الباحث القرآني

الحُكْمُ الثّامِنُ: ما يَتَعَلَّقُ بِالنِّكاحِ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْكِحُوا الأيامى مِنكم والصّالِحِينَ مِن عِبادِكم وإمائِكم إنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ مِن قَبْلُ بِغَضِّ الأبْصارِ وحِفْظِ الفُرُوجِ بَيَّنَ مِن بَعْدُ أنَّ الَّذِي أمَرَ بِهِ إنَّما هو فِيما لا يَحِلُّ، فَبَيَّنَ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ طَرِيقَ الحِلِّ فَقالَ: ﴿وأنْكِحُوا الأيامى مِنكُمْ﴾ وهاهُنا مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: الأيامى واليَتامى أصْلُهُما أيايِمُ ويَتايِمُ فَقُلِبا، وقالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ الأيِّمُ في كَلامِ العَرَبِ كُلُّ ذَكَرٍ لا أُنْثى مَعَهُ وكُلُّ أُنْثى لا ذَكَرَ مَعَها، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في رِوايَةِ الضَّحّاكِ، تَقُولُ: زَوِّجُوا أيامَكم بَعْضَكم مِن بَعْضٍ، وقالَ الشّاعِرُ: ؎فَإنْ تَنْكِحِي أنْكِحْ وإنْ تَتَأيَّمِي وإنْ كُنْتُ أفْتى مِنكُمُوا أتَأيَّمُ * * * المسألة الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْكِحُوا الأيامى﴾ [النور: ٣٢] أمْرٌ وظاهِرُ الأمْرِ لِلْوُجُوبِ عَلى ما بَيَّنّاهُ مِرارًا، فَيَدُلُّ عَلى أنَّ الوَلِيَّ يَجِبُ عَلَيْهِ تَزْوِيجُ مَوْلاتِهِ وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ أنْ لا يَجُوزَ النِّكاحُ إلّا بِوَلِيٍّ، إمّا لِأنَّ كُلَّ مَن أوْجَبَ ذَلِكَ عَلى الوَلِيِّ حَكَمَ بِأنَّهُ لا يَصِحُّ مِنَ المُوَلِّيَةِ، وإمّا لِأنَّ المُوَلِّيَةَ لَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَفَوَّتَتْ عَلى الوَلِيِّ التَّمَكُّنَ مِن أداءِ هَذا الواجِبِ وأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ، وإمّا لِتَطابُقِ هَذِهِ الآيَةِ مَعَ الحَدِيثِ وهو قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«إذا جاءَكم مَن تَرْضَوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إلّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرْضِ وفَسادٌ كَبِيرٌ» “ قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ هَذِهِ الآيَةُ وإنِ اقْتَضَتْ بِظاهِرِها الإيجابَ إلّا أنَّهُ أجْمَعَ السَّلَفُ عَلى أنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ الإيجابُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: (p-١٨٤)أحَدُها: أنَّهُ لَوْ كانَ ذَلِكَ واجِبًا لَوَرَدَ النَّقْلُ بِفِعْلِهِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ ومِنَ السَّلَفِ مُسْتَفِيضًا شائِعًا لِعُمُومِ الحاجَةِ إلَيْهِ، فَلَمّا وجَدْنا عَصْرَ النَّبِيِّ ﷺ وسائِرَ الأعْصارِ بَعْدَهُ قَدْ كانَ في النّاسِ أيامى مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ، فَلَمْ يُنْكِرُوا عَدَمَ تَزْوِيجِهِنَّ ثَبَتَ أنَّهُ ما أُرِيدَ بِهِ الإيجابُ. وثانِيها: أجْمَعْنا عَلى أنَّ الأيِّمَ الثَّيِّبَ لَوْ أبَتِ التَّزَوُّجَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ إجْبارُها عَلَيْهِ. وثالِثُها: اتِّفاقُ الكُلِّ عَلى أنَّهُ لا يُجْبَرُ عَلى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ وأمَتِهِ وهو مَعْطُوفٌ عَلى الأيامى، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ غَيْرُ واجِبٍ في الجَمِيعِ بَلْ نَدْبٌ في الجَمِيعِ. ورابِعُها: أنَّ اسْمَ الأيامى يَنْتَظِمُ فِيهِ الرِّجالُ والنِّساءُ وهو في الرِّجالِ ما أُرِيدَ بِهِ الأوْلِياءُ دُونَ غَيْرِهِمْ كَذَلِكَ في النِّساءِ. والجَوابُ: أنَّ جَمِيعَ ما ذَكَرْتُهُ تَخْصِيصاتٌ تَطَرَّقَتْ إلى الآيَةِ والعامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَبْقى حُجَّةً، فَوَجَبَ أنْ يَبْقى حُجَّةً فِيما إذا التَمَسَتِ المَرْأةُ الأيِّمُ مِنَ الوَلِيِّ التَّزْوِيجَ وجَبَ، وحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ وجْهُ الكَلامِ. * * * المسألة الثّالِثَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، الآيَةُ تَقْتَضِي جَوازَ تَزْوِيجِ البِكْرِ البالِغَةِ بِدُونِ رِضاها، لِأنَّ الآيَةَ والحَدِيثَ يَدُلّانِ عَلى أمْرِ الوَلِيِّ بِتَزْوِيجِها، ولَوْلا قِيامُ الدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ لا يُزَوِّجُ الثَّيِّبَ الكَبِيرَةَ بِغَيْرِ رِضاها لَكانَ جائِزًا لَهُ تَزْوِيجُها أيْضًا بِغَيْرِ رِضاها، لِعُمُومِ الآيَةِ، قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْكِحُوا الأيامى﴾ لا يَخْتَصُّ بِالنِّساءِ دُونَ الرِّجالِ عَلى ما بَيَّنّا فَلَمّا كانَ الِاسْمُ شامِلًا لِلرِّجالِ والنِّساءِ وقَدْ أُضْمِرَ في الرِّجالِ تَزْوِيجُهم بِإذْنِهِمْ فَوَجَبَ اسْتِعْمالُ ذَلِكَ الضَّمِيرِ في النِّساءِ. وأيْضًا فَقَدْ أمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِاسْتِئْمارِ البِكْرِ بِقَوْلِهِ: ”«البِكْرُ تُسْتَأْمَرُ في نَفْسِها وإذْنُها صُماتُها» “ وذَلِكَ أمْرٌ وإنْ كانَ في صُورَةِ الخَبَرِ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا يَجُوزُ تَزْوِيجُها إلّا بِإذْنِها، والجَوابُ: أمّا الأوَّلُ فَهو تَخْصِيصٌ لِلنَّصِّ وهو لا يَقْدَحُ في كَوْنِهِ حُجَّةً والفَرْقُ أنَّ الأيِّمَ مِنَ الرِّجالِ يَتَوَلّى أمْرَ نَفْسِهِ فَلا يَجِبُ عَلى الوَلِيِّ تَعَهُّدُ أمْرِهِ بِخِلافِ المَرْأةِ، فَإنَّ احْتِياجَها إلى مَن يُصْلِحُ أمْرَها في التَّزْوِيجِ أظْهَرُ، وأيْضًا فَلَفْظُ الأيامى وإنْ تَناوَلَ الرِّجالَ والنِّساءَ، فَإذا أُطْلِقَ لَمْ يَتَناوَلْ إلّا النِّساءَ، وإنَّما يَتَناوَلُ الرِّجالَ إذا قُيِّدَ وأمّا الثّانِي: فَفي تَخْصِيصِ الآيَةِ بِخَبَرِ الواحِدِ كَلامٌ مَشْهُورٌ. المسألة الرّابِعَةُ: قالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ العَمُّ والأخُ يَلِيانِ تَزْوِيجِ البِنْتِ الصَّغِيرَةِ، ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِالآيَةِ كَما تَقَدَّمَ. * * * المسألة الخامِسَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، النّاسُ في النِّكاحِ قِسْمانِ مِنهم مَن تَتُوقُ نَفْسُهُ في النِّكاحِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أنْ يَنْكِحَ إنْ وجَدَ أُهْبَةَ النِّكاحِ سَواءٌ كانَ مُقْبِلًا عَلى العِبادَةِ أوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، ولَكِنْ لا يَجِبُ أنْ يَنْكِحَ، وإنْ لَمْ يَجِدْ أُهْبَةَ النِّكاحِ يَكْسِرُ شَهْوَتَهُ لِما رَوى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”«يا مَعْشَرَ الشَّبابِ مَنِ اسْتَطاعَ مِنكُمُ الباءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإنَّهُ أغَضُّ لِلْبَصَرِ وأحْصَنُ لِلْفَرْجِ، ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجاءٌ» “ . أمّا الَّذِي لا تَتُوقُ نَفْسُهُ إلى النِّكاحِ فَإنْ كانَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ بِهِ مِن كِبَرٍ أوْ مَرَضٍ أوْ عَجْزٍ يُكْرَهُ لَهُ أنْ يَنْكِحَ، لِأنَّهُ يَلْتَزِمُ ما لا يُمْكِنُهُ القِيامُ بِحَقِّهِ، وكَذَلِكَ إذا كانَ لا يَقْدِرُ عَلى النَّفَقَةِ وإنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ عَجْزٌ وكانَ قادِرًا عَلى القِيامِ بِحَقِّهِ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ النِّكاحُ، لَكِنَّ الأفْضَلَ أنْ يَتَخَلّى لِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: النِّكاحُ أفْضَلُ مِنَ التَّخَلِّي لِلْعِبادَةِ، وحُجَّةُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وُجُوهٌ: أحَدُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وسَيِّدًا وحَصُورًا ونَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ﴾ [آل عمران: ٣٩] مَدَحَ يَحْيى عَلَيْهِ السَّلامُ بِكَوْنِهِ حَصُورًا والحَصُورُ الَّذِي لا يَأْتِي النِّساءَ مَعَ القُدْرَةِ عَلَيْهِنَّ، ولا يُقالُ هو الَّذِي لا يَأْتِي النِّساءَ مَعَ العَجْزِ عَنْهُنَّ، لِأنَّ مَدْحَ الإنْسانِ بِما يَكُونُ عَيْبًا غَيْرُ جائِزٍ، وإذا ثَبَتَ أنَّهُ مَدْحٌ في حَقِّ يَحْيى وجَبَ أنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا (p-١٨٥)فِي حَقِّنا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠] ولا يَجُوزُ حَمْلُ الهُدى عَلى الأُصُولِ لِأنَّ التَّقْلِيدَ فِيها غَيْرُ جائِزٍ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى الفُرُوعِ. وثانِيها: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«اسْتَقِيمُوا ولَنْ تُحْصُوا واعْلَمُوا أنَّ أفْضَلَ أعْمالِكُمُ الصَّلاةُ» “ ويَتَمَسَّكُ أيْضًا بِما رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّهُ قالَ: ”«أفْضَلُ أعْمالِ أُمَّتِي قِراءَةُ القُرْآنِ» “ . وثالِثُها: أنَّ النِّكاحَ مُباحٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«أحَبُّ المُباحاتِ إلى اللَّهِ تَعالى النِّكاحُ» “ . ويُحْمَلُ الأحَبُّ عَلى الأصْلَحِ في الدُّنْيا لِئَلّا يَقَعَ التَّناقُضُ بَيْنَ كَوْنِهِ أحَبَّ وبَيْنَ كَوْنِهِ مُباحًا، والمُباحُ ما اسْتَوى طَرَفاهُ في الثَّوابِ والعِقابِ، والمَندُوبُ ما تَرَجَّحَ وُجُودُهُ عَلى عَدَمِهِ فَتَكُونُ العِبادَةُ أفْضَلَ. ورابِعُها: أنَّ النِّكاحَ لَيْسَ بِعِبادَةٍ بِدَلِيلِ أنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الكافِرِ والعِبادَةُ لا تَصِحُّ مِنهُ، فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ العِبادَةُ أفْضَلَ مِنهُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] والِاشْتِغالُ بِالمَقْصُودِ أوْلى. وخامِسُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى سَوّى بَيْنَ التَّسَرِّي والنِّكاحِ ثُمَّ التَّسَرِّي مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إلى العِبادَةِ ومُساوِي المَرْجُوحِ مَرْجُوحٌ، فالنِّكاحُ مَرْجُوحٌ، وإنَّما قُلْنا إنَّهُ سَوّى بَيْنَ التَّسَرِّي والنِّكاحِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ ألّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٣] . وذَكَرَ كَلِمَةَ ”أوْ“ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، والتَّخْيِيرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أمارَةُ التَّساوِي، كَقَوْلِ الطَّبِيبِ لِلْمَرِيضِ كُلِ الرُّمّانَ أوِ التُّفّاحَ، وإذا ثَبَتَ الِاسْتِواءُ فالتَّسَرِّي مَرْجُوحٌ، ومُساوِي المَرْجُوحِ مَرْجُوحٌ، فالنِّكاحُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَرْجُوحًا وسادِسُها: أنَّ النّافِلَةَ أشَقُّ فَتَكُونُ أكْثَرَ ثَوابًا، بَيانُ أنَّها أشَقُّ أنَّ مَيْلَ الطِّباعِ إلى النِّكاحِ أكْثَرُ، ولَوْلا تَرْغِيبُ الشَّرْعِ لَما رَغَبَ أحَدٌ في النَّوافِلِ، وإذا ثَبَتَ أنَّها أشَقُّ وجَبَ أنْ تَكُونَ أكْثَرَ ثَوابًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«أفْضَلُ العِباداتِ أحْمَزُها» “ وقَوْلِهِ ﷺ لِعائِشَةَ: ”«أجْرُكِ عَلى قَدْرِ نَصَبِكِ» “ . وسابِعُها: لَوْ كانَ النِّكاحُ مُساوِيًا لِلنَّوافِلِ في الثَّوابِ مَعَ أنَّ النَّوافِلَ أشَقُّ مِنهُ لَما كانَتِ النَّوافِلُ مَشْرُوعَةً. لِأنَّهُ إذا حَصَلَ طَرِيقانِ إلى تَحْصِيلِ المَقْصُودِ وكانا في الإفْضاءِ إلى المَقْصُودِ سِيَيْنِ وكانَ أحَدُهُما شاقًّا والآخَرُ سَهْلًا، فَإنَّ العُقَلاءَ يَسْتَقْبِحُونَ تَحْصِيلَ ذَلِكَ المَقْصُودِ بِالطَّرِيقِ الشّاقِّ مَعَ المُكْنَةِ مِنَ الطَّرِيقِ السَّهْلِ، ولَمّا كانَتِ النَّوافِلُ مَشْرُوعَةً عَلِمْنا أنَّها أفْضَلُ وثامِنُها: لَوْ كانَ الِاشْتِغالُ بِالنِّكاحِ أوْلى مِنَ النّافِلَةِ لَكانَ الِاشْتِغالُ بِالحِراثَةِ والزِّراعَةِ أوْلى مِنَ النّافِلَةِ بِالقِياسِ عَلى النِّكاحِ والجامِعُ كَوْنُ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما سَبَبًا لِبَقاءِ هَذا العالَمِ ومُحَصِّلًا لِنِظامِهِ وتاسِعُها: أجْمَعْنا عَلى أنَّهُ يُقَدَّمُ واجِبُ العِبادَةِ عَلى واجِبِ النِّكاحِ، فَيُقَدَّمُ مَندُوبُها عَلى مَندُوبِهِ لِاتِّحادِ السَّبَبِ. وعاشِرُها: أنَّ النِّكاحَ اشْتِغالٌ بِتَحْصِيلِ اللَّذّاتِ الحِسِّيَّةِ الدّاعِيَةِ إلى الدُّنْيا، والنّافِلَةَ قَطْعُ العَلائِقِ الجُسْمانِيَّةِ وإقْبالٌ عَلى اللَّهِ تَعالى فَأيْنَ أحَدُهُما مِنَ الآخَرِ ؟ ولِذَلِكَ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«حُبِّبَ إلَيَّ مِن دُنْياكم ثَلاثٌ الطِّيبُ والنِّساءُ وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاةِ» “ فَرَجَّحَ الصَّلاةَ عَلى النِّكاحِ، حُجَّةُ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ النِّكاحَ يَتَضَمَّنُ صَوْنَ النَّفْسِ عَنِ الزِّنا فَيَكُونُ ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ، والنّافِلَةُ جَلْبُ النَّفْعِ، ودَفْعُ الضَّرَرِ أوْلى مِن جَلْبِ النَّفْعِ. الثّانِي: أنَّ النِّكاحَ يَتَضَمَّنُ العَدْلَ والعَدْلُ أفْضَلُ مِنَ العِبادَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«لَعَدْلُ ساعَةٍ خَيْرٌ مِن عِبادَةِ سِتِّينَ سَنَةً» “ الثّالِثُ: النِّكاحُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» “ وقالَ في الصَّلاةِ وإنَّها خَيْرُ مَوْضُوعٍ: ”«فَمَن شاءَ فَلْيَسْتَكْثِرْ ومَن شاءَ فَلْيَسْتَقْلِلْ» “ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ النِّكاحُ أفْضَلَ. المسألة السّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْكِحُوا الأيامى﴾ [النور: ٣٢] وإنْ كانَتْ تَتَناوَلُ جَمِيعَ الأيامى بِحَسَبِ الظّاهِرِ (p-١٨٦)لَكِنَّهم أجْمَعُوا عَلى أنَّهُ لا بُدَّ فِيها مِن شُرُوطٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُها في قَوْلِهِ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] . * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِنكُمْ﴾ فَقَدْ حَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ المُرادَ هُمُ الأحْرارُ لِيَنْفَصِلَ الحُرُّ مِنَ العَبْدِ، وقالَ بَعْضُهم بَلِ المُرادُ بِذَلِكَ مَن يَكُونُ تَحْتَ وِلايَةِ المَأْمُورِ مِنَ الوَلَدِ أوِ القَرِيبِ، ومِنهم مَن قالَ الإضافَةُ تُفِيدُ الحُرِّيَّةَ والإسْلامَ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والصّالِحِينَ مِن عِبادِكم وإمائِكُمْ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: ظاهِرٌ أنَّهُ أيْضًا أمْرٌ لِلسّادَةِ بِتَزْوِيجِ هَذَيْنِ الفَرِيقَيْنِ إذا كانُوا صالِحِينَ، وأنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ هَذا الأمْرِ وبَيْنَ الأمْرِ بِتَزْوِيجِ الأيامى في بابِ الوُجُوبِ، لَكِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ إباحَةٌ أوْ تَرْغِيبٌ، فَأمّا أنْ يَكُونَ واجِبًا فَلا، وفَرَّقُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ تَزْوِيجِ الأيامى بِأنَّ في تَزْوِيجِ العَبْدِ التِزامَ مُؤْنَةٍ وتَعْطِيلَ خِدْمَةٍ، وذَلِكَ لَيْسَ بِواجِبٍ عَلى السَّيِّدِ وفي تَزْوِيجِ الأمَةِ اسْتِفادَةُ مَهْرٍ وسُقُوطُ نَفَقَةٍ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِلازِمٍ عَلى المَوْلى. المسألة الثّانِيَةُ: إنَّما خَصَّ الصّالِحِينَ بِالذِّكْرِ لِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: لِيُحَصِّنَ دِينَهم ويَحْفَظَ عَلَيْهِمْ صَلاحَهُمُ. الثّانِي: لِأنَّ الصّالِحِينَ مِنَ الأرِقّاءِ هُمُ الَّذِينَ مَوالِيهِمْ يُشْفِقُونَ عَلَيْهِمْ [ و] يُنْزِلُونَهم مَنزِلَةَ الأوْلادِ في المَوَدَّةِ، فَكانُوا مَظَنَّةً لِلتَّوْصِيَةِ بِشَأْنِهِمْ والِاهْتِمامِ بِهِمْ وتَقَبُّلِ الوَصِيَّةِ فِيهِمْ، وأمّا المُفْسِدُونَ مِنهم فَحالُهم عِنْدَ مَوالِيهِمْ عَلى عَكْسِ ذَلِكَ. الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ الصَّلاحَ لِأمْرِ النِّكاحِ حَتّى يَقُومَ العَبْدُ بِما يَلْزَمُ لَها، وتَقُومُ الأمَةُ بِما يَلْزَمُ لِلزَّوْجِ. الرّابِعُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ الصَّلاحَ في نَفْسِ النِّكاحِ بِأنْ لا تَكُونَ صَغِيرَةً فَلا تَحْتاجُ إلى النِّكاحِ. * * * المسألة الثّالِثَةُ: ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ العَبْدَ لا يَتَزَوَّجُ بِنَفْسِهِ، وإنَّما يَجُوزُ أنْ يَتَوَلّى المَوْلى تَزْوِيجَهُ، لَكِنْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أنَّهُ إذا أمَرَهُ بِأنْ يَتَزَوَّجَ جازَ أنْ يَتَوَلّى تَزْوِيجَ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ تَوَلِّيهِ بِإذْنِهِ بِمَنزِلَةِ أنْ يَتَوَلّى ذَلِكَ نَفْسُ السَّيِّدِ، فَأمّا الإماءُ فَلا شُبْهَةَ في أنَّ المَوْلى يَتَوَلّى تَزْوِيجَهُنَّ خُصُوصًا عَلى قَوْلِ مَن لا يُجَوِّزُ النِّكاحَ إلّا بِوَلِيٍّ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المسألة الأُولى: الأصَحُّ أنَّ هَذا لَيْسَ وعْدًا مِنَ اللَّهِ تَعالى بِإغْناءِ مَن يَتَزَوَّجُ. بَلِ المَعْنى لا تَنْظُرُوا إلى فَقْرِ مَن يَخْطُبُ إلَيْكم أوْ فَقَرِ مَن تُرِيدُونَ تَزْوِيجَها فَفي فَضْلِ اللَّهِ ما يُغْنِيهِمْ، والمالُ غادٍ ورائِحٌ، ولَيْسَ في الفَقْرِ ما يَمْنَعُ مِنَ الرَّغْبَةِ في النِّكاحِ، فَهَذا مَعْنًى صَحِيحٌ ولَيْسَ فِيهِ أنَّ الكَلامَ قُصِدَ بِهِ وعْدُ الغِنى حَتّى لا يَجُوزَ أنْ يَقَعَ فِيهِ خُلْفٌ، ورُوِيَ عَنْ قُدَماءِ الصَّحابَةِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهم رَأوْا ذَلِكَ وعْدًا، عَنْ أبِي بَكْرٍ قالَ: أطِيعُوا اللَّهَ فِيما أمَرَكم بِهِ مِنَ النِّكاحِ يُنْجِزْ لَكم ما وعَدَكم مِنَ الغِنى، وعَنْ عُمَرَ وابْنِ عَبّاسٍ مِثْلُهُ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: التَمِسُوا الرِّزْقَ بِالنِّكاحِ، وشَكى رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الحاجَةَ فَقالَ: ”«عَلَيْكَ بِالباءَةِ» “ وقالَ طَلْحَةُ بْنُ مُطَرِّفٍ: تَزَوَّجُوا فَإنَّهُ أوْسَعُ لَكم في رِزْقِكم وأوْسَعُ لَكم في أخْلاقِكم ويَزِيدُ في مُرُوءَتِكم، فَإنْ قِيلَ: فَنَحْنُ نَرى مَن كانَ غَنِيًّا فَيَتَزَوَّجُ فَيَصِيرُ فَقِيرًا ؟ قُلْنا الجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ هَذا الوَعْدَ مَشْرُوطٌ بِالمَشِيئَةِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إنْ شاءَ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ٢٨] المُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلى المُقَيَّدِ. وثانِيها: أنَّ اللَّفْظَ وإنْ كانَ عامًّا إلّا أنَّهُ يَكُونُ خاصًّا في بَعْضِ المَذْكُورِينَ دُونَ البَعْضِ وهو في (p-١٨٧)الأيامى الأحْرارِ الَّذِينَ يَمْلِكُونَ فَيَسْتَغْنُونَ بِما يَمْلِكُونَ. وثالِثُها: أنْ يَكُونَ المُرادُ الغِنى بِالعَفافِ فَيَكُونُ المَعْنى وُقُوعَ الغِنى بِمِلْكِ البُضْعِ والِاسْتِغْناءَ بِهِ عَنِ الوُقُوعِ في الزِّنا. المسألة الثّانِيَةُ: مِنَ النّاسِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ العَبْدَ والأمَةَ يُمَلَّكانِ، لِأنَّ ذَلِكَ راجِعٌ إلى كُلِّ مَن تَقَدَّمَ فَتَقْتَضِي الآيَةُ بَيانَ أنَّ العَبْدَ قَدْ يَكُونُ فَقِيرًا وقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا، فَإنْ دَلَّ ذَلِكَ عَلى المِلْكِ ثَبَتَ أنَّهُما يُمَلَّكانِ، ولَكِنِ المُفَسِّرُونَ تَأوَّلُوهُ عَلى الأحْرارِ خاصَّةً. فَكَأنَّهم قالُوا هو راجِعٌ إلى الأيامى، أمّا إذا فَسَّرْنا الغِنى بِالعَفافِ فالِاسْتِدْلالُ بِهِ عَلى ذَلِكَ ساقِطٌ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ فالمَعْنى أنَّهُ سُبْحانَهُ في الإفْضالِ لا يَنْتَهِي إلى حَدٍّ تَنْقَطِعُ قُدْرَتُهُ عَلى الإفْضالِ دُونَهُ، لِأنَّهُ قادِرٌ عَلى المَقْدُوراتِ الَّتِي لا نِهايَةَ لَها، وهو مَعَ ذَلِكَ عَلِيمٌ بِمَقادِيرِ ما يُصْلِحُهم مِنَ الإفْضالِ والرِّزْقِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب