الباحث القرآني

بابُ التَّرْغِيبِ في النِّكاحِ قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وأنْكِحُوا الأيامى مِنكم والصّالِحِينَ مِن عِبادِكم وإمائِكُمْ﴾ الآيَةَ. قالَ (p-١٧٨)أبُو بَكْرٍ: ظاهِرُهُ يَقْتَضِي الإيجابَ، إلّا أنَّهُ قَدْ قامَتِ الدَّلالَةُ مِن إجْماعِ السَّلَفِ وفُقَهاءِ الأمْصارِ عَلى أنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِها الإيجابَ وإنَّما هو اسْتِحْبابٌ، ولَوْ كانَ ذَلِكَ واجِبًا لِوُرُودِ النَّقْلِ بِفِعْلِهِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ ومِنَ السَّلَفِ مُسْتَفِيضًا شائِعًا لِعُمُومِ الحاجَةِ إلَيْهِ، فَلَمّا وجَدْنا عَصْرَ النَّبِيِّ ﷺ وسائِرَ الأعْصارِ بَعْدَهُ قَدْ كانَ النّاسُ أيامى مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ فَلَمْ يُنْكَرْ واتُّرِكَ تَزْوِيجُهم ثَبَتَ أنَّهُ لَمْ يُرِدِ الإيجابُ. ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمْ يُرِدِ الإيجابُ أنَّ الأيِّمَ الثَّيِّبَ لَوْ أبَتِ التَّزْوِيجَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ إجْبارُها عَلَيْهِ ولا تَزْوِيجُها بِغَيْرِ أمْرِها. وأيْضًا مِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ عَلى النَّدْبِ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّهُ لا يُجْبَرُ عَلى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ وأمَتِهِ، وهو مَعْطُوفٌ عَلى الأيامى، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ مَندُوبٌ في الجَمِيعِ؛ ولَكِنَّ دَلالَةَ الآيَةِ واضِحَةٌ في وُقُوعِ العَقْدِ المَوْقُوفِ؛ إذْ لَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ الأوْلِياءَ دُونَ غَيْرِهِمْ وكُلُّ أحَدٍ مِنَ النّاسِ مَندُوبٌ إلى تَزْوِيجِ الأيامى المُحْتاجِينَ إلى النِّكاحِ، فَإنْ تَقَدَّمَ مِنَ المَعْقُودِ عَلَيْهِمْ أمْرٌ فَهو نافِذٌ، وكَذَلِكَ إنْ كانُوا مِمَّنْ يَجُوزُ عَقْدُهم عَلَيْهِمْ مِثْلُ المَجْنُونِ والصَّغِيرِ فَهو نافِذٌ أيْضًا وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهم وِلايَةٌ ولا أمْرٌ فَعَقْدُهم مَوْقُوفٌ عَلى إجازَةِ مَن يَمْلِكُ ذَلِكَ العَقْدَ فَقَدِ اقْتَضَتِ الآيَةُ جَوازَ النِّكاحِ عَلى إجازَةِ مَن يَمْلِكُها. فَإنْ قِيلَ: هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ عَقْدَ النِّكاحِ إنَّما يَلِيهِ الأوْلِياءُ دُونَ النِّساءِ وأنَّ عُقُودَهُنَّ عَلى أنْفُسِهِنَّ غَيْرُ جائِزَةٍ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ الآيَةَ لَمْ تَخُصَّ الأوْلِياءَ بِهَذا الأمْرِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وعُمُومُهُ يَقْتَضِي تَرْغِيبَ سائِرِ النّاسِ في العَقْدِ عَلى الأيامى، ألا تَرى أنَّ اسْمَ الأيامى يَنْتَظِمُ الرِّجالَ والنِّساءَ ؟ وهو في الرِّجالِ لَمْ يُرِدْ بِهِ الأوْلِياءَ دُونَ غَيْرِهِمْ، كَذَلِكَ في النِّساءِ. وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أخْبارٌ كَثِيرَةٌ في التَّرْغِيبِ في النِّكاحِ، مِنها ما رَواهُ ابْنُ عَجْلانَ عَنْ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلى اللَّهِ عَوْنُهم: المُجاهِدُ في سَبِيلِ اللَّهِ والمُكاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأداءَ والنّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ العَفافَ». ورَوى إبْراهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: قالَ لَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يا مَعْشَرَ الشَّبابِ مَنِ اسْتَطاعَ مِنكُمُ الباءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإنَّهُ لَهُ وِجاءٌ». وقالَ: «إذا جاءَكم مَن تَرْضَوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إلّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرْضِ وفَسادٌ كَبِيرٌ». وعَنْ شَدّادِ بْنِ أوْسٍ أنَّهُ قالَ لِأهْلِهِ: زَوِّجُونِي فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ أوْصانِي أنْ لا ألْقى اللَّهَ أعْزَبَ. وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا بِشْرُ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا خَلّادٌ عَنْ سُفْيانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الدُّنْيا مَتاعٌ وخَيْرُ مَتاعِها المَرْأةُ الصّالِحَةُ» . وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا بِشْرٌ قالَ: حَدَّثَنا (p-١٧٩)سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ قالَ: حَدَّثَنا سُفْيانُ عَنْ إبْراهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن أحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِي ومِن سُنَّتِي النِّكاحُ» . قالَ إبْراهِيمُ بْنُ مُيَسَّرَةَ: ولا أقُولُ لَكَ إلّا ما قالَ عُمَرُ لِأبِي الزَّوائِدِ: ما يَمْنَعُكَ مِنَ النِّكاحِ إلّا عَجْزٌ أوْ فُجُورٌ. فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْكِحُوا الأيامى مِنكُمْ﴾ عُمُومُهُ يَقْتَضِي تَزْوِيجَ الأبِ ابْنَتَهُ البِكْرَ الكَبِيرَةَ، ولَوْلا قِيامُ الدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ لا يُزَوِّجُ البِنْتَ الكَبِيرَةَ بِغَيْرِ رِضاها لَكانَ جائِزًا لَهُ تَزْوِيجُها بِغَيْرِ رِضاها بِعُمُومِ الآيَةِ قِيلَ لَهُ: مَعْلُومٌ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأنْكِحُوا الأيامى مِنكُمْ﴾ لا يَخْتَصُّ بِالنِّساءِ دُونَ الرِّجالِ؛؛ لِأنَّ الرَّجُلَ يُقالُ لَهُ أيِّمٌ والمَرْأةُ يُقالُ لَها أيِّمَةٌ، وهو اسْمٌ لِلْمَرْأةِ الَّتِي لا زَوْجَ لَها والرَّجُلِ الَّذِي لا امْرَأةَ لَهُ قالَ الشّاعِرُ: ؎فَإنْ تَنْكِحِي أنْكِحْ وإنْ تَتَأيَّمِي وإنْ كُنْتُ أفْتى مِنكم أتَأيَّمِ وقالَ آخَرُ: ؎ذَرِينِي عَلى أيِّمٍ مِنكم وناكِحٍ وقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: ( ما رَأيْتُ مِثْلَ مَن يَجْلِسُ أيِّمًا بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وأنْكِحُوا الأيامى مِنكُمْ﴾ التَمِسُوا الغِنى في الباهِ ) . فَلَمّا كانَ هَذا الِاسْمُ شامِلًا لِلرِّجالِ والنِّساءِ وقَدْ أُضْمِرَ في الرِّجالِ تَزْوِيجُهم بِإذْنِهِمْ فَوَجَبَ اسْتِعْمالُ ذَلِكَ الضَّمِيرِ في النِّساءِ أيْضًا، وأيْضًا فَقَدْ «أمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِاسْتِئْمارِ البِكْرِ بِقَوْلِهِ: البِكْرُ تُسْتَأْمَرُ في نَفْسِها وإذْنُها صُماتُها»، وذَلِكَ أمْرٌ وإنْ كانَ في صُورَةِ الخَبَرِ، وذَلِكَ عَلى الوُجُوبِ فَلا يَجُوزُ تَزْوِيجُها إلّا بِإذْنِها. وأيْضًا فَإنَّ حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أبِي سَلَمَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا تُنْكَحُ اليَتِيمَةُ إلّا بِإذْنِها فَإنْ سَكَتَتْ فَهو إذْنُها وإنْ أبَتْ فَلا جَوازَ عَلَيْها»، وإنَّما أرادَ بِهِ البِكْرَ؛ لِأنَّ البِكْرَ هي الَّتِي يَكُونُ سُكُوتُها رِضًا. وحَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ في فَتاةٍ بِكْرٍ زَوَّجَها أبُوها بِغَيْرِ أمْرِها، فاخْتَصَمُوا إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أجِيزِي ما صَنَعَ أبُوكِ؛» وقَدْ بَيَّنّا هَذِهِ المَسْألَةَ فِيما سَلَفَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والصّالِحِينَ مِن عِبادِكم وإمائِكُمْ﴾ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ لِلْمَوْلى أنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ وأمَتَهُ بِغَيْرِ رِضاهُما؛ وأيْضًا لا خِلافَ أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ لِلْعَبْدِ والأمَةِ أنْ يَتَزَوَّجا بِغَيْرِ إذْنٍ. ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «أيُّما عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوالِيهِ فَهو عاهِرٌ» فَثَبَتَ أنَّ العَبْدَ والأمَةَ لا يَمْلِكانِ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أنْ يَمْلِكَ المَوْلى مِنهُما ذَلِكَ كَسائِرِ العُقُودِ الَّتِي لا يَمْلِكانِها ويَمْلِكُها المَوْلى عَلَيْهِما. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ خَبَرٌ، والمُخْبِرُ اللَّهُ تَعالى ولا مَحالَةَ عَلى ما يُخْبِرُ بِهِ، فَلا يَخْلُو ذَلِكَ مِن أحَدِ وجْهَيْنِ: إمّا أنْ يَكُونَ خاصًّا في بَعْضِ المَذْكُورِينَ دُونَ بَعْضٍ؛ إذْ قَدْ وجَدْنا مَن (p-١٨٠)يَتَزَوَّجُ ولا يَسْتَغْنِي بِالمالِ. وإمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ الغِنى بِالعَفافِ. فَإنْ كانَ المُرادُ خاصًّا فَهو في الأيامى الأحْرارِ الَّذِينَ يَمْلِكُونَ فَيَسْتَغْنُونَ بِما يَمْلِكُونَ، أوْ يَكُونُ عامًّا فَيَكُونُ المَعْنى وُقُوعَ الغِنى بِمِلْكِ البُضْعِ والِاسْتِغْناءِ بِهِ عَنْ تَعَدِّيهِ إلى المَحْظُورِ، فَلا دَلالَةَ فِيهِ إذًا عَلى أنَّ العَبْدَ يَمْلِكُ؛ وقَدْ بَيَّنّا مَسْألَةَ مِلْكِ العَبْدِ في سُورَةِ النَّحْلِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب