ النّاقِصَةِ فَتَكُونُ ( أُمَّةٌ ) اسْمَها و( يَدْعُونَ ) خَبَرَها، و( مِنكم ) إمّا حالٌ مِن أُمَّةٍ أوْ مُتَعَلِّقٌ بَكانَ النّاقِصَةِ، والأُمَّةُ الجَماعَةُ الَّتِي تَؤُمُّ أيْ تَقْصِدُ لِأمْرٍ ما، وتُطْلَقُ عَلى أتْباعِ الأنْبِياءِ لِاجْتِماعِهِمْ عَلى مَقْصِدٍ واحِدٍ وعَلى القُدْوَةِ، ومِنهُ ﴿إنَّ إبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً﴾ وعَلى الدِّينِ والمِلَّةِ، ومِنهُ ﴿إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ﴾ وعَلى الزَّمانِ، ومِنهُ ﴿وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن مَعانِيها، والمُرادُ مِنَ الدُّعاءِ إلى الخَيْرِ الدُّعاءُ إلى ما فِيهِ صَلاحٌ دِينِيٌّ أوْ دُنْيَوِيٌّ، فَعَطْفُ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ مِن بابِ عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ إيذانًا بِمَزِيدِ فَضْلِهِما عَلى سائِرِ الخَيْراتِ كَذا قِيلَ، قالَ ابْنُ المُنِيرِ: إنَّ هَذا لَيْسَ مِن تِلْكَ البابِ لِأنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ العامِّ جَمِيعَ ما يَتَناوَلُهُ إذِ الخَيْرُ المَدْعُوُّ إلَيْهِ إمّا فِعْلٌ مَأْمُورٌ أوْ تَرْكٌ مَنهِيٌّ لا يَعْدُو واحِدًا مِن هَذَيْنِ حَتّى يَكُونَ تَخْصِيصُهُما بِتَمَيُّزِهِما عَنْ بَقِيَّةِ المُتَناوِلاتِ، فالأوْلى أنْ يُقالَ فائِدَةُ هَذا التَّخْصِيصِ ذِكْرُ الدُّعاءِ إلى الخَيْرِ عامًّا ثُمَّ مُفَصَّلًا، وفي تَثْنِيَةِ الذِّكْرِ عَلى وجْهَيْنِ ما لا يَخْفى مِنَ العِنايَةِ إلّا إنْ ثَبَتَ عُرْفٌ يَخُصُّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ بِبَعْضِ أنْواعِ الخَيْرِ وحِينَئِذٍ يَتَّمُ ما ذَكَرَ، وما أرى هَذا العُرْفَ ثابِتًا انْتَهى، ولَهُ وجْهٌ وجِيهٌ لِأنَّ الدُّعاءَ إلى الخَيْرِ لَوْ فُسِّرَ بِما يَشْمَلُ أُمُورَ الدُّنْيا، وإنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِها أمْرٌ أوْ نَهْيٌ كانَ أعَمَّ مِن فَرْضِ الكِفايَةِ ولا يَخْفى ما فِيهِ، عَلى أنَّهُ قَدْ أخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الباقِرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: «قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ﴿ولْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ﴾ ثُمَّ قالَ: الخَيْرُ اتِّباعُ القُرْآنِ وسُنَّتِي» وهَذا يَدُلُّ أنَّ الدُّعاءَ إلى الخَيْرِ لا يَشْمَلُ الدُّعاءَ إلى أُمُورِ الدُّنْيا. ومِنَ النّاسِ مَن فَسَّرَ الخَيْرَ بِمَعْرُوفٍ خاصٍّ وهو الإيمانُ بِاللَّهِ تَعالى وجَعَلَ المَعْرُوفَ في الآيَةِ ما عَداهُ مِنَ الطّاعاتِ، فَحِينَئِذٍ لا يَتَأتّى ما قالَهُ ابْنُ المُنِيرِ أيْضًا، ويُؤَيِّدُهُ ما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُقاتِلٍ أنَّ الخَيْرَ الإسْلامُ، والمَعْرُوفَ طاعَةُ اللَّهِ، والمُنْكَرَ مَعْصِيَتُهُ، وحَذْفُ المَفْعُولِ الصَّرِيحِ مِنَ الأفْعالِ الثَّلاثَةِ إمّا لِلْإعْلامِ بِظُهُورِهِ، أيْ يَدْعُونَ النّاسَ ولَوْ غَيْرَ مُكَلَّفِينَ ويَأْمُرُونَهم ويَنْهَوْنَهم، وإمّا لِلْقَصْدِ إلى إيجادِ نَفْسِ الفِعْلِ عَلى حَدِّ: فُلانٌ يُعْطِي، أيْ يَفْعَلُونَ الدُّعاءَ والأمْرَ والنَّهْيَ ويُوقِعُونَها، والخِطابُ قِيلَ مُتَوَجِّهٌ إلى مَن تُوَجِّهَ الخِطابُ الأوَّلُ إلَيْهِ في رَأْيٍ وهُمُ الأوْسُ والخَزْرَجُ، وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ الضَّحّاكِ أنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إلى أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ خاصَّةً وهُمُ الرُّواةُ، والأكْثَرُونَ عَلى جَعْلِهِ عامًّا، ويَدْخُلُ فِيهِ مَن ذَكَرَ دُخُولًا أوَّلِيًّا، و( مِن ) هُنا قِيلَ: لِلتَّبْعِيضِ، وقِيلَ: لِلتَّبْيِينِ، وهي تَجْرِيدِيَّةٌ كَما يُقالُ لِفُلانٍ مِن أوْلادِهِ جُنْدٌ، ولِلْأمِيرِ مِن غِلْمانِهِ عَسْكَرٌ، يُرادُ بِذَلِكَ جَمِيعَ الأوْلادِ والغِلْمانِ. ومَنشَأُ الخِلافِ في ذَلِكَ أنَّ العُلَماءَ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ مِن فُرُوضِ الكِفاياتِ، ولَمْ يُخالِفْ في ذَلِكَ إلّا النَّزْرُ، ومِنهُمُ الشَّيْخُ أبُو جَعْفَرٍ مِنَ الإمامِيَّةِ قالُوا: إنَّها مِن فُرُوضِ الأعْيانِ، واخْتَلَفُوا في أنَّ الواجِبَ عَلى الكِفايَةِ هَلْ هو واجِبٌ عَلى جَمِيعِ المُكَلَّفِينَ، ويَسْقُطُ عَنْهم بِفِعْلِ بَعْضِهِمْ أوْ هو واجِبٌ عَلى البَعْضِ، ذَهَبَ الإمامُ الرّازِيُّ وأتْباعُهُ إلى الثّانِي لِلِاكْتِفاءِ بِحُصُولِهِ مِنَ البَعْضِ، ولَوْ وجَبَ عَلى الكُلِّ لَمْ يَكْتَفِ بِفِعْلِ البَعْضِ، إذْ يُسْتَبْعَدُ سُقُوطُ الواجِبِ عَلى المُكَلَّفِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وذَهَبَ إلى الأوَّلِ الجُمْهُورُ وهو ظاهِرُ نَصِّ الإمامِ الشّافِعِيِّ في الأُمِّ، واسْتَدَلُّوا عَلى ذَلِكَ بِإثْمِ الجَمِيعِ بِتَرْكِهِ ولَوْ لَمْ يَكُنْ واجِبًا عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ لَما أثِمُوا بِالتَّرْكِ. وأجابَ الأوَّلُونَ عَنْ هَذا بِأنَّ إثْمَهم بِالتَّرْكِ لِتَفْوِيتِهِمْ ما قُصِدَ حُصُولُهُ مِن جِهَتِهِمْ في الجُمْلَةِ لا لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ، واعْتُرِضَ عَلَيْهِ مِن طَرَفِ الجُمْهُورِ بِأنَّ هَذا هو الحَقِيقُ بِالِاسْتِبْعادِ أعْنِي إثْمَ طائِفَةٍ بِتَرْكِ أُخْرى فِعْلًا كُلِّفَتْ بِهِ. (p-22)والجَوابُ عَنْهُ بِأنَّهُ لَيْسَ الإسْقاطُ عَنْ غَيْرِهِمْ بِفِعْلِهِمْ أوْلى مِن تَأْثِيمِ غَيْرِهِمْ بِتَرْكِهِمْ يُقالُ فِيهِ: بَلْ هو أوْلى لِأنَّهُ قَدْ ثَبَتَ نَظِيرُهُ شَرْعًا مِن إسْقاطِ ما عَلى زَيْدٍ بِأداءِ عَمْرٍو، ولَمْ يَثْبُتْ تَأْثِيمُ إنْسانٍ بِتَرْكِ آخَرَ فَيَتِمُّ ما قالَهُ الجُمْهُورُ. واعْتُرِضَ القَوْلُ بِأنَّ هَذا هو الحَقِيقُ بِالِاسْتِبْعادِ بِأنَّهُ إنَّما يَتَأتّى لَوِ ارْتَبَطَ التَّكْلِيفُ في الظّاهِرِ بِتِلْكَ الطّائِفَةِ الأُخْرى بِعَيْنِها وحْدَها لَكِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ كِلْتا الطّائِفَتَيْنِ مُتَساوِيَتانِ في احْتِمالِ الأمْرِ لَهُما وتَعَلُّقِهِ بِهِما مِن غَيْرِ مَزِيَّةٍ لِإحْداهُما عَلى الأُخْرى، فَلَيْسَ في التَّأْثِيمِ المَذْكُورِ تَأْثِيمُ طائِفَةٍ بِتَرْكِ أُخْرى فِعْلًا كُلِّفَتْ بِهِ، إذْ كَوْنُ الأُخْرى كُلِّفَتْ بِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ بَلْ كِلْتا الطّائِفَتَيْنِ مُتَساوِيَتانِ في احْتِمالِ كُلٍّ أنْ تَكُونَ مُكَلَّفَةً بِهِ، فالِاسْتِبْعادُ المَذْكُورُ لَيْسَ في مَحَلِّهِ، عَلى أنَّهُ إذا قُلْنا بِما اخْتارَهُ جَماعَةٌ مِن أصْحابِ المَذْهَبِ الثّانِي مِن أنَّ البَعْضَ مُبْهَمُ آلَ الحالُ إلى أنَّ المُكَلَّفَ طائِفَةٌ لا بِعَيْنِها، فَيَكُونُ المُكَلَّفُ القَدْرُ المُشْتَرِكُ بَيْنَ الطَّوائِفِ، الصّادِقُ بِكُلِّ طائِفَةٍ، فَجَمِيعُ الطَّوائِفِ مُسْتَوِيَةٌ في تَعَلُّقِ الخِطابِ بِها بِواسِطَةِ تَعَلُّقِهِ بِالقَدْرِ المُشْتَرِكِ المُسْتَوِي فِيها فَلا إشْكالَ في اسْمِ الجَمِيعِ، ولا يَصِيرُ النِّزاعُ بَيْنَ الطّائِفَتَيْنِ لَفْظِيًّا حَيْثُ إنَّ الخِطابَ حِينَئِذٍ عَمَّ الجَمِيعَ عَلى القَوْلَيْنِ، وكَذا الإثْمُ عِنْدَ التَّرْكِ لِما أنَّ في أحَدِهِما دَعْوى التَّعْلِيقِ بِكُلِّ واحِدٍ بِعَيْنِهِ، وفي الآخَرِ دَعْوى تَعَلُّقِهِ بِكُلٍّ بِطْرِيقِ السِّرايَةِ مَن تُعَلِّقِهِ بِالمُشْتَرِكِ، وثَمَرَةُ ذَلِكَ أنَّ مَن شَكَّ أنَّ غَيْرَهُ هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ الواجِبَ لا يَلْزَمُهُ عَلى القَوْلِ بِالسِّرايَةِ، ويَلْزَمُهُ عَلى القَوْلِ بِالابْتِداءِ، ولا يَسْقُطُ عَنْهُ إلّا إذا ظَنَّ فِعْلَ الغَيْرِ، ومِن هُنا يَسْتَغْنِي عَنِ الجَوابِ عَمّا اعْتُرِضَ بِهِ مِن طَرَفِ الجُمْهُورِ، فَلا يَضُرُّنا ما قِيلَ فِيهِ، عَلى أنَّهُ يُقالُ عَلى ما قِيلَ: لَيْسَ الدَّيْنُ نَظِيرَ ما نَحْنُ فِيهِ كُلِّيًّا؛ لِأنَّ دَيْنَ زَيْدٍ واجِبٌ عَلَيْهِ وحْدَهُ بِحَسَبِ الظّاهِرِ ولا تَعَلُّقَ لَهُ بِغَيْرِهِ؛ فَلِذا صَحَّ أنْ يَسْقُطَ عَنْهُ بِأداءِ غَيْرِهِ ولَمْ يَصِحَّ أنْ يَأْثَمَ غَيْرُهُ بِتَرْكِ أدائِهِ، بِخِلافِ ما نَحْنُ فِيهِ فَإنَّ نِسْبَةَ الواجِبِ في الظّاهِرِ إلى كِلْتا الطّائِفَتَيْنِ عَلى السَّواءِ فِيهِ، فَجازَ أنْ يَأْثَمَ كُلُّ طائِفَةٍ بِتَرْكِ غَيْرِها لِتَعَلُّقِ الوُجُوبِ بِها بِحَسَبِ الظّاهِرِ واسْتِوائِها مَعَ غَيْرِها في التَّعَلُّقِ. وأمّا قَوْلُهم: ولَمْ يَثْبُتْ تَأْثِيمُ إنْسانٍ بِأداءِ آخَرَ فَهو لا يُطابِقُ البَحْثَ إذْ لَيْسَ المُدَّعى تَأْثِيمَ أحَدٍ بِأداءِ غَيْرِهِ، بَلْ تَأْثِيمُهُ بِتَرْكٍ، فالمُطابِقُ، ولَمْ يَثْبُتْ تَأْثِيمُ إنْسانٍ بِتَرْكِ أداءِ آخَرَ، ويُتَخَلَّصُ مِنهُ حِينَئِذٍ بِأنَّ التَّعَلُّقَ في الظّاهِرِ مُشْتَرِكٌ في سائِرِ الطَّوائِفِ، فَيَتِمُّ ما ذَهَبَ إلَيْهِ الإمامُ الرّازِيُّ وأتْباعُهُ - وهو مُخْتارُ ابْنِ السُّبْكِيِّ - خِلافًا لِأبِيهِ، إذا تَحَقَّقَ هَذا فاعْلَمْ أنَّ القائِلِينَ بِأنَّ المُكَلَّفَ البَعْضُ قالُوا: إنَّ مِن لِلتَّبْعِيضِ، وأنَّ القائِلِينَ بِأنَّ المُكَلَّفَ الكُلُّ قالُوا: إنَّها لِلتَّبْيِينِ، وأيَّدُوا ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى أثْبَتَ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ لِكُلِّ الأُمَّةِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ ولا يَقْتَضِي ذَلِكَ كَوْنَ الدُّعاءِ فَرْضَ عَيْنٍ، فَإنَّ الجِهادَ مِن فُرُوضِ الكِفايَةِ بِالإجْماعِ مَعَ ثُبُوتِهِ بِالخِطاباتِ العامَّةِ فَتَأمَّلْ. ( ﴿وأُولَئِكَ﴾ ) أيِ المَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الصِّفاتِ الكامِلَةِ. ﴿هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ (104) أيِ الكامِلُونَ في الفَلاحِ، وبِهَذا صَحَّ الحَصْرُ المُسْتَفادُ مِنَ الفَصْلِ وتَعْرِيفِ الطَّرَفَيْنِ، أخْرَجَ الإمامُ أحْمَدُ وأبُو يَعْلى عَنْ دُرَّةَ بِنْتِ أبِي لَهَبٍ قالَتْ: ”«سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: مَن خَيْرُ النّاسِ ؟ قالَ: آمَرُهم بِالمَعْرُوفِ وأنْهاهم عَنِ المُنْكَرِ وأتْقاهم لِلَّهِ تَعالى وأوْصَلَهم لِلرَّحِمِ“». ورَوى الحَسَنُ: مَن أمَرَ بِالمَعْرُوفِ ونَهى عَنِ المُنْكَرِ فَهو خَلِيفَةُ اللَّهِ تَعالى وخَلِيفَةُ رَسُولِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وخَلِيفَةُ كِتابِهِ، - ورُوِيَ -: «لَتَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُّنَ عَنِ المُنْكَرِ، أوْ لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ تَعالى عَلَيْكم سُلْطانًا ظالِمًا لا يُجِلُّ كَبِيرَكم ولا يَرْحَمُ صَغِيرَكم، ويَدْعُو خِيارُكم فَلا يُسْتَجابُ لَهم، وتَسْتَنْصِرُونَ فَلا تُنْصَرُونَ». والأمْرُ بِالمَعْرُوفِ يَكُونُ واجِبًا ومَندُوبًا عَلى حَسَبِ ما يُؤْمَرُ بِهِ، والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ كَذَلِكَ أيْضًا إنْ قُلْنا: إنَّ المَكْرُوهَ مُنْكَرٌ شَرْعًا، وأمّا إنْ فُسِّرَ (p-23)بِما يَسْتَحِقُّ العِقابَ عَلَيْهِ كَما أنَّ المَعْرُوفَ ما يَسْتَحِقُّ الثَّوابَ عَلَيْهِ فَلا يَكُونُ إلّا واجِبًا، وبِهِ قالَ بَعْضُهم إلّا أنَّهُ يَرِدُ أنَّهُما لَيْسا عَلى طَرَفَيْ نَقِيضٍ، والأظْهَرُ أنَّ العاصِيَ يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يُنْهى عَمّا يَرْتَكِبُهُ؛ لِأنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ نَهْيُ كُلِّ فاعِلٍ، وتَرْكُ نَهْيِ بَعْضٍ وهو نَفْسُهُ لا يُسْقِطُ عَنْهُ وُجُوبَ نَهْيِ الباقِي، وكَذا يُقالُ في جانِبِ الأمْرِ ولا يُعَكِّرُ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ لِأنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِأنَّ المُرادَ نَهْيُهُ عَنْ عَدَمِ الفِعْلِ لا عَنِ القَوْلِ، ولا قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿أتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ﴾ لِأنَّ التَّوْبِيخَ إنَّما هو عَلى نِسْيانِ أنْفُسِهِمْ لا عَلى أمْرِهِمْ بِالبِرِّ، وعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: مُرُوا بِالخَيْرِ وإنْ لَمْ تَفْعَلُوا. نَعَمْ لِلْأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ شُرُوطٌ مَعْرُوفَةٌ مَحَلُّها، والأصْلُ فِيهِما افْعَلْ كَذا ولا تَفْعَلْ كَذا، والقِتالُ لِيَمْتَثِلَ المَأْمُورُ والمَنهِيُّ أمْرَ وراءِ ذَلِكَ، ولَيْسَ داخِلًا في حَقِيقَتِهِما، وإنْ وجَبَ عَلى بَعْضٍ كالأُمَراءِ في بَعْضِ الأحْيانِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ آخَرُ كَما يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «مُرُوا أوْلادَكم بِالصَّلاةِ وهم أبْناءُ سَبْعِ سِنِينَ، واضْرِبُوهم عَلَيْها وهم أبْناءُ عَشْرِ سِنِينَ، وفَرِّقُوا بَيْنَهم في المَضاجِعِ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب